الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 140772
تحميل: 3523


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140772 / تحميل: 3523
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

الآيات

( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) )

التّفسير

البحث عن رفيق السوء :

عباد الله المخلصون الذين استعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم ، كالفاكهة ، والحور ، وكأس المعين الذي يطاف به عليهم ، والسرر المتقابلة التي يجلسون عليها ، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدّثون معهم ، وفجأة ـ خلال جلسات سمرهم في الجنّة ـ يتذكّرون أصدقائهم

٣٢١

في الدنيا ، أصدقائهم الذين انفصلوا عنهم في الطريق ، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنّة ، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.

نعم ، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض ،( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) .

فجأة خطر في ذهن أحدهم أمر ، فالتفت إلى أصحابه قائلا : لقد كان لي صديق في الدنيا( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ) .

ومع الأسف ، فإنّه انحرف عن الطريق الصحيح ، وصار منكرا ليوم البعث ، وكان دائما يقول لي : هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟( يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) .

هل أنّنا إذا متنا وكنا ترابا وعظاما نحيا مرّة اخرى ، لنساق إلى الحساب ، والجزاء على ما اقترفناه من أعمال؟ إنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يصدق :( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ) (١) .

وهنا يخاطب من كان يتحدّث معهم من أهل الجنّة ، بالقول : ليتني أعرف أين هو الآن؟ وفي أيّة ظروف يعيش؟ فمكانه خال بيننا

ويضيف : أيّها الأصدقاء ، هل تستطيعون البحث عنه ، ومعرفة حاله ،( قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) (٢) .

وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنّم ، ويرى فجأة صديقه وسط جهنّم( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ) (٣) .

فيخاطبه قائلا : أقسم بالله لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه( قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) (٤) .

__________________

(١) (مدينون) من مادّة (دين) وتعني الجزاء ، وهنا تعني : هل أنّنا سنجزى.

(٢) (مطّلعون) من مادّة (اطّلاع) وتعني التفتيش والبحث ، والإشراف على شيء من مكان عال ، وأخذ المعلومات.

(٣) (سواء) تعني الوسط.

(٤) (تردين) من مادّة (إرداء) وتعني السقوط من مكان عال ، وهلاك الساقط.

٣٢٢

لقد أو شكت أن تؤثّر على صفاء قلبي بوساوسك ، وأن تزجّ بي في الخطّ المنحرف الذي كنت فيه ، فلو لا لطف الله الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي ، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنّم( وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) .

فالتوفيق الإلهي كان رفيق دربي ، ولطف هدايته كان الموجّه لي.

وهنا يلقي نظرة اخرى إلى صديقه في جهنّم ، ويقول له موبّخا إيّاه : ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت( أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ) سوى مرّة واحدة في الدنيا ، وبعدها لا حياة اخرى ولا عذاب( إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) .

الآن انظر ولاحظ الخطأ الكبير الذي وقعت فيه! فبعد الموت كانت هذه الحياة وهكذا ثواب وعقاب ، والآن توضّحت لك كافة الحقائق ، ولكن ما الفائدة فليس هناك طريق للعودة.

طبقا لتفسير الآيتين الأخيرتين ، فإنّ حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم ، كان مركزا على تذكيره بإنكاره للمعاد في الحياة الدنيا.

لكن بعض المفسّرين يحتملون وجود تفسير آخر للآيتين المذكورتين ، وهو أنّه بعد انتهاء حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم ، يعود إلى أصحابه في الجنّة للتسامر فيما بينهم ، فيقول أحدهم من شدّة الفرح : أحقّا أنّنا لن نموت مرّة اخرى؟ وأنّنا سنعيش هنا خالدين؟ وهل أنّه بعد الموت الأوّل لا يوجد موت آخر ، وتبقى هذه النعم الإلهيّة معنا ، وما نحن بمعذّبين؟

