الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 146435
تحميل: 3276


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146435 / تحميل: 3276
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

ويوجد احتمال آخر ، وهو أنّ المراد من تسخير الشمس والقمر هو تسخيرها للإنسان بإذن الله ، كما ورد في الآية (٣٣) من سورة إبراهيم :( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) . ولكن بالالتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في هذه الآية مورد البحث ، إضافة إلى عدم ورود كلمة (لكم) في الآية ، يجعل التّفسير المذكور أعلاه مستبعدا بعض الشيء.

نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول :( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) فبحكم عزّته وقدرته المطلقة لا يمكن لأيّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه ، وبمقتضى كونه الغفّار ، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين ، ويظلمهم بظلّ رحمته.

«غفار» صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس الإنسان لشيء يقيه من التلوّث ، وعند ما تستخدم بشأن الباري ،عزوجل فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عبادة النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه ، نعم فهو (غفار) في أوج عزته وقدرته ، وهو (قهار) في أوج رحمته وغفرانه ، والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية ، هو إيجاد حالة من «الخوف» و «الرجاء» عند العباد ، وهما عاملان رئيسيان وراء كلّ تحرك نحو الكمال.

* * *

٢١

الآيتان

( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) )

التّفسير

الجميع مخلوقون من نفس واحدة :

مرّة اخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله ، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.

في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول :( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) .

٢٢

خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر ، إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدمعليه‌السلام .

وعبارة :( ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) (١) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية ، ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته.

وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم ، وقبل خلق أبناء آدم.

عبارة (ثمّ) لا تأتي دائما كتأخير للزمان ، وإنّما تأتي أحيانا كتأخير للبيان ، فمثلا يقال : رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس ، في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم ، ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم.

والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذّر) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح ، هذا التّفسير غير صحيح ، وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح «عالم الذّر» في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف.

وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدمعليه‌السلام لم تخلق من أي جزء منه ، وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها ، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية ، وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر ، فإنّه كلام خاطئ مأخوذ من بعض الرّوايات الإسرائيلية ، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة (سفر التكوين) المحرّف ، إضافة إلى كونه مخالفا للواقع والعقل ، إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء ، ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر ، في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل ، وهذا الاختلاف ليس أكثر من خرافة.

بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمّن للإنسان

__________________

(١) في قوله تعالى :( ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها ، ثمّ جعل منها زوجها).

٢٣

ضروريات الحياة ، حيث يستفيد من جلودها لملابسه ، ومن حليبها ولحمه الغذائه ، ومن جهة أخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدّة أمور يستفيد منها في حياته ، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله :( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكلّ من الإبل والبقر والضأن والمعز ، ومن هنا فإنّ كلمة (زوج) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى ، ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج. (ولذا في بداية الآية هذه أطلقت كلمة زوج على حواء).

وعبارة( أَنْزَلَ لَكُمْ ) والتي تخص هنا الأنعام الأربعة ـ كما بيّنا ذلك من قبل ـ لا تعني فقط إنزال الشيء من كان عال ، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدني المقام) والنعم من مقام أعلى الى أدنى.

كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقّة هنا من (نزل) على وزن (رسل) وتعني ضيافة الضيف ، أو أوّل ما يقدم للضيف ، ونظير هذا المعنى ورد في الآية (١٩٨) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة ، قال تعالى :( خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض ، فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض.

وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجودات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة البارئعزوجل ، أي في علم الغيب ، ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور) ، ولهذا أطلقوا على هذا الانتقال عبارة (الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (٢١) في سورة الحجر :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

__________________

(١) تفسير الميزان ؛ وروح المعاني ذيل آيات البحث.

٢٤

لكنّ التَّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره ، رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير ، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى.

وورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه : «إنزاله ذلك خلقه إياه» أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله.

ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل ، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق ، وله المقام الأسمى والأرفع.

وعلى أية حال ، فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال ، لكنّها تقوم بمنافع مهمّة اخرى يزداد ويتسع حجم الاحتياج إليها يوما بعد آخر ، لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم ، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأمور التي يحتاج إليها الإنسان ، حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات.

ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة اخرى من حلقات خلق الله ، وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية :( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) .

يتضح أنّ المقصود من( خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) هو الخلق المتكرر والمستمر ، وليس الخلق مرتين فقط.

