الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 146533
تحميل: 3450


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146533 / تحميل: 3450
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

٢ ـ هل دعا سليمان إلى التقليد؟!

بعض المفسّرين استفادوا من كتاب سليمان أنّه دعا أهل سبأ إليه دون دليل! ثمّ أجابوا بأن مجيء الهدهد بتلك الصورة «المعجزة» بنفسه دليل على حقانية دعوته(١) .

إلّا أنّنا نعتقد أنّه لا حاجة إلى مثل هذه الردود والإجابات ، فوظيفة النّبي هي الدعوة. ووظيفة الآخرين التحقيق في أمره. وبتعبير آخر : إنّ الدعوة هي الباعث على التحقيق كما قامت بذلك ملكة سبأ ، فاختبرت سليمان وتحققت عنه ، أهو ملك أم نبيّ؟!

٣ ـ مداليل عميقة في قصّة سليمانعليه‌السلام

نلاحظ في هذا القسم من قصّة سليمانعليه‌السلام إشارات قصيرة إلى مسائل مهمّة أيضا :

أـ تتلخص «روح» دعوة الأنبياء في نفي الاستعلاء الذي يعني نفي كل نوع من أنواع الاستثمار والاستعمار ، والتسليم للحق والقانون الصحيح.

ب ـ بالرغم من أنّ أصحاب ملكة سبأ أعلنوا استعدادهم لخوض المعركة ، إلّا أن الطبع النسائي الشفاف في الملكة لم يكن موافقا على ذلك ، ولذلك عطفت انظارهم الى مسائل أخرى.

ج ـ ولو أن الملكة أذعنت لرأيهم في الحرب لكانت بعيدة عن الحقيقة والصواب ، وسنرى أن إقدامها على إرسال الهدية كان مثمرا ، وكانت نتيجة طيبة لها ولقومها ، وكان سببا لأن يهتدوا إلى طريق الحق والعدل ، ويبتعدوا عن سفك

__________________

(١) تفسير الرازي ، ذيل الآية مورد البحث.

٦١

الدماء!

د ـ ويستفاد من هذه القضية ضمنا أن المناهج التشاورية لا تنتهي إلى الحق دائما إذ كانت عقيدة الأكثرية هنا أن يلجأ وإلى القوّة والقتال في حين أن ملكة سبأ كانت ترى خلاف نظرتهم ، وسنرى أن الحق كان معها في نهاية القصّة!

ه ـ ويمكن أن يقال : إنّ هذا النوع من التشاور أو المشورة غير ما هو جار بيننا اليوم من التشاور فنحن نأخذ برأي الأكثرية على أنّه هو المعيار ، ونعطيهم حق التصويت والتصويب. في حين أن التشاور محل البحث هو مجرّد إبداء النظر من قبل الأكثرية ، والرأي الحاسم لقائد تلك الجماعة ولعل الآية( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) (١) تشير إلى هذا القسم الثّاني من التشاور. أمّا الآية الكريمة( وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) (٢) فناظرة إلى القسم الأوّل(٣) .

وـ قال أصحاب ملكة سبأ لها( نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ولعل هذا الاختلاف بين «القوة» و «البأس» في التعبير ، هو أنّ «القوة» إشارة إلى الكمية العظيمة من الجيش و «البأس الشديد» إشارة إلى كيفية العمل وروح الشجاعة والشهامة في الجيش ، أي أن مرادهم أنّهم مستعدون للقتال من الناحية «الكمية» ومن حيث «الكيفية» لمواجهة العدو أيضا.

٤ ـ علامات الملوك

يستفاد من هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن الحكومة الاستبدادية والسلطنة في كل مكان مدعاة للفساد وإذلال الأعزة لأنّ الملوك يبعدون عنهم

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٥٩.

(٢) الشورى ، الآية ٣٨.

(٣) لمزيد الإيضاح في موضوع الشورى يراجع تفسير الآية (١٥٩) من سورة آل عمران.

