الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 130029
تحميل: 3555


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130029 / تحميل: 3555
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

تفسير هذه الآية تؤكّد هذه الحقيقة ، ومن جملتها ما ورد في حديث : «إنّ مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلّا الله ، وقرأ هذه الآية»(١) .

وجاء في رواية اخرى وردت في نهج البلاغة : أنّ عليّاعليه‌السلام كان يوما يخبر بحوادث المستقبل ، فقال له أحد أصحابه : يا أمير المؤمنين ، أتتحدّث عن الغيب وتعلم به؟

فتبسّم الإمام ، وقال له : «يا أخا كلب (لأنّ الرجل كان من بني كلب) ، ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام ، من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطبا ، وفي الجنان للنبيين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي»(٢) .

ويظهر من هذه الروايات جليّا أنّ المراد من عدم علم الناس بهذه الأمور ، جهلهم بكلّ خصوصياتها وجزئياتها ، فمثلا : إذا وضعت تحت تصرّف الإنسان يوما ما وسائل معيّنة ـ ولم يحلّ ذلك اليوم إلى الآن ـ بحيث يطّلع تماما على كون الجنين ذكرا أو أنثى ، فإنّ هذا الأمر برغم كونه تطوّرا علميّا هامّا لا يعدّ شيئا ، لأنّ الاطّلاع على الجنين والعلم به يعني أن نعلم كلّ خصائصه الجسمية ، القبح والجمال ، الصحّة والمرض ، الاستعدادات الداخلية ، الذوق العلمي والفلسفي والأدبي ، وسائر الصفات والكيفيّات الروحية ، وهذا الأمر لا يتمّ لغير الله سبحانه.

وكذلك ما يتعلّق بالمطر ، فمتى ينزل؟ وأيّة منطقة يصيب ويهطل عليها؟ وأيّ مقدار ـ على وجه الدقّة ـ سينزل في البحر؟ وما مقدار ما ينزل في الصحراء

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) نهج البلاغة. الخطبة ١٢٨.

٨١

والمنحدرات والجبال؟ لا يعلم بذلك إلّا الله تعالى.

وكذلك شأن حوادث الغد ، والأيّام التالية ، وخصوصياتها وجزئيّاتها.

ومن هنا يتّضح جيّدا جواب السؤال الذي يطرح هنا غالبا ، حيث يقولون : إنّنا نقرأ في التواريخ والروايات المتعدّدة أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، بل وحتّى بعض أولياء الله من غير الأئمّة ، قد أخبروا بموتهم ، أو بيّنوا وحدّدوا مكان دفنهم ، ومن جملتها الحوادث المتعلّقة بكربلاء ، فقد قرأنا مرارا في الروايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنينعليه‌السلام والأنبياء السابقين قد أخبروا بشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه بأرض كربلاء.

وفي كتاب اصول الكافي يلاحظ باب في علم الأئمّة بزمان وفاتهم(١) .

والجواب هو : إنّ العلم بجزء من هذه الأمور ، علما إجماليا ـ وهذا العلم أيضا عن طريق التعليم الإلهي ـ لا ينافي مطلقا اختصاص العلم التفصيلي بها بذات الله المقدّسة.

ثمّ إنّ هذا الإجمال أيضا ـ وكما قلنا ـ ليس ذاتيا ومستقلا ، بل هو عرضي وحصل بالتعليم الإلهي ، بالمقدار الذي يريده الله ويرى فيه الصلاح ، ولذلك نرى في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ أحد أصحابه سأله : هل يعلم الإمام الغيب؟ قال : «لا ، ولكن إذا أراد الله أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك»(٢) .

وقد وردت في باب علم الغيب ، وكيفيّة علم الأنبياء والأئمّة به روايات كثيرة سنبحثها في نهاية الآيات المناسبة ، إلّا أنّ من المسلّم أنّ هناك علوما لم يطّلع عليها ولا يعلم بها أحد إلّا اللهعزوجل (٣) .

