الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 140776
تحميل: 3523


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140776 / تحميل: 3523
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) )

سبب النّزول

نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «جاء أبيّ بن خلف (أو العاص بن وائل) فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثمّ قال : إذا كنّا عظاما ورفاتا إنّا لمبعوثون خلقا؟» فأنزل الله :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

التّفسير

قلنا أنّ البحوث المختلفة حول المبدأ والمعاد والنبوّة في سورة (يس) التي هي قلب القرآن وردت بشكل مقاطع مختلفة ، فهذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة ، واختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد.

٢٤١

في البدء تأخذ بيد الإنسان وتشير له إلى بدء حياته في ذلك اليوم حيث كان نطفة مهينة لا غير وتدعوه إلى التأمّل والتفكّر ، فتقول :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) (١) . يا له من تعبير حيوي؟ فالآية تؤكّد أوّلا على مخاطبة الإنسان ، أيّا كان وأيّ إعتقاد كان يعتقد ، وعلى أيّ مستوى كان من العلم ، فهو يستطيع إدراك هذه الحقيقة.

ثمّ تتحدّث عن «النطفة» والتي هي لغويا بمعنى «الماء المهين» لكي يعلم هذا الإنسان المغرور المتكبّر ـ بقليل من التأمّل ـ ماذا كان في البدء؟ كما أنّ هذا الماء المهين لم يكن هو السبب في نشوئه وظهوره ، بل خليّة حيّة متناهية في الصغر ، لا ترى بالعين المجرّدة ، من ضمن آلاف بل ملايين الخلايا الاخرى التي كانت تسبح في ذلك الماء المهين ، وباتّحادها مع خلية صغيرة اخرى مستقرّة في رحم المرأة تكوّنت الخليّة البشرية الاولى ، ودخل الإنسان إلى عالم الوجود!

وتتواصل مراحل التكامل الجنيني الواحدة بعد الأخرى والتي هي ستّة مراحل كما نقلها القرآن الكريم في بداية سورة «المؤمنون» (النطفة ، العلقة ، المضغة ، العظام ، اكتساء العظام باللحم ، وتمثّل الخلق السوي). ثمّ إنّ الإنسان بعد الولادة كائن ضعيف جدّا ، لا يملك القدرة على شيء ، ثمّ يقطع مراحل نموّه بسرعة حتّى بلوغ الرشد الجسماني والعقلي.

نعم ، فهذا الموجود الضعيف العاجز ، يصبح قويّا إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهيّة ، وينسى ماضيه ومستقبله ، ليكون مصداقا حيّا لقوله تعالى :( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) . واللطيف أنّ هذا التعبير يتضمّن جنبتين ، إحداهما تمثّل جانب القوّة ، والاخرى جانب الضعف ، ويظهر أنّ القرآن الكريم أشار إليهما جميعا.

إنّ هذا العمل لا يكون إلّا من إنسان يملك عقلا وفكرا وشعورا واستقلالا

__________________

(١) «خصيم» بمعنى المصرّ على الخصومة والجدال ، و (الرؤية) بمعنى (العلم).

٢٤٢

وإرادة ، ونعلم بأنّ أهمّ مسألة في حياة الإنسان هي التكلّم والحديث الذي يهيّأ محتواه مسبقا في الذهن ، ثمّ يصبّ في قالب من العبارات ويطلق باتّجاه الهدف كالرصاص المنطلق من فوهة البندقية ، وهذا العمل لا يمكن حدوثه في أي كائن حي عدا الإنسان.

وبذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يجسّد قدرته في إعطاء هذا الماء المهين هذه القوّة العظيمة هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ الإنسان مخلوق مغرور وكثير النسيان ، فهو يستغلّ كلّ هذه النعم التي أولاها إيّاه ولي نعمته ضدّه في المجادلة والمخاصمة ، فيا له من مغفّل أحمق!!

ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنّه جاء :( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (١) .

