الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 143262
تحميل: 3654


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 143262 / تحميل: 3654
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

الآيات

( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) )

التّفسير

الحوار بين القادة والأتباع الضالّين :

الآيات السابقة استعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد اعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، إلى مكان معيّن ، ومن ثمّ هدايتهم إلى صراط الجحيم.

واستمرارا لهذا الاستعراض يقول القرآن :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) (١) .

__________________

(١) (قفوهم) من مادّة (وقف) وأحيانا تأتي بصورة فعل متعد وتعني (التوقيف والحبس) ، وأحيانا اخرى تأتي

٣٠١

نعم عليهم أن يتوقّفوا ويجيبوا على مختلف الأسئلة التي تطرح عليهم ، ولكن عمّا ذا يسألون؟

قال البعض : يسألون عن البدع التي اختلقوها.

وقال البعض الآخر : يسألون عن أعمالهم القبيحة وأخطائهم.

والبعض أضاف : إنّهم يسألون عن التوحيد وقول لا إله إلّا الله.

وذهب آخرون : إنّهم يسألون عن النعم التي أنعمت عليهم ، وعن شبابهم وصحّتهم وأعمارهم وأموالهم ونحوها ، وهناك رواية يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبالطبع فإنّ هذه التفاسير لا يوجد أي تناقض بينها ، لأنّ في ذلك اليوم يتمّ السؤال عن كلّ شيء ، عن العقائد وعن التوحيد والولاية ، وعن الحديث والعمل ، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : كيف يساق أولئك أوّلا إلى صراط الجحيم ، ثمّ يؤمرون بالتوقّف لاستجوابهم؟

ألا ينبغي تقديم عملية إيقافهم ومساءلتهم على سوقهم إلى صراط الجحيم؟

هناك جوابان لهذا السؤال وهما :

أوّلا : كون أولئك من أهل جهنّم أمر واضح للجميع ، وحتّى لأنفسهم ، واستجوابهم إنّما يتمّ لإعلامهم بمقدار وحجم الذنوب والجرائم التي اقترفوها

ثانيا : طرح هذه الأسئلة عليهم لا لمحاكمتهم ، وإنّما ذلك لتوبيخهم ومعاقبتهم نفسيا.

وبالطبع فإنّ كلّ ذلك في حالة كون الأسئلة متعلّقة بما أوردنا آنفا ، أمّا إذا ارتبط

__________________

بصورة فعل لازم ، وتعني (التوقّف والوقوف) ومصدر الاولى هو وقفة ، ومصدر الثانية وقوف.

(١) الرواية هذه وردت في (الصواعق) عن أبي سعيد الخدري نقلا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما وردت عن الحاكم بن أبو القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) نقلا عن رسول الله ، كذلك وردت في عيون أخبار الرضا نقلا عن الإمام الرضاعليه‌السلام .

٣٠٢

الحديث بالآية التالية والتي تسألهم عن عدم نصرتهم بعضهم البعض ، فهنا لا تبقى أيّة مشكلة في تفسير الآية ، ولكن هذا التّفسير لا يتطابق مع جاء في عدّة روايات بهذا الشأن ، إلّا إذا كان هذا السؤال جزء من أسئلة مختلفة.

على أيّة حال ، فعند ما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم ، تكون أيديهم مقطوعة عن كلّ شيء وقاصرة عن تحصيل العون ، ويقال لهم : أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه ، لم لا ينصر بعضكم بعضا الآن( ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ) .

نعم ، فكلّ الدعائم التي تصوّرتم انّها دعامات مطمئنة في الدنيا أزيلت عنكم ، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض ، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم ، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.

يقال أنّ (أبا جهل) نادى يوم معركة بدر «نحن جميع منتصر» ، والقرآن المجيد أعاد تكرار قوله في الآية (٤٤) من سورة القمر( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) فيوم القيامة يسأل أبو جهل وأمثاله : لماذا لا يسعى بعضكم لمساعدة البعض الآخر؟ ولكن لا يمتلكون أي جواب لهذا السؤال ، سوى سكوتهم الدالّ على ذلّتهم.

