الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 140766
تحميل: 3523


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140766 / تحميل: 3523
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

قد كذّبت رسلهم( وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ ) (١) .

نعم ، هذه هي ستّة مجاميع من أحزاب الجهل وعبادة الأصنام ، التي عملت ضدّ أنبياء الله ، ورفضت قبول ما جاؤوا به من عند الله.

فقوم نوح واجهوا هذا النّبي العظيم.

وقوم عاد واجهوا نبيّ الله «هود».

وفرعون وقف ضدّ «موسى وهارون».

وقوم ثمود وقفوا بوجه «صالح».

وقوم لوط وقفوا بوجه نبي الله «لوط».

وأصحاب الأيكة واجهوا نبي الله «شعیب».

وأصحاب الأيكة واجهوا نبي الله «شعيب».

إذ كذّبوا وآذوا أنبياء الله والمؤمنين وبذلوا في ذلك قصارى جهودهم ، ولكن في نهاية الأمر نزل عليهم العذاب الإلهي وجعلهم كعصف مأكول.

فقوم نوح أبيدوا بالطوفان وسيول الأمطار.

وقوم عاد أبيدوا بالأعاصير الشديدة.

وفرعون وأتباعه اغرقوا في نهر النيل.

وقوم ثمود اهلكوا بالصيحة السماوية.

وقوم لوط بالزلزلة الرهيبة المقترنة بأمطار الحجارة السماوية.

وقوم شعيب ابيدوا بالصاعقة المهلكة التي نزلت عليهم من السحب الكثيفة التي غطّت سماء المنطقة ، وبهذا الشكل فإنّ (الماء) و (الهواء) و (التراب) و (النار) التي تشكّل أسس حياة الإنسان ، كانت السبب في موت وإبادة تلك الأقوام الطائشة والعاصية ، وجعلهم في طي النسيان ، حيث لم يبق لهم أيّ أثر. فعلى مشركي مكّة

__________________

(١) عبارة (أولئك الأحزاب) مبتدأ وخبر ، و (أولئك) إشارة إلى الأقوام الستّة المذكورة في هاتين الآيتين ، و (أحزاب) إشارة إلى الأحزاب التي وردت في الآيتين السابقتين اللتين اعتبرتا مشركي مكّة مجموعة صغيرة من تلك المجموعات.

٤٦١

أن يدركوا بأنّهم لا يعدّون سوى مجموعة صغيرة بالنسبة إلى تلك الأقوام ، فلم لا يصحون من غفلتهم.

وصف (فرعون) بـ (ذي الأوتاد) أي (صاحب الأوتاد القويّة) في الآيات المذكورة أعلاه ، وفي الآية (١٠) من سورة الفجر ، كناية عن قوّة حكم فرعون والفراعنة وثباته ، وتستعمل هذه الكناية بكثرة ، فيقال : الشخص الفلاني أوتاده ثابتة ، أو إنّ أوتاد هذا العمل ثابتة ، أو إنّها مثبتة بأربعة أوتاد ، وذلك لأنّ الأوتاد دائما تستخدم لتثبيت أركان الخيمة.

والبعض اعتبرها إشارة إلى كثرة جيوش فرعون السائرة في الأرض وكثرة أوتاد خيامهم.

والبعض الآخر قال : إنّها إشارة إلى التعذيب الوحشي الذي كان الفراعنة يعذّبون به معارضيهم ، إذ كانوا يربطون الأشخاص بأربعة أوتاد على الأرض أو على الخشبة أو على الحائط ، وكانوا يثبتون وتدين في الرجلين ، وو تدين آخرين في اليدين ويتركون الشخص يتعذّب حتّى يموت.

وأخيرا ، احتمل البعض أنّ الأوتاد تعني الأهرامات الموجودة في أرض مصر ، والتي تقوم في الأرض كالأوتاد ، ولأنّ الفراعنة هم الذين بنوا الأهرامات ، فإنّ هذا الوصف ينحصر بهم فقط.

على أيّة حال فإنّه لا يوجد أيّ اختلاف بين تلك الاحتمالات ، ومن الممكن جمعها لتعطي مفهوم هذه الكلمة.

أمّا (الأيكة) فإنّها تعني الشجرة ، و (أصحاب الأيكة) هم قوم نبي الله «شعيب» الذين كانوا يعيشون في منطقة خضراء بين الحجاز والشام ، وقد تمّ التطرّق إليها بصورة موسّعة في تفسير الآية (٧٨) في سورة الحجرات.

نعم ، فكلّ قوم من هذه الأقوام كذّب بما جاء به رسل الله ، وأنزل العذاب الإلهي

٤٦٢

بحقّه( إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ ) (١) .

