الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 581
المشاهدات: 140826
تحميل: 3529


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140826 / تحميل: 3529
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 14

مؤلف:
العربية

الإنسان) ولكن ليس هناك في مفهوم هذه الكلمة ما يدلّ على هذا المعنى ، غير مقارنتها بالحميم وهو الماء الحارّ الشديد الحرارة ، وهذه المقارنة قد تكون منشأ هذا الاستنباط.

وقال الراغب في مفرداته : إنّ (غسّاق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل جهنّم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.

ولا بدّ أن يكون لونه الغامق هو السبب في إطلاق هذه الكلمة عليه ، لأنّ الذي يحترق في نار جهنّم لا يبقى منه سوى هيكل محروق وقيح أسود اللون.

على أيّة حال ، فإنّ ما يستشفّ من بعض الكلمات هو أنّ (غسّاق) تعني الرائحة الكريهة النتنة التي تزعج الآخرين.

وفسّره البعض الآخر بأنّه أحد أنواع العذاب الذي لم يطلع عليه أحد سوى الله ، وذلك لأنّهم ارتكبوا ذنوبا ومظالم شديدة لم يطلع عليها أحد سوى الله ، فلذلك جعل عقوبتهم سريّة وغير معروفة ، مثلما وعد البارئعزوجل المتّقين بنعم لم يكشف عنها وأخفاها عنهم ، لإخفائهم أعمالا صالحة كانوا يقومون بها في الحياة الدنيا ، وذلك ما ورد في الآية (١٧) من سورة السجدة :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .

آيات بحثنا تشير مرّة اخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ) (١) . أي أنّ هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.

«أزواج» تعني الأنواع والأقسام ، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع اخرى من العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة ، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.

وفي الحقيقة فإنّ هذه تقابل عبارة( بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ) الواردة في الآيات السابقة ،

__________________

(١) (آخر) هي صفة لموصوف محذوف يكون مبتدأ و (أزواج) مبتدأ ثان ، و (من شكله) خبرها ، وتقديرها (وعذاب آخر أزواج من شكله).

٥٤١

التي تشير إلى أنواع مختلفة من النعم وفواكه الجنّة. ويمكن أن يكون هذا التشابه في الشدّة والألم ، أو من جميع الجهات.

وآخر عذاب لهم أنّ جلساءهم في جهنّم ذوو ألسنة بذيئة لا تنطق إلّا بالقبيح من الكلام ، فعند ما يرد رؤساء الضلال النار ، ويرون بأعينهم تابعيهم يساقون نحو جهنّم يخاطب بعضهم البعض ويقول له :( هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) (١) .

فيجيبونهم( لا مَرْحَباً بِهِمْ ) .

ثمّ يضيفون( إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ) .

وعبارة( هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) مقترنة بالآيات التالية ، وتنقل أحاديث أئمّة الضلال ، إذ يخاطب بعضهم البعض فور ما يرون أتباعهم يساقون إلى جهنّم ، بالقول : أولئك سيحشرون معكم.

بعض المفسّرين قال : إنّه خطاب توجّهه الملائكة إلى أئمّة الكفر والضلال.

إلّا أنّ المعنى الأوّل يعدّ أكثر تناسبا.

«مرحبا» كلمة ترحيب للضيف ، وضدها «لا مرحبا» ومصدر هذه الكلمة «رحب» ـ على وزن محو ـ بمعنى المكان الواسع ، والمراد هو : ادخل فالمكان وسيع ومناسب.

«مقتحم» من (اقتحام) وتعني الدخول في شيء بمشقّة وبصعوبة وخوف ، وغالبا ما تعطي معنى الدخول في شيء من دون أي اطلاع وعلم مسبق.

وتوضّح هذه العبارة أنّ متّبعي سبيل الضلال يردون نار جهنّم الرهيبة نتيجة تركهم البحث والتفكير ، واتّباعهم لأهوائهم ، إضافة إلى تقليدهم الأعمى لآبائهم الأوّلين.

وعلى أيّة حال ، فإنّ الصوت يصل إلى مسامع الأتباع الذين يغضبون من كلام أئمّة الضلال ، ويلتفتون إليهم قائلين :( قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا

__________________

(١) هنا يوجد محذوف تقديره : (يقول رؤساء الضلال بعضهم لبعض هذا فوج مقتحم معكم).

