الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 140801
تحميل: 3525


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140801 / تحميل: 3525
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

عنها.

وفي هذا الجزء من القصّة التي استعرضتها التوراة يمكن للمتتبّع ملاحظة ما يلي :

١ ـ لم يأت أحد متظلّما وشاكيا إلى داود ، وإنّما جاءه أحد أنبياء بني إسرائيل ، الذي هو مستشار داود في نفس الوقت ، وذكر له قصّة يستهدف منها وعظ داود ، والقصّة هي بشأن شخصين الأوّل غني والثاني فقير ، الغني يملك أعدادا كبيرة من الغنم والبقر ، أمّا الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة ، والغني أخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأها لضيفه.

إلى هذا المقدار من القصّة لا يوجد أي تطرّق لتسوّر جدران المحراب وفزع داود وتخاصم الشخصين عنده ، إضافة إلى طلب العفو والمغفرة.

٢ ـ داودعليه‌السلام اعتبر الغني طاغية ويستحقّ القتل لماذا يقتل من أجل نعجة واحدة؟!

٣ ـ لماذا تسرّع داودعليه‌السلام في إصدار الحكم ، إذ قال : يجب على الغني أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف؟

٤ ـ داود يعترف بذنبه مع زوجة أوريّا.

٥ ـ لماذا يعفو اللهعزوجل عنه وبهذه السهولة؟!

٦ ـ الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داود من الأفضل عدم ذكرها هنا.

٧ ـ هذه المرأة (مع ماضيها المشهور) هي امّ سليمانعليه‌السلام ! رغم أنّ نقل مثل هذه القصص مؤلم حقّا ، ولكن ما العمل ، إذ أنّ بعض الجهلة غير المطّلعين من المتأثّرين بالروايات الإسرائيليّة ، أساؤوا إلى تفسير القرآن الكريم الطاهر ، بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه ، ولا يوجد أمامنا سبيل إلّا ذكر أجزاء من تلك القصص الفاضحة لردّها.

٤٨١

والآن نسأل :

١ ـ هل يمكن اتّهام نبي مدحه الباريعزوجل في قرآنه الكريم بعشر صفات عظيمة ، ودعا نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يستلهم من سيرته ، هل يمكن اتّهامه بتلك التهم.

٢ ـ هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) .

٣ ـ إذا ارتكب شخص عادي ـ وليس أحد الأنبياء ـ مثل هذا العمل الإجرامي للاعتداء على زوجة ضابط وفيّ وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة ، بماذا سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته؟ فالفاسق يتنزّه عن هذا العمل الشنيع ، فكيف بنبي الله داود؟

وممّا يجدر ذكره أنّ التوراة لا تعتبر داود نبيّا ، وإنّما تعتبره ملكا عادلا له مكانة مرموقة ، وأنّه مشيّد المعبد الكبير لبني إسرائيل.

٤ ـ الطريف في الأمر أنّ كتاب (مزامير داود) هو أحد كتب التوراة ، وقد جمعت فيه مناجات وأحاديث داود ، فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا الإنسان في طيّات الكتب السماوية؟

٥ ـ لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والإدراك ، لأعترف بأنّ قصص التوراة المحرّفة حاليا ما هي إلّا خرافات ، وأنّ أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطّلعين صاغوا مثل هذه الخرافات ، فكيف يمكن أن تكون هذه الخرافات معيارا للبحث؟

نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال خلوّه من هذه الخرافات.

٣ ـ الأحاديث الإسلامية وقصّة داودعليه‌السلام

الرّوايات والأحاديث الإسلاميّة كذّبت بشدّة تلك القصص الخرافية والقبيحة

٤٨٢

الواردة في التوراة.

ومن جملة تلك الأحاديث ، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول فيه : «لا اوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريّا إلّا جلدته حدّين حدّا للنبوّة وحدّا للإسلام»(١) .

لماذا ، لأنّ المزاعم المذكورة تتّهم من جهة إنسانا مؤمنا بارتكاب عمل محرّم ، ومن جهة اخرى تنتهك حرمة مقام النبوّة ، ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري عليهعليه‌السلام مرّتين (كلّ مرّة ٨٠ سوطا).

كما ورد حديث آخر لأمير المؤمنينعليه‌السلام يعطي نفس المعنى ، جاء فيه «من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين»(٢) .

وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي) عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «إنّ رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوا داود إلى أنّه اتّبع الطير حتّى نظر إلى امرأة أوريّا فهواها ، وأنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوّج بها!»(٣) .

وأخيرا ، ورد حديث في كتاب (عيون الأخبار) في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال الرضاعليه‌السلام لابن الجهم : «وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه»؟

قال : يقولون : إنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على هيئة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريّا بن حيان.

فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريّا تغتسل؟ فلمّا نظر إليها هواها ، وكان

__________________

(١) مجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) تفسير الفخر الرازي ذيل آيات البحث.

(٣) الأمالي للشيخ الصدوق طبق ما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٦.

٤٨٣

قد أخرج أوريّا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريّا أمام التابوت فقدّم فظفر أوريّا بالمشركين فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم فقتل أوريّا وتزوج داود بامرأته.

قال : فضرب الرضاعليه‌السلام يده على جبهته وقال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، لقد نسبتم نبيّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة ، ثمّ بالقتل».

فقال : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئته؟

فقال : «ويحك إنّ داودعليه‌السلام إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه ، فبعث اللهعزوجل إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقال :( خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال :( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك ، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع اللهعزوجل يقول :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) إلى آخر الآية.

فقال : يا ابن رسول الله ، فما قصّته مع أوريّا؟

قال الرضاعليه‌السلام : «إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا ، فأوّل من أباح اللهعزوجل له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داودعليه‌السلام فتزوّج بامرأة أوريّا لمّا قتل وانقضت عدّتها ، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريّا»(١) .

يستفاد من هذا الحديث أنّ مسألة أوريّا كانت لها جذور حقيقيّة بسيطة ، وأنّ داود نفّذ ما جاء في الرسالة الإلهيّة ، إلّا أنّ أعداء الله من جهة ، والجهلة من جهة

__________________

(١) عيون الأخبار طبق ما نقله نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٥.

٤٨٤

اخرى ، إضافة إلى مؤلّفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من جهة ثالثة ، اختلفوا سيقانا وأغصانا وأوراقا لهذه القصّة كي ينفّروا الإنسان من داود.

فأحدهم قال : لا يمكن أن يتمّ هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدّمات له؟

والآخر قال : يحتمل أنّ بيت أوريّا كان مجاورا لبيت داود!

وأخيرا لكي يؤكّدوا أنّ داودعليه‌السلام شاهد زوجة (أوريّا) اصطنعوا قصّة الطير ، وفي النهاية اتّهموا أحد أنبياء الله الكبار بارتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة والمخزية ، وتناقلتها ألسنة الجهلة والبلهاء ولو لا انّها مذكورة في الكتب المعروفة لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها.

وبالطبع ، فإنّ هذه الرواية لا تختلف عن حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لأنّ حديثه يشير إلى أنّها قصّة كاذبة مزيّفة تنسب ارتكاب الزنا وغيرها من المحرّمات ـ نعوذ بالله ـ إلى أحد الأنبياء الكبار.

آراء المفسّرين

بعض المفسّرين ذكروا آراء اخرى لقصّة داود ، رغم أنّها لا تتناسب مع ظاهر آيات القرآن المجيد ، فإنّنا نرى من الضروري الإشارة إلى بعضها لإكمال البحث :

منها : أنّ داودعليه‌السلام كان قد قسّم ساعات يومه وفق برنامج منظّم ، ولم يكن يسمح لأحد بمراجعته إلّا في الساعات المخصّصة للمراجعة ، وفي أحد الأيّام تسوّر شخصان المحراب وقد اتّفقا على قتل داود أثناء فترة عبادته لله سبحانه وتعالى ، تسوّرا سور المحراب ، ولكن عند ما وصلا بالقرب من سور المحراب شاهدوا الجند والحرس يحيطون به من كلّ جانب ، وخوفا من أن ينكشف أمرهما ، اختلقا قضيّة كاذبة ، وادّعيا أنّهما أتيا إلى داودعليه‌السلام ليحكم بينهما ، وشرحا القصّة التي تطرّق إليها القرآن الكريم ، وقد قضى داودعليه‌السلام بينهما ، ولكون الهدف من هذه

٤٨٥

اللعبة كان قتله ، فقد غضب وصمّم على الانتقام منهما ، ولم يمض إلّا وقت قصير حتّى ندم داود على تصميمه هذا واستغفر الله(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان (وأكثر المفسّرين تبعا للروايات إنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داودعليه‌السلام كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه ، وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصّة كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه ، وكذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له وليس واقعة عادية ، وقوله تعالى بعد :( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الظاهر في أنّ الله ابتلاه بما ابتلي لينبّهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ، كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة وقد تمثّلوا في صورة رجال من الإنس.