والتأريخ بيّن كيف أنّ كلّ قوم من تلك الأقوام ابيد بشكل من أشكال العذاب ، وكيف أنّ مدنهم تحوّلت إلى خرائب وأطلال خلال لحظات ، وأصبح ساكنوها أجساد بلا أرواح!!

فهل يتوقّع مشركو مكّة أن يكون مصيرهم أفضل من مصير أولئك من جرّاء الأعمال العدائية التي يقومون بها؟ في حين أنّ أعمالهم هي نفس أعمال أولئك ، وسنّة الله هي نفس تلك السنّة؟

لذا فإنّ الآية التالية تخاطبهم بلغة التهديد الحازمة والقاطعة : ما ينتظر هؤلاء من جرّاء أعمالهم إلّا صيحة سماوية واحدة تقضي عليهم وتهلكهم وما لهم من رجوع ،( وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ ) .

يمكن أن تكون هذه الصيحة مماثلة للصيحات السابقة التي نزلت على الأقوام الماضية ، كأن تكون صاعقة رهيبة أو زلزالا عنيفا يدمّر حياتهم وينهيها.

وقد تكون إشارة إلى صيحة يوم القيامة ، التي عبّر عنها القرآن الكريم بـ (النفخة الاولى في الصور).

اعترض بعض المفسّرين على التّفسير الأوّل ، واعتبروه مخالفا لما جاء في الآية (٣٣) من سورة الأنفال التي تقول :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

أمّا بالنظر إلى أنّ المشركين كانوا لا يعتقدون برسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يؤمنون برسالته ، بالإضافة إلى كون أعمالهم تشابه أعمال الأقوام السابقة التي أهلكت بالصيحات السماوية ، لذا فعليهم أن يتوقّعوا مثل ذلك المصير وفي أيّ لحظة ، لأنّ الآية تتحدّث عن (الانتظار).

كما اعترض آخرون على التّفسير الثاني بأنّ مشركي مكّة لن يبقوا أحياء حتّى

__________________

(١) عبارة (فحقّ عقاب) في الأصل (فحقّ عقابي) ، وقد حذفت الياء منها ، طبقا للمعمول به ، وأبقيت الكسرة لتدلّ عليها. (حقّ) فعل و (عقاب) فاعل ، يعني أنّ عقابي وجب عليهم وسيتحقّق.

٤٦٣

آخر الزمان كي تشملهم الصيحة.

ولكن هذا الاعتراض غير وارد ، لنفس السبب الذي ذكرناه من قبل ، وهو أنّه لا أحد من الناس يعلم لحظة نهاية العالم وقيام الساعة ، ولذا فعلى المشركين أن يترقّبوا لحظة بلحظة تلك الصيحة(١) .

على أيّة حال ، فكأنّ أولئك الجهلة ينتظرون العذاب الإلهي جزاء تكذيبهم وإنكارهم لآيات الله سبحانه وتعالى ، وتقوّلهم على الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلام لا يليق ، وإصرارهم على عبادة الأصنام ، والظلم وإشاعة الفساد ، العذاب الذي سيحرق حصيلة أعمارهم ، أو الصيحة التي تنهي كلّ شيء في العالم ، وتؤدّي بأولئك إلى طريق لا رجعة فيه.

«فواق» على وزن (رواق) وقد ذكر أهل اللغة والتّفسير عدّة معان لها منها : أنّها الفاصل بين كلّ رضعتين ، إذ بعد فترة معيّنة من حلب الثدي بصورة كاملة يعود فينزل إليه اللبن من جديد.

وقال البعض : إنّها الفاصل بين فتح الأصابع عن الثدي بعد حلبه وإعادتها لحلبه مرّة اخرى.

وبما أنّ الثدي يستريح قليلا بعد كلّ حلبة ، فكلمة (فواق) يمكن أن تعطي معنى الهدوء والراحة.

وبما أنّ هذه الفاصلة من أجل عودة الحليب مرّة اخرى إلى الثدي فإنّ هذه الكلمة تعطي مفهوم العودة والرجوع ، كما يقال للمريض الذي تتحسّن حالته الصحيّة بأن (أفاق) وذلك لأنّه استعاد صحّته وسلامته ، كما يقال لحالة السكران الذي يصحو من سكرته وللمجنون عند ما يستعيد عقله «إفاقة» عند عودتهما إلى

__________________

(١) أمّا الرأي الذي احتمله بعض المفسّرين في أنّ المقصود هنا هو الصيحة الثانية ، والتي تطلق لإحياء الموتى وسوقهم إلى محكمة العدل الإلهيّة ، فإنّه أمر مستبعد جدّا ، لأنّه لا ينسجم مع الآية التالية والآيات السابقة.

٤٦٤

الشعور والإدراك والعقل(١) .