٦٢

الشخصيات الفذة ، ويدنون المتملقين ، ويبحثون في كل شيء عن مصالحهم ومنافعهم الذاتية ، وهم أهل رشوة وذهب ومال ، وبالطبع فإنّ الأمراء والأعوان القادرين على هذه الأمور أحبّ عندهم من غيرهم.

وبينما نرى تفكير الملوك ورغباتهم تتلخص في نيل الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال نجد أنّ الأنبياء لا يفكرون إلّا بإصلاح أممهم!.

* * *

٦٣

الآيتان

( فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) )

التّفسير

لا تخدعوني بالمال :

خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان «في الشام» ظنّا منهم أن سليمان سيكون مسرورا بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم.

لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان فإنّ سليمانعليه‌السلام مضافا الى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا( قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ )

فما قيمة المال ، إزاء مقام النبوّة والعلم والهداية والتقوى( بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) .

أجل ، أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الزخارف ، فيهدي بعضكم لبعض

٦٤

فيشرق وجه تملع عيناه! إلّا أن هذه الأمور لا قيمة لها عندي ولا أكترث بها.

وهكذا فقد حقّر سليمانعليه‌السلام معيار القيم عندهم ، وأوضح لهم أن هناك معيارا آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئا.

ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل ، قال لرسول ملكة سبأ الخاص :( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ ) .

و( أَذِلَّةً ) في الحقيقة حال أولى و( هُمْ صاغِرُونَ ) حال ثانية ، وهما إشارة إلى أن أولئك لا يخرجون من أرضهم فحسب ، بل بالإذلال والإحقار والصغار بشكل يتركون جميع ممتلكاتهم من قصور وأموال وجاه وجلال لأنّهم لم يذعنوا ـ ويسلموا ـ للحق وإنّما قصدوا الخداع والمكر!

وطبيعي أن هذا التهديد كان تهديدا جديّا جديرا بأن يؤخذ بنظر الإعتبار بالنسبة لرسل ملكة سبأ الذين كانوا عند سليمان!.

ومع ملاحظة ما قرأناه في الآيات السابقة من أنّ سليمان طلب من أولئك شيئين : ترك الاستعلاء ، والتسليم للحق( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) وكان عدم إجابتهم لهذين وتوسلهم بالهديّة دليلا على امتناعهم من قبول الحقّ وترك الاستعلاء ، ولذلك هدّدهم باستخدام القوة العسكرية.

ولو أنّ ملكة سبأ وقومها طلبوا من سليمان الدليل والمعجزة (على أنّه نبيّ مطاع) لأعطاهم الحق أن يتحروا ويفحصوا أكثر إلّا أنّ إرسال الهدية ظاهره أنّهم في مقام الإنكار.

واتضح كذلك أنّ أهمّ خبر مزعج أخبر به الهدهد عن هذه الجماعة «ملكة سبأ وقومها» أنّهم كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله الذي له ما في السماوات والأرض فكان سليمانعليه‌السلام قلقا من هذا الأمر ومن المعلوم أن عبادة الأصنام ليست أمرا هيّنا تسكت عنه الأديان السماوية ، أو أن تتحمل عبدة

٦٥

الأصنام على أنّهم أقليّة دينية. بل تستخدم القوّة إذا لزم الأمر وتحطم الأصنام ويطوى الشرك ومريدوه من الوجود!.

وممّا بيّناه من توضيحات آنفا يظهر أنّه لا تنافي بين تهديدات سليمان والأصل الأساس( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) لأنّ عبادة الأصنام ليست دينا ، بل هي خرافة وانحراف.

* * *

ملاحظات

١ ـ ممّا ينبغي الالتفات إليه أن الزهد في الأديان السماوية لا يعني أن لا يتمتع الإنسان بماله وثرواته وإمكاناته الدنيوية ، بل حقيقة الزهد هي أن لا يكون أسير هذه الأمور بل أميرا عليها وقد بيّن سليمان هذا النبيّ العظيم بردّه الهدايا الثمينة على ملكة سبأ أنّه أميرها لا أسيرها.

ونقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «الدنيا أصغر قدرا عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها ، أو يحزنوا عليه ، فلا ينبغي لعالم ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا»(١) .

٢ ـ ومرّة أخرى نجد في هذا القسم من قصّة سليمان دروسا جديرة بالنظر ، خافية في تعابير الآيات الكريمة :

ألف : إن الهدف من تعبئة الجيش ليس قتل الناس ، بل أن يرى العدوّ نفسه ضعيفا قبالها ، ولا يرى نفسه قادرا على مواجهة الطرف الآخر :( بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ) .

وهذا التعبير نظير ما أمر به المسلمون( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ

__________________

(١) تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث.

٦٦

تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ ) .(١)

ب ـ إنّ سليمانعليه‌السلام لا يهدد مخالفيه بالقتل ، بل يهددهم بالإخراج من القصور أذلة صاغرين ، وهذا الأمر جدير بالملاحظة.

ج ـ إنّ سليمان لا يستغفل مخالفيه ، بل يحذرهم بصراحة قبل الهجوم.

د ـ إنّ سليمان لا يطمع في أموال الآخرين ، بل يقول : «ما آتاني الله خير» فهو لا يرى مواهب الله منحصرة بالقدرة المادية والمالية ، بل يفتخر بالعلم والإيمان والمواهب المعنوية!.

* * *

__________________

(١) الأنفال ، الآية ٦٠.

٦٧

الآيات

( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) )

التّفسير

حضور العرش في طرفة عين :

وأخيرا عاد رسل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم ، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة ملك سليمانعليه‌السلام المعجز وجهازه الحكومي ، وكل واحد من هذه الأمور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكا كسائر الملوك ، بل هو مرسل من قبل الله حقّا ، وحكومته حكومة إلهية.

وهنا اتّضح لأولئك جميعا أنّهم غير قادرين على مواجهته عكسريا ، بل إذا استطاعوا ـ فرضا ـ فهم على احتمال قوي في مواجهة نبيّ عظيم ذي سلطة

٦٨

واسعة!.

لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟

فوصل هذا الخبر ـ عن أيّ طريق كان ـ إلى سمع سليمانعليه‌السلام ، فعزم على اظهار قدرته العجيبة ـ والملكة وأصحابها في الطريق إليه ـ ليعرفهم قبل كل شيء على إعجازه ، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته لذلك التفت إلى من حوله و( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) .

وبالرغم من أن المفسّرين أتعبوا أنفسهم للوقوف على علّة إحضار عرش الملكة ، وربّما ذكروا وجوها لا تنسجم مع مفاد الآيات ولا تتناسب وإيّاها!. إلّا أن من الواضح أنّ هدف سليمانعليه‌السلام من هذه الخطة إنّه كان يريد أن يظهر أمرا مهما للغاية خارقا للعادة ليذعنوا له دون قيد ، ويؤمنوا بقدرة الله من دون حاجة إلى سفك الدماء والمواجهة في ساحات القتال.

كان يريد أن ينفذ الإيمان إلى أعماق قلب ملكة سبأ وأشراف قومها ، ليستجيب الباقون لدعوته والتسليم لأمره!.

وهنا أظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمانعليه‌السلام ، وكان أمر أحدهما عجيبا والآخر أعجب! إذ( قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ) (١) . فهذا الأمر علي يسير ، ولا أجد فيه مشقة ، كما أنّي لا أخونك أبدا ، لأنّي قادر على ذلك( وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) .

و «العفريت» معناه المارد الخبيث.

وجملة( وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات «إنّ والجملة الاسميّة ، ولام التوكيد» تشر الى احتمال خيانة هذا العفريت لذلك فقد

__________________

(١) كلمة «آتيك» ربّما كانت اسم فاعل مضاف إلى (الكاف) ويمكن أن تكون فعل ؛ مضارعا من (أتى) إلّا أن الاحتمال الأوّل يبدو أقرب للنظر!

