الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 146454
تحميل: 3279


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146454 / تحميل: 3279
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

القرآن والتوحيد ووجود عالم ما بعد الموت وتصرون عليه ، فأنتم لا تملكون حتما دليلا قاطعا على هذا الرفض ، لذا يبقى ثمّة احتمال في أن تكون دعوة القرآن وقضية المعاد حقيقة موجودة ، عندها عليكم أن تتصوروا المصير الأسود الموحش الذي ينتظركم لعنادكم وضلالكم ومعارضتكم الشديدة إزاء الدين الإلهي.

إنّه نفس الأسلوب الذي نقرأ عنه في محاججة أئمّة المسلمين لأمثال هؤلاء الأفراد ، كما نرى ذلك واضحا في الحادثة التي ينقلها العلّامة الكليني في «الكافي» حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادقعليه‌السلام وابن أبي العوجاء.

فمن المعروف أنّ «عبد الكريم بن أبي العوجاء» كان من ملاحظة عصره ودهرييها ، وقد حضر الموسم (الحج) أكثر من مرّة والتقى مع الإمام الصادق في مجالس حوار ، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنه إلى الإسلام ، ولكنّ ابن أبي العوجاء لم يسلم ، وقد صرح الإمام (ع) بأن سبب ذلك هو إنّه أعمى ولذلك لا يسلم.

والحادثة موضع الشاهد هنا ، هي أنّ الإمام بصر بابن أبي العوجاء في الموسم فقال له : ما جاء بك إلى هذا الموضع؟

فأجاب ابن أبي العوجاء : عادة الجسد ، وسنة البلد ، ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة!

فقال له الإمام : أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم(١) .

وعند ما أراد أن يبدأ بالمناقشة والجدال قال له الإمامعليه‌السلام : لا جدال في الحج.

__________________

(١) يناديه الإمام بهذا الاسم ، وهو اسمه الحقيقي مع كونه منكرا لله لكي يشعره مهانة ما هو عليه وهذا اسمه.

٤٤١

ثم قال له : إن يكن الأمر كما تقول ، وليس كما نقول ، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول ، وهو كما نقول نجونا وهلكت.

فأقبل عبد الكريم على من معه وقال : وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردّوني ، فردوه فمات(١) .

* * *

مسألة :

يثار هنا السؤال الآتي : لقد قرأنا في الآيات التي نبحثها قوله تعالى :( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) ولكنّا نقرأ في سورة «الإسراء» قوله تعالى :( وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً ) (٢)

والسؤال هنا كيف نوفق بين الآيتين ، إذ المعروف أنّ الدعاء دليل الأمل ، في حين تتحدث الآية الأخرى عن يأس أمثال هؤلاء؟

أجاب بعض المفسّرين على هذا السؤال بتقسيم الناس إلى مجموعتين ، مجموعة تيأس نهائيا عند ما تصاب بالشر والبلاء ، واخرى تصر على الدعاء برغم ما بها من فزع وجزع(٣) .

البعض الآخر قال : إنّ اليأس يكون من تأمّل الخير أو دفع الشر عن طريق الأسباب المادية العادية ، وهذا لا ينافي أن يلجأ الإنسان إلى الله بالدعاء(٤) .

ويحتمل أن تكون الإجابة من خلال القول بأنّ المقصود من( فَذُو دُعاءٍ

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأول ، ص ٧٧ ـ ٧٨ ، كتاب التوحيد باب حدوث العالم.

(٢) الإسراء ، الآية ٨٣.

(٣) تفسير روح البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٢٨٠.

(٤) تفسير الميزان ، مجلد ١٧ ، ص ٤٢٨ ، لكن هذا التفسير لا يناسب المقام كثيرا ، خاصة وإن الآيات أعلاه هي بصدد ذم مثل هؤلاء الأشخاص ، في حين أن قطع الأمل من الأسباب الظاهرية والتوجه نحو الله ليس عيبا وحسب ، بل يستحق التنويه والمدح.

٤٤٢

عَرِيضٍ ) هو ليس الطلب من الله ، بل الجزع والفزع الكثير ، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية (٢٠) من سورة المعارج :( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) .

أو أن الآيتين تعبّران عن حالتين ، إذ أنّ هؤلاء الأفراد يقومون أولا بالدعاء وطلب الخير من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم فزعون جزعون ، ثمّ لا تمرّ فترة قصيرة إلّا ويصابون باليأس الذي يستوعب وجودهم كلّه.

* * *

٤٤٣

الآيتان

( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤) )

التّفسير

علائم الحق في العالم الكبير والصغير :

الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين ، وهما بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة.