(والمقصود من التمثّل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعا وفي الخارج ، بل أنّ ذلك انعكس في ذهن داود وفي إدراكه).

وعلى هذا فالواقعة تمثّل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة ، يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة ، وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة : (لقد ظلمك) إلخ وكان قولهعليه‌السلام ـ لو كان قضاء منجزا ـ حكما منه في ظرف التمثّل ، كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم ، ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثّل ، كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنّما التكليف في عالمنا المشهود ، وهو عالم المادّة ، ولم تقع الواقعة فيه ، ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلّا في ظرف التمثّل ، فكانت خطيئة داودعليه‌السلام في هذا الظرف من التمثّل ولا تكليف هناك ، كخطيئة آدمعليه‌السلام في الجنّة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف ، واستغفاره وتوبته ممّا صدر منه كاستغفار آدم وتوبته ممّا صدر منه ، وقد صرّح الله بخلافته في

__________________

(١) تفسير (الفخر الرازي) و (روح المعاني) ذكرا هذا الأمر كتوجيه وإرشاد ، فيما وافق (المراغي) في تفسيره على هذا الأمر.

٤٨٦

كلامه كما صرّح بخلافة آدمعليه‌السلام في كلامه)(١) .

ولكن من المسلّم به أنّ ظاهر الآيات يوضّح أنّ الشكوى والخصام كان من قبل أفراد حقيقيين لهم وجود ظاهري ، وفي هذه الحالة لم يكن قضاء داود ذنبا صادرا عنه ، خاصّة بعد أن استمع لأقوال أحدهم وحصل عنده علم ويقين في إعطاء الحكم ، رغم أنّ الآداب المستحبّة في القضاء توجب عليه أن يتأنّى في إصدار الحكم ولا يتعجّل ، واستغفاره إنّما كان لتركه العمل بالأولى.

وعلى أيّة حال ، لا توجد أيّة ضرورة لاعتبار وقوع حادثة التحكيم هذه في ظرف التمثّل أو لأجل تنبيه داودعليه‌السلام . والأفضل أن نحافظ على ظاهر الآيات وتفسيرها بالترتيب الآنف الذكر الذي حفظ ظاهر الآيات دون بروز أيّة مشاكل تمسّ مقام عصمة الأنبياء.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

٤٨٧

الآيات

( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) )

التّفسير

احكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس :

نواصل استعراض قصّة داود ، ونقف هنا على أعتابها النهائية ، حيث إن آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود ، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني ، شارحة له وظائفه ومسئولياته الجسيمة بعد أن

٤٨٨

وضحت مقامه الرفيع ، إذ تقول :( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

محتوى هذه الآية التي تتحدّث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها ، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحّة.

فهل يمكن أن ينتخب الباريعزوجل شخصا ينظر إلى شرف المؤمنين والمقرّبين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء ـ خليفة له في الأرض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذه الآية تضمّ خمس جمل كلّ واحدة منها تتحدّث عن حقيقة معيّنة :

الاولى : خلافة داود في الأرض ، فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السابقين ، أمّ أنّها تعني خلافة الله؟ المعنى الثاني أنسب ويتطابق مع ما جاء في الآية (٣٠) من سورة البقرة :( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) .

بالطبع فإنّ المعنى الواقعي للخلافة لا يتعلّق بالله ، لأنّه يأتي في مورد وفاة شخص أو غيابه ، والمراد من الخلافة هنا هو أن يكون نائبا لله بين العباد ، والمنفّذ لأوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض. هذه الجملة تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة ، وأي حكومة لا تستلهم شرعيتها من الحكومة الإلهيّة فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.

الجملة الثانية : تأمر داود قائلة : بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة ، أي الخلافة ، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) .

وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكّم بالحقّ ، ومن هذه الجملة يمكن القول أنّ حكومة الحقّ تنشأ ـ فقط ـ عن خلافة الله ، وأنّها

٤٨٩

النتيجة المباشرة لها.

