الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 146453
تحميل: 3279


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146453 / تحميل: 3279
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

بالشهادة؟!(١) .

ومن الواضح أنّ الموارد التي يتحدّث عنها الحديث الشريف ، إنّما منع فيها الإنسان عن إجابة دعوته لعدم بذله قصارى جهده وسعيه ، فعليه أن يتحمّل تبعة تقصيره وتفريطه.

من هنا يتضح أنّ أحد عوامل عدم استجابة الدعاء يتمثل في التباطؤ وترك الجهد المناسب للعمل واللجوء إلى الدعاء وقد جرت سنة الله تعالى على عدم إجابة مثل هذه الدعوات.

طبعا ، هنا عوامل وأسباب اخرى لعدم استجابة بعض الأدعية. فمثلا عادة ما يحدث أن يخطئ الإنسان في تشخيص مصالحه ومفاسده ، إذ يصر أحيانا على موضوع معين ويطلبه من الخالق جلّ وعلا في حين ليس من مصلحته ذلك. ولكنّه يفهم ذلك فيما بعد.

وهذا الأمر يشبه إلى حد كبير الطفل أو المريض الذي يطلب بعض الأطعمة والأشربة ويشتهيها ، فلا يجاب لطلبه ولا تلبّى رغباته ، لأنّها قد تؤدي إلى مضاعفة الخطر على صحته أو حتى المجازفة بحياته. ففي مثل هذه الموارد لا يستجيب الله تعالى لدعاء العبد ، بل يدخر له الثواب يوم القيامة ، مضافا إلى أن لاجابة الدعاء شروطا مذكورة في الآيات والرّوايات الشريفة وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير(٢) .

موانع استجابة الدعاء

لقد ذكرت بعض الروايات ذنوبا متعدّدة إذا ارتكبها الإنسان تحول بينه وبين إجابة دعائه ، مثل سوء النية ، النفاق ، تأخير الصلاة عن وقتها ، اللسان البذيء الذي

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الثّاني ، باب من لا يستجاب له دعوة الحديث رقم (٢).

(٢) البقرة ، الآية ١٨٦.

٣٠١

يخشاه الناس ، الطعام الحرام ، وترك الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى(١) .

وفي إطار هذه النقطة بالذات ثمّة حديث جامع عن الإمام الصادقعليه‌السلام ينقله «الشيخ الطبرسي» في «الإحتجاج» أنّه سئل : أليس يقول الله :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وقد نرى المضطر يدعوه ولا يجاب له ، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟ قال : «ويحك! ما يدعوه أحد إلّا استجاب له ، أما الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب ، وأمّا المحقق فإذا دعا استجاب له وصرف عنه «البلايا من حيث لا يعلمه ، أو ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه ، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خير له إن أعطاه ، أمسك عنه»(٢) .

نعود الآن إلى الآية الكريمة فبما أن الدعاء وطلب الحوائج من الله تعالى يعتبر فرعا لمعرفته ، لذا تتحدث الآية التي تليها عن حقائق تؤدي إلى ارتقاء مستوى المعرفة لدى الإنسان ، وتزيد شروطا جديدا لإجابة الدعاء ، متمثلا بالأمل في الإجابة ، بل وانتظار تنجز الحاجة وتمامها.

يقول تعالى :( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) .

إنّ ظلمة الليل وهدوءه وسكونه يعتبر ـ من جانب ـ سببا قهريا لتعطيل الحركة اليومية لعمل الإنسان السوي ونشاطه. والظلمة ـ من ناحية اخرى ـ تمحو عن الإنسان تعب النهار ، وتدفعه إلى الاستقرار والرأفة لجسده وأعصابه ، في حين يعتبر النور والنهار أساس الحياة والحركة.

لذلك يضيف تعالى قوله تعالى :( وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) .

في النهار المبصر يضاء محيط الحياة وتدب الحركة والنشاط في روح الإنسان وكيانه.

والطريف أنّ «مبصرا» تعني الذي يبصر. وعند ما يوصف النهار بهذا الوصف ،

__________________

(١) معاني الأخبار. طبقا لما أورده نور الثقلين في المجلد الرابع. صفحة (٥٣٤) وأصول الكافي.

(٢) تفسير الصافي أثناء تفسير الآية الكريمة.

٣٠٢

فانه في الحقيقة نوع من التأكيد في جعل الناس مبصرين. (ثمة بحث عن فلسفة النور والظلام والليل والنهار ، ورد أثناء الحديث عن الآيات(١) .

