الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 510

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 510
المشاهدات: 130007
تحميل: 3553


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130007 / تحميل: 3553
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 13

مؤلف:
العربية

الآيات

( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) )

التّفسير

جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد!

إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيرا من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها ، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماما ، وهنا أيضا بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ

١٢١

في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين ، فإنّه يتطرّق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة ، ويبيّن أصولهم العقائدية ، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات(١) ، فيقول أوّلا :( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .

التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادة لإفادة معنى الحصر ، يبيّن أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويتمشدق به ، ولا يمتلك الخصائص والصفات التي وردت في هذه الآيات ، فإنّه لا يكون في صفّ المؤمنين الواقعيين ، بل هو شخص ضعيف الإيمان.

لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات :

١ ـ أنّهم يسجدون بمجرّد سماعهم آيات الله ، والتعبير بـ( خَرُّوا ) بدل( سُجَّداً ) إشارة إلى نكتة لطيفة ، وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ينجذبون إلى كلام الله لدى سماعهم آيات القرآن ويهيمون فيها بحيث يسجدون لا إراديا(٢) .

نعم إنّ أوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب ، والعلاقة الحميمة بكلام محبوبهم ومعشوقهم.

لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في بعض آيات القرآن الاخرى كأحد أبرز صفات الأنبياء ، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام :( إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ) .(٣)

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ الآية الاولى هي اولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم ، وإذا ما تلاها أحد بتمامها ، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعا لا يجب فيها الوضوء ، لكن يجب الاحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

(٢) يقول الراغب في المفردات : (خرّوا) في الأصل من مادّة الخرير ، أي صوت الماء وأمثاله حين انحداره من مرتفع إلى منخفض ، واستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.

(٣) سورة مريم ، الآية ٥٨.

١٢٢

وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة ، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالبا الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

٢ ـ ٣ ـ علامتهم الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده ، فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كماله وجماله.

٤ ـ والصفة الاخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر ، لأنّ الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود ، والتواضع أمام الحقّ والحقيقة أولى خطوات الإيمان!

إنّ الذين يسيرون في طريق الكبر والعجب لا يسجدون لله ، ولا يسبّحونه ولا يحمدونه ، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنما عظيما ، وهو أنفسهم!

ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاخرى ، فقالت :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (١) فيقومون في الليل ، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.

نعم إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدرا من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغظّ في نوم عميق ، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية ، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى ، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء ، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة ، والخلاصة : عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب ، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم ، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم ، ويخبرونه بما في قلوبهم ، فهم أحياء بذكره ، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.

ثمّ تضيف :( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) .

__________________

(١) «تتجافى» من مادّة «جفا» ، وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد ، و (الجنوب) جمع جنب ، وهو الجانب ، و (المضاجع) جمع مضجع ، وهو محل النوم ، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة الله في جوف الليل.

١٢٣

وهنا تذكر الآية صفتين أخريين لهؤلاء هما : «الخوف» و «الرجاء» ، فلا يأمنون غضب اللهعزوجل ، ولا ييأسون من رحمته ، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه ، والحاكم على وجودهم دائما ، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط ، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة ، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.

وثامن صفاتهم ، وآخرها في الآية أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب ، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري ، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.

إنّهم ينبوع من الخير والبركة ، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى ، ويغني المحتاجين بحسب استطاعتهم.

نعم إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة ، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله ، والعبادة والطاعة ، والسعي والحركة الدؤوبة ، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين ، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

التعبير بـ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ) وكذلك التعبير بـ( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر ، خاصّة وأنّ كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي ، وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله.

والتعبير بـ( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) من دون الإضافة إلى النفس ، إشارة إلى أنّ هذه النعم

١٢٤

الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة ، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع.

(قرّة) مادّة القرّ ، أي البرودة ، ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائما ، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق ، فالتعبير بـ( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان ، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم ، وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة.

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله يقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر»(١) .

وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) وهو : لماذا اخفي هذا الثواب والجزاء؟

ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال :

١ ـ أنّ الأمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام ، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحيانا أكثر تحفيزا ، وأبعث على النشاط ، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة.

٢ ـ أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين ، يكون عادة مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته.

٣ ـ لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة ، فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيما ومخفيّا أيضا. وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل.