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، ص ٢٠٢ باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون.

(٢) اصول الكافي ، المجلّد الثّاني ، ص ٢٠١ باب نادر فيه ذكر الغيب.

(٣) لدينا في كتاب الكافي روايات عديدة في أنّ لله علما لا يعلمه إلّا هو ، وعلما علّمه الملائكة والأنبياء والأئمّة. المجلّد الأوّل ، صفحة ١٩٩ باب أنّ الأئمّةعليهم‌السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة.

٨٢

اللهمّ نوّر قلوبنا بنور العلم ، وهب لنا من علمك اللامتناهي.

اللهمّ اعصمنا زخارف هذه الدنيا ، ولا يغرّنا الشيطان وهوى أنفسنا.

إلهنا اجعلنا منتبهين دائما إلى إحاطة علمك ، وجنّبنا أن نعمل بين يديك ما يخالف رضاك ويجلب سخطك.

* * *

نهاية سورة لقمان

٨٣
٨٤
٨٥

سورة

السّجدة

مكّيّة

وعدد آياتها ثلاثون آية

٨٦

سورة السجدة

أسماء هذه السورة :

المعروف أنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، إلّا أنّ البعض الآخر يرى أنّ الآيات ١٨ ـ ٢٠ مدنيّة ، في حين لا تلاحظ أيّة قرينة أو علامة في هذه الآيات على كونها مدنية.

اسم هذه السورة في بعض الرّوايات ، وكذلك المشهور على لسان المفسّرين : (سورة السجدة) ، أو (الم السجدة) ، ويسمّونها أحيانا (سجدة لقمان) لتمييزها عن سورة (حم السجدة) ، لأنّها جاءت بعد سورة لقمان.

وذكرت في بعض الرّوايات باسم (الم تنزيل).

وذكر «الفخر الرازي» و «الآلوسي» أنّ من جملة أسمائها (سورة المضاجع) ، وهو إشارة إلى الآية (١٦) من هذه السورة :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) .

* * *

٨٧

فضل تلاوة سورة السجدة :

ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأ الم تنزيل ، وتبارك الذي بيده الملك ، فكأنّما أحيى ليلة القدر»(١) .

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام في حديث آخر : «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة أعطاه الله كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما كان منه ، وكان من رفقاء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته»(٢) .

ولمّا كانت قد وردت في هذه السورة بحوث واسعة عن المبدأ والمعاد ، وعقاب المجرمين في يوم القيامة ، ودروس محذّرة ترتبط بالمؤمنين والكافرين ، فلا شكّ أنّ تلاوتها ـ التلاوة التي تكون مصدرا ومنبعا للتفكير ، وبالتالي مبدءا للتصميم والحركة ـ قادرة على أن تصنع من الإنسان مثالا متكاملا تشمله كلّ هذه الفضيلة والفخر ، وأن يكون أثرها كإحياء ليلة القدر ، ونتيجتها أن يكون في مصافّ أصحاب اليمين ، ونيل افتخار محبّة النّبي وآله صلوات الله عليهم.

* * *

محتوى سورة السجدة :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكّيّة تتابع بقوّة الخطوط الأصلية للسور

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء ٨ ، صفحة ٣٢٤.

(٢) مجمع البيان ، الجزء ٨ ، صفحة ٣٢٥.

٨٨

المكّيّة ، أي البحث في المبدأ والمعاد ، والبشارة والإنذار ، وعلى العموم تنقسم مباحثها إلى عدّة أقسام :

١ ـ الكلام عن عظمة القرآن ، ونزوله من قبل ربّ العالمين ، ونفي اتّهامات الأعداء عنه.

٢ ـ ثمّ البحث حول آيات الله سبحانه في السماء والأرض ، وتدبير هذا العالم.

٣ ـ بحث آخر حول خلق الإنسان من «التراب» و «النطفة» و «الروح الإلهيّة» ، ومنحه وسائل تحصيل العلم ، أي العين والاذن والعقل من قبل الله تعالى.