٥٤٢

فَبِئْسَ الْقَرارُ ) .

الجملة الأخيرة( فَبِئْسَ الْقَرارُ ) تقابل( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) الواردة بحقّ المتّقين ، وهي إشارة إلى المصاب العظيم الذي حلّ بهم ، وهو أنّ جهنّم ليست بمكان مؤقت لهم ، وإنّما هي مقرّ دائم. وأراد الأتباع من جوابهم القول : بأنّ من حسن الحظّ أنّكم (أي أئمّة الضلال والشرك) مشتركون معنا في هذا الأمر. وهذا يشفي غليل قلوبنا (وكأنّهم شامتون بأئمّتهم) أو هي إشارة إلى أنّ جريمتكم بحقّنا جريمة عظيمة ، لأنّ جهنّم ستكون مقرّا دائما لنا وليست مكانا مؤقتا.

لكن الأتباع لا يكتفون بهذا المقدار من الكلام ، لأنّ أئمّة الضلال هم الذين كانوا السبب المباشر لارتكابهم الذنوب ، ولذا فإنّهم يعتبرونهم أصحاب الجريمة الحقيقيين ، وهنا يلتفتون إلى البارئعزوجل قائلين :( قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ) .

العذاب الأوّل لأنّهم أضلّوا أنفسهم ، والثاني لأنّهم أضلّونا.

ما ورد في هذه الآية مشابه لما ورد في الآية (٣٨) من سورة الأعراف التي تقول :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) رغم أنّ تتمّة هذه الآية أي الآية (٣٨) من سورة الأعراف تقول : إنّ لكليهما عذابا مضاعفا (لأنّ الأتباع هم الأداة التنفيذية لأئمّة الضلال ، وهم الذين هيّئوا الأرضية لنشر الفساد والضلال).

على أيّة حال ، لا يوجد شكّ في أنّ عذاب أئمّة الضلال أكبر بكثير من عذاب الآخرين ، رغم أنّ للجميع عذابا مضاعفا.

نعم ، هذه هي نهاية كلّ من عقد الصداقة مع المنحرفين وبايعهم على السير في طرق الضلال والانحراف ، فانّهم عند ما يرون نتائج أعمالهم الوخيمة يلعن بعضهم بعضا ويتخاصمون فيما بينهم.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات التي تذكر النعم التي يغدقها البارئعزوجل

٥٤٣

على المتّقين كانت أكثر تنوّعا من الآيات التي استعرضت عذاب الطغاة المتجبّرين. إذ أشارت آيات القسم الأول إلى سبع نعم ، بينما أشارت آيات القسم الثاني إلى خمسة أنواع من العذاب ، يحتمل أن يكون السبب هو سبق رحمة الله لغضبه «يا من سبقت رحمته غضبه».

* * *

٥٤٤

الآيات

( وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) )

التّفسير

تخاصم أهل النّار :

آيات بحثنا تواصل استعراض الجدال الدائر بين أهل جهنّم ، الذي كان بعضه قد ورد في الآيات السابقة ، وتتحدّث عن مجادلات اخرى فيما بينهم ينكشف من خلالها أسفهم العميق وتألّمهم الشديد وحسرتهم.

تقول اولى تلك الآيات :( وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ) . نعم ، فعند ما يبحث أفراد اتّبعوا أئمّة الضلال ، أمثال أبي جهل وأبي لهب ، عن أشخاص آخرين مثل عمّار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال ، في نار جهنّم يرجعون إلى ذاتهن متسائلين ، ويستفسرون من الآخرين : أين أولئك الأشخاص؟ إذ كنّا نعتبرهم مجموعة من الفوضويين والأشرار والمفسدين في الأرض ، يسعون إلى الإخلال بأمن وهدوء المجتمع والقضاء على مفاخر الأوّلين ، يبدو أنّ اتّهامنا

٥٤٥

إيّاهم كان باطلا.

وتضيف الآيات نقلا عن أهل جهنّم :( أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) .

نعم ، إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع ، ونصفهم بالأشرار ، وأحيانا نصفهم بأوصاف أدنى من ذلك ، ونعتبرهم أناسا حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم ، ولكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا ، فهؤلاء كانوا من المقربين لله ومكانهم الآن في الجنّة.