الآية التي تليها تضيف : إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون له ، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الاعتراض( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (١) .

وهنا يبدأ كلّ واحد منهم بلوم الآخر ، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق الآخر ، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون ، فيقابلونهم وجها لوجه ، ويبدأ كلّ منهم بسؤال الآخر ، كما تقول الآية :( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) .

__________________

(١) (استسلام) من مادّة (السلامة) ولكونها من باب (استفعال) فهي بمعنى طلب السلامة والتي عادة تكون ملازمة للانقياد والخضوع في مقابل قوّة أعظم.

٣٠٣

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم : إنّكم شياطين ، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا ، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع( قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ) .

إذ أنّنا ـ بحكم فطرتنا ـ كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة ، ولذا لبّينا دعوتكم ، لكنّنا لم نكن نعلم أنّكم تخفون وراء وجوهكم الخيّرة ظاهرا وجها آخر شيطانيا وقبيحا أوقعنا في الخطيئة ، نعم فكلّ الذنوب التي ارتكبناها أنتم مسئولون عنها ، لأنّنا لم نكن نملك شيئا سوى حسن النيّة وطهارة القلب ، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.

كلمة (يمين) تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة ، وكلّ ما يرد إليهم من جهة اليمين يتفاءلون به ، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين يفسّرون( كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ) على أنّها تظهر الخير والنصيحة كما ذكرنا ذلك أعلاه.

على أيّة حال ، الثقافة العامّة تعتبر العضو الأيمن أو الطرف الأيمن شريفا ، والأيسر غير شريف ، ولهذا السبب تستعمل اليمين للإحسان وعمل الخيرات.

وقد ذكرت مجموعة من المفسّرين تفسيرا آخر وهو : إنّ المقصود هو أنّكم أتيتمونا باعتمادكم على القدرة ، لأنّ الجهة اليمنى تكون عادة هي الأقوى ، وبهذا الدليل فإنّ أغلب الناس ينجزون أعمالهم المهمّة والصعبة باليد اليمنى ، لذا فقد أصبح هذا التعبير كناية عن «القدرة».

وهناك تفسيرات اخرى تعود إلى هذين التّفسيرات أعلاه ، ولكن لا شكّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة لا يسكتون ، بل يجيبون تابعيهم بالقول :( قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) .

فلو لم تكن أهواؤكم منحرفة ، ولو لم تكونوا من طلّاب الشرّ والشيطنة ، لما

٣٠٤

اتّبعتمونا بإشارة واحدة ، ولماذا لم تستجيبوا لدعوة الأنبياء والصالحين؟ إذا فالخلل فيكم أنتم ، اذهبوا ولوموا أنفسكم والعنوها. ودليلنا واضح ، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم ، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شيء( وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ) .

إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون ، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم( بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ) .

وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد ارتبط به قلبيّا طوال عمره ، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثمّ يتبرّأ منه ، ويلقي كلّ الذنوب على عاتقه؟

في الحقيقة ، إنّ كلا المجموعتين صادقة في قولها ، فلا هؤلاء ، أبرياء ولا أولئك ، فالغواية والشيطنة كانت من أولئك ، وتقبل الغواية والاستسلام كان من هؤلاء.

فجدا لكم لا يؤدّي إلى نتيجة ، وهنا يعترف أئمّة الضلال بهذه الحقيقة ، ويقولون : بهذا الدليل ثبت أمر الله علينا ، وصدر حكم العذاب بحقّ الجميع ، وسينالنا جميعا عذاب الله( فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ) .

إنّكم كنتم طاغين ، وهذا هو مصير الطغاة ، أمّا نحن فقد كنّا ضالّين ومضلّين.

فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالّين( فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) .

بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعا شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟

* * *

ملاحظتان

١ ـ السؤال أيضا عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

بالشكل الذي أشرنا إليه سابقا ، فإنّ روايات عديدة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة بشأن تفسير هذه الآية( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) تبيّن أنّ من جملة

٣٠٥

القضايا التي يسأل عنها المجرمون يوم القيامة هو ما يتعلّق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

فالشيخ «الطوسي» نقل في كتابه (الأمالي) عن أنس بن مالك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنّم لم يجز عليه إلّا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب ، وذلك قوله تعالى :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) يعني عن ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام »(١) .

كما أكّد الكثير من كتب أهل السنّة على أنّ تفسير هذه الآية يخصّ السؤال بشأن ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقد نقل هذه الرواية ابن عبّاس وأبي سعيد الخدري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما نقلها رواة آخرون منهم :

ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ـ الصفحة ١٤٧.

عبد الرزاق الحنبلي في كشف الغمّة ـ الصفحة ٩٢.

العلّامة سبط ابن الجوزي في التذكرة ـ الصفحة ٢١.

الآلوسي في روح المعاني في نهاية هذه الآية.

أبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصال ـ الصفحة ٣٦٠ ، وغيرهم من الرواة(٢) . وبالطبع ، وكما قلنا مرارا ، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات ، بل تعكس ـ في الحقيقة ـ مصاديقها الواضحة ، بناء على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن جميع العقائد ، لكن بما أنّ للولاية موقعا خاصّا في بحث العقائد فقد استند عليها.

وهناك نقطة جديرة بالاهتمام ، وهي أنّ الولاية لا تعني علاقة عادية أو اعتقادا جافّا ، وإنّما الهدف هو قبول قيادة الإمام عليعليه‌السلام في المسائل العقائدية والعلمية

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الرابع ، الصفحة ٤٠١.

(٢) لكسب المزيد من الاطلاع في هذا المجال يراجع إحقاق الحقّ ، المجلّد الثالث (الطبعة الجديدة) صفحة (١٠٤) ، والمراجعات ، الصفحة ٥٨ (المراجعة ١٢).

٣٠٦

والأخلاقية والاجتماعية بعد النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد عكست خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام وكلماته في نهج البلاغة نماذج من تلك المسائل المسائل التي يعدّ الإيمان بها والعمل على أساسها وسيلة مؤثّرة للخروج من صفّ أهل جهنّم والاستقرار على صراط الله المستقيم.

٢ ـ المتبوعون والتابعون الضالّون :

الآيات المذكورة أعلاه وآيات اخرى في القرآن الكريم ، تضمّنت إشارات ذات مغزى عن التخاصم الذي يقع بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة أو في جهنّم وهذا تحذير مفيد لكلّ من يضع عقله ودينه تحت تصرّف أئمّة الضلال.

ومع أنّ كلّ واحد يسعى في ذلك اليوم للتبرؤ من الآخر ، وحتّى أنّه يحاول إلقاء تبعات ارتكاب الذنب عليه ، ولكن بتلك الحال لا يستطيع أي واحد منهم إثبات براءته.

وشاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أئمّة الغواية والضلال يقولون بصراحة لتابعيهم : إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم( بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ) .

هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية التأثّر بإغوائنا ، وعبّر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم( فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) .

التوجّه الدقيق لمعنى (أغوى) والمشتقّة من (غي) يوضّح الموضوع ، لأنّ كلمة (غيّ) كما يقول الراغب في (مفرداته) تعني الجهل الناشئ من المعتقدات الفاسدة ، إذ أنّ أئمّة الضلال بقوا بعيدين عن معرفة حقائق الوجود والحياة ، ونقلوا جهلهم ومعتقداتهم الفاسدة إلى تابعيهم الذين كانوا يحملون روح الطغيان في مقابل أمر الباريعزوجل .

وبهذا الدليل يعترفون هناك بأنّهم هم وتابعوهم يستحقّون العذاب ،( فَحَقَّ عَلَيْنا

٣٠٧

قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ) .