٤ ـ ثمّ تتحدّث بعد ذلك عن القيامة والحوادث التي تسبقها ، أي الموت ، وما بعدها ، أي السؤال والحساب.

٥ ـ ٦ ـ بحوث مؤثّرة تهزّ الوجدان عن البشارة والإنذار ، تبشّر المؤمنين بجنّة المأوى ، وتهدّد الفاسقين بعذاب جهنّم الشديد.

٧ ـ وفي السورة إشارة قصيرة إلى تأريخ بني إسرائيل ، وقصّة موسىعليه‌السلام وانتصارات هذه الامّة.

٨ ـ وكذلك تشير ـ مناسبة لبحث البشارة والإنذار ـ إلى أحوال قوم آخرين من الأمم السابقة ، ومصيرهم المؤلم.

٩ ـ ١٠ ـ ثمّ تعود مرّة اخرى إلى مسألة التوحيد وآيات عظمة الله ، وتنهي السورة بتهديد الأعداء المعاندين.

وبهذا فإنّ الهدف الأصلي للسورة تقوية أسس الإيمان بالمبدأ والمعاد ، وإيجاد دفعة قويّة في المحتوى الداخلي للإنسان نحو التقوى ، والابتعاد عن العصيان

٨٩

والتمرّد والطغيان ، والتوجّه إلى مقام الإنسان الرفيع ، وهذا المعنى كان يحظى بالأهميّة القصوى خاصّة في بداية حركة الإسلام ، وفي محيط مكّة.

* * *

٩٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) )

التّفسير

عظمة القرآن ، والمبدأ والمعاد :

مرّة اخرى نواجه الحروف المقطّعة (الف ـ لام ـ ميم) في هذه السورة ، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.

٩١

ولقد بحثنا بصورة مفصّلة في بداية سورة البقرة ، وآل عمران والأعراف التفاسير المختلفة لهذه الحروف. والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهميّة القرآن يبيّن مرّة اخرى هذه الحقيقة ، وهي أنّ( الم ) إشارة إلى عظمة القرآن ، والقدرة على إظهار عظمة الله سبحانه ، وهذا الكتاب العظيم الغنيّ المحتوى ، والذي هو معجزة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع.

تقول الآية :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (١) . هذه الآية ـ في الواقع ـ جواب عن سؤالين : الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي ، فتقول في الجواب : إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شكّ فيه. والسؤال الثّاني يدور حول مبدع هذا الكتاب ، وفي الجواب تقول : إنّ هذا الكتاب من قبل ربّ العالمين.

ويحتمل في التّفسير أيضا أنّ جملة( مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) جاءت دليلا وبرهانا لجملة( لا رَيْبَ فِيهِ ) ، فكأنّ سائلا يسأل : ما هو الدليل على أنّ هذا الكتاب حقّ ، ولا مجال للشكّ فيه؟ فتقول : الدليل هو أنّه من ربّ العالمين الذي يصدر منه كلّ حقّ وحقيقة.

ثمّ إنّ التأكيد على صفة( رَبِّ الْعالَمِينَ ) من بين صفات الله سبحانه قد يكون إشارة إلى أنّ هذا الكتاب مجموعة من عجائب عالم الخلقة ، وعصارة حقائق عالم الوجود ، لأنّه من ربّ العالمين.

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ القرآن لا يريد هنا الاكتفاء بالادّعاء الصرف ، بل يريد أن يقول : إنّ الشيء الظاهر للعيان لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ محتوى هذا

__________________

(١) «تنزيل الكتاب» خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا) وجملة( لا رَيْبَ فِيهِ ) صفته ، و (من ربّ العالمين) صفة اخرى. واحتمل البعض أن تكون الجمل الثلاث أخبارا متعاقبة. إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فإنّ (تنزيل) مصدر جاء بمعنى اسم المفعول ، وإضافته إلى الكتاب من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. ويحتمل أيضا أن يكون المصدر بمعناه الأصلي ويؤدّي معنى المبالغة.