بالطبع هذا الكلام ليس مصدره الشكّ والتردّد ، إنّما هو نتيجة شدّة الفرح والسرور ، فمثلهم كمثل الإنسان الذي يحصل بعد مدّة من الأمل والانتظار على بيت واسع وفخم ، فيقول وهو متعجّب : كلّ هذا لي؟ يا ربّي! ما هذه النعمة! وهل ستبقي عندي؟

على كلّ حال ، هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني وحسّاسة ومؤثّرة جدّا ،

٣٢٣

ومؤكّدة بأنواع التأكيدات( إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية ، وتشمله الألطاف الإلهية؟ وماذا يتصوّر أفضل وأعظم من ذلك؟

ثمّ يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة واحدة قصيرة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق ،( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) أي لمثل هذا فليعمل الناس ، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.

بعض المفسّرون يحتملون في كون الآية الأخيرة أنّها من كلام أصحاب الجنّة ، وهذا الاحتمال مستبعد جدّا ، لأنّ الإنسان في ذلك اليوم غير مكلّف ، وبعبارة اخرى لا يوجد أي تكليف في ذلك اليوم حتّى يستنتج من الكلام أنّه تشجيع للآخرين ، في الوقت الذي يوضّح فيه ظاهر الآية إنّها استنتاج للآيات السابقة ، وأنّها تدفع الناس إلى الإيمان والتوجّه إلى العمل ، لذا كان من المناسب أن يورد الباريعزوجل هذا الحديث في نهاية هذا البحث.

* * *

بحوث

١ ـ الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار

يستشف من الآيات المذكورة أعلاه ، وجود نوع من الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار ، فكأنّ أهل الجنّة ـ الذين هم في مرتبة عليا ـ يرون أهل النار ـ الذين هم في الأسفل ـ [وقد استفيد هنا من عبارة (فاطّلع) والتي تعني الإشراف من الأعلى على الأسفل].

وبالطبع فإنّ هذا ليس بدليل على كون الفاصل الموجود بين الجنّة والنار قليلا ، فلربّما يمنحون قوّة نظر خارقة تغدو أمامها قضيّة المكان والفاصل معدومة.

٣٢٤

وقد جاء في كلمات بعض المفسّرين أنّ للجنّة كوة ينظر منها أهل الجنّة إلى أهل النار.

وآيات سورة الأعراف توضّح بصورة جيّدة الرابطة الموجودة بين الفريقين( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ،(١) كما يمكن الاستفادة من الآية (٤٦) في سورة الأعراف بهذا الشأن( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) أي أنّ هناك حجاب بين أهل الجنّة وأهل النار.

وكلمة (نادى) يستخدمها ـ بصورة طبيعية ـ المتكلّم عند بعد ، وتوضّح في الآية مكان ومرتبة الفريقين.

على أيّة حال ، وكما ذكرنا عدّة مرّات ، فإنّ أوضاع وأحوال يوم القيامة تختلف كثيرا عن أوضاع عالمنا الحالي ، ونحن لا نستطيع تقييم الأوضاع هناك وفق معايير عالمنا.

٢ ـ بحقّ من نزلت هذه الآيات

بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ سبب نزول الآيات المذكورة أعلاه هو ما ورد في سورة الكهف كمثال ،( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ). (٢)

وقد جاء في هذه الآيات أنّ أحد الشخصين كان متكبّرا ومغرورا جدّا ، إضافة إلى أنّه كان ينكر المعاد ، والآخر كان مؤمن يعتقد بالقيامة ، وفيما بعد نزل العذاب الإلهي على الشخص المغرور الكافر وهو في هذه الدنيا ، إذ فقد ثروته وأحاط به

__________________

(١) الأعراف ، ٤٤.

(٢) سورة الكهف ، الآيات ٣٢ إلى ٤٣.

٣٢٥

البلاء من كلّ جانب(١) .

لكن سياق آيات بحثنا هذا يختلف مع ما هي عليه آيات سورة الكهف ، ويبيّن وجود فارق بين الحادثتين.