المقصود من ضرب المثل هنا ، نفس المعنى بدون التشبيه والكناية. فالمقصود هو الاستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معيّن. نعم فإنّ (أبيّ بن خلف أو اميّة بن خلف. أو العاص بن وائل) كان قد وجد قطعة متفسّخة من عظم لم يكن معلوما لمن؟ وهل مات موتا طبيعيا؟ أو في واحدة من حروب العصر الجاهلي المهولة؟ أو مات جوعا؟ وظنّ أنّه وجد فيه دليلا قويّا لنفي المعاد! فحمل تلك القطعة من العظم وذهب حانقا وفرحا في نفس الوقت وهو يقول : لأخصمن محمّدا.

فذهب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في عجلة من أمره ليقول له : قل لي من ذا الذي يستطيع أن يلبس هذا العظم البالي لباس الحياة من جديد؟ وفتّ بيده قسما من العظم وذرّه على الأرض ، واعتقد بأنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيتحيّر في الجواب ولا يملك ردّا!!

__________________

(١) «رميم» من مادّة (رم) وهو إصلاح الشيء البالي ، و «الرّمّة» تختص بالعظم البالي ، و «الرّمّة» تختص بالحبل البالي ، (مفردات الراغب مادّة (رم) صفحة ٢٠٣).

٢٤٣

والجميل أنّ القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى :( وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) . وإن كان قد أردف مضيفا توضيحا أكثر.

فكأنّه يقول : لو لم تنس بدء خلقك لما استدللت بهذا الاستدلال الواهي الفارغ أبدا.

أيّها الإنسان الكثير النسيان ، عد قليلا إلى الوراء وانظر في خلقك ، كيف كنت نطفة تافهة وكلّ يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة ، فأنت في حال موت وبعث مستمرين ، فمن جماد أصبحت رجلا بالغا ، وبكميّة من عالم النبات الجامد ، ومن عالم الحيوان الميّت أيضا أصبحت إنسانا ، ولكنّك نسيت كلّ ذلك وصرت تسأل : من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء ترابا كما هو حال هذه العظام بعد تفسّخها؟!

لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول لهذا المغرور الأحمق الناسي( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

فإذا كان بين يديك اليوم بقيّة من العظام المتفسّخة تذكّرك به ، فقد مرّ يوم لم تكن فيه شيئا ولا حتّى ترابا ، نعم ، أفليس سهلا على من خلقك من العدم أن يعيد الحياة إلى العظام المهترئة؟!

وإذا كنت تعتقد بأنّ هذه العظام بعد تفسّخها تصبح ترابا وتنتشر في الأصقاع ، فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط انتشارها؟ فإنّ الجواب على ذلك أيضا واضح :( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإنّ مسألة المعاد وإحياء الموتى لا تشكّل بالنسبة إليه أيّة مشكلة. فنحن نستطيع بقطعة من «المغناطيس» جمع برادة الحديد المبثوثة في كميّة من التراب وفي لحظات ، والله العالم القادر يستطيع كذلك بأمر واحد أن يجمع ذرّات بدن الإنسان من كلّ موضع كانت فيه من الكرة الأرضية. فهو العالم ليس بخلق الإنسان فقط ، بل هو العالم بنواياه وأعماله أيضا ،

٢٤٤

المحيط بكلّ شيء علما وهو على كلّ شيء قدير وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكلّ له.

وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكّل له تعالى أدنى مشكلة أيضا ، فكما ورد في الآية (٢٨٤) من سورة البقرة :( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) .

وكذلك حينما أظهر فرعون شكّا في قدرة الله على المعاد وإحياء القرون السابقة ، أجابه موسىعليه‌السلام :( قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) .(١)

* * *

__________________

(١) طه ، ٥٥.

٢٤٥

الآية

( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) )

التّفسير

تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد والإشارات العميقة المعنى حول مسألة إمكان المعاد ورفع أي استبعاد لذلك ، والآية أعلاه شرح أوسع وأوضح حول هذه المسألة ، تقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) ويا له من تعبير رائع ذلك الذي كلّما دقّقنا فيه أفاض علينا معاني أعمق وأدقّ؟!

