الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 146480
تحميل: 3281


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146480 / تحميل: 3281
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

الآيات

( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) )

التّفسير

الوعد بنصر المؤمنين :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن تحاجج أهل النّار وعجزهم عن أن ينصر أحدهم الآخر ، وبعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون وحماية الله له من كيد فرعون وآل فرعون ، عادت هذه المجموعة من الآيات البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء الله ورسله وللذين آمنوا ، في هذه الدنيا وفي الآخرة.

إنّها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا

٢٨١

وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

إنّها الحماية المؤكّدة بأنواع التأكيد ، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط ، والتي يستتبعها الفوز والنصر ، النصر في المنطق والبيان ، وفي الحرب والميدان ، وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين ، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشد الأرواح ويجذبها إلى بارئها جلّ وعلا.

إنّ الآية تواجهنا باسم جديد ليوم القيامة هو :( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

«أشهاد» جمع «شاهد» أو «شهيد» (مثل ما أنّ أصحاب جمع صاحب ، وأشراف جمع شريف) وهي تعني الذي يشهد على شيء ما.

لقد ذكرت مجموعة من الآراء حول المقصود بالأشهاد ، نستطيع اجمالها بما يلي :

١ ـ الأشهاد هم الملائكة الذين يراقبون أعمال الإنسان.

٢ ـ هم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم.

٣ ـ هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.

أمّا احتمال أن تدخل أعضاء الإنسان ضمن هذا المعنى ، فهو أمر غير وارد ، بالرغم من شمولية مصطلح «الأشهاد» لأنّ تعبير( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) لا يتناسب وهذا الاحتمال.

إنّ التعبير يشير إلى معنى لطيف ، حيث يريد أن يقول أنّ :( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) الذي تنبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالى ، وتنكشف السرائر والأسرار لكافة الخلائق ، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون ، ويكون الإنتصار فيه أروع ما يكون إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في كرامتهم.

إنّ يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين ، هو :( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) .

٢٨٢

فمن جهة هو يوم لا تنفع المعذرة فيه ، ولا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد.

ومن جهة اخرى هو يوم تشمل اللعنة الإلهية فيه الظالمين ، واللعنة هنا البعد عن الرحمة.

ومن جهة ثالثة هو يوم ينزل فيه العذاب الجسماني على الظالمين ، ويوضعون في أسوأ مكان من نار جهنم.

سؤال :

إنّ الآية تفتح المجال واسعا للسؤال التالي ، : إذا كان الله (تبارك وتعالى) قد وعد حتما بانتصار الأنبياء والمؤمنين ، فلما ذا نشاهد ، ـ على طول التأريخ ـ مقتل مجموعة من الأنبياء والمؤمنين على أيدي الكفار؟ ولماذا ينزل بهم الضيق والشدة من قبل أعداء الله ، ثمّ لماذا تلحق بهم الهزيمة العسكرية؟ وهل يكون ذلك نقضا للوعد الإلهي الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؟

الجواب على كلّ هذه الأسئلة المتشعبة يتضح من خلال ملاحظة واحدة هي : إن أكثر الناس ضحية المقاييس المحدودة فى تقييم مفهوم النصر ، إذ يعتبرون الإنتصار يتمثل فقط في قدرة الإنسان على دحر عدوه ، أو السيطرة على الحكم لفترة وجيزة!

إنّ مثل هؤلاء لا يرون أي اعتبار لانتصار الهدف وتقدم الغاية ، أو تفوق وانتشار المذهب والفكرة ، هؤلاء لا ينظرون إلى قيمة المجاهد الشهيد الذي يتحول إلى نموذج وقدوة في حياة الناس وعلى مدى الأجيال. ولا ينظرون إلى القيمة الكبرى التي يستبطنها مفهوم العزة والكرامة والرفعة التي ينادي بها أحرار البشر والقرب من الله تعالى ونيل رضاه.