فالآية الأولى تتحدث عن التوحيد (أو القرآن) ، والثانية عن المعاد.

يقول تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) .

«آيات الآفاق» تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها ، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى ، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي ، إنّ كلّ هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود الله.

أمّا «الآيات النفسية» مثل خلق أجهزة جسم الإنسان ، والنظام المحير الذي

٤٤٤

يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا ، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثمّ أسرار الروح العجيبة. إنّ كلّ ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.

صحيح أنّ هذه الآيات قد طرقت سابقا بمقدار كاف من قبل الله تعالى ، إلّا أنّ هذه العملية والإراءة مستمرة ، لأنّ (سنريهم) فعل مضارع يدل على الاستمرار ، وإذا عاش الإنسان مئات الآلاف من السنين ، فسوف تنكشف له في كلّ زمان علامات وآيات إلهية جديدة ، لأنّ أسرار العالم لا تنتهي.

إنّ كافة كتب وبحوث العلوم الطبيعية وما يتصل بمعرفة الإنسان في أبعاده المختلفة (التشريح ، فسلجة الأعضاء ، علم النفس ، والتحليل النفسي) وكذلك العلوم التي تختص بمعرفة النباتات والحيوانات والهيئة والطبيعة وغير ذلك ، تعتبر في الواقع كتبا وبحوثا في التوحيد ومعرفة الخالق (جلّ وعلا) لأنّها عادة ما ترفع الحجب عن الأسرار العجيبة لتبيّن قدرا من حكمة الخالق العظيم ، وقدرته الأزلية ، وعلمه الذي أحاط بكل شيء.

أحيانا يستحوذ علم واحد من هذه العلوم ، بل فرع من فروعه المتعدّدة على اهتمام عالم من العلماء فيصرف عمره في سبيله ، وفي النهاية يقرّر قائلا : مع الأسف لا زلت لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع ، وما علمته لحد الآن تجعلني أغوص أكثر في أعماق جهلي ، نعود الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) .

وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات ، على أوراق الشجر ، في الأوراد والزهور ، وبين

__________________

(١) ذهب الكثير من المفسّرين إلى أنّ «الباء» زائدة و «ربك» تقوم مقام الفاعل. وجملة «أنّه على كلّ شيء شهيد» «بدل» ذلك ، والمعنى يكون هكذا : «أولم يكفهم أن ربّك على كلّ شيء شهيد».

٤٤٥

طبقات المخ العجيبة ، وعلى الأغشية الرقيقة للعين ، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض ، وفي كلّ شيء من الوجود تجد أثرا يدل على الخالق ، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).

إنّ ما قلناه أعلاه هو أحد التّفسيرين المعروفين للآية ، إذ بناء على هذا التّفسير فإن الآية بجميعها تتحدث عن قضية التوحيد ، وتجلّي آيات الحق في الآفاق والأنفس.

أمّا التّفسير الثّاني فيذهب إلى قضية إعجاز القرآن ، وخلاصته أنّ الله يريد أن يقول : لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب ، وإنّما في نواحي العالم المختلفة ، وفي هؤلاء المشركين أنفسهم ، حتى يعلموا بأنّ هذا القرآن على حق.

فمن آيات الآفاق ما تمثّل بانتصار الإسلام في ميادين الحرب المختلفة ، وفي ميدان المواجهة الفكرية والمنطقية ، ثمّ انتصاره في المناطق التي فتحها وحكم فيها على أفكار الناس.

ثم إنّ نفس المجموعة من المسلمين التي كانت في مكّة ، كيف يسّر الله لها أمرها بالهجرة ، ثمّ انطلقت إلى بقاع الدنيا ، لتدين لدينها الشعوب في مناطق واسعة من العالم ورفع راية الإسلام.

ومن آيات الأنفس ما تمثل في انتصار المسلمين على مشركي مكّة في معركة بدر ، وفي يوم فتح مكّة ، ونفوذ نور الإسلام إلى قلوب العديد منهم.

إنّ هذه الآيات الآفاقية والأنفسية أثبتت أنّ القرآن على حق.

وهكذا فإنّ الخالق العظيم الذي يشهد على كلّ شيء ، شهد أيضا على حقانية القرآن عن هذا الطريق.

وبالرغم من أنّ لكل واحد من هذين التّفسيرين قرائن وأدلة ترجحه ، إلّا أن

٤٤٦

التأمل في نهاية الآية والآية التي تليها يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل(١) .

وثمّة أقوال اخرى في تفسير الاية تركناها لعدم جدواها.

الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الأساس والسبب في شقاء هذه المجموعة المشركة الفاسدة ، إذ يقول تعالى عنهم :( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ) .

ولأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء ، فهم يقومون بأنواع الجرائم والمعاصي مهما كانت ، ومهما بلغت. إنّ حجب الغفلة والغرور تهيمن على هؤلاء فتنسيهم لقاء الله ، ممّا يؤدي بهم إلى السقوط عن مصاف الإنسانية.

ولكنّهم يجب أن يعلموا :( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) .

إنّ جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم الله ، وكل ذلك يسجّل لمحكمة القيامة والحشر.

«مرية» على وزن «جزية» و «قرية» تعني التردّد في اتخاذ القرار ، والبعض اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة ، والكلمة مأخوذة في الأصل من «مريت الناقة» بمعنى عصر ثدي الناقة بعد حلبها أملا بوجود بقايا الحليب فيه ، ولأنّ هذا العمل مع الشك والتردّد ، فقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى.

وعند ما نسمع إطلاق كلمة «المراء» على «المجادلة» فذلك لما يحاوله

__________________

(١) التّفسير الأوّل له أربعة مرجحات هي :

أولا : إنّ أكثر ما تؤكد عليه الآيات هو قضية التوحيد وأدلته.

ثانيا : إنّ تعبيري «آفاق وأنفس» أكثر تناسبا مع آيات التوحيد.

ثالثا : نشير نهاية الآية في قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إلى قضية التوحيد ، وشهادة الله التكوينية على حقانية ذاته المنزّهة.

رابعا : الآية التي تليها تتحدث عن المعاد ، ونحن نعرف أنّ المبدأ والمعاد غالبا ما يقترن أحدهما بالآخر.

أما التّفسير الأوّل فله ثلاثة مرجحات هي :

أوّلا : إنّ ضمير «إنّه» مفرد للغائب ، في حين أنّ ضمير «آياتنا» متكلّم مع الغير ، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ ضمير من الضميرين يختص بمتابعة موضوع خاص.

ثانيا : إنّ الآية السابقة كانت حول القرآن بالخصوص.

ثالثا : إنّ جملة «سنريهم» التي هي فعل مضارع للاستمرار ، تفيد هذا المعنى بالذات ، أي أنّ الآيات المذكورة سنعرضها فيما بعد.

٤٤٧

الإنسان من إخراج ما في ذهن الطرف الآخر.

والآية ـ في هذا الجزء منها ـ رد على شبهات الكفار بخصوص المعاد ، فهؤلاء يقولون : كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن ينفصل؟ ومن يستطيع أن يجمع أجزاء الإنسان؟ والأكثر من ذلك : من الذي يحيط بنيات الناس وأعمالهم على مدى تأريخ البشرية؟

القرآن يجيب على كلّ ذلك بالقول : كيف يمكن للخالق المحيط بكل شيء أنّ لا تكون هذه الأمور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟

ثم إنّ دليل إحاطة علمه بكل شيء ، هو تدبيره لكل هذه الأمور ، فكيف يجوز له أن لا يعلم بأمور ما خلق ودبّر؟

بعض المفسّرين اعتبر أنّ الآية تختص بالتوحيد وليس بالمعاد ، حيث يقول العلامة الطباطبائي في ذلك : «الذي يفيده السياق أنّ في الآية تنبيها على أنّهم لا ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيدا على كلّ شيء ، وهو أقوى براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقل ، لأنّهم في مرية وشك من لقاء ربّهم ، وهو تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شيء من خلقه»(١) .

ولكن هذا التّفسير مستبعد نظرا لأنّ تعبير «لقاء الله» عادة ما يأتي للكناية على يوم القيامة.

* * *

بحوث

أوّلا : التوحيد بين دليل «النظم» ودليل «الصدّيقين»

أشار الفلاسفة في بحوثهم حول التوحيد إلى الأهمية الكبيرة لنوعين من الاستدلال على الخالق جلّ وعلا : أحدهما الاستدلال من خلال «النظم».

__________________

(١) تفسير الميزان. المجلد (١٧). صفحة (٤٠٥).

٤٤٨

والآخر دليل «الصديقين».

ودليل «النظم» كما يظهر من اسمه ، يبدأ من نظام عالم الوجود وأسراره ودقائقه ، ليرشد إلى مصدر العلم والقدرة والخلق الذي أوجد ذلك ودبره ، والقرآن الكريم مليء بهذا النوع من الاستدلال ، فهو يذكر نماذج كثيرة عن آيات الله في السماء والأرض وفي مظاهر الحياة ونظمها وما يمور فيها من كائنات ، وينتهي من هذا الطريق إلى إثبات وجود الصانع المدبّر (جلّ وعلا).