ويرى البعض الآخر : إنّها تخصّ شخصين شريكين أو صديقين كانا يمتلكان ثروة كبيرة ، أحدهما كان ينفق بسخاء في سبيل الله ، أمّا الثاني الذي كان لا يؤمن بشيء ـ فقد امتنع عن الإنفاق ، وبعد مدّة من الزمن أصيب المنفق بفاقة مالية ، وتعرّض لاستهزاء صديقه ، والذي قال له بلغة السخرية ،( أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) (٢) .

فإن كانت أسباب النّزول تخصّ هذه الحادثة ، إذا علينا قراءة كلمة (مصدّقين) بتشديد (الصاد) والتي تعني هنا دفع الصدقة والإنفاق.

في حين أنّ المشهور بين القرّاء قراءة كلمة (مصدّقين) بدون تشديد (الصاد) وعلى هذا فإنّ سبب النّزول الآنف الذكر لا يتلاءم والقراءة المشهورة.

٣ ـ لنيل مثل هذه النعم علينا المثابرة

هل من الصحيح أن يصرف الإنسان رأس مال عمره والقابليات الاخرى والعطايا الإلهية في موارد هي كالفقاعات التي لا تدوم سوى لحظات فوق الماء؟ متاع بخس غير دائم ، متاع مليء بالآفات والمشاكل!!.

أو يستثمر هذه القوى العظيمة في مجال يؤدّي إلى حياة خالدة ونعم دائمة ، ومرضاة الله سبحانه وتعالى؟

فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه ، عند ما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف ، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية ـ

__________________

(١) تفسير فخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ١٣٩.

(٢) روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٨٣.

٣٢٦

التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظلّ الملكوتي ، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كلّ أشكال الغمّ. وليس فيها همّ ولا غمّ ولا مشكلة.

نعم فمن يريد أن يكسب الجنان فعليه أن يسعى ويعمل.

* * *

٣٢٧

الآيات

( أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) )

التّفسير

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار :

بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة ، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه الله لأهل جهنّم ، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقا ، بحيث تترك أثرا عميقا في النفوس يردعها عن ارتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة.

ففي البداية تقول :( أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) .

٣٢٨

كلمة (نزل) تعني الشيء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد ، والبعض الآخر قال : إنّها تعني الشيء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده ، وهذه إشارة إلى النعم المهيئة لورود الضيوف الأعزّاء والمحترمين إلى الجنّة.

والقرآن الكريم يقول : أذلك خير أم شجرة الزقوم؟ ولفظة (خير) ليست دليلا على أنّ شجرة الزقّوم شيء جيّد ، والنعم التي أعدّها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة أجود ، إذ أنّ مثل هذه الألفاظ تستخدم أحيانا في لغة العرب بشأن بعض الأشياء التي لا فائدة فيها أبدا ، ويحتمل بأنّها نوع من الكناية ، ومثلها كمثل شخص غارق بالذنوب وقد فضح أمام الناس ، وهم يقولون له : هل هذه الفضيحة خير ، أم الفخر والعزّة والشرف؟

وأمّا «زقّوم» فقد قال أهل اللغة : إنّه اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة(١) .

فيما قال بعض المفسّرين : إنّه اسم نبات يحمل أوراقا صغيرة مرّة وكريهة الرائحة وهو موجود في أرض تهامة ، وكان يعرفه المشركون(٢) . وأضاف صاحب تفسير (روح المعاني) أنّ لهذا النبات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورّم(٣) .

وقال الراغب في (مفرداته) : الزقوم هو كلّ غذاء يثير اشمئزاز أهل جهنم.