مجموعة من المفسّرين ذكروا تفسيرا آخر لهذه الآية ، إذ قالوا : إنّ مسألة سخريتهم إشارة إلى أحوالهم في عالم الدنيا ، وجملة( أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) إشارة إلى أحوالهم في جهنّم ، وتعني هنا أنّ أبصارنا في هذا المكان وبين هذه النيران والدخان لا يمكنها رؤيتهم. ولكن المعنى الأوّل أصحّ.

ومن الضروري الالتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع الجدّ إضافة إلى الاستهزاء بها ، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها.

ثمّ تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض عنها الجدال بين أهل جهنّم ، وتؤكّد على ما مضى بالقول :( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (١) .

فأهل جهنّم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع والجدال يتحكّم بهم ، وفي كلّ يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.

وفي يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور ، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنّم ، فأصدقاء الأمس أعداء اليوم ، والتابعون في الأمس صاروا معارضين اليوم ، ويبقى ـ فقط ـ خطّ التوحيد والإيمان ، خطّ

__________________

(١) (تخاصم أهل النار) بيان لـ (ذلك).

٥٤٦

الوحدة والصفاء في هذا العالم وذاك.

الجدير بالذكر أنّ أهل الجنّة متكئون على الأسرّة ، ويتحدّثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبّة والصدق ، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم ، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال ، إذن فتلك نعمة كبيرة ، وهذا عذاب أليم!

* * *

ملاحظة

ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأبي بصير «يا أبا محمّد ، لقد ذكركم الله إذ حكى عن عدوّكم في النار بقوله :( وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) . والله ما عنى ولا أراد بهذا غيركم ، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس ، وأنتم والله في الجنّة تحبرون وفي النار تطلبون»(١) .

* * *

__________________

(١) روضة الكافي ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٦٧.

٥٤٧

الآيات

( قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) )

التّفسير

إنّما أنا نذيرا :

البحوث السابقة التي تناولت موضوع العقاب الأليم الذي سينال أهل جهنّم ، والاخرى التي استعرضت العذاب والعقاب الدنيوي الذي نزل بالأمم الظالمة البائدة ، كلّها كانت تحمل طابع إنذار وتهديد للمشركين والعاصين والظالمين.

أمّا آيات بحثنا فتتابع ذلك البحث ، إذ جاء في اولى آياتها( قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ) .

صحيح أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشّر أيضا ، وأنّ القرآن الكريم يحوي كلا الأمرين ، أي الإنذار والبشرى ، ولكن بما أنّ البشرى تخصّ المؤمنين فإنّ الإنذار يخصّ المشركين والمفسدين ، والحديث هنا يخصّ المجموعة الأخيرة ، واعتمد فيه على

٥٤٨

الإنذار.

ثمّ يضيف( وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

كلمة (القهّار) وردت في هذه العبارة ، كي لا يغترّ أحد بلطف الله ، ويظنّ أنّه يعيش في مأمن من قهر الله ، ولكي لا يغرق في مستنقع الكفر وارتكاب الذنب.

وتطرح دلائل توحيد الخالق جلّ وعلا في الالوهيّة والعبوديّة بشكل مباشر ، وتضيف( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) .

في الواقع هناك ثلاث صفات من صفات البارئعزوجل ذكرت في هذه الآية ، وكلّ واحدة منها جاءت لإثبات مفهوم ما. الاولى «ربوبيته» لعالم الوجود ، ومالكيته لكلّ هذا العالم ، المالك المدبّر لشؤون عالم الوجود ، فهو الوحيد الذي يستحقّ العبادة والأصنام لا تملك من أمورها شيئا ولو بمقدار ذرّة.

والصفة الثانية (عزّته) وكما هو معروف فإنّ كلمة (العزيز) تطلق في اللغة على من لا يغلب ، وعلى من بإمكانه فعل ما يشاء ، وبعبارة اخرى : هو الغالب الذي لا يمكن لأحد التغلّب عليه.

فمن يمتلك مثل هذه القدرة كيف يمكن الفرار من قبضة قدرته؟! وكيف يمكن النجاة من عذابه؟!

الصفة الثالثة هي (غفّار) وكثير الرحمة ، بحيث أنّ أبواب رحمته مفتوحة أمام المذنبين ، كي لا يتصوّروا أنّ كلمتي (القهّار والعزيز) تعطيان مفهوم غلق أبواب الرحمة والتوبة أمام عباده. إذ أنّ إحداهما جاءت لبيان (الخوف) والثانية لبيان (الرجاء) ، وانعدام حالة التوازن بين الحالتين السابقتين (أي الخوف والرجاء) يؤدّي إلى عدم تكامل الإنسان ، وابتلائه بالغرور والغفلة والغرق في دوّامة اليأس وفقدان الأمل.