٦٩

أظهر الدفاع عن نفسه بأنه أمين وفيّ.

وعلى كل حال فإنّ قصّة «سليمان» مملوءة بالعجائب الخارقة للعادات فلا عجب أن يرى عفريت بهذه الحالة مبديا استعداده للقيام بهذه المهمّة خلال سويعات وسليمان يقضي بين الناس ، أو يتابع أمور مملكته ، أو يقدم نصحه وإرشاده للآخرين.

أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلا صالحا له علم ببعض ما في الكتاب ، ويتحدث عنه القرآن فيقول :( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) .

فلمّا وافق سليمانعليه‌السلام على هذا الأمر ، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالاستعانة بقوته المعنوية( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) .

وهناك اختلاف بين المفسّرين وكلام طويل في أن هذا الشخص الذي جاء بعرش الملكة ، من كان؟! ومن أين له هذه القدرة العجيبة؟! وما المراد( عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) ؟

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا الشخص هو أحد أقارب سليمان المؤمنين وأوليائه الخاصين ، وقد جاء اسمه في التواريخ بأنه (آصف بن برخيا) وزير سليمان وابن أخته(١) .

وأمّا «علم الكتاب» فالمراد منه معرفة ما في الكتب السماوية المعرفة العميقة التي تمكّنه من القيام بهذا العمل الخارق للعادة!

وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد من (علم الكتاب) هو اللوح المحفوظ

__________________

(١) وما قاله بعضهم بأنه سليمان أو جبرئيل فلا دليل عليه وكونه سليمان نفسه (فهو) مخالف لظاهر الآيات قطعا!

٧٠

الذي علم الله بعضه ذلك الرجل «آصف» ولذلك استطاع أن يأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين ، ويحضره عند سليمان!.

وقال كثير من المفسّرين : إنّ هذا الرجل المؤمن كان عارفا بالاسم الأعظم ، ذلك الاسم الذي يخضع له كل شيء ، ويمنح الإنسان قدرة خارقة للعادة!.

وينبغي القول أن «الاسم الأعظم» ليس كما يتصوره الكثير بأنّ مفهومه أن يتلفظ الإنسان بكلمة فيكون وراءها الأثر العجيب ، بل المراد منه التخلق بذلك الاسم والوصف ، أي على الإنسان أن يستوعب «الاسم» في نفسه وروحه ، وأن يتكامل علمه وخلقه وتقواه وإيمانه إلى درجة يكون بها مظهرا من مظاهر ذلك الاسم الأعظم ، فهذا التكامل المعنوي والروحاني (بواسطة الاسم الأعظم) يوجد في الإنسان مثل هذه القدرة الخارقة للعادة(١) .

كما أنّ للمفسّرين في جملة( قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) لكن بملاحظة الآيات الاخر من القرآن يمكن معرفة حقيقتها ففي الآية (٤٣) من سورة إبراهيم نقرأ :( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) .

ونحن نعرف أن الإنسان عند ما يستوحش ويذهل ، تبقى عيناه مفتوحتان على وتيرة واحدة كأنّهما عينا ميت لا تتحركان.

فبناء على ذلك فالمراد منه أنّني سأحضر عرش ملكة بلقيس قبل أن يتحرك جفناك(٢) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في ذيل الآية (١٨٠) من سورة الأعراف بحث في شأن الاسم الأعظم ، فلا بأس بمراجعته.

(٢) ما يقوله بعضهم : إن المراد من (يرتد إليك طرفك) هو إلقاء النظرة على شيء ما وعودة النظرة للإنسان لا دليل عليه ، كما أن هذا التعبير لا يكون شاهدا على النظرية القائلة بخروج الشعاع من العين الواردة في الفلسفة ـ القديمة.