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «ما من حسنة إلّا ولها ثواب مبين في القرآن ، إلّا صلاة الليل ، فإنّ الله عزّ اسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها ، قال : فلا تعلم

__________________

(١) نقل هذا الحديث كثير من المفسّرين ، ومن جملتهم الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، والقرطبي في تفسيره. وقد أورده المحدّثان المشهوران البخاري ومسلم في كتبهما أيضا.

١٢٥

نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين»(١) .

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ عالم القيامة ـ وكما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ عالم أوسع من هذا العالم سعة لا تحتمل المقارنة ، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الامّ ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادة بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا ، ولا يمكن تصوّره من قبل أحد.

إنّنا نسمع كلاما عنه فقط ، ونرى شبحه من بعيد ، لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم ، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته ، كما أنّ إدراك الطفل في بطن الامّ لنعم هذه الدنيا ـ على فرض امتلاكه العقل والإحساس الكامل ـ غير ممكن.

وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله ، ذلك أنّ الشهيد عند ما يقع على الأرض تقول له الأرض : مرحبا بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب ، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر(٢) .

وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة ، فتقول :( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) .

لقد وردت الجملة بصيغة الاستفهام الإنكاري ، ذلك الاستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبدا ، وفي الوقت نفسه ، وللتأكيد ، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة :( لا يَسْتَوُونَ ) .

لقد جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية ، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوما واسعا يشمل الكفر والذنوب الاخرى ، لأنّ هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها ، ثمّ أطلقت على الخروج

__________________

(١) مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) مجمع البيان ، ج ٢ ذيل الآية (١٧١) من آل عمران ، والتّفسير الأمثل ، ذيل نفس الآية.

١٢٦

على أوامر الله والعقل وعصيانها ، ونعلم أنّ كلّ من كفر ، أو ارتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل.

وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة ، وبمجرّد أن تخرج من القشر تفسد ، وبناء على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق الثمرة ، وفساده كفسادها.

ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ «الوليد بن عقبة» قال يوما لعليعليه‌السلام : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا! إشارة إلى أنّه ـ بظنّه ـ يفوق عليا في الفصاحة والحرب ، فأجابه عليعليه‌السلام : «ليس كما تقول يا فاسق» ، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم ، فكذّبك الله وعدّك فاسقا في الآية (٦) من سورة الحجرات :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (١) .

وأضاف البعض هنا بأنّ آية :( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) نزلت بعد هذه المحاورة ، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة السجدة) نزلت في مكّة ، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة ، فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها.

وبناء على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين بعدها مدنية ، لا يبقى إشكال من هذه الجهة ، ولا مانع من أن تكون هذه الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه.

وعلى كلّ حال ، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام العميق المتأصّل ، ولا في فسق الوليد ، حيث أشير في آيات القرآن لكلا الإثنين.

__________________

(١) أورد هذه الرواية العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، والفاضل البرسوئي في روح البيان. وممّا يستحقّ الانتباه أنّنا نقرأ في كتاب (اسد الغابة في معرفة الصحابة) أنّه لا خلاف بين المطلعين على تفسير القرآن والعالمين به في أنّ آية( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) قد نزلت في حقّ الوليد بن عقبة في قصّة بني المصطلق.

١٢٧

وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا ، فتقول :( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى ) (١) ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لاستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة :( نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ التعبير بـ «نزلا» ، والذي يقال عادة للشيء الذي يهيّئونه لاستقبال وإكرام الضيف ، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يستقبلون ويخدمون دائما كما هو حال الضيف ، في حين أنّ الجهنّميين ـ كما سيأتي في الآية الآتية ـ كالسجناء الذين يأملون الخروج منها في كلّ حين ، ثمّ يعادون فيها!

وما ورد في الآية (١٠٢) من سورة الكهف :( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً ) فإنّه من قبيل( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) وهو كناية عن أنّه يعاقب ويعذّب هؤلاء بدل إكرامهم ، ويهدّدون مكان بشارتهم.

ويعتقد البعض أنّ «النزل» أوّل شيء يستقبل به الضيف الوارد لتوّه ـ كالشاي والعصير في زماننا ـ وبناء على هذا فإنّه إشارة لطيفة إلى أنّ جنّات المأوى بتمام نعمها وبركاتها هي أوّل ما يستقبل به ضيوف الرحمن ، ثمّ تتبعها المواهب في بركات اخرى لا يعلمها إلّا الله سبحانه.