وبديهي إنّ الانحباس في إطار هذا التقييم المحدود يجعل من العسير الجواب

٢٨٣

على ذلك الاشكال ، أما الانطلاق إلى أفق المعاني الواسعة الوضّاءة لمفهوم النصر الإلهي والأخذ بنظر الاعتبار القيم الواقعية للنصر سيؤدي بنا الى معرفة المعنى العميق للآية.

ثمّة كلام لطيف لسيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» يناسب هذا المقام ، إذ يورد فيه ذكرى بطل كربلاء الإمام الحسينعليه‌السلام كمثال على المعنى الواسع لمفهوم النصر فيقول : «... والحسين ـ رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب ، أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف وتهفوا له القلوب وتجيش بالغير والفداء كالحسين رضوان الله عليه ، يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين»(١) .

وينبغي أن نضيف إلى هذا الكلام أن شيعة أهل البيتعليهم‌السلام يشاهدون كل يوم بأعينهم آثار الخير من حياة سيّد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويلمسون آثار استشهاده واستشهاد صحبه البررة من أهل بيته وأصحابه ؛ إن مجالس العزاء التي تقام للحديث عن مناقب الحسين وصحبه الكرام هي ينبوع الخير لحركة عظيمة ثرّة ما زال عطاؤها لم ولن ينضب!

لقد شاهدنا بأعيننا ومن خلال النموذج الثوري الذي شهدته أرض إيران المسلمة ، كيف استطاع الملايين من أبناء الإسلام أن يتحركوا في أيّام عاشوراء للقضاء على الظلم والطغيان والاستكبار.

لقد شاهدنا بأعيننا كيف استطاع هذا الجيل المضحي الذي تربى في مدرسة أبي الشهداء الحسينعليه‌السلام وتغذى ممّا تدره مجالس عزائه ، أن يحطّم بأيد خالية عرش أقوى السلاطين الجبّارين.

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

٢٨٤

نعم ، لقد شاهدنا دم الحسين الشهيد وقد سرى في العروق عزة وحركة وانتفاضة ، وغيرت الحسابات السياسية والعسكرية للدول الكبرى.

بعد كلّ ذلك ، ومع كلّ العطاء الثر الهادي الذي استمدته كلّ الأجيال ـ خلال التأريخ ـ من ذكرى الطف وسيّد الشهداء ، ألا يعتبر الحسينعليه‌السلام منتصرا حتى باتت آثار نصره الظافر حاضرة فينا بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عشر قرنا على استشهاده!؟

سؤال آخر

ثمة سؤال آخر يتبلور من المقابلة بين الآية التي بين أيدينا والآية (٣٦) من سورة «المرسلات» إذ نقرأ الآية التي نحن بصددها أنّ اعتذار الظالمين لا يؤثر ولا ينفعهم يوم القيامة ، فيما تنص الآية من سورة المرسلات على أنّه لا يسمح لهم بالاعتذار أصلا ، حيث قوله تعالى :( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) فكيف يا ترى نوفّق بين الإثنين؟

قبل الإجابة ينبغي الانتباه إلى ملاحظتين :

الأولى : أنّ ليوم القيامة مواقف معينة تختلف شرائطها ، ففي بعضها يتوقف اللسان عن العمل وتنطق الأرجل والأيدي والجوارح ، وتقوم بالشهادة على عمل الإنسان. وفي مواقف اخرى ينطلق اللسان بالنطق والكلام (كما تحكي ذلك الآية ٦٥ من سورة «يس» والآيات السابقة في هذه السورة التي تحدث عن تحاجج أهل النّار).

بناء على هذا ، فلا مانع من عدم السماح لهم بالاعتذار في بعض المواقف ، في حين يسمح لهم في مواقف اخرى ، وإن كان الاعتذار لا يجدي شيئا ولا يغير من المصير.