وكلمة (ربّ) هنا لها مغزى كبير ، إذ أنّ الإنسان يصل إلى درجة بحيث أنّ الله الذي هو مالك ذلك الإنسان ومربّيه ولا يريد له سوى الخير والسعادة يأمر بالقائه في أشدّ العذاب!! وهذا أيضا من شؤون ربوبيته.

على أيّة حال فإنّ ذلك اليوم هو حقّا (يوم الحسرة) حيث يندم فيه أئمّة الضلال وتابعوهم على أفعالهم ، ولكن ما الفائدة؟ فليس هناك أي طريق للرجعة.

* * *

٣٠٨

الآيات

( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) )

التّفسير

مصير أئمّة الضلال وأتباعهم :

الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمّة الضلال وتابعيهم يوم القيامة قرب جهنّم ، أمّا الآيات أعلاه فقد وضّحت ـ في موضع واحد ـ مصير المجموعتين ، وشرحت أسباب تعاستهم بشكل يشخّص المرض ويصف الدواء الخاص لمعالجته.

ففي البداية تقول : إنّ التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك اليوم

٣٠٩

بالعذاب الإلهي( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) .

وبالطبع فإنّ اشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود اختلاف في المكان الذي سيلقون به جهنّم ، إضافة إلى اختلاف نوع العذاب الإلهي. إذ من الطبيعي أنّ الذي يتسبّب في انحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضالّ عادي ، وهذه الآية تشبه الآية (٤٨) في سورة غافر والتي يقول فيها المستكبرون لضعفاء الإيمان بعد محاججة ومخاصمة تجري فيما بينهم : إنّنا جميعا في جهنّم ، لأنّ الله قد حكم بالعدل بين العباد( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ) .

وهذه الآية لا تنافي الآية (١٣) من سورة العنكبوت ، والتي يقول فيها الباريعزوجل ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) أي إنّهم يحملون يوم القيامة أحمالهم الثقيلة ، وأحمالا اخرى أضيفت إلى أحمالهم الثقيلة ، وذلك أثر إغوائهم وإضلالهم للآخرين وتشجيعهم على ارتكاب الذنب.

وللتأكيد أكثر على تحقّق العذاب تقول الآية التي تلتها( إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) إنّ هذه هي سنّتنا ، السنّة المستمدّة من قانون العدالة.

ثمّ توضّح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة أولئك ، وتقول :( إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) .

نعم ، إنّ التكبّر والغرور ، وعدم الانصياع للحقّ ، والعمل بالعادات الخاطئة والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة ، والنظر إلى كلّ شيء باستخفاف واستحقار ، تؤدّي جميعا إلى انحراف الإنسان.

فروح الاستكبار يقابلها الخضوع والاستسلام للحقّ والذي هو الإسلام الحقيقي ، الاستكبار الذي هو أساس الظلام ، فيما أنّ الخضوع والاستسلام هو أساس السعادة.

والذي يثير الاهتمام أنّ بعض آيات القرآن الكريم توضّح بصورة مباشرة

٣١٠

العذاب الإلهي الذي سيعذّب به المستكبرون( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) .(١)

لكن هؤلاء برّروا ارتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم ، كقولهم : هل نترك آلهتنا وأصنامنا من أجل شاعر مجنون( وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ) .

لقد أطلقوا على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة (شاعر) لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم ، فأحيانا كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزنا ، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعرا ، وكانوا يعتبرونه (مجنونا) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه ، ووقف موقفا صلبا أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك ، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضالّ في ذاك الوقت نوع من الانتحار الجنوني ، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو عدم استسلامه للوضع السائد حينذاك.

وهنا تدخل القرآن لردّ ادّعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عند ما قال :( بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ) .

فمحتوى كتابه من جهة ، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة اخرى ، هي خير دليل على صدق حديثه.