ثم تضيف الآية :( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .

إنّ النظام الدقيق كتناوب الليل والنهار والظلمة والنور ، يعتبر واحدا من مواهب الله تبارك وتعالى وعطاياه لعباده ، وسر من أسرار الحركة في الحياة وفي منظومة الوجود الكوني.

فبدون النور ليس ثمّة حياة أو حركة ، ومن دون أن يتناوب الليل والنهار ـ أو الظلام والنور ـ سيؤدي إلى تعطيل حركة الحياة ، بل وجعلها مستحيلة. فشدّة النور ـ مثلا ـ ستشل الموجودات وتعطّل نمو النبات ، وكذلك الظلمة الدائمية لها أضرارها. ولكن الناس ـ وبدواعي العادة والألفة ـ لم يلتفتوا إلى هذه المواهب الإلهية وما تستبطنه من منافع لهم.

والملفت للنظر أن القاعدة تقتضي أن يكون هناك «ضمير» بدل «الناس» الثانية ، فيكون القول : لكن أكثرهم لا يشكرون ، إلّا أنّ ذكر «الناس» بدلا عن الضمير كأنّه يشير إلى أن طبع الإنسان الجاهل هو كفران النعم وترك الشكر ، كما نقرأ ذلك واضحا في الآية (٣٤) من سورة إبراهيم ، في قوله تعالى :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) . (يلاحظ هذا المعنى في تفسير الميزان وروح المعاني).

أمّا إذا ملك الإنسان عينا بصيرة وقلبا عارفا بحيث يرى النعم الإلهية اللامتناهية في كلّ مكان يحل به ، وينظر إلى فيض النعم والعطايا والمواهب الربانية ، فسيضطر طبيعيا إلى الخضوع والعبودية والشكر ، ويرى نفسه صغيرا مدينا إلى خالق هذه العظمة وواهب هذه العطايا. (عن معنى الشكر وأقسامه يمكن مراجعة البحث الخامس في تفسير الآية(٧) من سورة إبراهيم).

__________________

(١) يونس ـ ٨٧ والنمل ـ ٨٦ والقصص ـ ٧١.

٣٠٣

الآية التي تليها تبدأ من توحيد الرّبوبية وتنتهي بتوحيد الخالقية والرّبوبية.

فتقول أوّلا :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) ومربيكم الذي من صفاته أنّه :( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) .

ولا معبود إلّا الله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

في الواقع إنّ وجود كلّ هذه النعم دليل على الربوبية والتدبير ، وخالق كلّ شيء عنوان لصفة التوحيد في الربوبية ، لأنّ الخالق هو المالك والمربي. ومن المعلوم أنّ الخلق يستدعي الرعاية الدائمة لأن الخالقية لا تعني أنّ الله يخلق الخلق ويتركها وشأنها ، بل لا بدّ وأن يكون الفيض الالهي مستمرا في كلّ لحظة على جميع الموجودات. ولذلك فهذه الخالقية لا تنفصل عن الرّبوبية.

ومن الطبيعي أن هذا الإله هو الوحيد الذي يستحق العبادة ، وأن ترجع إليه الأشياء.

لذا فإنّ جملة( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) تعتبر الدليل لـ( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) وإنّ( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) هي النتيجة لذلك.

وتتساءل الآية في نهايتها : كيف يسوّغ الإنسان لنفسه الانحراف والتنكّب عن الجادة المستقيمة؟ فيقول تعالى :( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) (١) .

ولماذا تتركون عبادة الله الواحد الأحد إلى عبادة الأصنام؟

والملاحظ أن «تؤفكون» صيغة مجهول ، بمعنى أنّها تحرفكم عن طريق الحق ، وكأنّ المراد هو أنّ المشركين فاقدون للارادة الى درجة أنّهم يساقون في هذا المسير دون اختيار أيّ نسبة من الحرية والإرادة والإختيار في هذا المجال!

الآية الأخيرة ـ من مجموعة الآيات التي نبحثها ـ تأتي وكأنّها تأكيد لمواضيع الآيات السابقة ، فيقول تعالى :( كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) .

«يجحدون» مشتقّة من مادة «جحد» وهي في الأصل تعني إنكار الشيء

__________________

(١) «تؤفكون» من «إفك» وتعني الانحراف والرجوع عن طريق الحق وجادة الصواب. ولهذا السبب يقال للرياح المضادة «المؤتفكات». ويعبّر عن «الكذب» بـ «الإفك» بسبب ما فيه من انحراف عن بيان الحق.