وكما نعلم فإنّ الآيات القرآنية لها معان متعدّدة من أبعاد مختلفة ـ فبعض معانيها واضح للغالبية من الناس في كلّ زمان ومكان ، وبعضها عميق يختصّ بفهمه البعض ، وأخيرا فإنّ بعضها الآخر يتمثّل فيه العمق الذي لا يستطيع سبر غوره إلّا الخواص من العبّاد ، وفي نفس الوقت فإنّ تلك المعاني لا تنافي بعضها البعض ، بل إنّها تجمع كلّها في قالب واحد وفي آن واحد. والآية مورد البحث هكذا تماما.

التّفسير الأوّل الذي قال به الكثير من المفسّرين القدماء. وهو بسيط وواضح

٢٤٦

يمكن فهمه واستيعابه من قبل الغالبية وهو : أنّ المراد هو شجر «المرخ والعفار» الذي كان العرب قديما يأخذون منهما على خضرتهما ، فيجعل العفار زندا أسفل ويجعل المرخ زندا أعلى ، فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله.

وفي الواقع فهو يمثّل الكبريت في عصرنا الحالي. والله سبحانه وتعالى يريد القول بأنّ الذي يستطيع إشعال النار من هذا الشجر الأخضر له القدرة على إلباس الموتى لباس الحياة.

فالماء والنار شيئان متضادّان ، فمن يستطيع جعلهما معا في مكان واحد ، قادر على جعل الحياة والموت معا في مكان واحد. فالذي يخلق (النار) في قلب (الماء) و (الماء) في قلب (النار) فمن المسلّم أنّ إحياء بدن الإنسان الميّت لا يشكّل بالنسبة له أدنى صعوبة.

وإذا خطونا خطوة أبعد من هذا التّفسير فسوف نصل إلى تفسير أدقّ وهو : أنّ خاصيّة توليد النار بواسطة خشب الأشجار ، لا تنحصر بخشب شجرتي «المرخ والعفار» بل إنّ هذه الخاصية موجودة في جميع الأشجار وجميع الأجسام الموجودة في هذا العالم وإن كان لشجرتي المرخ والعفار ـ لتوفّر خصائص فيها ـ استعداد أكثر من غيرهما على هذا الأمر.

خلاصة القول ، إنّ جميع خشب الأشجار إذا حكّ ببعضه بشكل متواصل فإنّه سيطلق شرر النار وحتّى (خشب الشجر الأخضر).

لهذا السبب تقع في بعض الأحيان حرائق هائلة في بعض الغابات المليئة بالأشجار ، لا يعرف لها سبب من قبل الإنسان ، إلّا أنّ هبوب الريح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة ممّا يؤدّي إلى انقداح شرر منها يؤدّي إلى اشتعال النار فيها ، وتساعد الريح الشديدة على سرعة انتشارها ، فالعامل الأصلي كان تلك الشرارة الناتجة عن الاحتكاك.

هذا التّفسير الأوسع ، هو الذي يوضّح عملية جمع الأضداد في الخلق. ويبسط

٢٤٧

مفهوم وجود (البقاء) في (الفناء) وبالعكس.

لكن ثمّة تفسير ثالث يعتبر أعمق بكثير من التّفسيرين السابقين. والذي ظهر إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية «انبعاث الطاقة».

وتوضيح ذلك كما يلي : إنّ من أهمّ الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية «التركيب الضوئي» والتي تعتمد أساسا على أخذ غاز «ثاني اوكسيد الكربون» من الهواء ، والإفادة منه بواسطة «المادّة الخضراء» أو ما يسمّى «بالكلورفيل» لصنع الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدّي إلى تكوّن حلقات السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين ، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرّة اخرى.

ولو نظرنا إلى العملية بطريقة اخرى فإنّ النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد الكاربون) وتجزّئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون مركّبا مع غيره من الماء لتكوّن الخشب وتطلق الأوكسجين.