وأمّا أنتم أيّها المستكبرون الضالّون ، فإنّكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم( إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ) .

ولا تتصوّروا أنّ الله منتقم ، وأنّه يريد الانتقام لنبيّه منكم ، كلّا ليس كذلك( وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ أعمالكم سوف تتجسّد أمامكم ، لتبقى معكم لتؤذيكم وتعذّبكم ، وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم بالله

__________________

(١) الأحقاف ، ٢٠.

٣١١

وزعمكم بأنّ آيات الله هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافة إلى ظلمكم وارتكابكم القبائح.

آخر آية في هذا البحث ، والتي هي ـ في الحقيقة ـ مقدّمة للبحث المقبل ، تستثني مجموعة من العذاب ، وهي ـ مجموعة عباد الله المخلصين( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) (١) .

وكلمة( عِبادَ اللهِ ) يمكنها لوحدها أن تبيّن ارتباط هذه المجموعة بالله سبحانه وتعالى ، وعند ما تضاف إليها كلمة مخلصين فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقا وحياة ، و «مخلص» (بفتح اللام) جاءت بصيغة اسم مفعول ، وتعني الشخص الذي أخلصه الله سبحانه وتعالى لنفسه ، أخلصه من كلّ أشكال الشرك والرياء ومن وساوس الشياطين وهوى النفس.

نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها ، وإنّما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه ، ويمنحها من الثواب بغير حساب.

* * *

ملاحظة

الإمعان في آيات القرآن الكريم يبيّن أنّ كلمة (مخلص) بكسر اللام ، قد استخدمت بكثرة في المواقع التي تتحدّث عن حالة الإنسان الذي يعيش مراحل بناء نفسه ، ولم يصل إلى التكامل ، أمّا كلمة (مخلص) بفتح اللام ، فتطلق على مرحلة وصل فيها الإنسان إلى مرتبة يصان فيها من نفوذ وساوس الشيطان إلى قلبه ، بعد أنّ اجتاز مرحلة جهاد النفس ومراحل المعرفة والإيمان ، كما أنّ القرآن ينقل عن إبليس الخطاب التالي لله سبحانه وتعالى( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

هذه الآية تكرّرت عدّة مرّات في القرآن ، وهي توضّح عظمة مقام المخلصين ،

__________________

(١) العبارة هذه (استثناء منقطع) من ضمير (تجزون) أو (لذائقو).

٣١٢

مقام يوسف الصدّيق بعد أن عبر ساحة الاختبار الكبيرة بنجاح ، وأمثاله من المخلصين( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) أي نحن أظهرنا البراهين ليوسف لنبعد عنه الفحشاء والسوء ، لأنّه من عبادنا المخلصين (سورة يوسف ـ ٢٤).

فمقام المخلصين لا يناله إلّا من انتصر في الجهاد الأكبر ، وشمله اللطف الإلهي بإزالة كلّ شيء غير خالص من وجوده ، ولا تبقى فيه سوى النفس الطاهرة الخالصة ـ كالذهب الخالص ـ عند إذابتها في أفران الحوادث والاختبار. وهنا فإنّ مكافأتهم لا تتمّ وفق معيار أعمالهم ، وإنّما معيار مكافأتهم هو الفضل والرحمة الإلهيّة.

والعلّامة الطباطبائي رحمة الله عليه يقول بهذا الشأن :

«يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ، إنّ كافّة الناس يأخذون مكافأة أعمالهم إلّا العباد المخلصين له ، لأنّهم يدركون بأنّهم عبيد الله ، والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل ، فهؤلاء لا يريدون إلّا ما أراده الله ولا يعملون إلّا له. ولكونهم من المخلصين ، فقد أخلصهم لنفسه ، ولا تعلّق لهم بشيء غير ذات الله تعالى. فقلوبهم خالية من حبّ الدنيا وزخارفها ، وليس فيها إلّا الله سبحانه.