الملاحظة الثانية : إنّ الإنسان يتحدث في بعض الأحيان بكلام لا فائدة منه ،

٢٨٥

ففي مثل هذه الموارد يكون الشخص كمن لم يتكلّم أصلا. بناء على هذا يمكن أن تكون الآية الدالة على عدم السماح لهم بالاعتذار تقع وفق هذا المعنى ، أي أنّ اعتذارهم برغم خروجه من أفواههم ، إلّا أنّه لا فائدة ترجى منه.

تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي انتصر فيها الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الربّاني لهم ، فتتحدث عن النّبي الكليمعليه‌السلام :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) .

إنّ هداية الله لموسى تنطوي على معاني واسعة إذ تشمل مقام النبوة والوحي ، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز التي وقعت على يديهعليه‌السلام أثناء تنفيذه لرسالات ربّه وتبليغه إيّاها.

إن استخدام كلمة «ميراث» بالنسبة إلى التوراة يعود إلى أنّ بني إسرائيل توارثوه جيلا بعد جيل ، وكان بإمكانهم الاستفادة منه بدون مشقة ، تماما مثل الميراث الذي يصل إلى الإنسان بدون عناء وتعب ، ولكنّهم فرّطوا بهذا الميراث الإلهي الكبير.

الآية التي بعدها تضيف :( هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) (١) .

الفرق بين «الهداية» و «الذكرى» أنّ الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته ، أما التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بأمور سمعها مسبقا وآمن بها لكنّه نسيها.

وبعبارة اخرى : إنّ الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية انطلاقة الإنسان ، وترافقه في أشواط حياته تبث من نورها وهداها عليه.

ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم «أولو الألباب» وأصحاب العقل ، وليس الجهلة والمعاندون المتعصبون.

الآية الاخيرة ـ من المقطع الذي بين أيدينا ـ تنطوي على وصايا وتعليمات

__________________

(١) يمكن أن تكون «هدى وذكرى» مفعولا لأجله أو مصدرا بمعنى الحال ، أي (هاديا ومذكرا لأولى الألباب) لكن البعض احتمل أن تكون بدلا أو خيرا لمبتدأ محذوف ، إلّا أن ذلك غير مناسب كما يبدو.

٢٨٦

مهمّة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع ، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول تعالى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) .

عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.

عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف ، وتتحمل أحيانا أذاهم وتخاذلهم.

وعليك أيضا أن تصبر إزاء العواطف النفسية.

إنّ سر انتصارك في جميع الأمور يقوم على أساس الصبر والاستقامة.

ثم اعلم أنّ وعد الله بنصرك وأمتك لا يمكن التخلف عنه ، وإيمانك ـ وإيمانهم ـ بحقانية الوعد الإلهي يجعلك مطمئنا ومستقيما في عملك ، فتهون الصعاب عليك وعلى المؤمنين.

لقد أمر الله تعالى رسوله مرّات عديدة بالصبر ، والأمر بالصبر جاء مطلقا في بعض الموارد ، كما في الآية التي بصددها ، وجاء مقيدا في موارد اخرى ويختص بأمر معين ، كما في الآيتين (٣٩ ـ ٤٠) من سورة «ق» :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) .

وكذلك يخاطبه تعالى فى الآية (٢٨) من سورة الكهف بقوله تعالى :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

إنّ جميع انتصارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والاستقامة واليوم لا بدّ أن نسير على خطى رسول الله ، ونصبر كما صبر الرّسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.

الفقرة الأخرى من التعليمات الربانية تقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) .

واضح أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم لم يرتكب ذنبا ولا معصية ، لكنّا قد أشرنا

٢٨٧

في غير هذا المكان إلى أنّ أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم ، والتي تشمل في خطابها الرّسول الأكرم وسائر الأنبياء ، إنّما تشمل ما نستطيع تسميته بـ «الذنوب النسبية» لأنّ من الأعمال ما هو عبادة وحسنة بالنسبة للناس العاديين ، بينما هي ذنب للرسل والأنبياء لأنّ : (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

فالغفلة ـ مثلا ـ لا تليق بمقامهم ، ولو لحظة واحدة. وكذلك الحال بالنسبة لترك الأولى ، إذ أن منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تتوجب أن يحذروا هذه الأمور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.