وبعبارة اخرى فإنّ وصف الباريعزوجل بـ (العزيز) و (الغفّار) دليل آخر على توحّده تعالى في الالوهية ، لأنّه الوحيد الذي يستحقّ العبادة والطاعة ،

٥٤٩

وإضافة إلى ربوبيته فإنّه يمتلك القدرة على المعاقبة ، وإضافة إلى امتلاكه للقدرة على المعاقبة ، فإنّ أبواب رحمته ومغفرته مفتوحة للجميع.

ثمّ يخاطب البارئعزوجل نبيّه الأكرم في عبارة قصيرة وقويّة( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) .

فما هو هذا النبأ الذي أشارت إليه الآية ووصفته بأنّه عظيم؟

هل هو القرآن المجيد؟

أم أنّه رسالة النبيّ؟

أم هو يوم القيامة ومصير المؤمنين والكافرين؟

أم هو توحيد الله؟

أم كلّ هذه الأمور؟

ولكون القرآن مشتملا على كلّ تلك الأمور ، وهو الجامع بينها ، وأنّ المشركين أعرضوا عنه ، لذا فإنّ المعنى الأوّل أنسب.

نعم ، فهذا الكتاب السماوي العظيم هو نبأ عظيم ، وعظمته كعظمة الكون ، وهو نازل من قبل خالق هذا الكون ، أي من الله الخالق العزيز الغفّار والواحد القهّار.

النبأ الذي لم يتقبّل عظمته الكثير من الناس حين نزوله ، فمجموعة سخرت منه واستهزأت به ، واخرى اعتبرته سحرا ، ومجموعة ثالثة اعتبرته شعرا ، ولكن لم يمض بعض الوقت حتّى كشف هذا النبأ العظيم عن أسراره ، ليغيّر مسيرة التأريخ البشري ، ويظلّ العالم بظلّه ، وليوجد حضارة عظيمة ومضيئة في كلّ المجالات ، وممّا يسترعي الانتباه أنّ الإعلان عن «النبأ العظيم» تمّ في هذه السورة المكيّة في وقت كان فيه المسلمون ـ على ما يبدو ـ في أشدّ حالات الضعف والعجز ، وكأنّ أبواب النصر والنجاة مغلقة أمامهم.

وممّا ينبغي ذكره أنّ عظمة هذا النبأ العظيم ليست واضحة حتّى يومنا هذا للعالم بصورة عامّة ، وللمسلمين بصورة خاصّة ، والمستقبل سيوضّح تلك العظمة.

٥٥٠

وقوله تعالى :( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) ما زال صادقا حتّى يومنا الحاضر ، فإعراض المسلمين عنه تسبّب في عدم ارتوائهم من هذا المنبع العذب الذي يطفح بالفيض الإلهي الكامل ، وإلى عدم التقدّم على الآخرين بالاستفادة من أنواره المشعّة ، وإلى عدم الرقي إلى قمم الفخر والشرف.

ثمّ تقول الآية ، مقدّمة لسرد قصّة خلق آدم ، والمكانة الرفيعة التي يحتلّها الإنسان الذي سجدت له كافّة الملائكة :( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) .

أي لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي بخصوص خلق الإنسان ، حيث أنّ العلم يأتيني عن طريق الوحي ، والشيء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين( إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل البارئعزوجل ، ولكنّ ذلك المقدار من الكلام الذي قالوه عند ما أخبرهم الباريّعزوجل بأنّه سيجعل في الأرض خليفة ، فقالوا : أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم قائلا : إنّي أعلم ما لا تعلمون :( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) ،(١) مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية مجازية ، وقد كانت هذه مقدّمة للآيات التالية التي تتحدّث عن خلق آدم.

وثمّة احتمال وارد أيضا هو أنّ عبارة( بِالْمَلَإِ الْأَعْلى ) لها مفهوم أوسع يشمل حتّى الشيطان ، لأنّ الشيطان كان حينئذ في زمرة الملائكة ، ونتيجة تخاصمه مع البارئعزوجل واعتراضه على إرادة الله طرد إلى الأبد من رحمة الله.