والتعبير بـ( فَلَهُمْ جَنَّاتُ ) لعلّه إشارة إلى أنّ الله سبحانه لا يعطيهم بساتين الجنّة عارية ، بل يملّكهم إيّاها إلى الأبد ، بحيث لا يعكّر هدوء فكرهم احتمال زوال هذه النعم مطلقا.

وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء ، فتقول :( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ) فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

__________________

(١) «المأوى» من مادّة (أوى) بمعنى انضمام شيء إلى شيء آخر ، ثمّ قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.

١٢٨

مرّة اخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر والتكذيب» ، والثواب والجزاء في مقابل «العمل» ، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده ، بل يجب أن يكون حافزا وباعثا على العمل ، إلّا أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب ، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.

* * *

بحث

أصحاب الليل!

ورد لجملة :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) تفسيران في الروايات الإسلامية : أحدهما : تفسيرها بصلاة «العشاء» ، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل ـ وكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء ، طبقا لاستحباب التفريق بين الصلوات الخمس ، وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرة.

وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طبقا لنقل الدرّ المنثور ، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وثانيهما : أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين :

ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : «ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه»؟ قال : بلى ، جعلت فداك ، قال : «أمّا أصله فالصلاة ،

__________________

(١) الدرّ المنثور وأمالي الشيخ طبقا لنقل تفسير الميزان الجزء ١٦ صفحة ٢٦٨.

١٢٩

وفرعه الزكاة ، وذروة سنامه الجهاد»!

ثمّ قال : «إن شئت أخبرتك بأبواب الخير»؟ قال : نعم جعلت فداك ، قال : «الصوم جنّة ، والصدقة تذهب بالخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله ، ثمّ قرأ :( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (١) .

وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل ، قال : بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك ، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم ، فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقربهم منّي ، فدنوت منه ، فقلت : يا رسول الله ، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة ، ويباعدني من النار ، قال : «لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدّي الزكاة المفروضة ، وتصوم شهر رمضان».

قال : «وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير» قال : قلت : أجل يا رسول الله ، قال : «الصوم جنّة ، والصدقة تكفّر الخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» ثمّ قرأ هذه الآية( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (٢) .

وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعا يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء ، إضافة إلى النهوض في السحر لصلاة الليل ، إلّا أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر ، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد اضطجعت وهدأت في المضاجع ، ثمّ تجافت وابتعدت عنها ، وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة ، وبناء على هذا فإنّ المجموعة الاولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.

وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة ، إلّا أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة اهتماما عظيما قلّ أن

__________________

(١) اصول الكافي ، الجزء ٢ ، باب دعائم الإسلام صفحة ٢٠ حديث ١٥ ، والمصدر السابق.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث ، وتفسير نور الثقلين ، الجزء ٤ ، صفحة ٢٢٩.

١٣٠

تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اخرى.

لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيرا بهذه العبادة الخالية من الرياء ، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب.

ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائما ، ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي ، وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله ، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئا لحضور القلب ، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث آخر حول أهميّة صلاة الليل وطريقتها في ذيل الآية (٧٩) من سورة الإسراء.

١٣١

الآيتان

( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) )

التّفسير

عقوبات تربوية :

بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم ، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلى عبد بالعذاب الخالد أبدا ، ولذلك يستخدم كلّ وسائل التوعية لنجاته ، فيرسل الأنبياء ، وينزل الكتب السماوية ، وينعم ويبتلي بالمصائب ، وإذا لم تنفع أيّة وسيلة منها فليس إلّا نار الجحيم.

تقول الآية :( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

من المسلّم أنّ «العذاب الأدنى» له معنى واسعا يتضمّن أغلب الاحتمالات التي

١٣٢

كتبها المفسّرون بصورة منفصلة :

فمن جملتها ، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة.

أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكّة حتّى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى!

أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر ، وأمثال ذلك.

أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد عذاب القبر ، أو العقاب في الرجعة فلا يبدو صحيحا ، لأنّه لا يناسب جملة( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي عن أعمالهم.

من البديهي أنّ العذاب موجود في هذه الدنيا أيضا ، بحيث إذا نزل أغلقت أبواب التوبة ، وهو عذاب الاستئصال ، أي العذاب والعقوبات التي تنزل لفناء الأقوام العاصين حينما لا تنفع ولا تؤثّر فيهم أيّ وسيلة توعية وتنبيه.

وأمّا «العذاب الأكبر» فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كلّ عذاب حجما وألما.