على أيّة حال ، فالصيحة الرهيبة ليس بعدها رجوع ولا راحة ولا هدوء ولا إفاقة ، ففور شروعها تغلق كلّ الأبواب أمام الإنسان ، ولا ينفع الندم حينئذ ، إذ لا مجال لإصلاح الماضي ، ولا مجيب لصراخهم.

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى كلام آخر للكافرين حيث قالوا باستهزاء وسخريّة : ربّنا عجّل علينا العذاب قبل حلول يوم الحساب ،( وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) .

فهؤلاء المغرورون بلغ بهم الغرور حتّى إلى الاستهزاء بعذاب الله ومحكمته العادلة ، وإلى القول : لم تأخّرت حصّتنا من العذاب؟!

لماذا لا يوفّينا الله بسرعة حظّنا من العذاب؟

والأقوام السابقة كانت تضمّ الكثير من أمثال هؤلاء السفهاء الذين نعقوا كالحيوانات فور نزول العذاب الإلهي عليهم ، ولم يهتمّ لنعيقهم أحد.

«قط» على وزن (جنّ) تعني قطع الشيء عرضا ، فيما تعني كلمة (قد) وهي على نفس الوزن السابق ، قطع الشيء طولا! وكلمة (قط) هنا تعني نصيبا أو سهما.

وأحيانا تعني الورقة التي يرسم عليها ، أو تكتب عليها أسماء أشخاص فازوا بالجوائز.

لهذا فإنّ بعض المفسّرين ، قالوا في تفسير الآية المذكورة أعلاه : إنّ المقصود منها هو أنّ الله سبحانه وتعالى يسلّم عباده صحائف أعمالهم قبل حلول يوم الجزاء ، وهذا الكلام قيل بعد نزول آيات قرآنية تؤكّد على أنّ هناك مجموعة تعطي صحائفها باليد اليمنى ، ومجموعة اخرى تستسلم صحائفها باليد اليسرى.

__________________

(١) بعض اللغويين قالوا بوجود عدّة فروق بين كلمة (فواق) المفتوحة و (فواق) المضمومة ، والبعض قال : إنّهما بمعنى واحد ، ومن يريد توضيحا أكثر عليه مراجعة مفردات الراغب ، وتفسير روح المعاني ، والفخر الرازي ، وتفسير أبي الفتوح ، والقرطبي ، ومصادر اللغة.

٤٦٥

وهنا قالت مجموعة من مشركي مكّة وهي تستهزئ : ما أجمل أن تسلّم إلينا الآن صحف أعمالنا لنقرأها ونشاهد ماذا عملنا؟

على أيّة حال ، فإنّ «الجهل» و «الغرور» صفتان قبيحتان مذمومتان ، ولا تنفصل الواحدة عن الاخرى ، إذ أنّ الجهلة مغرورون ، والمغرورون جهلة ، وشواهد هذا الوصف كانت موجودة بكثرة عند مشركي عصر الجاهلية.

* * *

٤٦٦

الآيات

( اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) )

التّفسير

تعلّم من داود :

نبيّ الله داودعليه‌السلام أحد كبار أنبياء بني إسرائيل وحاكما لدولة كبيرة ، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدّة آيات بيّنات من القرآن الكريم.

وتتمّة للبحوث السابقة التي استعرضت فيها آيات القرآن أذى المشركين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسبتهم إليه ما لا يليق به. فإنّ القرآن الكريم لمواساة رسول الله وأصحابه المؤمنين القلائل ، طرح قصّة داودعليه‌السلام ، داود الذي منحه الله قدرة واسعة ، حتّى أنّ الجبال والطيور كانت مسخّرة له ، ليبيّن تبارك وتعالى من خلال هذه القصّة لنبيّه الأكرم أنّ اللطف الإلهي إن شمل أحدا فإنّ عموم الناس لا يستطيعون عمل أي شيء إزاء هذا اللطف.

٤٦٧

فداود ـ مع هذه القدرة العظيمة التي منحها إيّاه ربّ العالمين ـ لم يسلّم من تجريح الآخرين وبذاءة لسانهم ، وفي هذا الكلام مواساة للنبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أنّ هذه المسألة لا تنحصر بك فقط ، وإنّما شاركك فيها كبار الأنبياءعليهم‌السلام .

ففي البداية تقول آيات بحثنا :( اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

«الأيد» بمعنى القدرة ، وتأتي أيضا بمعنى النعمة.

وقد توفّر المعنيان المذكوران أعلاه في داود ، إذ كان يتمتّع بقوّة جسدية مكّنته من أن يقتل الطاغية جالوت بضربة قويّة واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه على جالوت ، فأسقطه من فرسه مضرّجا بدمه خلال إحدى المعارك.

وقال البعض : إنّ الحجر مزّق صدر جالوت وخرج من ظهره.