٧١

مسائل مهمة :

١ ـ الجواب على بعض الاسئلة

من الأسئلة ـ التي تثار حول الآيات آنفة الذكر ـ هذا السؤال : لم لم يقدم سليمان بنفسه على هذا العمل الخارق للعادة؟ فهو نبيّ كريم من قبل الله وذو معاجز! فلم حوّل هذا الأمر إلى «آصف بن برخيا»؟!

لعل الوجه في ذلك أن آصف كان وصيّه ، وكان سليمان يريد أن يبيّن موقعه في هذه اللحظة الحساسة للجميع(١) .

إضافة إلى ذلك فإن من المهم أن يختبر الأستاذ تلاميذه في الموارد اللازمة ويعرف جدارتهم ، وأساسا فإنّ جدارة التلاميذ دليل كبير على جدارة الأستاذ.

السؤال الآخر هو : كيف جاء سليمان بعرش ملكة سبأ وأحضره عنده دون إذنها؟.

فيقال : لعل ذلك لبيان هدف أسمى ، كمسألة الهداية وبيان معجزة كبيرة. ثمّ بعد هذا كله فإننا نعرف أن الملوك ليس لهم مال من أنفسهم ، بل أموالهم في الغالب مغصوبة من الآخرين!.

السؤال الآخر : كيف تكون لعفريت من الجن القدرة على أمر خارق للعادة كهذه الحادثة؟!

وقد بيّنا الجواب على هذا السؤال في الأبحاث المتعلقة بالإعجاز ، فقلنا : إن من الناس حتى غير المؤمنين من تكون له قدرة على بعض الأمور الخارقة للعادة (وذلك للرياضة المجهدة ومجاهدة النفس) إلّا أن الفرق بين ما يقومون به ممّا يخرق العادة وبين المعجزة هو أنّه لما كانت أعمالهم مستندة إلى قدرة بشرية محدودة فهي «أعمالهم الخارقة للعادة» محدودة دائما ، في حين أن المعاجز تستند إلى قدرة الله التي لا نهاية لها ، وقدرته كسائر صفاته غير محدودة!.

__________________

(١) هذا الجواب نفسه أجاب به الإمام الهادي يحيى بن أكثم كما جاء في رواية عن تفسير العياشي ذيل الآية محل البحث.

٧٢

لذلك نرى أن العفريت من الجن يحدّد قدرته ـ على فترة بقاء سليمان في مجلس القضاء والتحقيق في أمور البلد ، ليأتيه بعرش ملكة سبأ ، في حين أنّ آصف بن برخيا لم يحدد قدرته ، وتحديدها بارتداد الطرف هو في الحقيقة إشارة إلى أدنى فترة زمنية ممكنة ومن المسلم به أن سليمانعليه‌السلام يشجع الأعمال التي تبيّن للناس الأشخاص الصالحين ، ويباركها ، لا عمل العفريت الذي قد يوقع العوام والبساط في الوهم ، فيعدونه دليلا على تقواه وطهارته!.

وبديهي أن أيّ إنسان يقوم بعمل مهم في المجتمع ويكون عمله مقبولا فانّ أفكاره ومعتقداته ستتجذّر وتتحدّد في المجتمع بذلك «العمل» فلا ينبغي أن يأخذ العفاريت زمام المبادرة في حكومة سليمان الإلهية ، بل ينبغي أن يقوم به من عندهم علم من الكتاب ليؤثروا على أفكار الناس وعواطفهم.

٢ ـ القوة والأمانة شرطان مهمان

جاء في الآيات المتقدمة ـ والآية (٢٦) من سورة القصص ـ أن أهم شرط للعامل أو الموظف شيئان : الأوّل القوة ، والثّاني الأمانة!.

وبالطبع فإنّ المباني الفكرية والأخلاقية قد تقتضي أن يكون الإنسان حاويا على هاتين الصفتين «كما هي الحال في شأن موسى الوارد ذكره في سورة القصص» وقد يقتضي نظام المجتمع والحكومة الصالحة أن يتصف بهاتين الصفتين حتى العفريت من الجن إلزاما ولكن ـ على كل حال ـ فليس من الممكن القيام بأي عمل كبير أو صغير في المجتمع دون توفر هاتين الصفتين سواء كان مصدرهما «التقوى» أو «النظام القانوني» «فتأملّوا بدقة».