٣٠٤

الموجود في القلب والنفس. بمعنى أنّ الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو نشيء ما ، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في لسانه.

ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمّل منهم الخير ويتظاهرون بالفقر دائما. أما «الأرض الجحدة» فهي التي لا ينبت فيها النبات إلا قليلا(١) .

بعض علماء اللغة أوجز في تفسير «جحد» و «جحود» بقولهم : الجحود الإنكار مع العلم(٢) .

وبناء على ما تقدم فإن الجحود يتضمّن في داخله نوعا من معاني العناد في مقابل الحق ، ومن الطبيعي أن من يتعامل مع الحقائق بهذا المنظور لا يمكن أن يستمر في طريق الحق ، فما لم يكن الإنسان باحثا عن الحقيقة وطالبا لها ومذعنا أمام منطقها فسوف لن يصل إليها مطلقا.

لذا فإنّ الوصول إلى الحق يحتاج مسبقا إلى الاستعداد والبناء الذاتي ، أيّ التقوى قبل الإيمان ، وهو الذي أشار إليه تعالى في مطلع سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

* * *

__________________

(١) الراغب في المفردات مادة «جحد».

(٢) لسان العرب نقلا عن «الجوهري»

٣٠٥

الآيات

( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) )

التّفسير

ذلكم الله ربّكم :

تستمر هذه المجموعة من الآيات الكريمة بذكر المواهب الإلهية العظيمة وشمولها للعباد ، كي تهب لهم المعرفة ، وتربي في نفوسهم الأمل بالدعاء والتسليم وطلب الحوائج من الله تعالى.

والطريف في الأمر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن «النعم الزمانية» من ليل ونهار ، بينما تتحدث هذه المجموعة عن «النعم المكانية» أي الأرض القرار ، والسقف المرفوع (السماء) حيث تقول :( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ

٣٠٦

قَراراً ) .

لقد خلق الله للإنسان الأرض كي تكون مقرّا هادئا ومستقرا آمنا له إنّه المكان الخالي من المعوقات الصعبة ، متناسق في تشكيلته مع تكوين الإنسان الروحي والجسدي ، حيث تتوفر في الأرض المصادر المختلفة للحياة والوسائل المتنوعة والمجانية التي يحتاجها لمعيشته.

ثم تضيف الآية :( وَالسَّماءَ بِناءً ) أي كالسقف والقبة فوقكم.

و «بناء» كما يقول «ابن منظور» في لسان العرب ، تعني البيوت التي كان عرب البادية يستفيدون منها ويستظلون تحتها كالخيم وما يستظل الإنسان تحته.

إنّه تعبير جميل ودال حيث يصوّر السماء كالخيمة التي تغطي أطراف الأرض ولا تنقص منها شيئا. والمقصود السماء هنا الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض.

إنّ الخيمة الإلهية الكبيرة هذه تقلل من شدّة أشعة الشمس ، وعدمها يعرض الأرض إلى الأشعة الكونية الحارقة القاتلة لجميع الكائنات الحية الموجودة على الأرض ، لذلك نرى أنّ رواد الفضاء مضطرين لارتداء ملابس خاصة تحميهم من هذه الإشاعات.

إضافة إلى ما تقدم ، تمنع الخيمة السماوية سقوط الأحجار التي تنجذب من السماء نحو الأرض ، حيث تقوم بإحراقها بمجرّد وصولها إلى غلاف الأرض ليصل رمادها بهدوء الى الأرض.

وإلى هذا المعنى تشير الآية (٣٢) من سورة الأنبياء ، حيث يقول تعالى :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ) .

ثمّ ينتقل الحديث من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ، فيقول تعالى :( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) . القامة متوازنة خالية من الانحراف ، وجه في تقاطيع جميلة لطيفة وفي منتهى النظم والاستحكام ، إذ يمكن بلمحة واحدة التمييز بين الكائن البشري وبين الموجودات والكائنات الأخرى.

٣٠٧

إنّ الهيكل الإنساني الخاص يؤهل الإنسان لإنجاز مختلف الأعمال من الصناعة والزراعة والتجارة والإرادة ، وهو بامتلاكه للأعضاء المختلفة يعيش مرتاحا مستفيدا من مواهب الحياة وعطايا الخالق.