وقال صاحب كتاب (لسان العرب) : هذا اللفظ يأتي أساسا بمعنى بلع الشيء ، ويضيف : عند ما نزلت هذه الآية قال أبو جهل ، لا توجد مثل هذه الشجرة في أرضنا ، فمن منكم يعرف معنى زقّوم؟

وهنا أجابه شخص من أفريقيا قائلا : الزقّوم بلغة أهل أفريقيا تعني الزبد والتمر ، وفور ما سمع أبو جهل بجواب الأفريقي ، نادى جاريته ، وقال لها باستهزاء : زقمّينا بمقدار من التمر والزبد. فكانوا يأكلون ويسخرون ويقولون : إنّ محمّد يخوّفنا من

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادّة (زقم).

(٢) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٧ ، الصفحة ٤٦٤.

(٣) روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٨٥.

٣٢٩

هذا في الآخرة ، فنزلت آيات قرآنية قاطعة وحازمة تردّ على أبي جهل وبقيّة المشركين سنتطرّق إليها فيما بعد.

على كلّ حال فإنّ كلمة (شجرة) لا تأتي دائما بمعناها المعروف ، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات) والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات).

ثمّ يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة ، ويقول :( إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) .

ولفظة (فتنة) تعني المحنّة والعذاب ، كما تعني الامتحان ، وغالبا ما جاء هذا المعنى في موارد متعدّدة من سور القرآن المجيد ، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عند ما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والاستهزاء ، فيما كان هذا الأمر امتحانا لأولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) .

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون استهزاءهم ، ويقولون : كيف يمكن لنبات أو شجرة ينبت في قعر جهنّم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟ وتبعا لذلك فإنّ سماع اسم هذا النبات وأوصافه هو اختبار دنيوي لهم ، وسيكون سببا لعذابهم ومحنتهم في الآخرة.

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الأصول التي تحكم في ذلك العالم ـ أي الآخرة ـ تختلف كثيرا عن الأصول الحاكمة في العالم الدنيوي ، فالأشجار والنباتات التي تنبت في قعر جهنّم ، وتنمو في ذلك الظرف ويكون لونها بلون النار ، ليست كالأشجار والنباتات النابتة في حدائق وبساتين هذا العالم ، ويحتمل عدم جهلهم بهذا الأمر ، بل هدفهم الاستهزاء والسخرية فقط.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) .

(الطلع) يقال لأوّل ما يبدو من حمل النخلة ، وله قشر أخضر اللون ، وفي داخله

٣٣٠

فروع بيضاء اللون تتحوّل فيما بعد إلى عنقود يحمل التمر.

وكلمة (طلع) من مادّة (طلوع) وبهذه المناسبة أطلق على الثمر في أوّل ظهوره.

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أنّ الناس شاهدوا رؤوس الشياطين حتّى يشبّه القرآن ثمار الزقّوم بها؟

المفسّرون أعطوا أجوبة متعدّدة لهذا السؤال :

فقال البعض : إنّ إحدى معاني كلمة (الشيطان) هي حيّة كريهة المنظر ، شبّهت بها ثمار الزقّوم.

وذهب البعض الآخر إلى أنّه نوع من النبات ذو شكل قبيح ، كما جاء في كتاب (منتهى الارب) أنّ (رأس الشيطان) أو (رؤوس الشياطين) نبات.

إلّا أنّ الرأي الأصحّ ، هو أنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والاشمئزاز ، لأنّ الإنسان عند ما يشمئز من شيء ترتسم صورة ذلك الشيء في مخيلته بشكل قبيح ورهيب ، فيما ترتسم صورة الشيء المحبوب بشكل جميل ووديع في مخيلته.

لهذا فإنّ الناس يرسمون صورة الملائكة بشكل جميل ، فيما يرسمون صورة الشياطين والعفاريت بأقبح صورة ، في الوقت الذي لم ير أحد منهم الملائكة ولا الشياطين. كما يشاهد استخدام هذا الأمر كثيرا في المصطلحات اليومية ، عند ما يقال : الشخص الفلاني كالعفريت ، أو انّه يشبه الشيطان.

هذه كلّها تشبيهات مبنية على أساس الانعكاسات الذهنية للناس عن مفاهيم مختلفة ، وهي تشبيهات لطيفة وحيّة.