وما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود بالذنوب هي ذنوب المجتمع ، أو ذنوب الآخرين التي ارتكبوها بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أنّ الاستغفار تعبدي فهو بعيد.

الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ) .

«العشي» فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس ، أما «الإبكار» فهو ما بين الطلوعين.

ويمكن أن تطلق لفظتا (العشي والإبكار) على الوقت المعيّن بالعصر والصباح ، حيث يكون الإنسان مهيأ للحمد وتسبيح خالقه تبارك وتعالى بسبب عدم شروعه بعد بعمله اليومي ، أو أنّه قد انتهى منه.

وقد اعتبر البعض أنّ هذا الحمد والتسبيح إشارة إلى صلاة الصبح والعصر ، أو الصلوات اليومية الخمس ، في حين أنّ ظاهر الآية ينطوي على مفهوم أوسع من ذلك الصلوات هي إحدى مصاديقها.

في كلّ الأحوال تعتبر التعليمات الثلاث الآنفة الذكر شاملة بناء الإنسان وإعداده للرقي في ظل اللطف والرعاية الإلهية ، وهي إلى ذلك زاده في سيره للوصول نحو الأهداف الكبيرة.

فهناك أولا ـ وقبل كلّ شيء ـ التحمّل والصبر على الشدائد

٢٨٨

والصعوبات ، ثمّ تطهير النفس من آثار الذنوب. وأخيرا تكليل كلّ ذلك بذكر الله ، حيث تسبيحه وحمده يعني تنزيهه من كلّ عيب ونقص ، وحمده فوق كلّ حسن وكمال.

إنّ الحمد والتسبيح الذي يكون لله تعالى يؤثر في قلب الإنسان ويطهره من جميع العيوب ، ومن سيئات الغفلة واللهو ، ويجعله يتصف باليقظة والكمال.

٢٨٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) )

التّفسير

ما يستوي الأعمى والبصير!

دعت الآيات السابقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الصبر والاستقامة أمام المعارضين وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية ، والآيات التي نحن بصددها تذكر سبب مجادلتهم للحق.

يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي

٢٩٠

صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ) .

«المجادلة» ـ كما أشرنا سابقا ـ تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير منطقية ، وإن كانت تشمل أحيانا في معناها الواسع الحق والباطل.

أما قوله تعالى :( بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ) فهي للتأكيد على ما يستفاد من معنى المجادلة حيث تعني «سلطان» الدليل والبرهان الذي يكون سببا لهيمنة الإنسان على خصمه.

أما «آتاهم» فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى الله بها إلى أنبيائهعليهم‌السلام ، ولا ريب أنّ الوحي هو أفضل الطرق وأكثرها اطمئنانا لإثبات الحقائق.

أما المقصود بـ «آيات الله» التي كانوا يجادلون فيها ، فهي معجزات وآيات القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد ، حيث كانوا يعتبرونها سحرا ، أو أنّها علامات الجنون ، أو أساطير الأولين!

من ذلك يتبيّن أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى التعالي والغرور والتكبر عن الانصياع إلى الحق ، لذلك كانوا يرون أنّ أفكار الآخرين وعقائدهم باطلة وأن عقائدهم وأفكارهم حقّة!

تشير كلمة (إن) إلى أنّ السبب الوحيد لعنادهم في هذه الموارد هو الغرور والتكبّر ، وإلّا كيف يصرّ الإنسان على كلامه وموقفه دون دليل أو برهان.

«الصدور» تشير هنا إلى القلوب ، والمقصود بالقلب هو الفكر والروح ، حيث ورد هذا المعنى مرّات عدّة في آيات الكتاب المبين.

أمّا كلمة (كبر) في الآية فقد فسّرها بعض المفسّرين بالحسد.

وبذلك اعتبر هؤلاء أن سبب مجادلتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حسدهم له ولمنزلته ومقامه المعنوي الظاهري.