ومن المعلوم أنّ من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعّمه بغير ما يلتذّ ويتنعّم به غيره ، وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه ، وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ، ومن هنا يتأيّد أنّ المراد بقوله :( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) الإشارة إلى أنّ رزقهم في الجنّة رزق خاص لا يشبه غيره ، (وأنّهم يرزقون من مظاهر ذات الله الطاهرة ، وقلوبهم متعطّشة اشتياقا لله ، وغارقة في العشق والوصول إلى الله)(١) .

* * *

__________________

(١) الميزان ، المجلّد ١٧ ، الصفحة ١٤١.

٣١٣

الآيات

( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) )

التّفسير

جوانب من النعم لأهل الجنّة :

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدّثت عن عباد الله المخلصين ، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة ، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام :

تقول الآية أوّلا : إنّ لهم رزقا معلوما ومعيّنا( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) .

فهل هذه هي خلاصة لتلك النعم التي ستبيّنها الآيات فيما بعد ، وتوضيح للنعم التي ستغدق عليهم بصورة خفيّة.

أو إشارة إلى نعم معنوية غير معروفة وغير قابلة للوصف ، تتصدّر نعم أهل

٣١٤

الجنّة.

بعض المفسّرين فسّرها بالشكل الأوّل ، فيما فسّرها آخرون بالشكل الثاني ، وتناسب البحث يتواءم مع المعنى الثاني ، وبهذا فإنّ النعمة الاولى من النعم السبع ـ التي وردت في آيات بحثنا ـ هي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات الله ، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله. اللذّة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

والسبب في أنّ العطايا المادّية في الجنّة قد ذكرت في آيات القرآن الكريم بالتفصيل والهبات المعنوية والملذّات الروحية استعرضت بصورة خفيّة ، فهو أنّ الأولى قابلة للوصف دون الثانية.

وأمّا بشأن معنى( رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) فلقد قيل عنها الكثير ، هل هي بمعنى معلوم الوقت ، أم بقاءه ودوامه ، أم سائر خصائصه؟ ولكن كما قلنا قبل قليل فانّ «معلوم» تعبير خفي ومجمل عن المواهب التي لا تقبل الوصف.

ثمّ ينتقل إلى بيان نعم اخرى ، ويعدّد قبل كلّ شيء بعض نعم الجنّة التي تقدّم لأهل الجنّة بكل احترام وتكريم( فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ) .

وليس بتلك الصورة التي يرمى فيها الطعام أمام الحيوان لتناوله ، وإنّما يقدّم لهم الطعام بكلّ احترام وكأنّهم ضيوف أعزّاء.

هنا نترك الحديث عن أنواع الفواكه التي تقدّم لأهل الجنّة باحترام وتجليل ، لنتطرّق إلى أماكنهم في الجنّة ، حيث أنّ القرآن الكريم يقول : إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنّة( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

فأي نعمة يتمنّونها موجودة هناك ، وكلّ ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة ، وهي استئناس أهل الجنّة بمجالس السمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء ، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كلّ منهم إلى الآخر( عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) .

٣١٥

يتذاكرون في كلّ شيء ، فمرّة تراهم يتحدّثون عن ماضيهم في الدنيا ، واخرى عن النعم العظيمة التي أغدقها عليهم الباريعزوجل في الآخرة ، وأحيانا يستعرضون صفات الجمال والجلال عند الله ، وفي أوقات يتحدّثون عن مقام الأولياء وكراماتهم ، ويتذاكرون قضايا اخرى قد لا ندركها نحن المسجونون في هذه الدنيا.

«سرر» هي جمع (سرير) وهي الأسرة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم ، كما أنّ لهذه الكلمة معان أوسع ، حتّى أنّها تطلق أحيانا على تابوت الميّت ، ويحتمل أن يكون إطلاق هذه التسمية على تابوت الميّت برجاء أن يكون التابوت مركب بهجة يسير به إلى الرحمة الإلهية وجنّة الخلد.