٩٢

الكتاب شاهد بنفسه على صحّته وأحقّيته.

ثمّ يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا : إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد ادعى كذبا بأنّه من الله :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) (١) فيقول جوابا على ادّعاء هؤلاء الزائف :( بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.

ثمّ يتطرّق إلى الهدف من نزوله ، فيقول :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) .

فبالرغم من أنّ دعوة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مبشّرة ومنذرة ، وأنّه بشير قبل أن يكون نذيرا ، إلّا أنّه يجب التأكيد على الإنذار أكثر مع القوم الضالّين المعاندين.

وجملة( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) إشارة إلى أنّ القرآن يهيّء أرضية الهداية ، إلّا أنّ التصميم واتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.

وهنا يطرح سؤالان :

١ ـ من هم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم أي نذير قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

٢ ـ ألم يقل القرآن الكريم :( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) .(٢)

قال جمع من المفسّرين في جواب السؤال الأوّل : المراد قبيلة قريش التي لم يكن لها نذير قبل نبيّ الإسلام.

وقال البعض الآخر : المراد مرحلة الفترة والفاصلة الزمنية بين نبوّة عيسىعليه‌السلام وظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلّا أنّ أيّا من هذين الجوابين لا يبدو صحيحا ، لأنّ الأرض لا تبقى خالية من حجّة الله مطلقا ، وفي كلّ عصر وزمان لا بدّ من وجود نبي أو وصي نبيّ لإتمام

__________________

(١) «أم» هنا بمعنى «بل» ، واحتمل البعض أنّ في الجملة تقديرا ، وكانت في الأصل : أيعترفون به أم يقولون افتراه ـ تفسير «الفخر الرازي وأبي الفتوح ـ» إلّا أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا.

(٢) فاطر ، ٢٤.

٩٣

الحجّة.

بناء على هذا ، يبدو أنّ المراد من «النذير» هنا النّبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع ، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكّة.

وفي الإجابة عن السؤال الثّاني ينبغي أن يقال : إنّ معنى جملة :( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) هو أنّ كلّ امّة كان لها نذير ، إلّا أنّه لا يلزم حضوره بنفسه في كلّ مكان ، بل يكفي أن يصل صوت دعوة أنبياء الله العظام بواسطة أوصيائهم إلى أسماع كلّ البشر في العالم.

وهذا يشبه قولنا : إنّ كلّ امّة كان لها نبي من اولي العزم ، ولها كتاب سماوي ، فمعنى هذا الكلام أنّ صوت هذا النّبي وكتابه السماوي قد وصل عن طريق وكلائه وأوصيائه لكلّ تلك الامّة على طول التاريخ.

بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تطرّقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم أسس ودعائم العقائد الإسلامية ، فتقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (١) .

وقلنا مرارا : إنّ المراد من( سِتَّةِ أَيَّامٍ ) في هذه الآيات : ستّ مراحل ، لأنّ أحد معاني اليوم في المحادثات اليومية : المرحلة ، كما نقول : كان النظام المستبدّ يحكمنا بالأمس ، واليوم يحكمنا نظام الشورى ، في حين أنّ الحكومات المستبدّة كانت تحكم آلاف السنين ، إلّا أنّهم يعبّرون عن تلك المرحلة باليوم.

ومن جهة اخرى ، فقد مرّت فترات ومراحل مختلفة على السماء والأرض : ـ فيوما كانت كلّ كواكب المنظومة الشمسية كتلة واحدة مذابة.

__________________

(١) لفظ الجلالة في هذه الجملة مبتدأ ، و (الذي) خبره. واحتملت في تركيب هذه الجملة احتمالات اخرى ، من جملتها ، أنّ لفظ الجلالة خبر لمبتدأ محذوف ، أو أنّ لفظ الجلالة مبتدأ وخبره (ما لكم من دونه من ولي) إلّا أنّ هذين الاحتمالين لا يبدوان مناسبين بتلك الدرجة.