لكن «كبر» لا تعني في اللغة المعنى الآنف الذكر ، لكنّه يمكن أن يلازمها ، لأنّ

٢٩١

من يتكبّر يحسد ، إذ لا يرى المتكبّر المواهب إلّا لنفسه ، ويتألم إذا انصرفت لغيره حسدا منه وجهلا.

ثم تضيف الآية :( ما هُمْ بِبالِغِيهِ ) .

إنّ هدفهم أن يروا أنفسهم كبارا ، يفاخرون بذلك ويفتخرون على غيرهم ، لكنّهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران ، ولن يصلوا بطريق التكبر والغرور والعلو والمجادلة بالباطل إلى ما يبتغونه(١) .

في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يستعيذ بالله من شر هؤلاء المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم ، حيث يقول تعالى :( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

فهو ـ تعالى ـ يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية ، وينظر إلى مؤامراتهم وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.

والاستعاذة بالله لا تنبغي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده وحسب ، وإنّما تجب على كل السائرين في طريق الحق عند ما تتعاظم الحوادث ويستعر الصدام مع المتكبرين عدمي المنطق!

لذلك نرى استعاذة يوسفعليه‌السلام عند ما تواجهه العاصفة الشديدة المتمثلة بشهوة «زليخا» يقول :( مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) فكيف أخون عزيز مصر الذي أكرمني وأحسن وفادتي.

وفي آيات سابقة من نفس هذه السورة نقرأ أنّ كليم الله موسىعليه‌السلام قال :( إِنِّي

__________________

(١) ثمة بين المفسرين كلام حول مرجع الضمير في قوله : «بالغيه» أشهره قولان.

الأول : أن يعود الضمير إلى «كبر» وتكون «ما هم ببالغيه» جملة وصفية لـ (كبر) ويكون المعنى هكذا : إنهم لا يصلون إلى مقتضى وهدف تكبرهم (في الواقع حذف هنا المضاف والتقدير «ما هم ببالغي مقتضى كبرهم»).

الثاني : أن يعود الضمير إلى «جدال» الذي يستفاد من جملة «يجادلون» والمعنى أنهم لن يصلوا إلى هدف جدالهم المتمثل بإبطال الحق. ولكن في هذه الحالة لا تستطيع أن نقول : إن الجملة صفة (كبر) بل ينبغي أن نعطفها على ما سبقها مع حذف العاطف.

٢٩٢

عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) (١) .

إنّ قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته ، تعتبر من أكثر القضايا التي يجادل فيها الكفار ، ويعاندون بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك تنتقل الآية التالية إلى التذكير بهذه القضية ، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر ، إذ يقول تعالى :( لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إنّ خالق هذه المجرّات العظيمة ومدبّرها يستطيع ـ بصورة أولى ـ أن يحيي الموتى ، وإلّا كيف يتسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟

إنّ هذا المنطق يعبّر عن جهل هؤلاء الذين لا يستطيعون إدراك هذه الحقائق الكبرى!

أغلب المفسّرين اعتبر هذه الآية ردّا على مجادلة المشركين بشأن قضية المعاد ، بينما احتمل البعض أنّها رد على كبر المتكبرين والمغرورين الذين كانوا يتصورون أن ذواتهم وأفكارهم عظيمة غير قابلة للردّ أو النقض ، في حين آنها تافهة بالقياس إلى عظمة عالم الوجود(٢) .

هذا المعنى غير مستبعد ، ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار الآيات التي بعدها يكون المعنى الأوّل أفضل.

لقد تضمنت الآية الكريمة سببا آخر من أسباب المجادلة متمثلا بـ «الجهل» في حين طرحت الآيات السابقة عامل «الكبر». والعاملان يرتبطان مع بعضهما ، لأن أصل وأساس «الكبر» هو «الجهل» وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره ، ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.

الآية التي بعدها ، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال

__________________

(١) المؤمن ـ ٢٧.