أمّا القسم الخامس فيتحدّث عن نعمة اخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنّة ، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة ، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) .

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها ، وإنّما يطاف بها عليهم( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) .

كلمة (كأس) يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء ، فيما يطلقون كلمة (قدح) عليه إن كان خاليا ، وقال الراغب في مفرداته : الكأس الإناء بما فيه من الشراب.

أمّا كلمة (معين) مشتقّة من (معن) على وزن (صحن) وتعني الجاري ، إشارة إلى أنّ هناك عيونا جارية من الخمر الطاهر ، تملأ منها ـ في كلّ لحظة ـ الكؤوس ، ومن ثمّ يطاف بها على أهل الجنّة ، وهذه العيون الجارية من الخمر الطاهر لا تنضب ولا تفسد ، إضافة إلى أنّ الحصول عليها لا يحتاج إلى أي مشقّة أو تعب.

ثمّ ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب ، إذ يقول : إنّها بيضاء اللون

٣١٦

ومتلألئة وتعطي لذّة للشاربين بها( بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) .

وكلمة (بيضاء) اعتبرها بعض المفسّرين صفة لكؤوس الشراب ، فيما اعتبرها البعض الآخر صفة للشراب الطهور ، ويعني أنّ ذلك الشراب ليس كالأشربة الملوّنة في الدنيا ، بل إنّها أشربة طاهرة ، خالية من الألوان الشيطانية ، وبيضاء اللون شفّافة.

وبالطبع فإنّ المعنى الثاني أنسب لجملة( لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) .

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اخرى ، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان( لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ) .

أي أنّ ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل ، ولا يؤدّي إلى السكر والغفلة ، وإنّما يؤدّي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح.

وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة ، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتمّ بصورة سريّة أو خفية بأنّه (قتل غيلة).

وكلمة (ينزفون) من مادّة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّا ، وعند ما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه ، فإنّها تعطي معنى استخراج الماء من البئر تدريجيّا حتّى ينضب ، ويقال «نزيف الدم» وهو خروج الدم من الجسد تدريجيّا حتّى ينتهي تماما.

على أيّة حال ، فإنّ المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّا والوصول إلى حالة السكرة ، أمّا خمر الجنّة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق ، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

هاتان العبارتان تتطرّقان في آن واحد ـ بصورة ضمنية ودقيقة ـ إلى الشراب في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية ، ويوجد عنده حالات الفساد والضياع ، حيث أنّها لا تؤدّي بعقل الإنسان وأعصابه إلى

٣١٧

الدمار فحسب ، بل إنّ تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتدّ إلى جميع أعضاء جسم الإنسان ، إلى القلب وحتّى الشرايين ، وإلى المعدة والكلية والكبد ، وأحيانا تودي بحياة الإنسان وكأنّها تقتله غيلة ، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيّا حتّى يجفّ.

ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات(١) .

أمّا القسم السادس ، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنّات النعيم( وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) ، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهن عليهم فقط ، ولهذه الزوجات أعينا واسعة وجميلة.

(طرف) في الأصل تعني جفن العين ، وهذه الكلمة كناية عن النظر ، إذ أنّ أجفان العين تتحرّك عند ما ينظر الإنسان إلى شيء ما ، إذن فإنّ عبارة( قاصِراتُ الطَّرْفِ ) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة ، كما أنّ هناك تفسيرات متعدّدة وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي :

الأوّل : هو أنّهن ينظرن إلى أزواجهنّ فقط ، ولا تمتد أبصارهنّ إلى سواهم.

والثاني : هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقنّ إلّا أزواجهنّ ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم ، ولا توجد محبّة اخرى في قلوبهنّ ، وهذا هو أكبر امتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمّل به.

والتّفسير الثالث : هو أنّ لهنّ أعين سكرى ، هذه الحالة الخاصّة التي طالما وصف فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم(٢) .