٩٤

ـ وفي يوم آخر انفصلت السيارات عن الشمس وبدأت تدور حولها.

ـ وفي يوم كانت الأرض كتلة نار ملتهبة.

ـ وفي يوم آخر أصبحت باردة وجاهزة لحياة النباتات والحيوانات ، ثمّ وجدت الكائنات الحيّة عبر مراحل مختلفة.

وقد أوردنا شرحا مفصّلا لهذا المعنى والمراحل الستّ بصورة مفصّلة في ذيل الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

ومن البديهي أنّ قدرة الله اللامتناهية كافية لإيجاد كلّ هذا العالم في لحظة ، بل وفي أقلّ منها ، إلّا أنّ هذا النظام التدريجي يبيّن عظمة الله وعلمه وتدبيره في جميع المراحل بصورة أفضل.

فمثلا : إذا طوى الجنين في لحظة واحدة كلّ مراحل تكامله وولد ، فإنّ عجائبه ستبقى بعيدة عن نظر الإنسان ، أمّا عند ما نراه يطوي في كلّ يوم وأسبوع ـ طوال هذه التسعة أشهر ـ أشكالا عجيبة جديدة ، فسنتعرّف أكثر على عظمة الله سبحانه.

وبعد مسألة الخلق تتطرّق الآية إلى مسألة حاكميّة الله سبحانه على عالم الوجود ، فتقول : إنّ الله تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) .

كلمة (العرش) كما قلنا سابقا ، تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم ، وتأتي عادة كناية عن القدرة ، كما نقول في تعبيراتنا اليومية : تكسّرت قوائم عرش فلان ، أي إنّ قدرته وحكومته قد زالت.

بناء على هذا ، فإنّ استواء الله على العرش لا يراد منه المعنى الجسمي بأن يكون لله عرش كالملوك يجلس عليه ، بل بمعنى أنّه خالق عالم الوجود ، وكذلك الحاكم على كلّ العالم(١) .

__________________

(١) لمزيد التوضيح حول هذا الكلام راجع ذيل الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

٩٥

وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد «الولاية» و «الشفاعة» ، فتقول :( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) .

فمع هذا الدليل الواضح ، بأنّ كونه سبحانه خالقا دليل على كونه حاكما ، والحاكميّة دليل على توحيد الولي والشفيع والمعبود ، فلما ذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) !

في الحقيقة ، إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي انعكست في الآية أعلاه يعتبر كلّ منها دليلا على الاخرى ، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية ، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد الوليّ والشفيع والمعبود.

وهنا طرح بعض المفسّرين سؤال ، وهو أنّ الجملة الأخيرة تقول : ما لكم من دون الله من وليّ ولا شفيع ، ومعناها أنّ وليّكم وشفيعكم الوحيد هو الله سبحانه وحده ، فهل من الممكن أن يشفع أحد عنده؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال من ثلاثة جوانب :

١ ـ بملاحظة أنّ جميع الشفعاء لا يشفعون إلّا بإذنه تعالى :( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (١) ، يمكن القول بأنّ الشفاعة بالرغم من كونها من قبل الأنبياء وأولياء الله ، إلّا أنّها تعود إلى الله سبحانه ، سواء كانت الشفاعة لغفران الذنوب والعفو عن العاصين ، أم للوصول إلى النعم الإلهيّة ، والشاهد على هذا الكلام الآية التي وردت في بداية سورة «يونس» بمضمون هذه الآية تماما ، حيث تقول :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) .(٢)

٢ ـ إنّنا عند التوسّل بالله نتوسّل بصفاته ، فنستمدّ من رحمته ورحمانيّته ، من كونه غفّارا غفورا ، ومن فضله وكرمه ، فكأنّنا قد جعلناه شفيعا إلى نفسه ، ونعتبر هذه الصفات واسطة بينها وبين ذاته المقدّسة ، وإن كانت صفاته عين ذاته في

__________________

(١) البقرة ، ٢٥٥.