أمّا من حيث قدرته السياسية ، فقد كانت حكومته قويّة ومستعدّة دائما لمواجهة الأعداء ، بكلّ قوّة واقتدار ، حتّى قيل أنّ الآلاف من جنده كانت تقف على أهبّة الاستعداد من المساء حتّى الصباح في أطراف محراب عبادته.

ومن حيث قدرته الأخلاقية والمعنوية والعبادية ، فإنّه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله ، ويصوم نصف أيّام السنة.

وأمّا من حيث النعم الإلهيّة ، فقد أنعم عليه البارئعزوجل بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية.

خلاصة الحديث ، إنّ داود كان رجلا ذا قوّة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة وفي السياسة ، وكان أيضا صاحب نعمة كبيرة(١) .

«أوّاب» مشتقّة من (أوب) على وزن (قول) وتعني العودة الاختيارية إلى أمر ما ، ولكون (أوّاب) على صيغة المبالغة ، فإنّها تشير إلى أنّه كان كثيرا ما يعود إلى الله سبحانه وتعالى ، وكان يتوب عن أصغر غفلة وترك للأولى.

__________________

(١) (أيد) جمع (يد) ، وقد استعملت هنا لكونها مظهر القوّة والنعمة والملك ، وقد حملت كلّ هذه المعاني هنا.

٤٦٨

وطبقا لاسلوب القرآن في الإيجاز والتفصيل في ذكر القضايا المختلفة ، فإنّ الآيات الآنفة بعد أن تطرّقت بصورة موجزة إلى نعم الله على داود ، تشرح أنواعا من تلك النعم ، قال تعالى :( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ) (١) .

كذلك سخّرنا له مجاميع الطيور كي تسبّح الله معه( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) .

فكلّ الطيور والجبال مسخّرة لداود ومطيعة لأوامره ، وتسبّح معه البارئعزوجل ، وتعود إليه ،( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) .

الضمير (له) يمكن أن يعود على داود ، وطبقا لهذا فإنّ مفهوم الجملة ينطبق مع ما ذكرناه أعلاه ، وهناك احتمال وارد أيضا وهو أنّ ضمير (له) يعود إلى ذات الله الطاهرة ، ويعني أنّ كلّ ذرّات العالم تعود إليه ومطيعة لأوامره.

هناك سؤال يطرح ، وهو : كيف تردّد الطيور والجبال صوت التسبيح مع داود؟ اختلف المفسّرون في الإجابة على هذا السؤال ، وذكروا عدّة تفاسير واحتمالات له ، منها :

١ ـ قال البعض : إنّ صوت داود الجذّاب كان يتردّد صداه عند ما تصطدم موجاته الصوتية بالجبال فيجذب الطيور إليه (وبالطبع فإنّ هذه لا تعدّ فضيلة كي يتطرّق إليها القرآن المجيد وبشيء من العظمة).

٢ ـ واحتمل البعض الآخر أنّ تسبيحها كان توأما مع صوت ظاهري ، مرافقا لنوع من الإدراك والشعور الذي هو في باطن ذرّات العالم ، وطبقا لهذا الاحتمال ، فإنّ كلّ موجودات العالم تتمتّع بنوع من العقل والشعور ، وحينما تسمع صوت مناجاة هذا النّبي الكبير تردّد معه المناجاة ، ليمتزج تسبيحها مع تسبيح داودعليه‌السلام .

٣ ـ واحتملوا أيضا أنّ هذا التسبيح هو التسبيح التكويني الذي ينطق به لسان

__________________

(١) (معه) من الممكن أن تكون متعلّقة بقوله (يسبّحن) ووفقا لهذا فإنّ اقتداء الجبال بداود في التسبيح يوضّح نفس ما جاء في الآية (١٠) من سورة سبأ( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) ويمكن أن تكون (معه) متعلّقة بـ (سخّرنا) وفي هذه الحالة فإنّ مفهوم العبارة يكون (إنّا سخّرنا له الجبال) واستخدام كلمة (معه) بدلا من (له) إنّما تمّ لتوضيح اشتراكهما في التسبيح.

٤٦٩

حال كلّ مخلوق ، ونظام خلقهم يقول : إنّ الله خال من العيوب والنقص ، وإنّه مقدّس ومنزّه وعالم وقادر ، ويمتلك كافّة صفات الكمال.

ولكن هذا المعنى لا يختصّ بداود حتّى يعدّ من مناقبه ، ولهذا فإنّ التّفسير الثاني يعدّ أنسب ، وما ذكر فيه غير مستبعد قياسا بقدرة الله.