ويواصل القرآن الكريم استعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين ،( فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (١) .

__________________

(١) ضمير (منها) يعود للشجرة ، وهذا بذاته قرينة على أنّ المقصود من الشجرة هنا النبات وليس الشجرة ، لأنّ النبات يؤكّل لا الشجرة.

٣٣١

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة ، حيث إنّ أكل هذا النبات الذي ينبت في جهنّم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها ، وتناوله ـ وبكميّات كبيرة ـ يعدّ عذابا أليما.

ومن البديهي ، فإنّ من يتناول هذا الطعام السيء الطعم والمرّ ، يصيبه العطش ، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول :( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ) .

«الشوب» هو الشيء المخلوط أو الممزوج مع شيء آخر. و (حميم) هو الماء الحار البالغ في حرارته ، وطبقا لذلك فإنّ حتّى الماء الحار الذي يشربه أولئك الظالمون غير نقي ، بل ملوّث.

وهذا هو غذاء أهل جهنّم ، وهذا هو شرابهم ، وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون ، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضا بالقول :( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ) .

بعض المفسّرين فسّروا هذه العبارة على أنّ الماء الحار الملوّث ينبع من عين خارج جهنّم ، وأنّ أهل جهنّم يساقون كما تساق البهائم إلى الأماكن المخصّصة لشرب الماء ، وبعد تناولهم الماء يرجعون إلى الجحيم.

فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنّه إشارة إلى وجود أماكن ومواقف مختلفة في جهنّم ، ينقل إليها الظالمون والمجرمون ليشربوا منها الماء الحار ، ويرجعون بعد ذلك إلى المكان الذي كانوا فيه سابقا.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب.

وكما أشرنا آنفا ، فإنّه لا يمكن تصوّر النعم التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة ، كما أنّه لا يمكن تصوّر العذاب الذي ينال أهل جهنّم ، بل إنّها تخيّلات ـ وحسب ـ تتراءى أمام أعيننا من خلال عبارات قصار (اللهمّ أعذنا بلطفك واحفظنا من العذاب).

٣٣٢

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول أولئك إلى جهنّم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك ، تناولته في آيتين قصيرتين مليئتين بالمعاني والحقائق( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ) .

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة( فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) .

والملاحظ هنا أنّ لفظة (يهرعون) جاءت بصيغة المبني للمجهول ، وهي من مادّة (هرع) أي أسرع ، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلبا ودينا وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار ، وإشارة اخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.

* * *

٣٣٣

الآيات

( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) )

التّفسير

الأمم الضالّة السابقة :

بما أنّ المسائل السابقة المتعلّقة بالمجرمين والضالّين لا تختّص بزمان ومكان معينين ، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل ، ويهيء الأرضية في عدّة آيات قصيرة ومختصرة لشرح امور كثيرة عن الأمم السابقة ، والتي بالاطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة. ومن تلك الأمم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم ، إذ يقول :( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ) .

فمشركو مكّة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج أجدادهم الأوّلين ، وإنّما ابتليت قبلهم الكثير من الأمم السابقة بنفس المصير.

والتذكير بهذا الأمر إنّما جاء لتسلية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والثلّة من أصحابه

٣٣٤

المؤمنين الذين كانوا في مكّة ـ آنذاك ـ محاصرين من قبل العدو من كلّ الجوانب.

ثمّ يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب افتقادهم القائد وعدم موعظتهم( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ) .

إذا أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به ، والظلم والاعتداء ، وتقليد الآخرين بصورة عمياء ، ولاطلاعهم على مسئولياتهم.

صحيح أنّ الرسل يحملون في يد رسالة الإنذار ، وفي الاخرى رسالة البشارة ، لكن الإنذار يشغل الجزء الأكبر من مواعظهم ونصائحهم ، خاصّة بالنسبة لمثل تلك الأمم الضالّة والعاصية ، ولهذا أكّد عليه هنا.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة ذات معان عميقة( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) .