وقد وردت روايات متعدّدة في كتب الشيعة والسنّة بهذا الخصوص ، جاء في إحداها أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل أحد أصحابه : «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟

__________________

(١) البقرة ، ٣٠.

٥٥١

فقال : كلّا ، فأجاب رسول الله «اختصموا في الكفّارات والدرجات ، فأمّا الكفّارات فإسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأمّا الدرجات فإنشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة في الليل والناس نيام»(١) .

وبالطبع فإنّ هذا الحديث لم يذكر أنّه ناظر إلى تفسير الآية المذكورة أعلاه ، رغم تشابه بعض عباراته مع عبارات الآية ، وعلى أيّة حال ، يستفاد من الحديث أنّ المراد من (اختصموا) هو أنّهم تباحثوا وتناقشوا ، ولا يعني الجدال في الحديث فهم تباحثوا وتناقشوا بشأن أعمال الإنسان والأعمال التي تكون كفّارة لذنوبهم وتزيد من درجات الإنسان وترفع من شأنه ، ويمكن أن يكون بحثهم حول عدد من الأعمال التي تعدّ مصدرا لتلك الفضائل ، أو بشأن تعيين حدّ وميزان للدرجات الناتجة عن تطبيق الإنسان لتلك الأعمال ، وبهذا الشكل يكون الحديث تفسيرا ثالثا للآية ، وهو مناسب من عدّة جوانب ، ولكنّه لا يتناسب مع الآيات التالية ، إذ ربّما كان المقصود هو بحث ومناقشات الملائكة في موارد اخرى ، وليس ذلك المتعلّق بالآية.

والجدير بالذكر أنّ معنى عدم علم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أنّي لم أكن أعلم ذلك من نفسي ، لأنّ علمي ليس من قبل نفسي وإنّما ينزل عليّ عن طريق الوحي.

* * *

__________________

(١) «مجمع البيان» في ذيل آيات البحث ، كما ورد هذا الحديث في تفسير الدرّ المنثور نقلا عن مجموعة كبيرة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض الاختلافات.

٥٥٢

الآيات

( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) )

التّفسير

تكبّر الشيطان وطرده من رحمة الله!

هذه الآيات ـ كما قلنا ـ توضيح لاختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث

٥٥٣

حول مسألة خلق آدمعليه‌السلام ، وبصورة عامّة فإنّ الهدف من توضيح هاتين المسألتين :

أوّلا : تذكير الإنسان بقيمة وجوده ، وسجود كلّ الملائكة لجدّه آدم ، فكيف بالإنسان الذي كرّمه البارئعزوجل كلّ هذا التكريم يقع أسيرا في حبائل الشيطان وهوى النفس؟ وكيف ينسى قيمة وجوده ، أو يسجد لأصنام صنعها من الحجر والخشب؟!

من المعروف أنّ أحد الأساليب المؤثّرة في التربية ، هو إعطاء شخصية للأفراد الذين يتلقّون التربية. وبعبارة أصحّ : تذكيرهم بشخصيتهم الرفيعة وقيمة وجودهم ، فإن تذكّروا هذا الأمر ، أحسّوا بأنّ الذلّة والحقارة لا تلقيان بهم ، فيتجنبوهما تلقائيا.

ثانيا : إنّ عناد الشيطان وغروره وتكبّره وحسده تسبّبت في سقوطه من مقامه الشامخ الرفيع إلى الحضيض ، وغرقه بوحل اللعنة وإلى الأبد ، ويمكن أن يكون هذا المثال عبرة لكلّ لجوج ومغرور ليعتبر ويترك ممارسات الشيطان.

ثالثا : تعريف بني آدم بعدوّهم الكبير الذي أقسم الشيطان على إغوائهم ، كي يكونوا جميعا على حذر منه ويجتنبوا السقوط في حبائل أسره.

كلّ هذه الأمور ، هي تكملة للأبحاث السابقة ، وعلى أيّة حال فإنّ الآية الاولى تذكر بإخبار اللهعزوجل ملائكته بأنّه سيخلق بشرا من الطين : و( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) .

ولكي لا يتصوّر البعض أنّ أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب أضافت الآية التالية :( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) .

وبهذا الشكل انتهت عملية خلق الإنسان ، وذلك بعد امتزاج روح البارئعزوجل الطاهرة مع التراب. فخلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل ، ولم توضع لرقيّة وانحطاطه أيّة حدود. الموجود الذي زوّده البارئعزوجل باستعدادات

٥٥٤

خارقة تجعله لائقا لخلافة الله ، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور اكتمال عملية خلقه( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) .