«يخلقكم» : فعل مضارع يعطي معنى الاستمرارية ، وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأم. وطبقا لأقوال علماء علم الأجنّة

٢٥

فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق البارئعزوجل ، ونادرا ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه.

وقوله( ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين.

فالمصورون ـ الآن ـ بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير ، أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول ، ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو.

الإمام الحسينعليه‌السلام سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه ، الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد ، يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباريعزوجل عليه : «وابتدعت خلقي من مني يمنى ، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث : بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي ، ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّا سويّا»(١) .

(ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية (٦) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (٥) من سورة الحج).

وفي نهاية الآية ، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين ، يقول البارئعزوجل :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) .

__________________

(١) دعاء عرفة ، مصباح الزائر ، ابن طاووس.

٢٦

فأحيانا يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الآثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود. ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية ، حيث يقول :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) حقّا لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار فعين الجسم ترى الآثار ، وعين القلب ترى خالق الآثار.

عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة ، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) فعند ما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود ، فما هو دور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية؟!

وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة :( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد(١) ؟

بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي منّ بها البارئعزوجل على عباده ، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر ، وتناقش جوانب من هذه المسألة. وفي البداية تقول :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) اي إن تكفروا أن تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم ، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم.

ثمّ تضيف ، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر ، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية ، نعم ، قال تعالى :( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٢) .

وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي

__________________

(١) نلفت الانتباه إلى أن (أنّى) تأتي أحيانا بمعنى (اين) وأحيانا أخرى بمعنى (كيف).

(٢) وفق القراءات المشهورة ، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء وبدون إشباع الضمير ، لأنّها كانت في الأصل (يرضاه) وقد أسقطت الألف بسبب الجزم وأصبحت (يرضه) والضمير فيها يعود على الشكر. ورغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة صريحة ، إلّا أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها ، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) الذي يعود على العدالة.

٢٧

تحمل شخص مسئولية أعماله ، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر ، قال تعالى :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب ، فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد ، وتقول :( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك اطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان ، تختتم الآية بالقول :( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

بهذا الشكل ، ومن خلال جمل قصار ، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسئولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب. وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري ، الذي انتشر ـ ممّا يؤسف له ـ في صفوف بعض الطوائف الإسلامية ، لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة :( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) .

وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئا لا يأتي به ، فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عند ما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة (العباد) بالمؤمنين أو المعصومين ، في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد ، نعم ، فالباري ،عزوجل لا يرتضي الكفر لأحد من عباده ، مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء(١) .

__________________

(١) هناك بحث مفصل في ذيل الآية (٥) من سورة إبراهيم ـ عن أهمية وفلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها.

٢٨

وهذه النقطة تلفت الانتباه ، وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية(١) .

وبالطبع يمكن أحيانا أن يكون الإنسان مشتركا في ذنوب الآخرين ، وذلك عند ما يكون مضطلعا أو مساهما مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل ، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة ، في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب(٢) .

* * *

__________________

(١) بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (١٥) من سورة الإسراء.

(٢) هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (١٤) من سورة الأنعام.

٢٩

الآيتان

( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) )

التّفسير

هل العلماء والجهلة متساوون؟

الآيات السابقة تحدث بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة البارئعزوجل ، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس ، أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه ، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به ، ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرّة اخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ

٣٠

العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة :( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) ونادما من ذنوبه وغفلته.

وعند ما يمنّ الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والابتلاءات السابقة التي دعا اللهعزوجل من أجل كشفها عنه ، قال تعالى :( ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

إذ يجعل لله أندادا وشركاء ويعمد إلى عبادتها ، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد ـ أيضا ـ لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله :( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء ، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائما.

المراد من (ضر) هنا كلّ أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح.

«خولناه» : من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشيء ما ، المراقبة والتوجّه الخاص يستلزم العطاء والبذل ، فقد استخدمت هنا بمعنى الهبة.

وقال البعض : إنّ (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم ، ولهذا فإنّ كلمة «خوله» تعني الخادم الذين وهب لصاحبه ، ثمّ استعملت في كافة أشكال هبة النعم بالتخويل.

والبعض الآخر قال : إنّها تعني الفخر والتباهي ، ولهذا فإنّ العبارة المذكورة

__________________

(١) هناك اختلاف بين المفسّرين حول المعنى الذي تعطيه (ما) في عبارة :( نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ ) البعض يعتقد أن (ما) موصولة تشير إلى (ضر) ولكون هذا المعنى هو الأنسب ، فقد قدم على المعاني الأخرى ، وقال البعض أيضا : إن (ما) موصولة والمراد منها هو الله سبحانه وتعالى : ومجموعة أخرى قالت : إن (ما) مصدرية وتعني الدعاء ، وإمعان النظر في الآية (١٢) من سورة يونس :( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ) يبيّن أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأوّل.