فالمناجاة موجودة داخل جميع مخلوقات الكون ، وترانيمها تتردّد على الدوام في بواطنها ، وقد أظهرها الله سبحانه وتعالى لداودعليه‌السلام ، كما في الحصاة التي كانت تسبّح الله وهي في يد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وتواصل الآية التالية استعراض نعم الله على داودعليه‌السلام ، قال تعالى :( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ) أي ثبّتنا وأحكمنا مملكته ، بحيث كان العصاة والطغاة من أعدائه يحسبون لمملكته ألف حساب لقوّتها.

وإضافة إلى هذا فقد آتيناه الحكمة والعلم والمعرفة( وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ ) الحكمة التي يقول بشأنها القرآن المجيد( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) .

(الحكمة) هنا تعني العلم والمعرفة وحسن تدبير امور البلاد ، أو مقام النبوّة ، أو جميعها.

وقد تكون «الحكمة» أحيانا ذات جانب علمي ويعبّر عنها بـ «المعارف العالية» ، واخرى لها جانب عملي ويعبّر عنها (بالأخلاق والعمل الصالح) وقد كان لداود في جميعها باع طويل.

وآخر نعمة إلهيّة أنعمت على داود هي تمكّنه من القضاء والحكم بصورة صحيحة وعادلة( وَفَصْلَ الْخِطابِ ) .

وقد استخدمت عبارة (فصل الخطاب) لأنّ كلمة «الخطاب» تعني أقوال طرفي النزاع ، أمّا (فصل) فإنّها تعني القطع والفصل.

وكما هو معروف فإنّ أقوال طرفي النزاع لا تقطع إلّا إذا حكم بينهم بالعدل ، ولهذا فإنّ العبارة هذه تعني قضائه بالعدل.

٤٧٠

وهناك احتمال آخر لتفسير هذه العبارة ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى داود منطقا قويّا يدلّل على سمو وعمق تفكيره ، ولم يكن هذا خاصّا بالقضاء وحسب ، بل في كلّ أحاديثه.

حقّا ، ليس من المفروض أن ييأس أحد من لطف الله ، الله الذي يستطيع أن يعطي الإنسان اللائق والمناسب كلّ تلك القوّة والقدرة. وهذه ليست مواساة للنبي الأكرم والمؤمنين في مكّة الذين كانوا يعيشون في تلك الأيّام تحت أصعب الظروف وأشدّها ، بل مواساة لكلّ المؤمنين المضطهدين في كلّ مكان وزمان.

* * *

بحث

الصفات العشر لداودعليه‌السلام :

ذكر بعض المفسّرين من الآيات محلّ البحث عشر مواهب إلهيّة عظيمة كانت لداودعليه‌السلام تعكس مقام هذا النّبي ومنزلته العظيمة من جهة ، وتعكس خصائص الإنسان الكامل من جهة اخرى :

١ ـ الله سبحانه وتعالى يأمر نبي الإسلام والرحمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم مكانته العالية بأن يتّخذ من داود أسوة له في تحمّل الصبر( اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ ) .

٢ ـ القرآن وصف داود بالعبد ، وفي الحقيقة أنّ أهمّ خصوصية لداود هي عبوديته لله ، قال تعالى :( عَبْدَنا داوُدَ ) ونقرأ شبيه هذا المعنى بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة المعراج( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ) (الإسراء ـ ١).

٣ ـ امتلاكه للقدرة والقوّة (في طاعة الباريعزوجل والاحتراز عن ارتكاب المعاصي وحسن تدبيره لشؤون مملكته)( ذَا الْأَيْدِ ) وجاءت أيضا بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .(١)

__________________

(١) الأنفال ، ٦٢.

٤٧١

٤ ـ وصفه بالأوّاب ، وتعني رجوعه المتكرّر والمستمر إلى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى :( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

٥ ـ تسخير الجبال معه لتسبّح في الصباح والمساء ، وهذا الأمر يعدّ من مفاخره ، قال تعالى :( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ) .

٦ ـ مناجاة الطيور وتسبيحها الله مع داود ، وهذه من النعم التي أنعمها الله على داود ، قال تعالى :( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) .

٧ ـ استمرار الجبال والطيور في التسبيح مع داود ، وكلّ مرّة يسبّح فيها تعود وتسبّح معه ، قال تعالى :( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) .

٨ ـ أعطاه الله الملك والحكومة التي أحكمت أسسها ، إضافة إلى وضع كلّ الوسائل الماديّة والمعنوية التي يحتاجها تحت تصرّفه( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ) .

٩ ـ منحه ثروة مهمّة اخرى ، وهي العلم والمعرفة التي تفوق الحدّ الطبيعي ، العلم والمعرفة التي هي منبع خير كثير ومصدر كلّ بركة وإحسان أينما كانت ، قال تعالى :( وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ ) .