والمهمّ هنا أنّ العلماء يقولون : بأن أيّة عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة ما لكي يتمّ ذلك التفاعل الكيمياوي ، أو أنّ ذلك التفاعل يؤدّي إلى إطلاق طاقة كناتج عنه. وبناء عليه فإنّ التفاعل الذي يتمّ نتيجة التركيب الضوئي إنّما يستفيد من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل.

وعليه فالشجرة إنّما تقوم بادّخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكوّن نتيجة لهذه العملية. وعند ما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإنّنا إنّما نقوم بإطلاق عقال هذه الطاقة المدّخرة. وبذا فإنّنا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين) لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرّة اخرى ، بالإضافة إلى بخار الماء.

ولو تحدّثنا بلغة اخرى لقلنا : إنّ تلك الحرارة الناجمة عن اشتعال الحطب في

٢٤٨

المواقد البيتية القروية أو مواقد الفحم التي نستعملها في بيوتنا أحيانا للتدفئة في فصل الشتاء ، هي في الحقيقة حرارة ونور الشمس التي ادّخرت في خشب هذه الأشجار لسنوات ، وما جمعته الشجرة على مدى عمرها من الشمس تعيده دفعة واحدة بدون نقص.

ويقال إنّ كلّ الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساسا ، وواحد من مظاهره ما ذكرنا.

وهنا وحيث بلغنا «انبعاث الطاقات» نلاحظ أنّ النور والحرارة المبعثرة في الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنّها لا تفنى أبدا. بل إنّها تتبدّل شكلا. وتختفي بعيدا عن أعيننا في كلّ ذرّة من ذرّات الخشب ، وعند ما نقوم بإيقاد النار بقطعة من الحطب ، فإنّ انبعاثها يبدأ ، وجميع ما كان في ذرّات الخشب من النور والحرارة وطاقة الشمس ، في تلك اللحظة ـ لحظة الحشر والنشر ـ تظهر من جديد. بدون أن ينقص منه حتّى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمّل بدقّة).

لا شكّ أنّ هذا المعنى كان خافيا على عوام الناس حين نزول الآية ، ولكن ـ كما قلنا ـ فإنّ هذا الموضوع لا يشكّل أدنى مشكلة ، لأنّ آيات القرآن لها معان متعدّدة وعلى مستويات مختلفة ، لاستعدادات متفاوتة ، ففي يوم يفهم من الآية معنى ، واليوم يفهم منها معنى أوسع ، ويمكن أنّ الأجيال القادمة تفهم منها معنى أوسع وأعمق ، وفي نفس الوقت فكلّ هذه المعاني صحيحة ومقبولة بشكل كامل ومجموعة كلّها في معنى الآية.

* * *

مسألتان

١ ـ شجر أخضر لماذا؟

يرد على الذهن أنّه لماذا عبّر القرآن هنا بالشجر الأخضر؟ في حين أنّ توليد

٢٤٩

النار من الخشب الطري والرطب يتمّ بصعوبة بالغة ، فكم كان جميلا لو عبّر عوضا عن ذلك «بالشجر اليابس» ، لكي ينسجم مع المعنى تماما!!؟

النكتة هنا هو أنّ الشجر الأخضر الحي فقط يستطيع القيام بعملية التركيب الضوئي ، وادّخار نور الشمس وحرارتها ، وأمّا الجذوع اليابسة للشجر لو بقيت مئات السنين متعرّضة للشمس فإنّها لن تستطيع زيادة الذخيرة الموجودة فيها.

وبناء عليه فإنّ (الشجر الأخضر) فقط يستطيع أن يصنع وقودا لنا ، ويمكنه الاحتفاظ وادّخار الحرارة والنور وزيادتها بصورة محوّرة ، ولكنّها بمحض جفافها ، فإنّ عملية التركيب الضوئي تتوقّف ، وتتعطّل معها عملية ادّخار الطاقة الشمسية.

وبناء على هذا فإنّ التعبير أعلاه ، يعتبر تجسيدا جميلا لعملية «انبعاث الطاقات» ومعجزة علمية خالدة للقرآن الكريم!