٣١

أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم(١) .

ويصورة عامة فإنّ هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة ، اهتمام البارئعزوجل الخاصّ بعبده.

عبارة( مُنِيباً إِلَيْهِ ) تبيّن أنّ الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافّة ستائر غروره وغفلته جانبا ، ويترك وراءه كلّ ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله ، ويعود إلى الباري ،عزوجل ، ويستشفّ من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن مبدأ الإنسان ومقصده وغايته هو الله تعالى.

«أندادا» : جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل ، مع وجود بعض الاختلاف وهو أنّ (مثل) لها مفهوم واسع ، ولكن (ند) لها معنى واحد ، وهو المماثلة في الذات والجوهر.

عبارة (جعل) تبيّن أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيها لله ، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع.

وعبارة( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) تبيّن أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال أنفسهم ، وإنّما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال.

وعلى أية حال ، فإنّ آيات القرآن المجيد أشارت ـ مرّات عديدة ـ إلى العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و (الحوادث الصعبة في الحياة) كما عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما تعصف به العواصف والأعاصير ، وكيف أنّه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال.

وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون ، وما أقل من ينقلب ويتغير عند ما يمنّ البارئعزوجل عليه بالنصر والنعم والاستقرار.

نعم ، فأبسط نسمة هواء تمرّ على حوض ماء تجعل مياه مضطربة ، أمّا المحيط

__________________

(١) يراجع (لسان العرب) و (مفردات الراغب) وتفسير (روح المعاني).

٣٢

الهادي فإنّه لا يتأثر أبدا بأشدّ الأعاصير ولذا سمّي المحيط الهادي.

نهاية الآية تخاطب مثل أولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع :( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) .

فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا؟!

الآية التالية استخدمت أسلوب المقارنة ، الأسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة ، حيث تقول : هل أن مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمه :( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) (١) .

أين ذلك الإنسان المشرك والغافل والمتلون والضالّ والمضلّ من هذا الإنسان ذو القلب اليقظ الطاهر الساطع بالنور ، الذي يسجد لله في جوف الليل والناس نيام ، ويدعو ربّه خائفا راجيا؟!

فهؤلاء في حال النعمة لا يدعون أنفسهم في مأمن من العقاب والعذاب ، وفي حال البلاء لا ييأسون من رحمته ، وهذان العاملان يرافقان وجودهم أثناء حركتهم المستمرة بحذر واحتياط نحو معشوقهم.

«قانت» من مادة «قنوت» بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.

«آناء» هي جمع (انا) ـ على وزن كذا ـ وتعني ساعة أو مقدارا من الوقت.

التأكيد هنا على ساعات الليل ، لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر ، وتقلّ نسبة تلوثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر.

قدمت الآية السجود على القيام ، وذلك لكون السجود من أعلى درجات العبادة ، وإطلاق الرحمة وعدم تقيّدها بالآخرة دليل على سعة الرحمة الإلهية التي تشمل الحياة الدنيا والآخرة.

__________________

(١) في هذه العبارة شق محذوف ، والتقدير (أهذا الذي ذكرنا خير أمن هو قانت آناء الليل).

٣٣

وفي حديث ورد في كتاب «علل الشرائع» وفي كتاب «الكافي» نقلا عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، إنّه فسّر هذه الآية :( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) بأنّها صلاة الليل(١) .

من الواضح أن هذا التّفسير يشبه الكثير من التفاسير الأخرى التي بيّنت في ذيل آيات مختلفة في القرآن الكريم من قبيل ذكر مصاديقها الواضحة ، ولا ينحصر مفهوم الآية بصلاة الليل.

وتتمة الآية تخاطب الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

كلا ، إنّهم غير متساوين :( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

لا شك في أن السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل ، وأنّه يقارن ما بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، أي بين العلماء والجهلة ، لأنّه قبل طرح هذا السؤال ، كان هناك سؤال آخر قد طرح ، وهو : هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة ، فالسؤال الثّاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو : هل أن الذين يعلمون بأن المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين ، يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة؟

وعلى أية حال فهذه العبارة التي تبدأ باستفهام استنكاري ، توضح أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلو منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والجهلة. ولأنّ عدم التساوي ـ هذا ـ ذكر بصورة مطلقة ، فمن البديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند البارئ ،عزوجل ، وغير متساويين في وجهة نظر العقلاء ، ولا يقفون في صفّ واحد من الدنيا ، ولا في الآخرة وأنّهم مختلفون ظاهرا وباطنا.