وهناك التفاتة أشار إليها بعض المفسّرين في أنّه لما ذا جعل «الأدنى» في مقابل «الأكبر» ، في حين أنّه يجب إمّا أن يقع الأدنى مقابل الأبعد ، أو الأصغر في مقابل الأكبر؟

وذلك أنّ لعذاب الدنيا صفتين : كونه صغيرا ، وقريبا ، وليس من المناسب التأكيد على صغره عند التهديد ، بل يجب التأكيد على قربه. ولعذاب الآخرة صفتان أيضا : كونه بعيدا وكبيرا ، والمناسب في شأنه التأكيد على كبره وعظمته لا بعده ـ تأمّلوا جيدا ـ.

وتقدّم أنّ التعبير بـ (لعلّ) في جملة( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) بسبب أنّ الإحساس بالعقوبات التحذيرية ليس علّة تامّة للوعي واليقظة ، بل هو جزء العلّة ، ويحتاج إلى أرضيّة مهيّأة ، وبدون هذا الشرط لا يحقّق النتيجة المطلوبة ، وكلمة (لعلّ) إشارة إلى هذه الحقيقة.

١٣٣

وتتّضح من هذه الآية إحدى حكم المصائب والابتلاءات والآلام التي تعتبر من المسائل الملحّة والمثيرة للجدل في بحث التوحيد ومعرفة الله وعدله.

وليس في هذه الآية فحسب ، بل أشير في آيات اخرى من القرآن إلى هذه الحقيقة ، ومن جملتها في الآية (٩٤) من سورة الأعراف( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) .

ولمّا لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه ، حتّى العذاب الإلهي ، لم يبق طريق إلّا انتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس ، وكذلك تقول الآية التالية :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) .

فلم تؤثّر فيهم النعمة الإلهيّة ، ولا العذاب والابتلاءات التحذيرية ، وعلى هذا فلا أحد أظلم منهم ، وإذا لم ينتقم من هؤلاء فممّن الانتقام؟

من الواضح ـ وبملاحظة الآيات السابقة ـ أنّ المراد من «المجرمين» هنا هم منكرو المبدأ والمعاد الذين لا إيمان لهم.

وقد وصف جماعة من الناس في آيات القرآن مرارا بأنّهم (أظلم) من الباقين ، وبالرغم من تعبيراتها المختلفة إلّا أنّها تعود جميعا إلى أصل الكفر والشرك ، وبناء على هذا فإنّ معنى (أظلم) الذي يعتبر صيغة تفضيل يتطابق مع هذه المصاديق.

والتعبير بـ (ثمّ) في الآية ، والذي يدلّ عادة على التراخي ، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يعطون فرصة ومجالا كافيا للتفكير والبحث ، ولا تكون معاصيهم الابتدائية سببا لانتقام الله أبدا ، إلّا أنّهم سيستحقّون انتقام اللهعزوجل بعد انتهاء الفرصة اللازمة.

ويجب الالتفات إلى أنّ التعبير بـ «الانتقام» يعني العقوبة في لسان العرب ، ومع أنّ معنى الكلمة أصبح في المحادثات اليومية يعني تشفّي القلب وإبراد الغليل من العدو ، إلّا أنّ هذا المعنى لا وجود له في الأصل اللغوي ، ولذلك فإنّ هذا التعبير قد

١٣٤

استعمل مرارا في شأن اللهعزوجل في القرآن المجيد ، في حين أنّه سبحانه أسمى وأعلى من هذه المفاهيم ، فهو لا يفعل شيئا إلّا وفق الحكمة.

* * *

١٣٥

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) )

التّفسير

شرط الإمامة : الصبر والإيمان :

تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة وعابرة إلى قصّة «موسى»عليه‌السلام وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم ، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي أشير إليها في الآيات السابقة ، ولتكون بشارة للمؤمنين بانتصارهم على القوم الكافرين العنودين كما انتصر بنو إسرائيل على أعدائهم وأصبحوا أئمّة في الأرض.

ولمّا كان موسىعليه‌السلام نبيّا جليلا يؤمن به كلّ من اليهود والنصارى ، فإنّه يكون حافزا على توجّه أهل الكتاب نحو القرآن والإسلام.

تقول الآية أوّلا :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ) أي فلا

١٣٦

تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات الله ، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ثمّة اختلاف بين المفسّرين في عودة الضمير في قوله :( مِنْ لِقائِهِ ) ، وقد احتملوا في ذلك سبعة احتمالات أو أكثر ، إلّا أنّ أقربها هو عودته إلى الكتاب ـ كتاب موسى السماوي ، أي «التوراة» ـ كما يبدو ، وله معنى المفعول وفاعله موسى ، وبناء على هذا فإنّ المعنى الكلّي لهذه الجملة يصبح : لا تشكّ في أنّ موسىعليه‌السلام تلقّى الكتاب السماوي الذي القي إليه من قبل الله تعالى.