الإنسان على خلاف أغلب الحيوانات التي تشرب الماء بفمها ، فإنّه يحمل المشروبات والمأكولات بيديه ، ويقوم بشرب الماء في منتهى الدّقة واللطافة ، وهذا الأمر يجعل الإنسان أقدر على انتخاب ما يشاء من الأشربة والأطعمة. ويجعل ما يتناوله نظيفا غير مخلوط مع غيره. فهو مثلا يقشّر الفاكهة ويهذبها قبل تناولها ، ويرمي الأجزاء الزائدة.

لقد ذهب بعض المفسّرين في تفسير :( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) إلى معنى أوسع من الصورة والشكل الظاهري والتكوين الداخلي ، فقال : إن المعنى يتضمن كل الاستعدادات والأذواق التي خلقها الله في الإنسان وأودعها فيه ، ففضله بها على كثير ممن خلق.

وفي آخر الحديث عن سلسلة هذه العطايا والمواهب الإلهية ، تتحدث الآية عن النعمة الرّابعة ، وهي الرزق الطيب بقوله تعالى :( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) .

«الطيبات» تشتمل على معنى وسيع جدّا ، وهي تشمل الجيد من الطعام واللباس والزوجة والمسكن والدواب ، وهي أيضا تشمل الكلام والحديث الطيب الزكي النافع.

الإنسان يقوم بسبب جهله وغفلته بتلويث هذه المواهب الطاهرة والطيبات اللذيذة ، إلّا أنّ الله أبقى على نقائها وطهرها في عالم الوجود.

بعد بيان هذه المجموعة الرباعية من النعم الإلهية التي تتوزع بين الأرض والسماء وبين خلق الإنسان ، تعود الآية للقول :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُ

٣٠٨

الْعالَمِينَ ) (١) .

إنّ هذه المواهب تعود لله مدبر الكون خالق السماوات والأرض ، لذلك فهو الذي يليق بمقام الرّبوبية لا غير.

الآية التي بعدها تستمر في إثارة قضية توحيد العبودية من طريق آخر.

فتؤّكد انحصار الحياة الواقعية بالله تعالى وتقول :( هُوَ الْحَيُ ) .

إنّ حياته عين ذاته ، ولا تحتاج إلى الغير. حياته (جلّ وتعالى) أبدية لا يطالها الموت ، بينما جميع الكائنات الحية تتمتع بحياة مقرونة بالموت وحياتها محدودة وموقتة تسترفد هذه الحياة من الذات المقدسة.

لذلك ينبغي للإنسان الفاني المحدود المحتاج أن يرتبط في عبادته بالحي المطلق ، من هنا تنتقل الآية مباشرة إلى تقرير معنى الوحدانية في العبودية من خلال قوله تعالى :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

وعلى أساس هذه الوحدانية تتقرّر قضية اخرى يتضمنها قوله تعالى :( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) واتركوا جانبا كلّ شيء غيره. لأنّها جميعا فانية ، وحتى في حال حياتها فهي في تغيّر دائم «فالذي لا يتغيّر هو الله تعالى فقط. والذي لم يمت ولن يموت هو سبحانه فحسب».

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

والتعبير القرآني درس للعباد بأن يتوجهوا الشكر والحمد إلى الخالق جلّ وعلا دون غيره ، فهو جزيل العطايا كثير المواهب مطلق النعم على عباده ، خاصّة نعمة الحياة والوجود بعد العدم.

الآية الأخيرة من المجموعة القرآنية ، هي في الواقع خلاصة لكل البحوث

__________________

(١) «ذلكم» اسم إشارة للبعيد ، واستخدامها في مثل هذه الموارد كناية على العظمة وعلو المقام.

٣٠٩

التوحيدية الآنفة ، وجاءت لكي تقضي على أدنى بارقة أمل قد يحتمل وجودها في نفوس المشركين ، إذ يقول تعالى موجها كلامه إلى النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي ) .

ولم ينهاني ربّي عن عبادة غيره فحسب ، بل :( وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) . نهى عن عبادة الأصنام يتبعه ـ مباشرة ـ بدليل منطقي من البراهين والبينات ومن العقل والنقل ، في أن يسلم لـ : «ربّ العالمين» وفي هذه العبارة أيضا دليل آخر على المقصود لأن كونه ربّ العالمين دليل كاف على ضرورة التسليم في مقابله.