إلّا أنّ إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبّره وتمرّده وطغيانه ، ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين :( إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) .

نعم ، فالتكبّر والغرور من أقبح الأمور التي يبتلى بها الإنسان ، إذ أنّهما يسدلان الستار على عينه وبصيرته ، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها ، ويؤدّيان به إلى التمرّد والعصيان ، ويخرجانه أيضا من صفوف المؤمنين المطيعين لله إلى صفّ الكافرين الباغين والطاغين ، ذلك الصفّ الذي يترأسه إبليس ويقف في مقدّمته.

وهنا استجوب البارئعزوجل إبليس :( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) من البديهي أنّ عبارة (يدي) لا تعني الأيدي الحقيقيّة المحسوسة ، لأنّ البارئعزوجل منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم ، وإنّما «اليد» هنا كناية عن القدرة ، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل ، وكثيرا ما تستخدم اليد بهذا المعنى في محادثاتنا اليومية ، إذ يقال : إنّ البلد الفلاني بيد المجموعة الفلانية ، أو إنّ المسجد الفلاني بني على يد الشخص الفلاني ، وأحيانا يقال : إنّ يدي قصيرة ، أو إنّ يدك مملوءة ، اليد في كلّ تلك الجمل ليس المقصود منها اليد الحقيقية التي هي أحد أعضاء الجسم ، بل كناية عن القدرة والسلطة والتمكّن.

ومن هنا فإنّ الإنسان ينفّذ أعماله المهمّة بكلتا يديه ، واستخدامه كلتا يديه يبيّن اهتمامه وتعلّقه بذلك العمل ، ومجيء هذه العبارة في الآية المذكورة أعلاه إنّما هو كناية عن الاهتمام الخاصّ الذي أولاه البارئعزوجل لعملية خلق الإنسان.

ثمّ تضيف الآية :( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) أي أكان عدم سجودك لأنّك استكبرت ، أم كنت من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود؟!

٥٥٥

ومن دون أي شكّ فإنّه لا أحد يستطيع أن يدّعي أنّ قدرته ومنزلته أكبر من أن يسجد لله (أو لآدم بأمر من الله) وبهذا فإنّ الاحتمال الوحيد المتبقّي هو الثاني ، أي التكبّر.

وقال بعض المفسّرين : إنّ كلمة (عالين) تعني ـ هنا ـ الأشخاص الذين يسيرون دوما في طريق الغرور والتكبّر ، وطبقا لهذا فإنّ معنى الآية يكون : هل أنّك استكبرت الآن ، أم كنت دائما هكذا؟!

ولكن المعنى الأوّل أنسب.

إلّا أنّ إبليس اختار ـ بكلّ تعجّب ـ الشقّ الثاني ، وكان يعتقد بأنّه أعلى من أن يؤمر بذلك ، لذلك قال ـ بكلّ وقاحة ـ أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر البارئعزوجل :( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

وعلّل إبليس عدم سجوده لآدم وعصيانه أمر الله بالمقدّمات التالية :

أوّلا : إنّني خلقت من نار ، أمّا هو فقد خلق من طين ، وهذه حقيقة صرّح بها القرآن المجيد في الآيتين ١٤ و ١٥ من سورة الرحمن :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) .

ثانيا : إنّ الشيء المخلوق من النار أفضل من الشيء المخلوق من التراب ، لأنّ النار أشرف من التراب.

ثالثا : لا يحقّ لأحد أن يأمر مخلوقا بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.

وخطأ إبليس يكمن في المقدّمتين الأخيرتين ، وذلك من عدّة وجوه :

أوّلا : لأنّ آدم لم يكن ترابا فقط ، وإنّما نفخت فيه الروح الإلهية ، وهذا هو سبب عظمته ، وإلّا فأين التراب من كلّ هذا الفخر والاستعداد والتكامل؟

ثانيا : التراب ليس بأدنى من النار ، وإنّما هو أفضل منها بكثير ، لأنّ كلّ الحياة أصلها من التراب ، فالنباتات وكلّ الموجودات الحيّة بأجمعها تستمدّ غذاءها ومصدر حياتها من التراب ، وكلّ المعادن الثمينة مخفية في وسط التراب ، خلاصة

٥٥٦

الأمر أنّ التراب هو مصدر كلّ أنواع البركة ، والنار رغم أهميّتها الكبرى في الحياة فإنّها لا تبلغ أبدا أهميّة التراب ، وإنّما يستفاد منها في الوسائل الترابية ، وقد تكون أداة خطرة ومدمّرة. والأهمّ من ذلك أنّ المواد التي يستفاد منها لإشعال النيران كالحطب والفحم والنفط هي من بركة الأرض.