والشاهد القويّ على هذا التّفسير هو أنّه قد وردت في الآية أعلاه ثلاث جمل ، تتحدّث الجملتين الاولى والأخيرة عن التوراة قطعا ، فمن المناسب أن تتابع الجملة الوسط هذا المعنى أيضا ، لا أن تتحدّث عن القيامة أو القرآن المجيد حيث ستكون جملة معترضة في هذه الصورة ، ونعلم أنّ الجملة المعترضة خلاف الظاهر ، وما دمنا في غنى عنها فلا ينبغي التوجّه إليها.

السؤال الوحيد الذي يبقى في هذا التّفسير هو استعمال كلمة (لقاء) في مورد الكتاب السماوي ، حيث إنّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن الكريم غالبا بإضافتها إلى الله أو الربّ أو الآخرة وأمثالها ، وهي إشارة إلى القيامة. ولهذا السبب رجّح البعض كون الآية أعلاه تتحدّث أوّلا عن نزول التوراة على موسى ، ثمّ تأمر نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا تشكّ في لقاء الله ومسألة المعاد ، ثمّ تعود إلى مسألة التوراة ، لكن في هذه الصورة ينهار الانسجام بين جمل هذه الآية ويزول التناسب فيما بينها.

غير أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ تعبير «لقاء» وإن لم يستعمل في القرآن في مورد الكتب السماوية ، إلّا أنّ الإلقاء والتلقّي قد استعمل مرارا في هذا المعنى ، كما في الآية (٢٥) من سورة القمر :( أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ) .

ونقرأ في قصّة سليمان وملكة سبأ أنّها قالت عند ما وصلتها رسالة سليمان :( إِنِّي

١٣٧

أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .

وفي نفس هذه السورة «سورة سليمان» في الآية (٦) نقرأ في شأن القرآن الكريم( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) .

بناء على هذا فإنّ فعل الإلقاء والتلقّي قد استعمل مرارا في هذا المورد ، بل وحتّى نفس فعل اللقاء قد استعمل في مورد صحيفة أعمال الإنسان ، فنقرأ في الآية (١٣) من سورة الإسراء :( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) .

ومن مجموع ما قلناه يتّضح ترجيح هذا التّفسير على سائر الاحتمالات التي احتملت في الآية أعلاه(١) .

لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشكّ في مثل هذه المسائل مطلقا ، بل إنّ مثل هذه التعبيرات تستعمل عادة لتأكيد المطلب ، وليكون نموذجا للآخرين.

ثمّ تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الاستقامة والإيمان لتكون درسا للآخرين ، فتقول :( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) .

لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة : أحدهما : الإيمان واليقين بآيات اللهعزوجل ، والثّاني : الصبر والاستقامة والصمود. وهذا الأمر ليس مختصّا ببني

__________________

(١) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مرجع الضمير في (لقائه) إلى موسى ، وبناء على هذا يصبح المعنى : لا شكّ يا محمّد بأنّك ستلتقي بموسى ، واعتبروا ذلك إشارة إلى لقائه به في ليلة المعراج أو في يوم القيامة. وهذا المعنى لا يبدو منسجما مع مفهوم الجملة. وقال البعض الآخر : إنّ الضمير يرجع إلى الكتاب ، والمراد منه القرآن ، أي : لا تدع أيّها النّبي للشكّ في أنّ هذا القرآن وحي إلهي إلى نفسك سبيلا ، وهذا المعنى وإن كان يتلائم مع آيات بداية السورة ، إلّا أنّه لا يتلاءم كثيرا مع الجمل الاخرى الموجودة في نفس هذه الآية. إضافة إلى أنّ الكتاب في الآية مورد البحث بمعنى التوراة ، فلا ينسجم معه عود الضمير إلى القرآن ـ وتوجيه هذا المعنى بأنّ المراد مطلق الكتاب السماوي لا يقلّل من كونه خلاف الظاهر. وقال بعض المفسّرين : إنّ الضمير في (لقائه) يعود إلى الله ، وهذه الجملة إشارة إلى أنّه لا شكّ أبدا في مسألة المعاد ، وهذا المعنى وإن كان يتّفق وينسجم مع الآيات السابقة ، إلّا أنّه لا يتلاءم من أي وجه تقريبا مع نفس الآية مورد البحث. ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ الآية إشارة إلى التقاء خطّي وبرنامجي موسى ونبي الإسلام ، مطلب ذوقي لا يناسب المفهوم الواقعي لألفاظ الآية ، وبناء على هذا فإنّ أوضح التفاسير وأجلاها ما أوردناه أعلاه.