(٢) يلاحظ الرأي الأوّل في مجمع البيان ، تفسير الفخر الرازي ، الكشاف ، روح المعاني ، الصافي وروح البيان.

٢٩٣

المتكبرين الجهلة إزاء المؤمنين الواعين ، حيث يقول :( وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ) (١) .

إلّا أنكم بسبب جهلكم وتكبركم :( قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ ) (٢) .

إنّ المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم ، وبذلك فهم يعرفون قدر أنفسهم ومعرفتهم وموقعهم ، إلّا أنّ الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به. لذلك فهو يخطئ دائما في تقييم أبعاد وجوده ، ويصاب بالكبر والغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح وسيّء.

ونستفيد أيضا من خلال ارتباط الجملتين ببعضهما البعض أنّ الإيمان والعمل الصالح ينوّر بصائر القلب والفكر بنور المعرفة والتواضع والاستقرار ، بعكس الكفر والعمل الطالح الذي يجعل الإنسان أعمى فاقدا لبصيرته ، مشوّها في رؤيته للأشياء والمقاييس.

الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرض إلى وقوع القيامة وقيام الساعة حيث يقول تعالى :( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) .

«إن» و «اللام» في (لاتية) وجملة (لا ريب فيها) كلها للتأكيد المكرّر الذي يستهدف تأكيد المضمون والمعنى المراد ، وهو قيام القيامة.

لقد عالجت الرؤية القرآنية قضية القيامة في أكثر من مكان ومورد ، بمختلف الأدلة ووسائل الإقناع ، ذلك نرى بعض الآيات تذكر قيام الساعة والقيامة بدون مقدمات أو دليل ، مكتفية بما ورد من أدلة ومقدمات في أماكن اخرى من الكتاب

__________________

(١) النظرة الأولية في الآية قد لا توجب معنى لـ «لا النافية» في قوله تعالى :( وَلَا الْمُسِيءُ ) ولكن تأكيد النفي من ناحية ، وتجلية المقصود من الجملة من ناحية ثانية ، أوجب تكرار النفي ، مضافا إلى أن طول الجملة قد يؤدي إلى نسيان الإنسان للنفي الأول ، الأمر الذي يوجب التكرار.

(٢) «ما» في قوله تعالى :( قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ ) زائدة ، وهي للتأكيد.

٢٩٤

المبين.

«الساعة» كما يقول «الراغب» في «المفردات» هي بمعنى : أجزاء من أجزاء الزمان.

إنّ الإشارة التي يطويها هذا الاستخدام لكلمة (الساعة) يشير إلى السرعة الّتي يتم فيها محاسبة الناس هناك.

لقد استخدمت الكلمة عشرات المرّات في القرآن الكريم ، لتدل بشكل عام على المعنى الآنف الذكر ، لكنّها نعني في بعض الأحيان نفس القيامة ، فيما تعني في أحيان اخرى الإشارة إلى انتهاء العالم ومقدمات البعث والنشور. وبسبب من الارتباط القائم بين الحدثين والقضيتين ، وأنّ كلاهما يحدث بشكل مفاجئ ، لذا تمّ استخدام كلمة «الساعة». (يمكن للقارىء الكريم أن يعود إلى بحث مفصل حول «الساعة» في تفسير سورة الروم).

أما سبب القول : بـ( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) فلا يعود إلى أن قيام القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة ، بل ثمّة ميل في الإنسان نحو «الحرية» في الاستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذات الدنيا وشهواتها ، بالإضافة إلى الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة ، ويغفل عن التفكير بالقيامة ، أو الاستعداد لها.

* * *

ملاحظة

اليهود المغرورون :

لقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الأولى ـ من مجموعة الآيات التي بين أيدينا ـ بحثا مفاده أن اليهود كانوا يقولون : سيخرج المسيح الدجال فنعينه على محمّد وأصحابه ونستريح منهم ، ونعيد الملك إلينا (مجمع البيان ـ الجزء

٢٩٥

الثامن ـ صفحة (٨٢٢) طبعة دار المعرفة).