٣ ـ الفرق بين «علم من الكتاب» و «علم الكتاب» جاء التعبير في الآيات ـ محل البحث ـ عن الذي أتى بعرش ملكة سبأ في

٧٣

أدنى مدّة «وبطرفة عين» بـ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) بينما جاء في الآية (٤٣) من سورة الرعد في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يشهد على حقانيته( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) .

في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن( الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) الوارد في قصّة سليمان ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو وصي أخي سليمان بن داود ، فقلت : والآية( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) عمن تتحدث؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذاك أخي علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

والالتفات إلى الفرق بين «علم من الكتاب» الذي يعني «العلم الجزئي» و (علم الكتاب) الذي يعني «العلم الكلي» ، يكشف البون الشاسع بين آصف وعليعليه‌السلام .

لذلك نقرأ في روايات كثيرة أنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا إنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ـ كان «حرف» واحد منه عند «آصف بن برخيا» وقام بمثل هذا العمل الخارق للعادة ـ وعندنا نحن الائمّة من أهل البيت ـ اثنان وسبعون حرفا ، وحرف واحد عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب عنده(٢) .

٤ ـ هذا من فضل ربّي

إن عبدة الدنيا وطلّابها المغرورين حين ينالون «القوّة» والاقتدار ينسون كل شيء إلّا أنفسهم وكل ما يقع في أيديهم يحسبونه من عند أنفسهم لا من غيرهم ،

__________________

(١) نقل هذا الحديث جماعة من المفسّرين وعلماء السنة بالعبارة ذاتها أو ما يقرب منها ، ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء الثّالث من إحقاق الحق ، ص ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) راجع اصول الكافي وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩٠.

٧٤

كما كان قارون يقول :( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) في حين أن عباد الله وخاصّته كلما نالوا شيئا قالوا :( هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي )

الطريف أن سليمانعليه‌السلام لم يقل هذا الكلام عند ما شاهد عرش ملكة سبأ عنده فحسب ، بل أضاف قائلا :( لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) .

وقرأنا في هذه السورة ـ من قبل ـ أن سليمانعليه‌السلام كان يرى جميع النعم التي يتمتع بها من نعم الله عليه ، وكان يدعو ربّه خاضعا فيقول :( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) !

أجل هذا هو معيار معرفة الموحدين المخلصين من عبدة الدنيا المغرورين وهذه سيرة الرجال العظماء في قبال غيرهم من الأنانيين!.

وبالرغم من أنّه اعتيد كتابة هذه العبارة المهمة( هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) من قبل المتظاهرين بالشكر على أبواب قصورهم «الطاغوتية» دون أن يعتقدوا بذلك أو يكون أدنى أثر من هذه العبارة في عملهم إلّا أن المهم هو أن تكتب على الباب وعلى جبين حياة الإنسان وفي قبله أيضا ، وأن يكشف عمله أن كل ذلك من فضل الله وأن يشكره عليه ، لا شكرا باللسان فحسب ، بل شكرا مقرونا بالعمل وفي جميع وجوده(١) .

٥ ـ كيف أحضر «آصف» عرش الملكة؟!

لم يكن هذا (الأمر) أوّل خارق للعادة نراه في قصّة سليمانعليه‌السلام ، أو في حياة الأنبياء بشكل عام وعلى من يحمل هذه التعبيرات على الكناية والمجاز ، ولا يؤخذ بظاهرها ، أن يبينوا موقفهم من معاجز الأنبياء.

ترى هل يرون الأعمال الخارقة للعادة للأنبياء وخلفائهم محالا ، وينكرونها

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل في أهميّة الشكر ، وتأثيره على زيادة النعمة ، وأقسام الشكر «التكويني والتشريعي» في ذيل الآية السابقة من سورة إبراهيم.