المخاطب في لفظة (فانظر) من الممكن أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أي شخص عاقل يقظ. وفي الحقيقة إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) .

الملاحظ أنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الأمم ، وتدعو إلى التمعن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به ، والذي أهلكهم وأبادهم جميعا ما عدا عباد الله المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب(١) .

وجدير بالذكر أنّ كلمة (المخلصين) ـ بفتح اللام ـ كرّرت خمس مرّات ، وهذا بيان لعلو منزلتهم ومرتبتهم ، وكما أشرنا سابقا فإنّ عباد الله المخلصين هم الصفوة التي تسلّحت بالعلم والإيمان ، وانتصرت على النفس بعد مجاهدتها ، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه وأزال عنهم الشوائب ليجعلهم خالصين ، ولهذا فإنّهم يمتلكون

__________________

(١) هذه الجملة استثناء من محذوف يفهم من المذكور ، تقديره هكذا : فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنّا أهلكناهم جميعا إلّا عباد الله المخلصين.

٣٣٥

الحصانة الكاملة تجاه الانحرافات والزلل.

والشيطان عاجز وآيس من النفوذ إلى داخلهم ، إذ قطع عليه الطريق المؤدّي إليهم منذ اليوم الأوّل ، واعترف هو بعجزه هذا.

كذلك فإنّ فتن المجتمع الذي يعيشون فيه ووساوس الغاوين ، إضافة إلى وجود المتّبعين لنهج آبائهم وأجدادهم الأوّلين ، والثقافة الخاطئة والطاغوتية ، لا تؤثّر أبدا على عباد الله المخلصين ولا تحرفهم عن مسيرتهم.

حقيقة الأمر ، أنّ هذه الآية هي خطاب اطمئنان لمؤمني مكّة المقاومين والصامدين في ذلك الوقت ، وإنّها دعوة لمسلمي عالم اليوم المليء بالفتن ، تدعوهم إلى الانفصال عن صفوف أعداء الله والانضمام إلى عباد الله المخلصين.

* * *

٣٣٦

الآيات

( وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) )

التّفسير

مقتطفات من قصّة نوح :

من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء الله الكبار ، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة ، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اولي العزم من الرسل.

بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم( وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) (١) .

__________________

(١) (مجيبون) جاءت بصيغة الجمع في حين أنّ المقصود منها الله سبحانه وتعالى والذي استجاب لدعاء نوح ، هذا بسبب أنّ صيغة الجمع تأتي أحيانا للتعظيم ، كما أنّ ضمير جمع المتكلّم في (نادانا) لذلك الغرض أيضا.

٣٣٧

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) .(١)

أو إشارة إلى الدعاء الذي دعا به الله أثناء صعوده السفينة( رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) .(٢)

أو أنّه إشارة إلى الدعاء الذي جاء في الآية ١٠ من سورة القمر :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) .

وبالطبع فإنّه ليس هناك أي مانع من أن تكون الآية تشير إلى كلّ هذه الأدعية ، وإنّ الله سبحانه وتعالى استجابها بأحسن وجه.

ولذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول :( وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) (٣) .

فما هو هذا الغمّ الذي وصفته الآية المباركة بأنّه غمّ كبير آلم نوحا بشدّة؟

يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة استهزاء قومه الكافرين المغرورين به ، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين ، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه ، إذ كانوا يقولون له أحيانا :( وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) .(٤)

وأحيانا اخرى يقولون له :( يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة نوح ، الآيات ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية ٢٩.

(٣) (كرب) طبق قول الراغب في مفرداته هي : الغم الشديد ، ووصفه هنا بالعظيم للتأكيد أكثر على هذا المعنى.

(٤) سورة هود ، الآية ٢٧.

(٥) سورة هود ، الآية ٣٢.