يمكن أن يشمل هذا السبب فيما يتضمّن من ادعاءات اليهود معنيين : الأول : أنّهم أرادوا أن ينتصر المسيح على الدّجال ، من خلال ادعائهم أنّ «المسيح المنتظر» هو منهم وتطبيق الدجّال ، والعياذ بالله ، على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أو أنّهم كانوا حقا في انتظار الدجّال الذي كانوا يعتبرونه من أنفسهم.

ذلك أنّ المسيح وكما ذكر «الراغب» في «المفردات» وابن منظور في «لسان العرب» تطلق على «عيسى»عليه‌السلام بسبب سيره وسياحته في الأرض ، أو بسبب شفائه للمرضى بأمر الله عند ما كان يمسح بيده عليهم. وكانت تطلق أيضا على «الدجال» لأنّ الدجال له عين واحدة ، بينما كان مكان العين الأخرى ممسوحا.

ويحتمل أن يكون اليهود ينتظرون خروج الدجال ليتعاونوا معه في دحر المسلمين الذين هزموهم مرات عديدة ممّا أثار غضبهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد يكونوا في انتظار المسيح ، كما يستفاد من قاموس الكتاب المقدس حيث يظهر أنّ المسيحيين واليهود ينتظرون خروج المسيح ، لأنّهم يعتقدون بأنّ المسيح سيحارب الدجال ويقضي عليه. لذلك أرادوا تطبيق هذا المعنى على ظهور الإسلام.

وقد استنتج بعض المفسّرين من سبب نزول هذه الآية على أنّها مدنية دون غيرها من آيات السورة المكية. ولكن عدم ثبوت سبب النّزول ، كما أن عدم وضوح مفاد الآية وإبهامها تستوجب ضعف هذا الاستنتاج.

* * *

٢٩٦

الآيات

( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) )

التّفسير

ادعوني أستجب لكم :

لقد تضمنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من المتكبرين والمغرورين ، المجموعة التي بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض حبّا إليها ولطفا ، وتنتجس بالرحمة الشاملة للتائبين.

يقول تعالى أولا :( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) .

لقد فسّر الكثير من المفسّرين «الدعاء» بمعناه المعروف ، وما يؤكّد ذلك هو جملة «استجب لكم» بالإضافة إلى ما تفيده الروايات العديدة الواردة بخصوص

٢٩٧

هذه الآية وثواب الدعاء ، والتي سنشير إلى بعض منها فيما بعد.

ولكن بعض المفسّرين تبع (ابن عباس) في رأيه بأن الدعاء هنا بمعنى التوحيد وعبادة الخالق جلّ وعلا ، أي «اعبدوني واعترفوا بوحدانيتي» إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأظهر.

ونستفيد من الآية أعلاه مجموعة ملاحظات هي :

١ ـ أنّ الله يحب الدعاء ويريده ويأمر به.

٢ ـ لقد وعد الله بإجابة الدعاء ، لكن هذا الوعد مشروط وليس مطلقا. فالدعاء واجب الإجابة هو ما اجتمعت فيه الشروط اللازمة للدعاء والداعي وموضوع الدعاء.

وفي هذا الإطار شرحنا ما يتعلق بهذا الموضوع في تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

٣ ـ الدعاء في نفسه نوع من العبادة ، لأنّ الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة على الدعاء.

تتضمّن الآية في نهايتها تهديدا قويا للذين يستنكفون عن الدعاء ، حث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (١) .

* * *

أهمية الدعاء وشروط الاستجابة

ثمّة تأكيد كبير على أهمية الدعاء في الروايات المنقولة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام :

١ ـ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الدعاء هو العبادة»(٢) .

__________________

(١) داخر من «دخور» وتعني الذلة ، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبّر والاستعلاء.

(٢) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢٨.

٢٩٨

٢ ـ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه سئل : ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعا ، كان أحدهما أكثر صلاة ، والآخر دعاء فأيهما أفضل؟ قال «كلّ حسن».