فضلا عن أنّنا إذا رجعنا إلى التّفسيرات الاخرى التي أشرنا إليها سابقا ، يبقى أيضا التعبير بـ «الشجر الأخضر» جميلا ومناسبا ، إذ أنّ الأشجار الخضراء عند احتكاكها ببعضها البعض تولّد شرارة تستطيع أن تكون مبعث نار كبيرة ، وهنا نقف إزاء عظمة قدرة الله في حفظه النار في قلب الماء ، والماء في قلب النار(١) .

٢ ـ الفرق بين الوقود والوقود :

«توقدون» من «وقود» ـ على زنة قبور ـ بمعنى اشتعال النار ـ و «الإيقاد» بمعنى إشعال النار ، و «الوقود» ـ على زنة ثمود ـ بمعنى الحطب المعدّ للإحراق.

وعليه فإنّ جملة( فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) إشارة إلى الحطب الذي تشتعل فيه النار ، لا ما تبدأ به النار بالاشتعال كالزناد أو عود الكبريت.

وبناء عليه فإنّ القرآن الكريم يقول : «إنّ الله سبحانه وتعالى جعل لكم من

__________________

(١) إذا اعتبرنا «من» في جملة «منه توقدون» بمعنى «به» فإنّ ذلك يتساوق مع التّفسيرات الاخرى.

٢٥٠

الشجر الأخضر حطبا توقدونه ، وهو القادر على إعادة الموتى إلى الحياة» وهذا التعبير ينسجم تماما مع ما قلناه من «بعث الطاقات» «تأمّل بدقّة»!!

وعلى كلّ حال ، فإنّ مسألة إشعال النار في خشب الأشجار مع أنّها مسألة بسيطة في نظرنا ، ولكن بقليل من الدقّة نعلم أنّها من أعجب المسائل ، لأنّ المواد التي يتشكّل منها خشب الأشجار في أغلبها ماء وتراب ، وكلاهما غير قابل للاشتعال ، فما هي تلك القدرة التي خلقت من الماء والتراب والهواء ـ وهي مواد ـ طاقة لا زالت حياة البشر ومنذ آلاف السنين مرتبطة بها بقوّة؟!

* * *

٢٥١

الآيات

( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) )

التّفسير

هو المالك والحاكم على كلّ شيء!!

بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأوّل ، ونشوء النار من الشجر الأخضر في الآيات السابقة ، تتابع الآية الاولى هنا بحث ذلك الموضوع من طريق ثالث وهو قدرة الله اللامتناهية ، فتقول الآية الاولى :( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) .

الجملة الاولى بشروعها (بالاستفهام الإنكاري) تطرح سؤالا على الوجدان اليقظ والعقل السليم كالآتي : ألم تتطلّعوا إلى تلك السماء المترامية العظيمة بكلّ ثوابتها وسيّاراتها العجيبة ، وبكلّ تلك المنظومات والمجرّات التي تشكّل كلّ زاوية منها دنيا واسعة هائلة؟ فالذي هو قادر على خلق كلّ هذه العوالم الخارقة

٢٥٢

في العظمة والمتناهية التنظيم والدقّة في قوانينها ، كيف لا يكون قادرا على إحياء الموتى؟

ولكون الجواب على هذا السؤال واضحا ، وكامنا في كلّ قلب وروح ، فإنّ الآية لا تنتظر الجواب ، إنّما تردف مضيّفة «بلى» وتتابع مؤكّدة على صفتين لله سبحانه وتعالى ـ الخالقية والعلم المطلق ـ وذلك في حقيقته دليل على الكلام المتقدّم ، فإذا كنتم تشكّون في قدرته على الخلق فهو «الخلّاق» (وهي صيغة مبالغة).

وإذا كان جمع هذه الذرّات يحتاج إلى علم أو معرفة فهو «العليم» المطلق.

أمّا على ماذا يعود الضمير في «مثلهم» فقد احتمل المفسّرون احتمالات عديدة ، ولكن أشهرها هو القول بعودة الضمير على «البشر» والمعنى : إنّ خالق السماء والأرض قادر على خلق مثل البشر.