ومن الضروري أن نشير إلى افتراق الأمر والنهي في هذه الآية ، فهناك أمر بالتسليم لله جلّ وعلا ، ونهي عن عبادة الأصنام ، وقد يعود السبب في التفاوت بين النهي والأمر إلى أنّ الأصنام قد تختص بصفة «العبادة» وحسب ، لذلك جاء النهي عن عبادتها. أما بالنسبة لله تعالى فبالإضافة إلى عبادته يجب التسليم له والانصياع والانقياد إلى أوامره وتعليماته.

لذلك نقرأ في الآيتين (١١ ـ ١٢) من سورة «الزمر» قوله تعالى :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) .

إنّ أمثال هذه الصيغ والأساليب المؤثرة يمكن أن نلمسها في كلّ مكان من كتاب الله العزيز ، فهي تجمع الليونة والأدب حتى إزاء الأعداء والخصوم ، بحيث لو كانوا يملكون أدنى قابلية لقبول الحق فسيتأثرون بالأسلوب المذكور.

ينبغي أن نلاحظ أيضا التعبير في قوله تعالى :( أُمِرْتُ إِنِّي نُهِيتُ ) أيّ عليكم أنتم أن تحاسبوا أنفسكم من دون أن يثير فيهم حسّ اللجاجة والعناد.

الكلام الأخير في هذه المجموعة من الآيات هو أنّها أعادت وصف الخالق بـ «ربّ العالمين» في ثلاث آيات متتالية :

٣١٠

تقول أولا :( فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

ثم :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وأخيرا :( أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .

إنّه نوع من أنواع الترتيب المنطقي الذي يصل بين أجزائها وجوانبها فالآية الأولى تشير إلى البركة وديموميتها ، والثانية إلى اختصاص الحمد والثناء بذاته المقدسة دون غيره ، وأخيرا تخصيص العبودية وحصرها به دون غيره عزّ اسمه.

* * *

٣١١

الآيتان

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) )

التّفسير

المراحل السبع لخلق الإنسان :

تتميما لما تحدثت به الآيات السابقة عن قضية التوحيد ، تستمر الآيات التي بين أيدينا في إثارة نفس الموضوع من خلال الحديث عن «الآيات الأنفسية» والمراحل التي تطوي خلق الإنسان وتطوره ، من البدء إلى النهاية.

الآية الكريمة تتحدث عن سبع مراحل تكشف عن عظمة الخالق جلّ وعلا وجزيل مواهبه ونعمه على العباد.

يقول تعالى :( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً

٣١٢

مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

يتضح من سياق الآية الكريمة أنّ المرحلة الأولى أو بداية الإنسان في مسيرة الخلق والوجود تكون من التراب ، حيث خلق الله أبانا الأوّل آدمعليه‌السلام من تراب ، أو أنّ جميع البشر خلقوا من التراب ، ذلك أنّ المواد الغذائية التي تشكل قوام الإنسان ووجوده ، بما في ذلك النطفة ، سواء كانت حيوانية أم نباتية كلّها تستمد أساسها وأصولها من التراب.

المرحلة الثانية ، هي مرحلة النطفة التي تشمل جميع البشر كأصل ثان في وجودهم عدا آدم وزوجته حوّاء.

المرحلة الثّالثة التي تتكامل فيها النطفة وتنمو بشكل مستمر وتتحول إلى قطعة دم والمسمى بمرحلة «العلقة».

بعد ذلك تتحول «العلقة» إلى «مضغة» أشبه ما تكون باللحم «الممضوغ» مرحلة ظهور الأعضاء ، ثمّ مرحلة الحس والحركة ، والآية لا تشير هنا إلى هذه المراحل الثلاث ، لكن الآيات الأخرى أشارت إلى ذلك بشكل واضح.

المرحلة الرّابعة تتمثل في ولادة الجنين. بينما تتمثل المرحلة الخامسة في تكامل القوّة الجسمية التي قيل إنها تتم في سن الثلاثين ، حيث سيحرز الجسم الإنساني أكبر قدر ممكن من نموه وتكامل قواه.

وقال البعض : إنّ الإنسان يصل هذه المرحلة قبل هذا السن ، ومن الممكن أن تختلف هذه المرحلة عند الأشخاص إلى أن يحرز الإنسان فيها مرحلة «بلوغ الأشد» حسب التعبير القرآني.

بعد ذلك تبدأ مرحلة الرجوع القهقري إلى الوراء ، فيفقد الإنسان قواه تدريجيا ، فيصل إلى الشيب الذي يعتبر المحطة السادسة من محطات الإنسان.