__________________

(١) الضميران (فيها) و (عنها) يعودان على «الخمر» التي لم ترد بصورة مباشرة في الجملة ، لكن ذلك يتّضح من سياق الكلام ، وكما هو معروف فإنّ الخمرة هي مؤنث مجازي و (عن) في (عنها) إنّما هي لبيان العلّة ، وتعني أنّ هذه الخمرة لا تسكر هؤلاء ولا تفقد عقلهم وشعورهم ، ويجب الالتفات إلى أنّ للخمر معنيان مشتركان ، إذ هي أحيانا تطلق على شراب يثير الفساد ويذهب بالعقل( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) (المائدة ـ ٩٠) ، وأحيانا تطلق على الشراب الطاهر الذي يعطي لعباد الله المخلصين في جنان الخلد( وَأَنْهارٌ ) ( مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) (محمّد ـ ١٥).

(٢) روح المعاني ، المجلّد ٣٣ ، صفحة ٨١.

٣١٨

وبالطبع فإنّ المعنى الأوّل والثاني يبدوان أنسب ، مع أنّه لا مانع من الجمع بين المعاني.

كلمة (عين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة.

وأخيرا ، فإنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفا آخر لزوجات الجنّة ، إذ توضّح طهارتهنّ وقد استهن من خلال هذه العبارة( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) أي إنّهن نظيفات وظريفات ، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش في العشّ فلم تمسّه الأيدي ولم يصبه الغبار.

(بيض) جمع بيضة.

(مكنون) مشتقّة من (كن) على وزن (جنّ) وتعني المستور بالادّخار.

هذا التشبيه القرآني يتّضح بصورة جيّدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة التي تنفصل فيها عن الدجاجة ، ولم تمسّها بعديد الإنسان لتستقرّ تحت جناح الدجاجة وريشها ، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان.

وبعض المفسّرين يرى بأنّ كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة المختفية تحت القشرة ، وفي الواقع فإنّ التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد أزيلت قشرتها الخارجية لتوّها ، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة.

الملاحظ أنّ عبارات القرآن المجيد الخاصّة بتوضيح الحقائق ، عميقة ومفعمة بالمعاني ، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضّح حقائق كثيرة وبأسلوب لطيف.

* * *

ملاحظة

إلقاء نظرة عامّة على ما جاء في الآيات السابقة :

الهبات التي من الله تعالى بها على أهل الجنّة ـ المذكورة في الآيات السابقة ـ هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية ، ونستشف من عبارة( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ

٣١٩

مَعْلُومٌ ) أنّ أوّل هبة هي تلك المتعلّقة بالهبات المعنوية والروحية التي يعجز اللسان عن وصفها.

أمّا الأقسام الستّة الاخرى وهي الفواكه ، والشراب الطاهر ، والزوجات الصالحات ، والاحترام الكامل ، والمسكن الحسن ، والأصدقاء الجيدون في الجنّة ، فقد أعطت أبعادا مختلفة لنعم الجنّة ، والتي غالبا ما تمزج بالعطايا والمنح المادية والمعنوية.

لكن كلّ ما طرحناه كان بلغتنا التي لا تستطيع أبدا أن تعكس كلّ جوانب النعم في الجنّة ، ومن الطبيعي فإنّنا نحتاج إلى حواس سمع ونظر وإدراك اخرى ، إضافة إلى ألفاظ وجمل وكلام آخر ، كي نتمكّن من شرح هذه الأمور.

وبعبارة اخرى ، فإنّ حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنّة خفيّة عن أهل الدنيا ، إلّا إذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

على أيّة حال ، فإنّ( عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) والذين وصلوا في علومهم وإيمانهم إلى مرحلة الكمال ، أعزّاء عند الله ، ويشملهم اللطف الإلهي بصورة غير محدودة ، ومهما تصوّرنا علو مقامهم ، فإنّهم أفضل وأعلى من ذلك.

* * *

٣٢٠