وهنا يأتي السؤال التالي وهو لماذا لم يقل : قادر على أن يخلقهم من جديد ، بل قال:( بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ؟

وللإجابة على هذا السؤال ذكرت أجوبة كثيرة ، يبدو أقربها : أنّ بدن الإنسان عند ما يتحوّل ـ أو بالأحرى يتحلّل ـ إلى تراب ، فإنّه يفقد الصورة النهائية التي كان عليها ، وفي يوم القيامة عند ما يعاد خلق هذا الإنسان من جديد ، فإنّه سيخلق من نفس المواد ولكن بصورة جديدة تشبه الصورة القديمة ، بلحاظ أنّ عودة نفس الصورة القديمة ـ بالأخصّ إذا أخذنا في الإعتبار قيد الزمن ـ غير ممكن ، وخصوصا إذا علمنا ـ مثلا ـ أنّ الإنسان لا يحشر بجميع المواصفات والكيفية التي كان عليها سابقا ، فإنّ الشيبة والشيوخ ـ مثلا ـ يحشرون شبّانا ، والمعلولين يحشرون سالمين ، وهكذا.

وبتعبير آخر ، فإنّ بدن الإنسان كالطابوق الطيني غير المفخور ـ اللبن ـ الذي يمرّ عليه الزمان فيتهدّم ويصبح ترابا ، ثمّ يجمع من جديد وتصنع منه خميرة الطين ويوضع في قالب مرّة اخرى ويصنع لبنا جديدا مرّة اخرى. فهذا «اللبن» هو من

٢٥٣

جانب نفس «اللبن» القديم ومن جانب آخر «مثله» «مادّته هي نفس المادّة والصورة مثل الصورة السابقة» «دقّق النظر»(١) .

الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة ، وتأكيد على حقيقة أنّ أي خلق وإيجاد بالنسبة لله سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط ، وخلق السموات العظيمة والكرة الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة ، فكلاهما بالنسبة له تعالى أمر هيّن بسيط ، يقول تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، فكلّ شيء مرتبط بأمره وإشارته فقط ، وذات بهذه القدرة كيف يشكّ في تمكّنها في إحياء الموتى؟!

وبديهي أنّ الأمر الإلهي هنا ليس أمرا لفظيا ، كما أنّ جملة «كن» ليست جملة يبيّنها الله سبحانه وتعالى بصورة لفظ ، لأنّه تعالى لا يحتاج إلى تلك الألفاظ ، بل المقصود هو مجرّد إرادته لإيجاد وإبداع شيء ، وإنّما استخدم التعبير بـ «كن» لأنّه ليس هناك تعبير أقصر وأصغر وأسرع يمكن تصوّره في التعبير عن تلك الحقيقة. نعم فإرادته لإيجاد شيء ووجود هذا الشيء هي عملية واحدة.

وبتعبير آخر : فإنّ الله سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئا إلّا تحقّق فورا ، وليس بين إرادته ووجود ذلك الشيء أيّة فاصلة ، وعليه فإنّ «أمره» و «قوله» وجملة «كن» كلّها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وكما ذكرنا فإنّ الأمر ليس لفظيّا أو قوليا ، بل كلّها توضيح للتحقّق السريع بوجود كلّ ما أراده سبحانه وتعالى.

وببيان أوضح ، انّ أفعال الله سبحانه وتعالى تمرّ بمرحلتين لا ثالث لهما ، مرحلة

__________________

(١) بعض المفسّرين أعادوا الضمير في «مثلهم» على السموات والأرض ، وقالوا بأنّ استعمال ضمير الجمع العاقل لوجود الموجودات العاقلة في الأرض والسماء كثير. البعض الآخر استنتج من استخدام كلمة «مثلهم» عدم ضرورة عودة عين الجسم بمواده التي كان يتشكّل منها في الدنيا ، لأنّ شخصية الإنسان تتعلّق بروحه ، وهذه الروح بأي مادّة تعلّقت تكون مثل الإنسان. ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الكلام لا ينسجم مع ظاهر آيات القرآن الكريم ـ حتّى أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآيات مورد البحث ـ لأنّ القرآن الكريم يقول بصراحة في هذه الآيات : إنّه يخلق نفس تلك العظام المتفسّخة من جديد ويلبسها ثوب الحياة. «تأمّل!!».