(٢) يونس ، ٣.

٩٦

الحقيقة ، وهذا هو نفس الشيء الذي جاء في دعاء كميل في عبارة عليعليه‌السلام العميقة المعنى : «واستشفع بك إلى نفسك».

٣ ـ المراد من «الشفيع» هنا : الناصر والمعين ، ونحن نعلم أنّ الناصر والوليّ والمعين هو الله وحده ، وما قيل من أنّ الشفاعة هنا بمعنى الخلق وتكميل النفوس يعود في الحقيقة إلى نفس هذا المعنى.

وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد الله سبحانه في البداية ، ثمّ إلى مسألة «المعاد» ، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة ـ (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية) ـ بذكر توحيد الربوبية ، أي تدبير عالم الوجود من قبل الله سبحانه فقط ، فتقول : إنّ الله يدبّر امور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) .

وبتعبير آخر ، فإنّ الله سبحانه قد جعل عالم الوجود من السماء إلى الأرض تحت أمره وتدبيره ، ولا يوجد مدبّر سواه في هذا العالم(١) .

ثمّ تضيف :( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.

وتوضيح ذلك : أنّ المفسّرين قد تحدّثوا كثيرا في تفسير هذه الآية ، واحتملوا احتمالات عديدة مختلفة :

١ ـ فاعتبرها بعضهم إشارة إلى قوس الصعود والنّزول لتدبير العالم في هذه الدنيا.

٢ ـ وذهب آخرون إلى أنّها إشارة إلى ملائكة الله الذين يطوون المسافة بين السماء والأرض في خمسمائة سنة ، ويرجعون بهذه المدّة أيضا ، وهو مشغولون

__________________

(١) طبقا للتعبير الأوّل فإنّ «السماء» بمعنى مقام القرب من الله ، وطبقا للتعبير الثّاني فإنّ «السماء» تعني نفس هذه السماء ـ تأمّلوا ذلك ـ.

٩٧

بتدبير هذا العالم بأمر الله سبحانه.

٣ ـ ويعتبرها البعض الآخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم ، ويعتقدون أنّ مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم كلّ ألف سنة ، ويأمر الله سبحانه ملائكته بتدبير أمر السماء والأرض في كلّ الف سنة ، وبعد انتهاء مرحلة الألف سنة هذه تبدأ مرحلة اخرى.

إنّ هذه التفاسير علاوة على أنّها تطرح مطالب غامضة ومبهمة ، فإنّها لا تمتلك قرينة وشاهدا من نفس الآية أو من آيات القرآن الاخرى.

وفي اعتقادنا أنّ المراد من الآية ـ بقرينة آيات اخرى من القرآن ، وكذلك الروايات الواردة في تفسير الآية ـ شيء آخر ، وهو أنّ الله سبحانه خلق هذا العالم ، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ ، وألبس البشر والموجودات الحيّة الاخرى لباس الحياة ، إلّا أنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم ، فتظلم الشمس ، وتفقد النجوم أشعّتها ، وبتعبير القرآن ستطوى السماوات حتّى ترجع إلى حالتها قبل توسّع هذا العالم( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) (١) ، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع ، أي سيبدأ عالم آخر بعد انتهاء هذه الدنيا.

وهذا المعنى قد ورد في آيات القرآن الاخرى ، ومن جملتها الآية (١٥٦) من سورة البقرة :( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

وجاء في الآية (٢٧) من سورة الروم :( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .

ونقرأ في الآية (٣٤) من سورة يونس :( قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) .

__________________

(١) الأنبياء ، ١٠٤.

٩٨

بملاحظة هذه التعبيرات ، والتعبيرات الاخرى التي تقول :( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) (١) ، يتّضح أنّ الآية مورد البحث تتحدّث أيضا عن بداية ونهاية العالم وقيام يوم القيامة ، والذي يعبّرون عنه أحيانا بـ «قوس النّزول» و «قوس الصعود».