١٣٨

إسرائيل ، بل هو درس لكلّ الأمم ، ولجميع مسلمي الأمس واليوم والغد بأن يحكموا أسس يقينهم ، ولا يخافوا من المشاكل التي تعترضهم في طريق التوحيد ، وأن يتحلّوا بالصبر والمقاومة ليكونوا أئمّة الخلق وقادة الأمم ومرشديها في تاريخ العالم.

التعبير بـ (يهدون) و (يوقنون) بصيغة الفعل المضارع دليل على استمرار هاتين الصفتين طيلة حياة هؤلاء ، لأنّ مسألة القيادة لا تخلو لحظة من المشكلات ، ويواجه شخص القائد وإمام الناس مشكلة جديدة في كلّ خطوة ، ويجب أن يهبّ لمواجهتها مستعينا بقوّة اليقين والاستقامة المستمرّة ، ويديم خطّ الهداية إلى الله سبحانه.

والجدير بالانتباه أنّ الآية تقيّد الهداية بأمر الله ، فتقول :( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) وهذا هو المهمّ في أمر الهداية بأن تنبع من الأوامر الإلهيّة ، لا من أمر الناس ، أو تقليد هذا وذاك ، أو بأمر من النفس والميول القلبية.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في حديثه العميق المحتوى ، بالاستناد إلى مضامين القرآن المجيد : «إنّ الأئمّة في كتاب اللهعزوجل إمامان : قال الله تبارك وتعالى : وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ، لا بأمر الناس ، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم ، وقال : وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار ، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللهعزوجل »(١) .

ثمّ أنّ المراد من الأمر هنا هل هو الأمر التشريعي ، أم الأمر التكويني؟ ظاهر الآية يعطي المعنى الأوّل ، وتعبيرات الرّوايات والمفسّرين تؤيّد ذلك ، إلّا أنّ بعض كبار المفسّرين اعتبروه بمعنى الأمر التكويني.

__________________

(١) الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ١٦٨ باب أنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان.

١٣٩

وتوضيح ذلك : أنّ الهداية قد وردت في الآيات والروايات بمعنيين : «تبيان الطريق» ، و «الإيصال إلى المطلوب» ، وكذلك هداية الأئمّة الإلهيين نتّخذ صورتين : فيكتفون أحيانا بالأمر والنهي ، وأحيانا اخرى ينفذون إلى أعماق القلوب المستعدّة والجديرة بالهداية ليوصلوها إلى الأهداف التربوية والمقامات المعنوية.

وقد استعملت كلمة «الأمر» في بعض آيات القرآن بمعنى «الأمر التكويني» ، مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) ، وجملة( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) في الآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، أي إنّ أولئك كانوا أئمّة ينفذون إلى النفوس المستعدّة بقدرة الله ، ويسوقونها إلى الأهداف التربوية والإنسانية العالية(٢) .

إنّ هذا المعنى يستحقّ الملاحظة والانتباه ، وهو أحد شؤون الإمامة ، وفروع وطرق الهداية ، إلّا أنّ حصر جملة :( يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) بهذا المعنى لا يوافق ظاهر الآية ، لكن لا مانع من أن نفسّر كلمة الأمر في هذه الجملة بمعناها الواسع الذي يتضمّن الأمر التكويني والتشريعي ، ويجمع كلا معنيي الهداية في الآية ، وهذا المعنى ينسجم مع بعض الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية.

ولكن ، وعلى كلّ حال ، لا يمكن أن يصل الإمام والهادي إلى هذا المقام إلّا في ظلّ اليقين والاستقامة فقط.

ويبقى سؤال ، وهو : هل المراد من هؤلاء الأئمّة في بني إسرائيل هم الأنبياء الذين بعثوا إليهم ، أم أنّ العلماء الذين كانوا يهدون الناس إلى الخيرات بأمر الله يدخلون في هذه الزمرة؟

الآية ساكتة عن ذلك ، واكتفت بالقول بأنّنا قد جعلنا منهم أئمّة ، لكن بملاحظة

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٨٢.

(٢) تفسير الميزان ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٢٧٥.

١٤٠