٢٥٤

الإرادة ومرحلة الإيجاد ، وهي التي عبّرت عنه الآية بشكل أمر في جملة «كن».

بعض المفسّرين القدماء توهّموا أنّ المعنى يشير إلى وجود قول ولفظ في عملية الإيجاد والخلق ، واعتبروا ذلك من أسرار الخلق غير المعروفة ، والظاهر أنّهم وقعوا في عقدة اللفظ ، وبقوا بعيدين عن المعنى ، وقاسوا أعمال الله على مقاييسهم البشرية.

وما أجمل ما قاله أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام في واحدة من خطبة التي أوردت في نهج البلاغة : «يقول لما أراد لما كونه كن فيكون(١) لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان ثانيا»(٢) .

ناهيك عن أنّنا لو افترضنا وجود لفظ أو قول في عملية الخلق فسنواجه إشكالين أساسيين :

الأوّل : أنّ (اللفظ) بحدّ ذاته مخلوق من مخلوقات الله ولأجل إيجاده يحتاج سبحانه إلى «كن» اخرى ، ونفس الكلام ينطبق على «كن» الثانية بحيث نصبح في عملية تسلسل غير منتهية.

الثاني : أنّ كلّ خطاب يحتاج إلى مخاطب ، وفي الوقت الذي لم يوجد فيه شيء حينذاك فكيف يخاطبه الله سبحانه وتعالى بالقول «كن» ، فهل أنّ المعدوم يمكن مخاطبته؟!

وقد ورد في آيات اخرى من القرآن الكريم نفس هذا المعنى بتعبيرات اخرى ، كما في الآية (١١٧) من سورة البقرة :( وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، وكذا في الآية (٤٠) من سورة النحل :( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ

__________________

(١) ورد في بعض النسخ «لمن أراد» ويبدو أن الأنسب هو النص الذي أوردناه «لما أراد».

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٦.

٢٥٥

فَيَكُونُ ) (١) .

الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة «يس» تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الاستنتاج الكلّي فتقول :( فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ «ملكوت» من أصل «ملك» ـ على وزن حكم ـ بمعنى الحكومة والمالكية ، وإضافة (الواو) و (التاء) إليها للتأكيد والمبالغة ، يتّضح أنّ معنى الآية كما يلي : إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة ، وكذلك فإنّ الله سبحانه منزّه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة ، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد ، كلّ ذلك لن يشكّل لديه أيّة مشكلة ، ولذلك فاعلموا يقينا أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حقّ.

* * *

بحوث

لقد تقدّمت منّا الوعود بأن نتعرّض لبحث مركز في مسألة المعاد في ختام سورة (يس) وها نحن نفي بهذه الوعود ونشبع هذه المسألة بحثا من خلال ستّة مباحث لنعرضها للقرّاء الأعزّاء كما يلي :

١ ـ الإعتقاد بالمعاد أمر فطري :

إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقا للفناء ، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم يكن سارا للإنسان في أي وقت ، وهو يفرّ منه بكلّ وجوده.

__________________

(١) هناك بحث آخر في تفسير جملة «كن فيكون» في تفسير الآية (١١٧) من سورة البقرة.

٢٥٦

إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط ، وبناء المقابر الخالدة كأهرام مصر ، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر ، كلّ ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.

فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة.

لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الاتّفاق على الإعتقاد بوجود الله الحكيم العالم ، ونحن نعتقد بأنّ كلّ ما خلقه الله سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقا لحساب وغرض ، وبناء عليه فإنّ عشق البقاء لا بدّ أن يكون له حساب خاصّ ، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.

وبتعبير آخر : فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشا. فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجودا في العالم الخارجي ، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي ، وإلّا فإنّ الانجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتّفق مع حكمة الخلق.