* * *

__________________

(١) علل الشرائع ، والكافي نقلا عن نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٧٩.

٣٤

ملاحظة

تتضمّن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمّة :

١ ـ في الآية الأولى ، ذكرت فلسفة الحوادث المرّة والصعبة ، وانشكاف ستائر الغرور والغفلة عن عين القلب ، وصيرورة شعاع الإيمان شعلة وهّاجة ، والعودة والإنابة إلى لله سبحانه وتعالى ، وأجابت الآية في نفس الوقت أولئك الذين يتصورون أنّ وجود مثل تلك الحوادث الصعبة في الحياة إنّما هي نقص في مسألة نظام الخلق وفي عدالة البارئعزوجل .

٢ ـ الآية الثّانية تبدأ بالدعوة إلى العمل وبناء الذات وتنتهي بالعلم والمعرفة ، لأنّ من لم يبن ذاته ، لا تشع أنوار المعرفة من قلبه ، حيث لا يمكن أصلا فصل العلم عن بناء الذات.

٣ ـ قوله تعالى :( قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) وردت هنا بصيغة اسم فاعل ، وكلمة (الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أولئك لله سبحانه ، لأنّ العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدّا.

٤ ـ إنّ العلم الاضطراري المتولّد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان بخالقه ، لا يكون مصداقا حقيقيا للعلم الّا إذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة. لذا فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة. إذن فإنّ العلماء الحقيقيين هم المتوجهون إليه تعالى في كلّ الحالات.

٥ ـ ممّا يلفت الانتباه أنّ نهاية الآية الأخيرة تقول : إنّ الفرق بين الجاهل والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب! لأنّ الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي الحقيقة إنّ كلّ مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة أخرى.

٦ ـ العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات ، أو العلاقة المادية بين الأشياء ، وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي

٣٥

تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة البارئعزوجل والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته ، هذه هي حقيقة العلم ، وإن كانت العلوم الدنيوية تؤدي إلى ما ذكرناه آنفا ، فهي علم أيضا. وإلّا فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الأرض ، ولا يحصل منها سوى «القيل والقال» وليس «الكيفية والحال».

٧ ـ على عكس ما يعتقد به الجهلة الذين يعدّون الذين مخدرا (أفيونا) ، فإنّ أهم ما يدعوا إليه الأنبياء هو طلب بالعلم والمعرفة ، وقد أعلنوا عداءهم للجهل أينما كان ، وإضافة إلى أنّ القرآن الحكيم استغل الكثير من المناسبات كي يوضح هذا الأمر ، كما وردت في الروايات الإسلامية أحاديث تصور عدم وجود شيء أفضل من العلم.

فقد ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا خير في العيش إلّا لرجلين : عالم مطاع ، أو مستمع واع»(١) .

كما ورد حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، جاء فيه : «إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(٢) .

٨ ـ الآية الأخيرة تتحدث عن ثلاث مجموعات ، هم العلماء والجهلة وأولو الألباب ، وقد شخصهم الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث له ، عند ما قال : «نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولوا الألباب»(٣) .

٩ ـ ورد في الحديث خرج أمير المؤمنينعليه‌السلام ذات ليلة من مسجد الكوفة

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأوّل ، باب صفة العلم وفضله الحديث (٧).

(٢) الكافي ، المجلد الأوّل ، باب صفة العلم وفضله الحديث (٢).

(٣) تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث.

٣٦

متوجّها إلى داره وقد مضى ربع من اللّيل ومعه كميل بن زياد رحمة الله وكان من خيار شيعته ومحبّيه فوصل في الطّريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) الآية بصوت شجي حزين فاستحسن كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرّجل من غير أن يقول شيئا ، فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال : يا كميل لا يعجبك طنطنة الرّجل إنّه من أهل النّار سأنبئك بعد ، فيما يصدر فتحيّر كميل مكاشفة له على ما في باطنه ولشهادته بدخول النّار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضى مدّة متطاولة إلى أن ال حال الخوارج إلى ما ال وقاتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل ، فالتفت أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى كميل وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دما ورؤوس أولئك الكفرة الفجرة مجلقة على الأرض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال : يا كميل أمّن هو قانت الآية أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله قبّل كميل قدميهعليه‌السلام واستغفر الله(١) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٤٩٦ أحوال كميل.