ثالثا : المسألة ، هي مسألة إطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها ، لأنّه خالقنا ونحن عبيده ويجب أن نطبّق أوامره.

وعلى أيّة حال ، لو أمعنا النظر في أدلّة إبليس لرأينا فيها كفرا عجيبا ، لأنّه بكلامه أراد نفي حكمة الله ، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ بالله) ، وهذا الموقف المخزي لإبليس دليل على جهله التامّ ، لأنّه لو كان قد اعترف بأنّ عدم سجوده إنّما كان لهوى هو هوى النفس ، أو أنّ غروره وتكبّره حالا بينه وبين السجود لآدم ، وما إلى ذلك لكان الأمر أهون ، إذ أنّه يكون هنا قد أقرّ بارتكاب ذنب واحد ، إلّا أنّه بكلامه هذا ولتبرير عصيانه ، عمد إلى نفي حكمة البارئعزوجل وعلمه ومعرفته ، وهذا يوضّح سقوطه إلى أدنى درجات الكفر والانحطاط.

المخلوق مقابل خالقه يفتقد الاستقلال ، إذ أنّ كلّ ما لديه هو من خالقه ، ولهجة كلام إبليس توضّح أنّه كان يريد استقلالا وحكما في مقابل حكم البارئعزوجل ، وهذا مصدر آخر من مصادر الكفر.

ويمكن القول أنّ أسباب ضلال الشيطان ، تعود إلى عدّة امور منها الغرور والتكبّر والجهل والحسد ، وهذه الصفات القبيحة اتّحدت وأسقطته إلى الحضيض بعد سنين طوال من مرافقة الملائكة ، وكأنّه كان معلّما لهم أسقطته من أوج الفخر إلى أدنى الحضيض ، وما أخطر هذه الصفات القبيحة أينما وجدت!!

وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه في نهج البلاغة : «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس

٥٥٧

يسلم على الله بمثل معصيته»(١) .

نعم ، فعمليّة بناء قصر عظيم قد تستغرق سنوات عديدة ، ولكن عملية تدميره قد لا تستغرق سوى لحظات بتفجير قنبلة قويّة.

وهنا وجب إخراج هذا الموجود الخبيث من صفوف الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي ، فخاطبه البارئعزوجل بالقول :( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) .

الضمير (منها) في عبارة( فَاخْرُجْ مِنْها ) إمّا أنّه إشارة إلى صفوف الملائكة ، أو إلى العوالم العلويّة ، أو إلى الجنّة ، أو إلى رحمة الله.

نعم ، فيجب إخراج هذا الخبيث من هنا ، فهذا المكان مكان الطاهرين والمقرّبين ، وليس بمكان المذنبين والعاصين ذوي القلوب المظلمة.

«رجيم» من (رجم) ، وبما أنّ لازمها الطرد ، فقد وردت بهذا المعنى هنا.

ثمّ أضاف البارئعزوجل :( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) فأنت خارج ومطرود من رحمتي إلى الأبد.

المهمّ انّ الإنسان عند ما يرى النتائج الوخيمة لأعماله السيّئة عليه أن يستيقظ من غفلته ، وأن يفكّر في كيفية إصلاح ذلك الخطأ ، ولا شيء أخطر من بقاءه راكبا لموج الغرور واللجاجة واستمراره في السير نحو حافّة الهاوية ، لأنّه في كلّ لحظة يبتعد أكثر عن الصراط المستقيم ، وهذا هو نفس المصير المشؤوم الذي وصل إليه إبليس.

وهنا تحوّل (الحسد) إلى (عداء) ، العداء الشديد والمتأصّل ، كما قال القرآن :( قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .

هذه الآية تبيّن أنّ الشيطان طلب من الله سبحانه وتعالى أن يمهله ، فهل طلب أن يمهله ليسكب عبرات الحسرة والندامة على ما فعله من قبل ، أم أنّه طلب مهلة لإصلاح عصيانه القبيح؟

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ (الخطبة القاصعة).