أمّا الجملة الثالثة : فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل ، ألا وهو اتّباع هوى النفس( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) .

نعم ، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان ، ويباعد بينه وبين العدالة.

لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول :( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) .

فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك ، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.

فالحاكم الذي يتّبع هوى النفس ، إنّما يفرّط بمصالح وحقوق الناس لأجل مطامعه ، ولهذا السبب فإنّ حكومته تكون مضطربة ومصيرها الانهيار والزوال.

ومن الممكن أن يكون لـ (هوى النفس) معاني واسعة ، تضمّ في نفس الوقت هوى نفس الإنسان ، وهوى النفس عند كلّ الناس ، وهكذا فإنّ القرآن يحكم ببطلان المناهج الوضعيّة التي تستند على أفكار عامّة الناس في الحكم ، لأنّ نتيجة الإثنين هو الضلال والانحراف عن سبيل الله وصراط الحقّ.

واليوم نشاهد الآثار السيّئة لهذا النوع من التفكير في عالم يسمّى بالعالم المتطور والحديث ، فأحيانا نرى أشنع وأقبح الأعمال تأخذ شكلا قانونيا نتيجة الأخذ بآراء الناس ، ورائحة الفضيحة في هذا العالم قد أزكمت الأنوف ، والقلم يجلّ عن ذكرها.

صحيح أنّ أسس الحكومة مستندة على الجماهير ، وأنّ مشاركة الجميع فيها يحفظ أسسها ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ رأي الأكثرية هو معيار الحقّ والباطل في كلّ شيء وفي كلّ مكان.

فالحكومة يجب أن يكون إطارها الحقّ ، ولتطبيق الحقّ لا بأس بالاستعانة بطاقات أفراد المجتمع ، وعبارة (الجمهورية الإسلامية) المتكوّنة من كلمتي (الجمهورية) و (الإسلامية) تعطي المعنى السابق ، وبعبارة اخرى فإنّ أصولها

٤٩٠

مستمدّة من نهج الإسلام ، وتنفيذ تلك الأصول يتمّ بمشاركة الجماهير.

وأخيرا فإنّ الجملة الخامسة تشير إلى أنّ كلّ ضلال عن سبيل الله لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب ، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب الله الشديد ينتظره( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

ومن الطبيعي أنّ نسيان يوم القيامة هو مصدر الضلال ، وكلّ ضلال مرتبط بالنسيان ، وهذا المبدأ يوضّح التأثير التربوي في الاهتمام بالمعاد في حياة البشر.

ولقد وردت روايات بهذا الشأن في المصادر الإسلاميّة ، ومنها حديث مشهور عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام جاء فيه : «أيّها الناس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(١) .

أليس من الأفضل كتابة هذا الحديث بماء الذهب ، ووضعه أمام الجميع خاصّة الحكّام والقضاة والمسؤولين.

وفي رواية اخرى وردت عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، جاء فيها : «ثلاث موبقات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه»(٢) .

وتتمّة للبحث الذي استعرض حال داود وخلافته في الأرض ، تتطرّق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود ، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم ، وجاء في قوله تعالى :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) .

هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدرا لكلّ الحقوق ، وهي : ما الهدف من وجود الخلق؟

فعند ما ننظر إلى هذا العالم الوسيع ، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله عبثا ، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق ، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة (٤٢).

(٢) كتاب «الخصال» نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٥٣.

٤٩١

قصيرة وعميقة ، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ ، فعليها أن تثبت أسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.

وبعبارة اخرى : إنّ الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود ، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة.

الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرّقت إلى نسيان يوم الجزاء ، متطابقة بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم الجزاء والحساب ، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لو لم يكن هناك يوم للحساب ، فإنّ خلق العالم يعدّ عبثا.

ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصّل بين الإيمان والكفر ، وإعتقاد المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للابتلاءات التي ابتلينا بها اليوم ، إذ أنّ اتّباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أنّ خلق العالم لا فائدة فيه ، ولا هدف يرتجى من ورائه ، فمن يفكّر هكذا كيف يتمكّن من تطبيق الحقّ والعدالة في حكومته؟!

الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحقّ والعدالة ، هي الحكومة التي تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادئ الإلهيّة ، والتي تقول إنّ الباريعزوجل لم يخلق العالم عبثا وإنّما خلقه لأهداف وأغراض معيّنة ، كي تسير الحكومات وفق تلك الأهداف ، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الإقتصاد والثقافة ، فالسبب الرئيسي يكمن في ابتعادهم عن هذا الأمر ، ولهذا فإنّ أسس حكوماتهم تقوم على الظلم والتسلّط ، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من التفكير العشوائي!

على أيّة حال ، فإنّ الباريعزوجل حكيم ، ومن غير الممكن أن يخلق هذا

٤٩٢

العالم من دون هدف ، فالعالم هذا مقدّمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا ، وهو أبدي وخالد يوضّح الأهداف الحقيقيّة وراء خلق عالم الدنيا.

الآية التالية تضيف :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (١) .

كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمرا مستحيلا ، فمن المستحيل أيضا المساواة بين الصالحين والطالحين ، لأنّ المجموعة الاولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية ، بينما كانت المجموعة الثانية تسير باتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاولى.

الواقع أنّ بحث المعاد بكافّة أبعاده قد تمّ تناوله في هذه الآية والآية التي سبقتها بشكل مستدلّ.

فمن جهة تقول : إنّ حكمة الخالق تقتضي أن يكون لخلق العالم هدف ، وهذا الهدف لا يتحقّق بعدم وجود عالم آخر ، لأنّ الأيّام القلائل التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا لا قيمة لها بالنسبة للهدف الرئيسي الكامن وراء خلق هذا العالم الواسع.

ومن جهة اخرى ، فإنّ حكمة وعدالة الباريعزوجل تفرض أن لا يتساوى المحسن والمسيء والعادل والظالم ، ولهذا كان البعث والثواب والعقاب والجنّة والنار.

وبغضّ النظر عن هذا ، فعند ما ننظر إلى ساحة المجتمع الإنساني في هذه الدنيا نشاهد الفاجر في مرتبة المؤمن ، والمسيء إلى جانب المحسن ، ولربّما في أكثر الأحيان نرى المفسدين المذنبين يعيشون في حالة من الرفاه والتنعّم أكثر من غيرهم ، فإذا لم يكن هناك عالم آخر بعد عالمنا هذا لتطبيق العدالة هناك ، فإن

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا : إنّ (أمّ) هنا تعطي معنى (بل) للاضراب ، وهنا احتمال آخر يقول : إنّ (أم) جاءت للعطف على استفهام محذوف ، وتقدير الآية هو (أخلقنا السموات والأرض باطلا أم نجعل المتّقين كالفجّار؟).

٤٩٣

وضع العالم هذا مخالف «للحكمة» و (للعدالة) ، وهذا هو دليل آخر على مسألة المعاد.

وبعبارة اخرى ، فلإثبات مسألة المعاد ـ أحيانا ـ يمكن الاستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحيانا اخرى عن طريق برهان (العدالة) ، فالآية السابقة استدلال بالحكمة ، والآية التي بعدها استدلال بالعدالة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح ـ في حقيقة الأمر ـ الهدف من الخلق ، إذ جاء في الآية الكريمة :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

فتعليماته خالدة ، وأوامره عميقة وأصيلة ، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدّي إلى اكتشاف هدف الخلق.

فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر ـ فقط ـ على تلاوته وتلفّظ اللسان به ، بل لكي تكون آياته منبعا للفكر والتفكّر وسببا ليقظة الوجدان ، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.

كلمة (مبارك) تعني شيئا ذا خير دائم ومستمر ، أمّا في هذه الآية فإنّها تشير إلى دوام استفادة المجتمع الإنساني من تعليماته ، ولكونها استعملت هنا بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل كلّ خير وسعادة في الدنيا والآخرة.

وخلاصة الأمر ، فإنّ كلّ الخير والبركة في القرآن ، بشرط أن نتدبّر في آياته ونستلهم منها ونعمل بها.

* * *

ملاحظتان

١ ـ التقوى والفجور أمام بعضهما البعض

في الآيات المذكورة أعلاه ، ورد الفساد في الأرض في مقابل الإيمان والعمل

٤٩٤

الصالح ، والفجور (الذي يعني تمزيق حجب الدين) في مقابل التقوى والورع.

هل أنّ هذين الإثنين ، يوضّحان حقيقة واحدة في عبارتين ، أم أنّهما يوضّحان موضوعين؟ من غير المستبعد أن يكون الاثنان تأكيدا لمعنى واحد ، لأنّ (المتّقين) هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح و (الفجّار) هم المفسدون في الأرض.