٧٥

كليّا؟! فهذا ما لا ينسجم مع أصل التوحيد ، ولا مع قدرة الله الحاكمة على قوانين الوجود ، ولا ينسجم مع صريح القرآن في آيات كثيرة أيضا.

أمّا إذا قبلوا بإمكان المعاجز ، فلا ينبغي أن يفرقوا بين أن يكون البحث عن إحياء الموتى وإبراء العمي من قبل «عيسى بن مريم»عليه‌السلام ، أو عن إحضار عرش ملكة سبأ من قبل آصف بن برخيا.

ولا شك أن هنا علائق مجهولة وعللا لا نعزفها في هذا الأمر ، إذ نجهل ذلك بعلمنا «المحدود» ، لكننا نعرف أن هذا الأمر غير محال.

فهل استطاع «آصف» بقدرته المعنوية أن يبدل عرش بلقيس إلى أمواج من نور ، وبلحظة أحضرها عند سليمانعليه‌السلام ثمّ أرجعها إلى مادتها الأصليّة مرّة أخرى؟ هذا الأمر عندنا يلفّه الغموض.

وما نعرف أن الإنسان يقوم اليوم بأعمال بواسطة الطرق العلمية المتداولة ، كانت قبل مائتي عام تعدّ في دائرة المحال!.

فمثلا لو كان يقال لشخص ما قبل عدّة قرون : سيأتي زمان على الناس يتكلم الرجل في المشرق فيسمعه الآخرون ويرونه في المغرب في اللحظة ذاتها لكان يعد هذا المقال ضربا من الهذيان أو الحلم!

وليس هذا إلّا لأنّ الإنسان يريد أن يقوّم كل شيء بعلمه المحدود وقدرته القاصرة! مع أن ما وراء علمه وقدرته أسرارا خفية كثيرة!

* * *

٧٦

الآيات

( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤) )

التّفسير

نور الايمان في قلب الملكة :

نواجه في هذه الآيات مشهدا آخر ، ممّا جرى بين سليمان وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها ، ويهيء الجوّ لإيمانها بالله ، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه فـ( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) .

وبالرغم من أن المجيء بعرشها من سبأ الى الشام كان كافيا لان لا تعرفه ببساطة ولكن مع ذلك فإنّ سليمان أمر أن يوجدوا تغييرات فيه ، من قبيل تبديل

٧٧

بعض علاماته ، أو تغيير ألوانه ومواضع مجوهراته ، ولكن هذا السؤال : ما الهدف الذي كان سليمانعليه‌السلام يتوخّاه من اختبار عقل (ودراية) ملكة سبأ وذكائها؟

لعل هذا الاختبار كان لمعرفة أي منطق يواجهها به؟ وكيف يأتي لها بدليل لإثبات المباني العقائدية؟

أو كان يفكر أن يتزوجها ، وكان يريد أن يعرف هل هي جديرة بأن تكون زوجة له ، أم لا؟ أو أراد ـ واقعا ـ أن يعهد لها بمسؤولية بعد ايمانها فلا بدّ من معرفة مقدار استعدادها لقبول المسؤولية!

وهناك تفسيران لجملة( أَتَهْتَدِي ) فقال بعضهم : المراد منها معرفة عرشها.

وقال بعضهم : المراد من هذه الجملة أنّها هل تهتدي إلى الله برؤية المعجزة ، أو لا؟!

إلّا أنّ الظاهر هو المعنى الأوّل ، وإن كان المعنى الأوّل بنفسه مقدمة للمعنى الثّاني.

وعلى كل حال( ... فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ ) والظاهر أن القائل لها لم يكن سليمان نفسه ، والّا فلا يناسب التعبير بـ «قيل» ، لأنّ اسم سليمان ورد قبل هذه الجملة وبعدها ، وعبّر عن كلامه بـ «قال».