أخيرا ، تنتهي حياة كلّ إنسان في الأرض بالموت والانتقال إلى العالم الآخر.

بعد كلّ هذه التغيرات والتطورات ، هل ثمّة من شك في قدرة وعظمة مبدئ

٣١٣

عالم الوجود ، وألطاف الله ومواهبه على الخلق؟!

الطريف أنّ الآية تستخدم في الإشارة إلى المراحل الأربع الأولى تعبير «خلقكم» لأنّ ليس للإنسان أي دور فيها ، حيث يتطور من التراب إلى النطفة ثمّ إلى العلقة فطفلا صغيرا من دون أن يكون له أي دور في هذه التحولات. لكن في المراحل الثلاث التي تلي الولادة ، أي مرحلة الوصول إلى أقصى القوة الجسمية ثمّ مرحلة الشيب وانتهاء العمر ، استخدمت الآية تعبير «لتبلغوا» و «لتكونوا» وفيها إشارة إلى كيان الإنسان الحرّ وفيها أيضا ما يشير إلى الحقيقة التي تقول : إنّ نمو الإنسان ووجوده عبر هذه المراحل الثلاث ، وتقدمه باطّراد أو تأخره ، ويرتبط بشكل أو بآخر بحسن تدبير الإنسان أو سوء تدبير ، حيث يبلغ من الشيخوخة أو يموت مبكرا ، وهذا يدل على مدى الدقّة في استخدام التعابير القرآنية الآنفة الذكر.

وسبق أن أشرنا إلى أنّ التعبير بـ «يتوفى» الذي يتضمن معنى الموت ، لا يعني الفناء التام وفق المنطق القرآني ، بل إنّ ملك الموت يمسك الروح ويقبضها بإذنه تعالى وبحسب الأجل الإلهي المحتوم ، فتنقل الأرواح إلى عالم آخر ألا وهو عالم «البرزخ».

إن تكرار مفاد هذا التعبير في القرآن الكريم ، يبيّن بوضوح نظرة الإسلام تجاه الموت ، هذا المفهوم الذي يخرج عن نطاق الفهم المادي الضيق الذي يقرن الموت بالفناء والعدم ، بينما الموت لا يعبّر إلّا عن انتقال الروح من هذا العالم إلى عال آخر هو عالم البقاء.

وقوله تعالى :( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ) قد يكون إشارة إلى حصول الموت قبل مرحلة الشيخوخة ، أو قد يعني الإشارة إلى المراحل السابقة بأجمعها ، بمعنى أنّ الموت قد يصيب الإنسان قبل أن يبلغ إلى مرحلة من المراحل السابقة.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ جميع المراحل ، عدا المرحلة الأخيرة (أي بلوغ نهاية العمر وحلول الوفاة) قد عطفت بـ «ثم» وهي إشارة إلى السياق

٣١٤

التسلسلي الترتيبي في سياق وجودها في حياة الإنسان ، فمرحلة «المضغة» لا تسبق ـ مثلا ـ مرحلة «النطفة» وهكذا. وفي هذا النوع من العطف إشارة أيضا إلى وجود الفاصلة بين مرحلة واخرى.

أما عطف المرحلة الأخيرة بـ (الواو) فقد يكون السبب فيه أنّ نهاية العمر لا تكون بالضرورة بعد انتهاء مرحلة الشيخوخة ، إذ كثيرا ما يموت الإنسان قبل بلوغه إلى مرحلة الشيوخة (هناك بحث عن «الأجل المسمى» ذيل الآية ٢ سورة الأنعام والآية ٣٤ من سورة الأعراف والآية ٦١ من سورة النحل).

الآية الأخيرة في هذا البحث تتحدث عن أهم مظهر من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى متمثلة بقضية الحياة والموت ، هاتان الظاهرتان اللتان لا تزالان بالرغم من تقدم العلم وتطوره في نطاق الأمور الغامضة والمجهولة في معرفة الإنسان وعلمه.

قول تعالى :( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) .

إنّ الحياة والموت ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ بيد الله ، سواء تعلق ذلك بالإنسان أو النبات أو أنواع الحيوان والموجودات الأخرى التي تتجلى فيها الحياة بأشكال متنوعة.