٣٧

الآيات

( قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) )

التّفسير

الخطوط الرئيسة لمناهج العباد المخلصين :

تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين والمؤمنين المطيعين لله ، وبين العلماء والجهلة ، فإنّ آيات بحثنا هذا تبحث

٣٨

الخطوط الرئيسية لمناهج عباد الله الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج وردت في عدّة آيات تبدأ بكلمة (قل).

الآية الأولي تحثّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التقوى :( قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) (١) .

نعم ، فالتقوى هي الحاجز الذي يصدّ الإنسان عن الذنوب ، وتجعله يحسّ بالمسؤولية وبتكاليفه أمام البارئ ،عزوجل ، هي المنهج الأوّل لعباد الله المؤمنين والمخلصين ، فالتقوى هي الدرع الذي يقي الإنسان من النّار ، والعامل الرئيسي الذي يردعه عن الانحراف ، فالتقوى هي ذخيرته الكبيرة في سوق القيامة ، وهي ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند البارئعزوجل .

المنهج الثّاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار العمل ، وقد شجعت الآية الناس وحثتهم على عمل الإحسان ، من خلال بيان نتيجة ذلك العمل :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ) (٢) .

نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا ـ سواء كان في الحديث ، أو في العمل ، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء ـ يؤدّي إلى نيل ثواب عظيم في الدنيا والآخرة ، لأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان.

وفي الواقع فإنّ التقوى عامل ردع ، والإحسان عامل صلاح ، وكلاهما يشمل (ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات).

المنهج الثّالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوثة بالذنوب ، قال تعالى :( وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ ) .

__________________

(١) من البديهي أنّ الخطاب بعبارة «يا عبادي» هو من الله ، وإن كان المخاطب هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالمقصود هنا أن أبلغهم خطابي.

(٢) أغلب المفسّرين اعتبروا عبارة (في هذه الدنيا) تعود على عبارة (أحسنوا) ، واستنادا لهذا فإن «حسنة» مطلقة تشمل كل حسنة في الدنيا والآخرة ، ومع انتباه إلى أن استعمال التنوين في مثل هذه الموارد إنّما هو لإعطاء الكلمة طابع التفخيم والعظمة ، فإنه يفيد بيان عظمة الثواب.

٣٩

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على ذوي الإرادة الضعيفة والمتذرعين بمختلف الذرائع الذين يقولون : إنّنا عاجزون عن أداء الأحكام الإلهية لأنّنا في أرض مكّة التي يحكمها المشركون ، والقرآن يردّ عليهم بأن أرض الله لا تقتصر على مكّة ، فإن لم تتمكنوا من أداء فرائضكم في مكّة فالمدينة موجودة ، بل إن الأرض كلها لله ، هاجروا من المواطن الملوثة بالشرك والكفر والظلم التي لا يمكنكم فيها أداء الأحكام الإلهية بحرية إلى آخر.

مسألة الهجرة هي إحدى أهم المسائل التي لم تلعب دورا أساسيا في صدر الإسلام بانتصار الحكومة الإسلامية فحسب ، بل إنّ لها أهمية في كلّ زمان ، لأنّها من جهة تمنع مجموعة من المؤمنين أن يستسلموا لضغط وكبت محيطهم ، ومن جهة اخرى تكون عاملان مساعدا لتصدير الإسلام إلى نقاط مختلفة في أنحاء العالم.

والقرآن المجيد يقول :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ) (١) .

وهذا يوضح ـ بصورة جيدة ـ أنّ المؤمن الذي تحيط به الضغوط والكبت ، ويستطيع أن يهاجر في سبيل الله عليه أن يهاجر ، وإلّا فإنّه غير معذور أمام الله.

(بشأن أهمية الهجرة في الإسلام وأبعادها المختلفة كانت لنا بحوث مختلفة ومفصلة في ذيل الآية (١٠٠) من سورة النساء ، وفي ذيل الآية (٧٢) من سورة الأنفال).

ولأنّ الهجرة ترافقها بصورة طبيعية مشكلات كثيرة في مختلف جوانب الحياة ، فالمنهج الرابع إذن يتعلق بالصبر والاستقامة ، قال تعالى :( إِنَّما يُوَفَّى

__________________

(١) النساء ، ٩٧.

٤٠