بناء على هذا فإنّ معنى الآية يصبح : إنّ الله سبحانه يدبّر أمر هذا العالم من السماء إلى الأرض ـ يبدأ من السماء وينتهي بالأرض ـ ثمّ يعود كلّ ذلك إليه في يوم القيامة.

ونطالع في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية : يعني الأمور التي يدبّرها ، والأمر والنهي الذي أمر به ، وأعمال العباد ، كلّ هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سنيّ الدنيا.

وهنا سؤال ، وهو : إنّنا نرى في الآية (٤) من سورة المعارج في شأن طول يوم القيامة:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فكيف يمكن الجمع بين الآية مورد البحث ، والتي عيّنت مقداره بألف سنة فقط ، وآية سورة المعارج؟!

وقد ورد الجواب عن هذا السؤال في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام روي في (أمالي الشيخ الطوسي) أنّه قال : «إنّ في القيامة خمسين موقفا ، كلّ موقف مثل الف سنة ممّا تعدّون ، ثمّ تلا هذه الآية : في يوم كان مقداره خمسين الف سنة»(٢) .

ومن الطبيعي أنّ هذه التعبيرات لا تنافي عدم كون المراد من عدد الألف والخمسين ألفا ، العدد والحساب هنا ، بل كلّ منهما لبيان الكثرة والزيادة ، أي إنّ في القيامة خمسين موقفا يجب أن يتوقّف الإنسان في كلّ موقف مدّة طويلة جدّا.

* * *

__________________

(١) سورة هود ، ١٢٣.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢٢١ ، وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

٩٩

بحث

إساءة الاستفادة من آية( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ )

لقد اتّخذ بعض أتباع المذاهب المصطنعة المبتدعة(١) الآية أعلاه وسيلة ودليلا لتوجيه مسلكهم ومذهبهم ، وأرادوا أن يطبّقوا هذه الآية على مرادهم بارتكاب المغالطات والاشتباهات وادّعوا أنّ المراد من «الأمر» في الآية : الدين والمذهب ، و «التدبير» : يعني إرسال الدين ، و «العروج» : يعني رفع ونسخ الدين! واستنادا إلى هذا فإنّ كلّ مذهب أو دين لا يمكنه أن يعمّر أكثر من ألف سنة ، ويجب أن يترك مكانه لدين آخر ، وبهذا فإنّهم يقولون : إنّنا نقبل القرآن ، لكن ، واستنادا إلى نفس هذا القرآن فإنّ دينا آخر سيأتي بعد مرور الف سنة!

والآن نريد أن نبحث ونحلّل الآية المذكورة بحثا محايدا ، لنرى هل يوجد فيها ارتباط بما يدّعيه هؤلاء ، أم لا؟ ونغضّ النظر عن أنّ هذا المعنى بعيد عن مفهوم الآية إلى الحدّ الذي لا يخطر على ذهن أيّ قارئ خالي الذهن.

إنّنا نرى ـ بعد الدقّة ـ أنّ ما يقولونه لا ينسجم مع مفهوم الآية ، بل إنّه مشكل بصورة واضحة من جهات كثيرة :

١ ـ إنّ تفسير كلمة «الأمر» بالدين لا دليل عليه ، بل تنفي آيات القرآن الاخرى ذلك ، لأنّ كلمة الأمر قد استعملت في آيات اخرى بمعنى أمر الخلق ، مثل( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

وقد استعملت كلمة الأمر في هذه الآية ، وآيات اخرى مثل : الآية ٥٠ / سورة القمر ، الآية (٢٧) من سورة المؤمنون ، الآية (٥٤) من سورة الأعراف ، (٣٢) من سورة إبراهيم ، (١٢) من سورة النحل ، (٢٥) من سورة الروم ، (١٢) من سورة الجاثية ، بمعنى الأمر التكويني ، لا بمعنى تشريع الدين والمذهب.

__________________

(١) «البهائية والبابية».

(٢) سورة يس ، ٨٢.

١٠٠