إنّ نماذج الحياة تعتبر أكثر النماذج تنوعا في عالم الوجود وكل الكائنات تنتهي بأجل معين إلى الموت ، سواء في ذلك الكائن ذو الخلية الواحدة أو الحيوانات الكبيرة ، أو التي تعيش في الأعماق المظلمة للمحيطات والبحار ، أو الطيور التي تعانق السماء ، ومن الاحياء احادية الخلية السابحة في أمواج المحيطات إلى الأشجار التي يبلغ طولها عشرات الأمتار ، فإنّ لكل واحد منها حياة خاصّة وشرائط معينة ، وبهذه النسبة تتفاوت عملية موتها ، وبدون شك فإن اشكال الحياة هي أكثر اشكال الخلقة تنوعا وأعجبها.

إنّ الانتقال من عالم إلى آخر ، من الوجود المادي الى الحياة ، ومن الحياة في

٣١٥

هذه الدّنيا الى ما بعد الموت يستبطن أسرارا وعجائب بليغة تحكي عظمة الخالق ومدى قدرته في هذه الخليقة العجيبة المتنوعة وكل واحدة من هذه القضايا المعقدة والمتنوعة لا تعتبر مشكلة وعسيرة في متناول قدرة الخالق جلّ وعلا ، حيث تتحقق بمجرّد إرادته.

لذلك تقول الآية في نهايتها بيانا لهذه الحقيقة :( فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

إنّ كلمة «كن» وبعدها «فيكون» هي من باب عدم قدرة الألفاظ على استيعاب حقيقة الإرادة والقدرة الإلهية ، وإلّا فليس ثمّة من حاجة إلى هذه الجملة ، لأنّ إرادة الله هي نفسها حدوث الكائنات ووجودها(١) بدون فصل

* * *

__________________

(١) راجع تفسير قوله تعالى :( كُنْ فَيَكُونُ ) في أثناء الحديث عن الآية (١١٧) من سورة البقرة.

٣١٦

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) )

التّفسير

عاقبة المعاندين المغرورين :

مرة اخرى تعود آيات الله البينات للحديث عن الذين يجادلون في آيات الله ولا يخضعون إلى منطق الحق ودلائل النبوّة ومضامين دعوات الأنبياء والرسل.

هذه الآيات تتحدث عن مصير هؤلاء ، فتقول :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ

٣١٧

اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) .

إنّ هذه المجادلة بالباطل المقترنة مع التعصب الأعمى جعلتهم يحيدون عن الصراط المستقيم ، لأنّ الحقائق لا تظهر أو تبيّن إلّا في الروح الباحثة عن الحقيقة ومن ثمّ الإذعان لمنطقها.

إنّ طرح هذه القضية من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيغة الاستفهام يؤكّد أنّ من يتمتع بذوق سليم ومنطق قويم يثيره العجب من إنكار هذه الفئة لكل هذه الآيات البينات والدلائل والمعجزات.

ثم تنتقل الآيات إلى بيان أمرهم عند ما تقول :( الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا ) .

من الضروري أن نشير أولا إلى أنّ السورة التي بين أيدينا تحدّثت أكثر من مرّة عن( الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ) جاء ذلك في الآيتين (٣٥) و (٥٦) وهذه الآية. ونستفيد من القرائن أنّ المقصود بـ «آيات الله» هي دلائل النبوّة وعلائمها على الأكثر ، بالإضافة إلى ما تحويه الكتب السماوية. وطالما تتضمّن الكتب السماوية آيات التوحيد ، والمسائل الخاصة بالمبدأ والمعاد ، لذا فإنّ هذه القضايا مشمولة بجدال القوم وخصومتهم للحق.

وهل يستهدف التكرار تأكيد قضية هذا الموضوع ، أم أنّ كلّ آية تختص بطرح وموضوع يختلف عن أختها؟

الاحتمال الثّاني أقرب الى المراد. إذ يلاحظ أنّ لكل آية موضوع خاص.

فالآية (٥٦) تتحدث عن دواعي المجادلة وأهدافها أي الكبر والغرور في حين تتحدث الآية (٣٥) عن عقابهم الدنيوي متمثلا بأن ختم الله على قلوبهم.

أمّا الآية التي نتحدث عنها الآن فهي تتحدث عن العقاب الأخروي ، وأوصافهم في النّار ذات السعير.

من الضروري أن نشير أيضا إلى أنّ «يجادلون» فعل مضارع يدل على

٣١٨

الاستمرار. وهذه إشارة إلى أنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين يكذبون بآيات الله لتبرير عقائدهم وأعمالهم السيئة المشينة ، إنّما يقومون بالمجادلة بشكل مستمر من خلال الأقوال والذرائع الواهية.