لكن السائل عاد وسأل الإمامعليه‌السلام : قد علمت ، ولكن أيهما أفضل؟ أجاب الإمامعليه‌السلام : «أكثرهما دعاء ، أما تسمع قول الله تعالى :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) . ثمّ أضاف بعد ذلك : «هي العبادة الكبرى»(١) .

٣ ـ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه أجاب عن أفضل العبادات بقوله : «ما من شيء أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب ممّا عنده ، وما أحد أبغض إلى اللهعزوجل ممن يستكبر عن عبادته ، ولا يسأل ما عنده»(٢) .

٤ ـ في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق أنّهعليه‌السلام قال : «إنّ عند اللهعزوجل منزلة لا تنال إلّا بمسألة ، ولو أنّ عبدا سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئاه فاسأل تعط ، إنّه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه»(٣) .

٥ ـ لقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الدعاء أفضل حتى من تلاوة القرآن ، كما أشار إلى ذلك الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفيداه من أئمة المسلمين الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، حيث قالوا : «الدعاء أفضل من قراءة القرآن»(٤) . وفي نطاق تحليل قصير نستطيع أن ندرك عمق مفاد هذه الأحاديث ، فالدعاء يقول الإنسان من جانب إلى معرفة الله تبارك وتعالى ، وهذه المعرفة هي أفضل رصيد للإنسان في وجوده.

ومن جانب آخر يدفع الدعاء الإنسان إلى الإحساس العميق بالفقر والخضوع

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢٩.

(٢) الكافي ، مجلد ٢ ، باب : فضل الدعاء والحث عليه. صفحة ٣٣٨.

(٣) الكافي ، المجلد الثّاني ، (باب فضل الدعاء والحث عليه) ص : ٣٣٨.

(٤) مكارم الأخلاق ، طبقا للميزان ، المجلد ٢ ، ص ٣٤.

٢٩٩

تجاه خالقه جلّ وعلا ويبعده عن التعالي والغرور اللذين يعدّان الأرضيه المناسبة للمجادلة في آيات الله والانحراف عن جادة الصواب والوقوع في المهالك.

من جانب ثالث يعمق الدعاء لدى الإنسان الشعور بأنّه جلّ وعلا منبع النعم ومصدره ويدفعه إلى العشق والارتباط العاطفي مع الله جلّ جلاله.

ومن جانب رابع يشعر الإنسان بالحاجة الى الله تعالى وانه رهين نعمته ، ولذلك فهو موظف بطاعته وتنفيذ أوامره ، ويرهف إحساسه بالعبودية لله تعالى.

وخامس بما أنّه يعلم أنّه للإجابة شروطها ، ومن شروطها خلوص النية ، وصفاء القلب ، والتوبة من الذنوب ، وقضاء حوائج المحتاجين ، والسعي في مسائل الناس من الأقرباء والأصدقاء وغيرهم ، فلذلك يهتم ببناء الذات وإصلاح النفس وتربيتها.

وسادس يركّز الدعاء في نفس الإنسان الداعي عوامل المنعة والإرادة والثقة ، ويجعله أبعد الناس عن اليأس والقنوط أو التسليم للعجز (وقد تحدثنا عن الدعاء وفلسفته وشرائطه ذيل الآيات ٧٧ من سورة الفرقان).

ثمّة ملاحظة مهمّة هنا ، هي أن الدعاء لا يلغي بذل الوسع والجهد من قبل الإنسان ، وإنّما حسبما تفيد الروايات والأحاديث في هذا الشأن ـ على الإنسان أن يسعى ويبذل ويجهد ، ويترك الباقي على الله تعالى. لذا لو جعل الإنسان الدعاء بديلا عن العمل والجهد فسوف لا يجاب إلى مطلبه حتما.

لذلك نقرأ في حديث عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «أربعة لا تستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالطلب؟. ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالاقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقال له : ألم آمرك

٣٠٠