أضف إلى ذلك أنّه لا يناسب مقام سليمانعليه‌السلام أن يبادرها بمثل هذا الكلام.

وعلى أي حال. فإنّ ملكة سبأ أجابت جوابا دقيقا و( قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ) .

فلو قالت : يشبه ، لأخطأت ولو قالت : هو نفسه ، لخالفت الاحتياط ، لأنّ مجيء عرشها إلى أرض سليمان لم يكن مسألة ممكنة بالطرق الاعتيادية ، إلّا أن تكون معجزة.

وقد جاء في التواريخ أن ملكة سبأ كانت قد أودعت عرشها الثمين في مكان محفوظ ، وفي قصر مخصوص فيه غرفة عليها حرس كثير!

ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له

٧٨

من تغييرات فقالت مباشرة :( وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ) .

أي ، إذا كان مراد سليمانعليه‌السلام من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به ، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الأمر.

وهكذا فأنّ سليمانعليه‌السلام منعها( وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) بالرغم من( إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ ) .

أجل ، إنّها ودعت ماضيها الأسود برؤية هذه العلائم المنيرة ، وخطت نحو مرحلة جديدة من الحياة المملوءة بنور الإيمان واليقين.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة ، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.

وكان سليمانعليه‌السلام قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير ، وأن يجري الماء من تحتها.

فلمّا وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) (٢) فلما رأته ظنته نهرا جاريا فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري ، وكما يقول القرآن :( فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها ) (٣) .

__________________

(١) للمفسّرين أقوال مختلفة في فاعل (صدّ) وأنّ (ما) هل هي موصولة أو مصدرية ، فقال جماعة من المفسّرين. إن الفاعل هو سليمان كما بيّناه في المتن ، وبعضهم قال : بل هو الله ، والنتيجة تكاد تكون واحدة وطبقا لهذين التّفسيرين تكون «ها» مفعولا أوّلا و (ما كانت) مكان المفعول الثّاني ، وإن كان أصلها جارا ومجرورا ، أي وصدها سليمان أو الله عما كانت تعبد من دون الله. إلّا أن جماعة ذهبوا إلى أن فاعل صدّ ، هو (ما كانت) ، لكن حيث أن الكلام عن إيمانها لا كفرها فالتّفسير الأوّل أنسب وأمّا كلمة (ما) فقد تكون موصولة أو مصدرية.

(٢) «صرح» معناه الفضاء الواسع ، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفا معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهرا.

(٣) «اللّجة» في الأصل مأخوذة من اللجاج ، ومعناه الشدّة ، ثمّ أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير

٧٩

إلّا أنّ سليمانعليه‌السلام التفت إليها وقال :( إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ) (١) . فلا حاجة الى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.

وهنا ينقدح سؤال هام ، وهو أن سليمان نبيّ كبير ، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق والصرح الممرد والبساط الممهّد! وصحيح أنّه كان حاكما مبسوط اليد ، إلّا أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.

إلّا أنّه ، ما يمنع أن يري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة يريها هذا المشهد لتذعن لأمره ، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية!

ما يمنعه ـ بدلا من أن يغير جيشا لجبا فيسفك الدماء ـ أن يجعل فكر ملكة سبأ حائرا مبهوتا بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلا خاصة أنّها كانت امرأة تهتم بهذه الأمور والتشريفات!

ولا سيما أنّ أغلب المفسّرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام ، وكان هدفه أن يريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له وهذا الأمر يدلّ على أن سليمانعليه‌السلام كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوّة الظاهرية وفق بها للقيام بمثل هذا العمل!.

وبتعبير آخر : إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة ، وقبول دين الحق ، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب ـ لم تكن أمرا مسرفا.

ولذلك حين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع( قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

__________________

(لجة) على وزن (ضجة) ، أمّا الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى (لجة) على وزن (جبة) وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.

(١) «الممرد» معناه الصافي و (القوارير) جمع قارورة وهي الزجاجة.

٨٠