ومن جهة اخرى فعند ما نبحث في التأريخ البشري منذ أيّام نشأة ذلك التأريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت.

فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين ـ وحتّى إنسان ما قبل التأريخ ـ وبالأخصّ طريقة دفن الموتى ، وكيفية بناء القبور ، وحتّى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى ، كلّها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.

«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول : «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاولى على سطح الأرض ، كانت لهم اعتقادات معيّنة ، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معيّنة في الأرض ، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم ، وبهذه

٢٥٧

الطريقة فإنّهم يثبتون اعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت»(١) .

فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت ، وإن كانوا قد سلكوا طريقا خاطئا في اعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماما.

على كلّ حال ، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرّد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ وجود محكمة «الوجدان» ، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد. فكلّ إنسان عند ما ينجز عملا حسنا فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحيانا وصفها بأي بيان أو كلام.

وعلى العكس عند ما يرتكب الذنوب وخصوصا الجنايات الكبرى ، فإنّه يستشعر عدم الراحة ، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الانتحار ، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلّق على أعواد المشانق.

كلّ ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.

وللإنسان أن يسأل نفسه : كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة ، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!

وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت أمر فطري ، ومن عدّة طرق :

من طريق العشق البشري العام للبقاء.

ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التأريخ البشري.

ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان.

٢ ـ أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر :

إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية ، وخلود الأعمال ـ

__________________

(١) علم الاجتماع (ساموئيل كنيك) صفحة ١٩٢ (مع قليل من التلخيص).

٢٥٨

سواء كانت خيرا أو شرّا ـ يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان ، ويمكنه أن يكون عاملا مؤثّرا في التشجيع على الأعمال الحسنة.

إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين ، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادة في الدنيا ، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية ، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر ، ولا أثر للاضطهاد الفكري على صاحبها ، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة ، ولا تستغرق ـ عبر روتينها ـ مدّة من الزمن.

القرآن الكريم يقول :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (١) .

كذلك يقول تعالى :( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٢) .

كذلك قوله تعالى :( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٣) .

وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما نقلت بعض الروايات : «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّها في مقدار لمح البصر»(٤) .

ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء ، فقال تعالى :( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (٥) .

حتّى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقدا بالقيامة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة ، فقد ورد في وصفه تعالى لمن يخسرون

__________________

(١) البقرة ، ٤٨.

(٢) يونس ، ٥٤.

(٣) إبراهيم ، ٥١.

(٤) مجمع البيان ، المجلّد ١ ، صفحة ٢٩٨ ، تفسير سورة البقرة الآية ٢٠٢.

(٥) السجدة ، ١٤.

٢٥٩

الميزان في البيع قوله تعالى :( أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) (١) .

والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقا وحاضرا في ميادين الجهاد ، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين ، يدلّل على أنه بجميعه انعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة ، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكّرين ، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون ـ في المقياس الواسع الشامل ـ إلّا عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.

فإنّ المجاهد الذي منطقه( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) (٢) . أي الوصول إلى إحدى السعادتين إمّا النصر أو الشهادة ، وهو قطعا مجاهد لا يقبل الهزيمة.

إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس ، وحتّى أنّهم يحاذرون من ذكر اسمه أو كلّ ما يذكّر به ، ليس موحشا ولا قبيحا قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت ، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب ، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح ، وبلوغ الحريّة المطلقة.

إنّ مسألة المعاد تعتبر الخطّ الفاصل بين الإلهيين والمادّيين ، لوجود نظرتين مختلفتين هنا:

فالمادّي يرى الموت فناء مطلقا ، ويفرّ منه بكلّ وجوده ، لأنّ كلّ شيء سينتهي به.

والإلهي يرى الموت ولادة جديدة ، وولوجا في عالم واسع كبير مشرق ، والانطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق

__________________

(١) المطفّفين ، ٤.

(٢) التوبة ، ٥٢.

٢٦٠