١٠ ـ وأخيرا فقد منّ الله عليه بمنطق قوي وحديث مؤثّر ونافذ ، وقدرة كبيرة على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة ، قال تعالى :( وَفَصْلَ الْخِطابِ ) (١) .

حقّا إنّ أسس أي حكومة لا يمكن أن تصبح محكمة بدون هذه الصفات ، العلم والمنطق وتقوى الله ، والقدرة على ضبط النفس ، ونيل مقام العبودية لله.

* * *

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ، ذيل آيات البحث المجلد ٢٦ ، الصفحة ١٨٣.

٤٧٢

الآيات

( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) )

التّفسير

داود والامتحان الكبير :

طرحت هذه الآيات بحث بسيط وواضح عن قضاء داود ، ونتيجة لتحريف وسوء تعبير بعض الجهلة فقد أثيرت ضجّة عظيمة في أوساط المفسّرين ، وكانت

٤٧٣

أمواج هذه الضجّة من القوّة بحيث جرفت معها بعض المفسّرين ، وجعلتهم يحكمون بشيء غير مقبول ، ويقولون ما لا يليق بهذا النّبي الكبير.

وفي هذا المجال نحاول بيان مفهوم الآيات دون شرح وتفصيل كي يفهم القارئ الكريم مفهوم الآيات بذهنية صافية ، وبعد الانتهاء من تفسيرها باختصار نتطرّق إلى الآراء المختلفة التي قيلت بشأنها. وتتمّة للآيات السابقة التي استعرضت الصفات الخاصّة بداود والنعم الإلهيّة التي أنزلها الباريعزوجل عليه ، يبيّن القرآن المجيد أحداث قضيّة عرضت على داود.

ففي البداية يخاطب القرآن المجيد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) .

(الخصم) جاءت هنا كمصدر ، وأكثر الأحيان تطلق على الطرفين المتنازعين ، وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع ، وأحيانا تجمع على (خصوم).

(تسوّروا) مشتقّة من (سور) وهو الحائط العالي الذي يبنى حول البيت أو المدينة ، وتعني هذه الكلمة في الأصل القفز أو الصعود إلى الأعلى.

«محراب» تعني صدر المجلس أو الغرف العليا ، ولأنّها أصبحت محلا للعبادة أخذ تدريجيّا يطلق عليها اسم المعبد. وتصطلح اليوم على المكان الذي يقف فيه إمام الجماعة لأداء مراسم صلاة الجماعة ، وفي المفردات ، نقل عن البعض أنّ سبب إطلاق كلمة «المحراب» على محراب المسجد ، هو لكونه مكانا للحرب ضدّ الشيطان وهوى النفس.

على أيّة حال ، فرغم أنّ داودعليه‌السلام كان محاطا بأعداد كبيرة من الجند والحرس ، إلّا أنّ طرفي النزاع تمكّنا ـ من طريق غير مألوف ـ تسوّر جدران المحراب ، والظهور أمام داودعليه‌السلام فجأة ، ففزع عند رؤيتهما ، إذ دخلا عليه بدون استئذان ومن دون إعلام مسبق ، وظنّ داودعليه‌السلام أنّهم يكنّون له السوء ،( إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) .

٤٧٤

إلّا أنّهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه ، وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر( قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ) .

فاحكم الآن بيننا ولا تتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ) .

«تشطط» مشتقّة من (شطط) على وزن (فقط) ، وتعني البعيد جدّا ، ولكون الظلم والطغيان يبعدان الإنسان كثيرا عن الحقّ ، فكلمة (شطط) تعني الابتعاد عن الحقّ ، كما تطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة.

من المسلّم به أنّ قلق وروع «داود» قلّ بعض الشيء عند ما وضّح الأخوان هدف مجيئهما إليه ، ولكن بقي هناك سؤال واحد في ذهنه هو ، إذا كنتما لا تكنّان السوء ، فما هو الهدف من مجيئكما إليّ عن طريق غير مألوف؟

ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود ، وقال : هذا أخي ، يمتلك (٩٩) نعجة ، وأنا لا أمتلك إلّا نعجة واحدة ، وإنّه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمّها إلى بقيّة نعاجه ، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) .

«النعجة» هي الأنثى من الضأن. وقد تطلق على أنثى البقر الوحشي والخراف الجبلية.

«أكفلنيها» مشتقّة من الكفالة ، وهي هنا كناية عن التخلّي (ومعنى الجملة اجعلها لي وفي ملكيتي وكفالتي ، أي امنحني إيّاها).

«عزّني» مشتقّة من (العزّة) وتعني التغلّب ، وبذا يكون معنى الجملة إنّه تغلّب عليّ.

وهنا التفت داودعليه‌السلام إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر (كما يوضّحه ظاهر الآية) وقال : من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه( قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ

٤٧٥

بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) .