٣٣٨

أو يسخرون منه( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) .(١) وقد وصل إزعاجهم لنبي الله نوح ـ المعروف بصبره الكبير ـ وإساءتهم الأدب اتّجاهه واتّهامه بالجنون إلى درجة لا تطاق ، بحيث دعا نوح ربّه بالقول :( رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) .(٢)

وعلى أيّة حال ، فإنّ مجموع هذه الحوادث السيّئة وأذاهم له كان يحزّ في قلبه الطاهر بشدّة حتّى لحظة وقوع الطوفان ، إذ أنقذه الله سبحانه وتعالى من قبضة قومه الطغاة ، وأزال عنه الكرب العظيم والغمّ الشديد.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من( الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) هو الطوفان الذي لم ينج منه سوى نوح وأتباعه المؤمنين ، ولكن هذا المعنى مستبعد.

ويضيف القرآن الكريم( وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) .

أحقّا أنّ كلّ بني الإنسان الذين يعيشون اليوم على ظهر الكرة الأرضية هم من ذريّة نوح؟ الآية المذكورة أعلاه تصرّح بذلك

أم المقصود هو أنّ مجموعة كبيرة من الأنبياء والأولياء والصالحين هم من ذريته ، وليس كلّ الناس؟ بهذا الشأن لدينا بحث ، سنتطرّق إليه بعون الله.

وإضافة إلى ذلك يقول القرآن : أنّنا جعلنا لنوح ثناء وذكرا جميلا في الأجيال والأمم اللاحقة :( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) .

فقد وصفه القرآن المجيد بالنّبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف ، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء. وتاريخه اسطورة للمقاومة والثبات ، كما يمكن أن يستلهم سالكو طريق الحقّ من برامجه عبرا ودروسا تمكّنهم من اجتياز العراقيل التي يضعها الأعداء والجهلة أمامهم.

فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام ، منحه الله سبحانه وتعالى وساما خالدا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ٣٨.

(٢) سورة مؤمنون ، الآية ٢٦.

٣٣٩

يفتخر به في العالمين( سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) .

نعم ، فهل هناك فخر أكبر من هذا ، وهو أنّ الله يبعث بالسلام والتحيّات لنبيّه نوح ، السلام الذي سيبقى يهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية لحين قيام الساعة ، والملفت للنظر أنّه من النادر أن يوجد في القرآن سلام بهذه السعة على أحد ، خاصّة وأنّ المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلّى بالألف واللام (مفيدا للعموم) فيتّسع المعنى ليشمل عوالم البشر وأممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة ويتعدّاهم إلى عوالم الملائكة والملكوتين.

ولكي تكون خصوصيات نوحعليه‌السلام مصدر إشعاع للآخرين ، أضاف القرآن الكريم( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) . و( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

في الحقيقة ، إنّ درجة عبودية نوح لله وإيمانه به ـ إضافة إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان ـ كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحا وأنقذه من الغمّ الكبير ، وبعث إليه بالسلام ، السلام الذي يمكن أن يشمل كلّ من عمل بما عمل به نوح ، لأنّ معايير الألطاف الإلهيّة لا تتخلّف ، ولا تختّص بشخص دون آخر.

أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة قصيرة شديدة اللهجة مصير تلك الامّة الظالمة الشريرة الحاقدة( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) .

إذ انهمر المطر سيلا من السماء ، وتفجّرت الأرض عيونا ، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها ، لافظا إيّاهم بعدئذ أجسادا هامدة لا حياة فيها ولا روح.

والذي يلفت النظر أنّ الله سبحانه وتعالى استعرض ألطافه على نوح في عدّة آيات ، فيما بيّن عذابه لقوم نوح العاصين في عبارة واحدة قصيرة يرافقها التحقير وعدم الاهتمام بهم ، لأنّ حالة نصر المؤمنين وعزّتهم وتأييد الباري سبحانه لهم جديرة بالتوضيح ، وبيان حال المعاندين والعاصين لا يجدر بالاهتمام والاعتناء.

* * *

٣٤٠