ويحتمل في أن تكون الجملة الاولى هي إشارة إلى الجوانب العملية والعقائدية لكلا الطرفين ، إذ تقارن بين أصحاب العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة وبين أصحاب العقائد الفاسدة والأعمال الخبيثة ، في حين أنّ الجملة الثانية تشير فقط إلى الجانب العملي.

ويحتمل أيضا أنّ (التقوى والفجور) شاهدان على كمال ونقص الإنسان ، والعمل الصالح والفساد في الأرض شاهدان على الجوانب الاجتماعية ، ولكن التأكيد يعدّ أنسب.

٢ ـ لمن تعني هذه الآيات؟

جاء في إحدى الروايات التي تفسّر قوله تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) بأنّها إشارة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأنصاره ، في حين أنّ بقيّة الآية( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى أعدائه(١) .

وجاء في حديث آخر نقله (ابن عساكر) عن ابن عباس ، في أنّ المقصودين في الآية( الَّذِينَ آمَنُوا ) «علي» و «حمزة» و «عبيدة» الذين واجهوا في معركة بدر كلا من «عتبة» و «الوليد» و «شيبة» ورموز جيش الكفر والشرك (وتمكّنوا من قتلهم في ساحة المعركة. فبهذا يكون عتبة والوليد وشيبة هم المقصودين في الآية

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الرابع ، الصفحة ٤٥٣ (الحديث ٣٧).

٤٩٥

( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) (١) .

الواضح من معنى هذه الرّوايات أنّها لا تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين ، وإنّما هي بيان لأسباب النّزول ، أو أنّها مصداق واضح وبارز لهذه الآية.

* * *

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ١٧١.

٤٩٦

الآيات

( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) )

التّفسير

سليمانعليه‌السلام يستعرض قوّاته القتالية :

هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داودعليه‌السلام .

فالآية الاولى تزفّ البشرى لداود في أنّه سيرزق بولد صالح هو سليمان ، وسيتولّى الحكم وأعباء الرسالة من بعده ، وتقول :( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

هذه الجملة تبيّن عظمة مقام سليمان ، ويحتمل كونها ردّا على الاتّهامات القبيحة والعارية من الصحّة الواردة في التوراة المحرّفة عن ولادة سليمان من زوجة أوريا ، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.

فعبارة (وهبنا) من جهة و (نعم العبد) من جهة اخرى ، وللتعليل (إنّه أوّاب) أي

٤٩٧

(الشخص المطيع لله والممتثل لأوامره ، والذي يتوب إلى الباريعزوجل إثر أبسط غفلة أو زلّة) من جهة ثالثة ، كلّها تدلّ على عظمة مقام هذا النّبي الكبير.

وعبارة (إنّه أوّاب) هي نفس العبارة التي جاءت بحقّ والده داود في الآية (١٧) من نفس السورة ، ورغم أنّ كلمة (أوّاب) صيغة مبالغة وتعني كثير الرجوع وغير محدودة ، فإنّها هنا تعني العودة لطاعة الأمر الإلهي ، العودة إلى الحقّ والعدالة ، العودة من الغفلة وترك العمل بالأولى.

الآية التالية تبدأ بقصّة خيل سليمان ، التي فسّرت بأشكال مختلفة ، حيث أنّ البعض فسّرها بصورة سيّئة ومعارضة لموازين العقل ، حتّى أنّه لا يمكن إيرادها بشأن إنسان عادي ، فكيف ترد بحقّ نبي عظيم كسليمانعليه‌السلام .

ولكن المحقّقين بعد بحثهم في الدلائل العقليّة والنقلية أغلقوا الطريق أمام أمثال هذه التّفسيرات ، وقبل أن نخوض في الاحتمالات المختلفة الواردة ، نفسّر الآيات وفق ظاهرها أو (وفق أقوى احتمال ظاهري لها) لكي نوضّح أنّ القرآن الكريم خال من مثل هذه الادّعاءات المزيّفة التي فرضت على القرآن من قبل الآخرين.

إذ يقول القرآن :( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) .

«صافنات» جمع (صافنة) وقال معظم اللغويين والمفسّرين : إنّها تطلق على الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الإمامية قليلا ليمسّ الأرض على طرف الحافر ، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصلية التي هي على أهبّة الاستعداد للحركة في أيّة لحظة(١) .