وتنتهي الآية بتهديد من خلال قوله تعالى :( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) أي سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وعاقبة أعمالهم السيئة وذلك في وقت( إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ) أيّ يلقي بهم في الماء المغلي ثمّ( فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) (١) .

«يسجرون» من كلمة «سجر» على وزن «فجر» وتعني إشعال النّار وزيادة لهيبها ـ كما ذهب إليه الراغب في مفرداته –

أمّا الآخرون من أرباب اللغة والتّفسير فيقولون : إنها تعني ملء التنور بالنار(٢) .

لذلك يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذه المجموعة من الكفّار تصبح وقودا للنار ، كما نقرأ ذلك في الآية (٢٤) من سورة البقرة :( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

البعض الآخر يقول : إنّ معنى الآية هو أنّ هؤلاء ستملأ النّار كلّ وجودهم وتستوعب كامل كيانهم. (طبعا ليس ثمّة تعارض بين المعنيين).

هذا النوع من العقاب للمعاندين والمتكبرين والمجادلين يعتبر في الواقع انعكاس لأعمالهم في هذه الدنيا ، حيث كذّبوا بآيات الله بسبب كبريائهم

__________________

(١) «الأغلال» جمع «غل» وتعني الطوق حول العنق أو الرجل. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «غلل» على وزن «أجل» بمعنى الماء الذي يجري بين الأشجار. ويطلق على «الخيانة» (غلول) وعلى الحرارة الناشئة من العطش «غليل» وذلك بسبب نفوذها تدريجا إلى داخل أعماق الإنسان.

«السلاسل» فهي جمع «سلسلة ، و «يسحبون» من كلمة «سحب» على وزن (سهو).

(٢) يلاحظ ذلك في «تفسير الصافي» و «روح المعاني» و «الكشاف» في نهاية الآيات التي نبحثها. وفي لسان العرب : المعنى الأصلي لـ «سجر» هو الملء. فيقال «سجرت النهر» أي ملأته ماء.

٣١٩

وغرورهم ، وقيدوا أنفسهم بسلاسل التقليد الأعمى ، وفي يوم الجزاء والقيامة ستطوقهم السلاسل من الأعناق بمنتهى الذلّة ، وسيسحبون أذلاء إلى نار جهنم وبئس المصير.

إضافة إلى هذا العذاب الجسماني سيعاقبون بمجموعة من أنواع العذاب الروحي والنفسي كما تشير إليه الآية التالية ، حيث يقول تعالى :( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) ؟!

أي أين شركاؤكم من دون الله كي ينقذوكم من هذا العذاب الأليم وأمواج النّار المتلاطمة؟ ألم تقولوا : إنّكم تعبدونهم وتطيعونهم وتتخذونهم أربابا ليشفعوا لكم ، إذا أين شفاعتهم الآن؟!

فيجيبون بخضوع يغشاهم وذلك يعلوهم :( قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) (١) أيّ اختفوا وهلكوا وأبيدوا بحيث لم يبق منهم أثر.

ولا ريب ، فإنّ من كانوا يدعونه من دون الله هم في نار جهنم ، وقد يكونون بجانبهم ، إلّا أنّهم لا ينفعون ولا يؤثرون وكأنّهم قد اختلفوا!

وعند ما يرى هؤلاء أنّ اعترافهم بعبادة الأصنام أصبح عارا عليهم وعلامة تميزهم ، فإنّهم يبدأون بالإنكار فيقولون :( بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ) .

لقد كانت الأصنام مجرّد أوهام ، لكنّا كنّا نظن أنّها تمثل حقائق ثابتة ، لكنّها أصبحت كالسراب الذي يتصوره العطشان ماء. أمّا اليوم فقد ثبت لنا أنّها لم تكن سوى أسماء من غير مسمى وألفاظ ليس لها معنى ، وأنّ عبادتها لم تنفعنا بشيء سوى الضلال. لذلك فهؤلاء اليوم بمواجهة الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره.

هناك احتمال آخر في تفسير الآية ، هو أنّهم سيكذبون لينقذوا أنفسهم من الفضيحة ، كما نقرأ ذلك في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة الأنعام :( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ

__________________

(١) لقد ذكر المفسرون معنيين لكلمة «ضلوا» فالبعض اعتبرها بمعنى ضاعوا وهلكوا ، بينما قال البعض الآخر : إنها بمعنى «غابوا» كقولنا «ضلت الدابة» أي غابت فلم يعرف مكانها.

٣٢٠