وهذا الأمر ليس بجديد ، إذ أنّ الكثير من الأصدقاء والمخالطين بعضهم لبعض يبغي على صاحبه ، إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم قلّة :( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) (١) (٢) .

نعم فالأشخاص الذين يراعون بصورة كاملة في معاشرتهم وصداقتهم الطرف المقابل ، ولا يعتدون عليه أدنى اعتداء ويؤدّون حقوق أصدقائهم ومعارفهم بصورة كاملة قليلون جدّا ، وهم المتزوّدون بالإيمان والعمل الصالح.

على أيّة حال ، فالظاهر أنّ طرفي الخصام اقتنعا بكلام داودعليه‌السلام وغادرا المكان.

ولكن داود غرق في التفكير بعد مغادرتهما ، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لادّعاءات الطرف الأوّل ـ أي المدّعي ـ لكان قد اعترض عليه ، إذن فسكوته هو خير دليل على أنّ القضيّة هي كما طرحها المدّعي.

ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها ، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضا ثمّ يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا ، وظنّ أنّما فتنة الباريعزوجل بهذه الحادثة( وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ) .

وهنا أدركته طبيعته ، وهي أنّه أوّاب ، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعا

__________________

(١) «خلطاء» جمع (خليط) وتعني الأشخاص أو الأشياء المخلوطة بعضها مع بعض ، كما تطلق على الصديق والشريك والجار ، ورغم أنّ الظلم والاعتداء لم يختصّ بالخلطاء ، إلّا أنّ ذكر هذه المجموعة بسبب وجود الاتّصالات المتكرّرة فيما بينهم ، واحتمال حدوث سوء تفاهم فيما بينهم ، أو بسبب عدم توقّع حدوث أي ظلم وطغيان من قبل أولئك.

(٢) تركيب الجملة هكذا (هم) مبتدأ و (قليل) خبر إنّ و (ما) زائدة وردت هنا للمبالغة في القليل.

٤٧٦

تائبا إلى الله العزيز الحكيم( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ) .

«خرّ» مشتقّة من (خرير) وتعني سقوط شيء من علو ويسمع منه الصوت مثل صوت الشلالات ، كما أنّها كناية عن السجود ، حيث أنّ الأفراد الساجدين يهوون من حالة الوقوف إلى السجود ويقترن ذلك بالتسبيح.

كلمة (راكعا) التي وردت في هذه الآية ، إمّا أنّها تعني السجود كما جاءت في اللغة ، أو لكون الركوع مقدّمة للسجود.

على أيّة حال ، فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى ، كما توضّحه الآية التالية( فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ) . وإنّ له منزلة رفيعة عند الله( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

«زلفى» تعني المنزلة (والقرب عند الله) و (حسن مآب) إشارة إلى الجنّة ونعم الآخرة.

* * *

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة وقائع قصّة داود؟

الذي وضّحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أنّ شخصين تسوّرا جدران محراب داودعليه‌السلام ليحتكما عنده ، وأنّه فزع عند رؤيتهما ، ثمّ استمع إلى أقوال المشتكي الذي قال : إنّ لأخيه (٩٩) نعجة وله نعجة واحدة ، وإنّ أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه ، فأعطى داودعليه‌السلام الحقّ للمشتكي ، واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلما وطغيانا ، ثمّ ندم على حكمه هذا ، وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويغفر له ، فعفا الله عنه وغفر له.

وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضا : الاولى مسألة الامتحان ، والثانية مسألة الاستغفار.

٤٧٧

القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين ، إلّا أنّ الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول : إنّ داود كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء ، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه ، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية ، كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف ، إذ تسوّرا جدران محرابه ، وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني ، رغم أنّ حكمه كان عادلا.

ورغم أنّه انتبه بسرعة إلى زلّته ، وأصلحها قبل مضيّ الوقت ، ولكن مهما كان فإنّ العمل الذي قام به لا يليق بمقام النبوّة الرفيع ، ولهذا فإنّ استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى ، وإنّ الله شمله بعفوه ومغفرته.

والشاهد على هذا التّفسير إضافة إلى ما ذكرناه قبل قليل ـ هو الآية التي تأتي مباشرة بعد تلك الآيات ، والتي تخاطب داودعليه‌السلام :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) . وهذه الآية تبيّن أنّ زلّة داود كانت في كيفية قضائه وحكمه.

وبهذا الشكل فإنّ الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئا يقلّل من شأن ومقام هذا النّبي الكبير.

٢ ـ التوراة والقصص الخرافية بشأن داود

الآن نتصفّح كتاب التوراة لنشاهد ماذا ذكر فيه عن هذه الواقعة ، لنعثر على الأساس الذي اعتمد عليه بعض المفسّرين الجهلة وغير المطّلعين في تفسير هذه الآيات.