«الجياد» جمع (جواد) وتعني الخيول السريعة السير ، وكلمة «جياد» مشتقّة في الأصل من (جود) ، والجود عند الإنسان يعني بذل المال ، وعند الخيول يعني سرعة سيرها. وبهذا الشكل فإنّ الخيول المذكورة تبدو كأنّها على أهبّة الاستعداد

__________________

(١) ويرى البعض : إنّ (صافنات) ، تستعمل للمذكّر والمؤنث ، ولهذا فإنّها لا تختّص بإناث الخيل.

٤٩٨

للحركة أثناء حالة توقّفها ، وإنّها سريعة السير أثناء عدوها.

ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها ، أنّه في أحد الأيّام وعند العصر استعرض سليمانعليه‌السلام خيوله الأصيلة التي كان قد أعدّه الجهاد أعدائه ، إذ مرّت تلك الخيول مع فرسانها أمام سليمانعليه‌السلام في استعراض منسّق ومرتّب. وبما أنّ الملك العادل وصاحب النفوذ عليه أن يمتلك جيشا قويّا ، والخيول السريعة إحدى الوسائل المهمّة التي يجب أن تتوفّر لدى ذلك الجيش ، فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجا من أعماله.

ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في أنّ حبّه لهذه الخيول القويّة ناتج من حبّة للدنيا ، جاء في قوله تعالى :( فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) انّي احبّ هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره ، وأريد الاستفادة منها في جهاد الأعداء.

لقد ورد أنّ العرب تسمّى «الخيل» خيرا ، وفي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه : «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة»(١) .

واستمرّ سليمانعليه‌السلام ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء الله ، وهو يعيش حالة من السرور ، حتّى توارت عن أنظاره( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) .

كان هذا المشهد جميلا ولطيفا لقائد كبير مثل سليمان ، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اخرى( رُدُّوها عَلَيَ ) . وعند ما نفّذت أوامره بإعادة الخيل ، عمد سليمانعليه‌السلام إلى مسح سوقها وأعناقها( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) .

وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول ، وأعرب لهم عن تقديره لها ، لأنّ من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته ، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلّقه

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآيات مورد بحثنا ، قال البعض : إنّ (خير) الواردة في الآية الآنفة الذكر تعني المال أو المال الكثير ، وهذا التّفسير من الممكن أن يتطابق مع التّفسير السابق ، لأنّ مصداق المال هنا هو الخيل.

٤٩٩

الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية ، وتعلّق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.

«طفق» باصطلاح النحويين من أفعال المقاربة ، وتأتي بمعنى «شرع».

«سوق» هي جمع (ساق) و (أعناق) جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.

ما ذكرناه بشأن تفسير هذه الآية يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسّرين كالفخر الرازي ، كما تمّت الاستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير السيّد المرتضى ، إذ قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الادّعاءات الباطلة والمحرّمة التي ينسبها بعض المفسّرين ورواة الحديث إلى سليمان (إنّ الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال :( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثناء ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ، وأنّه يتلّهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة ، والذي يقتضيه الظاهر أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان عن إذن ربّه وبأمره وبتذكيره إيّاه ، لأنّ الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء ، فلا ينكر أن يكون سليمانعليه‌السلام مأمورا بمثل ذلك)(١) .

أمّا العلّامة المجلسي فقد ذكر في كتابه (بحار الأنوار) في باب النبوّة ، تفسيرا لهذه الآيات يشابه كثيرا ما ذكر أعلاه(٢) .

على أيّة حال ـ وفق هذا التّفسير ـ لم يصدر من سليمان أي ذنب ، ولم يحدث أي خلل في ترتيب الآيات ، ولا تبدو أيّة مشكلة حتّى نعمد إلى توضيحها(٣) .

والآن نستعرض تفاسير اخرى لمجموعة من المفسّرين بشأن هذه الآيات وأشهرها ، ذلك التّفسير الذي يعود بالضمير في جملتي (توارت) و (ردّوها) إلى

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ، الصفحة ٩٣.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ١٤ ، الصفحة ١٠٤.

(٣) طبقا لهذا التّفسير فإنّ الضمير في عبارتي (توارت) و (ردّوها) يعود على الخيل الماهرة والحاذقة (الصافنات الجياد).

٥٠٠