٥٥٨

كلّا ، إنّه طلب من البارئعزوجل أن يمهله إلى يوم يبعثون كي ينتقم من أبناء آدمعليه‌السلام ويدفعهم جميعا إلى طريق الضلال ، رغم علمه بأنّ إضلاله لكلّ إنسان سوف يضيف لذنوبه حملا ثقيلا جديدا من الذنوب ، ويغرقه في مستنقع الكفر والعصيان ، كلّ ذلك بسبب اللجاجة والتكبّر والغرور والحسد ، فما أكثر المصائب التي تتولّد للإنسان من هذه الصفات الذميمة.

وفي الحقيقة ، إنّه كان يريد الاستمرار في إغواء بني آدم حتّى آخر فرصة متاحة له ، لأنّ في يوم البعث تسقط التكاليف عن الإنسان ، ولا معنى هناك للوساوس والإغواءات ، إضافة إلى هذا فقد طلب من اللهعزوجل أن يبقيه حيّا إلى يوم القيامة ، رغم أنّ كلّ الموجودين في العالم يموتون في هذه الدنيا.

وهنا اقتضت مشيئة الله سبحانه ـ بدلائل سنشير إليها ـ أن يستجيب الله لطلب إبليس ، ولكن هذه الاستجابة كانت مشروطة وليست مطلقة ، كما توضّحه الآية التالية :( قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) .

ولكن ليس إلى يوم البعث الذي تبعث فيه الخلائق ، وإنّما إلى زمان معلوم ، قال تعالى :( إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) .

وهنا أعطى المفسّرون آراء مختلفة بشأن تفسير( يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) حيث قال البعض : إنّه يوم نهاية العالم ، لأنّ كلّ الموجودات الحيّة من ذلك اليوم تموت ، وتبقى ذات الله المقدّسة فقط ، كما ورد في الآية (٨٨) من سورة القصص :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) وبهذا الشكل فقد استجيب لجزء من مطالب إبليس.

والبعض الآخر قال : إنّ ذلك اليوم هو يوم القيامة ، ولكن هذا الاحتمال لا يتلاءم مع ظاهر آيات بحثنا التي يتّضح منها أنّ البارئعزوجل لم يستجب لكلّ مطاليبه ، كما أنّ هذا الاحتمال لا يتلاءم حتّى مع بقيّة آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن موت الجميع مع نهاية هذا العالم.

وقال البعض : إنّ هذه الآية يحتمل أنّها تشير إلى زمان لا يعرفه أحد سوى الله

٥٥٩

سبحانه وتعالى.

ولكن التّفسير الأوّل أنسب من بقيّة التفاسير ، وقد وردت رواية في تفسير البرهان نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، وتقول بأنّ إبليس يموت في الفترة ما بين النفخة الاولى والثانية(١) .

هنا كشف إبليس عمّا كان يضمره في داخله ، وعن الهدف الحقيقي لطلبه البقاء خالدا إلى زمن معيّن إذ :( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

القسم بالعزّة يراد منه الاستناد على القدرة والاستطاعة ، والتأكيدات المتتالية في الآية (القسم من جهة ، ونون التوكيد الثقيلة من جهة اخرى ، وكلمة أجمعين من جهة ثالثة) تبيّن أنّه مصمّم بصورة جديّة على المضي في عمله ، وأنّه سيبقى إلى آخر لحظة من عمره ثابتا على عهده بإغواء بني آدم.

وبعد قسمه انتبه إبليس إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هناك مجموعة من عباد الله المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه ، لذلك أجبر على الاعتراف بعجزه في كسب أولئك فقال :( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

أولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص وصفاء ، إنّك دعوتهم إليك ، وأخلصتهم لك ، وجعلتهم في منطقة أمنك ، وهذه هي المجموعة الوحيدة التي لا أتمكّن من الوصول إليها ، أمّا البقيّة فإنّ بإمكاني إيقاعهم في شباكي.

حدس وظنّ إبليس كان صحيحا ، إذ أنّه أوجد العراقيل لكلّ واحد من بني آدم عدا المخلصين الذين نجوا من فخاخه وذلك ما أكّده القرآن المجيد في الآية (٢٠) من سورة سبأ :( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٢ ، الصفحة ٣٤٢.

٥٦٠