جاء في «التوراة» وفي الكتاب الثاني «اشموئيل» الإصحاح الحادي عشر من الجملة الثانية وحتّى السابعة والعشرين :

٤٧٨

«وكان في وقت المساء ، أنّ داود قام عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك ، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ وكانت المرأة جميلة المنظر جدّا. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل : إنّها (بتشبع)(١) بنت (اليعام) وزوجة (أوريّا الحتّى)(٢) .

فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت عليه ، فاضطجع معها وهي طاهرة من طمثها ، ثمّ رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود بأنّها حبلى.

وبعد علمه بحمل (بتشبع) بعث داود برسالة إلى (يوآب)(٣) طلب منه فيها أن يبعث (أوريّا) إليه ، فبعث (يوآب) (أوريّا) إليه ، وفور وصوله إلى قصر داود ، استفسر منه عن سلامة (يوآب) وسلامة الجيش وعن سير المعارك.

وهنا أمر داود (أوريّا) بأن يذهب إلى بيته ويغسل رجليه ، فخرج أوريّا من قصر داود ، وبعث داود خلفه أنواعا من الطعام ، إلّا أنّ أوريّا نام عند باب قصر داود مع بقيّة عبيد سيّده داود ولم يذهب إلى بيته ، وعند ما علم داود أنّ أوريّا لم يذهب إلى بيته ، قال داود لأوريا : ألم تكن قد عدت من السفر؟ فلما ذا لا تذهب إلى بيتك؟ فقال لداود : إنّ الصندوق وإسرائيل ويهودا وسيّدي (يوآب) وعبيد سيّدي يعيشون تحت الخيام في الصحراء؟ فهل يصحّ أن أذهب إلى بيتي لآكل وأشرب وأنام فيه؟ أقسم بحياتك أنّي لا أفعل ذلك.

وفي الصباح بعث داود برسالة إلى (يوآب) بيد (أوريّا) وكتب في الرسالة يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ، ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك.

__________________

(١) (بتشبع) اسم تلك المرأة التي زعم كتاب التوراة أنّ داود رآها عارية عند ما كان يتمشّى على سطح بيته وعشقها ، وهي بنت (اليعام) أحد المسؤولين حينذاك والذي كان عبريا.

(٢) (أوريا) بتشديد الياء ، اسم أحد كبار قادة جيش داود و (حتي) بتشديد (الياء) وكسر (الحاء) تنسب إلى (حت) ابن كنعان ، وعشيرة كانت تسمّى (بني حت).

(٣) (يوآب) هو القائد العام لقوّات داود.

٤٧٩

فلمّا سمعت امرأة أوريّا أنّه قد مات ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت له امرأة ، وأمّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الربّ»(١) .

خلاصة هذه القصّة إلى هنا تكون كالآتي : في إحدى الأيّام صعد داود إلى سطح القصر فوقعت عيناه على البيت المجاور فرأى امرأة عارية تغتسل ، فأحبّها ، وتمكّن بإحدى الطرق من جلبها إلى بيته ، فاضطجع معها فحملت منه.

وزوج هذه المرأة كان أحد الضبّاط المشهورين في جيش داود وكان طاهرا نقيّا ، قتله داود (نعوذ بالله من هذا الكلام) بمؤامرة جبانة عند ما بعثه إلى منطقة خطرة جدّا في ساحة الحرب ، ثمّ تزوّج داود زوجته.

والآن نواصل سرد بقيّة القصّة على لسان التوراة الحالي إذ جاء في الإصحاح الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني «أنّ الربّ أرسل (ناثان) أحد أنبياء بني إسرائيل ومستشار داود في نفس الوقت ، وقال له : كان رجلان في مدينة واحدة ، واحد منهما غني والآخر فقير ، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدّا ، وأمّا الفقير فلم يكن له شيء إلّا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها ، فجاء ضيف إلى الرجل الغني فأبى أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيّئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه.

فحمي غضب داود ، وقال لناثان ، أقسم بالربّ أنّ الشخص الذي ارتكب هذا العمل يستحقّ القتل ، وعليه أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف. وهنا قال ناثان لداود : إنّ ذلك الرجل هو أنت!

فانتبه داود للعمل غير الصحيح الذي قام به ، فدعا الله ليتوب عليه ، فتاب الله عليه ، وأنزل في نفس الوقت ابتلاءات كبيرة على داود».

هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجلّ القلم عن ذكرها ، لهذا نصرف النظر

__________________

(١) نقلا عن الإصحاح الحادي عشر من كتاب (صموئيل الثاني) الجمل (٢) إلى (٢٧).

٤٨٠