إنّ كلّ شخص يستطيع استيعاب هذا النوع من الاستدلال مهما كان مستواه وعلى قدر ما يجمل من علم وإدراك ، إذ يستفيد منه أكبر العلماء على قدر استعداده وثقافته استيعابه ، في نفس الوقت الذي يستفيد منه الأمّي وغير المتعلّم وغير المطّلع على فنون العلوم والمعرفة.

أمّا دليل «الصديقين» فهو نوع من الاستدلال يقوم بالوصول إلى (الذات) بواسطة (الذات) نفسها ، ومثل هؤلاء يعرفونه تعالى من خلال وجوب وجوده.

بعبارة اخرى : إنّ الممكنات والمخلوقات لا تكون هنا واسطة لإثبات وجوده ، بل إنّ ذاته بنفسه تدل على ذاته ، ويكون تعالى مصداقا لـ «يا من دلّ على ذاته بذاته»(١) ومصداقا أيضا لـ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (٢) .

إنّ هذا الاستدلال استدلال فلسفي معقد بحيث لا يستطيع أن يحيط بكنهه وبأعماقه إلّا من يحيط بمبادئه ، وليس من قصدنا هنا تبسيط الدليل فذلك شأن الكتب الفلسفية ، وإنّما أردنا من خلال هذا العرض أن نقف على آراء بعض المفسّرين من الذين يعتقدون بأنّ مطلع الآية في قوله تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ ) يتضمّن إشارة إلى دليل «النظم» والعلة والمعلول. بينما اعتبروا نهاية الآية في قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إشارة إلى دليل

__________________

(١) هذا المقطع من دعاء الصباح المنقول عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٢) آل عمران ، الآية ١٨.

٤٤٩

«الصديقين».

ولكن ليس ثمّة قرائن واضحة من نفس الآية تؤيد فكرة هذا الاستنتاج!

ثانيا : حقيقة إحاطة الله بكل شيء

يجب أن لا نتصور ـ مطلقا ـ أنّ إحاطة الخالق جلّ وعلا بالموجودات والكائنات تشبه إحاطة الهواء الذي يلف الكرة الأرضية ويغلّفها ، لأنّ مثل هذه الإحاطة هي دليل المحدودية ، بل الإحاطة المعنية هنا تتضمن معنى دقيقا ولطيفا يتمثل في ارتباط كلّ الكائنات والموجودات بالذات المقدسة.

وبعبارة اخرى : لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم بذاته ، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه وترتبط به ، بحيث لو زال هذا الارتباط لحظة واحدة فلا يبقى شيء منها.

إنّ هذه الإحاطة نتلمّس كنهها وحقيقتها في الكلمات الواردة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام إذ يقول : «مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة».

وقد نلمح هذا المعنى بعينه فيما ذكره الإمام الحسينعليه‌السلام في دعاء عرفة ذي المحتوى العميق ، إذ يقول فيه : «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا»(١) .

ثالثا : آيات الآفاق والأنفس

لو أتيح للإنسان أن ينكر كلّ ما يستطيع ، فهو لا يستطيع أن ينكر وجود نظام دقيق قائم يعم بنسقه عالم الوجود ، فأحيانا يقضي عالم معين كلّ عمره بالدرس

__________________

(١) مقطع من دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة ، وهو ممّا تذخر به كتب الأدعية.

٤٥٠

والمطالعة حول تركيب العين وأسرارها أو المخ أو القلب ، ويقرأ الكتب الكثيرة ممّا كتب حول الموضوع ، إلّا أنّه أخيرا يعترف بأنّ هناك أسرارا كثيرة حول موضوعه لا تزال مجهولة.

وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّ علوم علماء اليوم ، ليست هي سوى نتيجة متراكمة لجهود ودراسات آلاف العلماء عبر تأريخ البشر.

إنّ العالم اليوم ينطق في كلّ جزء من أجزائه بوجود قدرة أزلية تمكن وراءه ، فكل شيء يدل على الصانع لمدبّر ، وأي نبات ينبت على الأرض يهتف «وحده لا شريك له».

نستطيع هنا أن نترك الحديث عن القضايا العلمية المعقدة ، ونتجه إلى ظواهر عادية ممّا ينتشر حولنا ، لنتلمّس فيها أدلة واضحة على إثبات الصانع العظيم.

ولا بأس هنا من ذكر هذين المثالين :

المثال الأول : الجميع يعرف أنّ هناك تقوّس في أخمص قدم كلّ إنسان بحيث لا يبدو الأمر ملفتا للنظر مطلقا ، ولكنّا نسمع في معاملات الفحص الطبي الخاص بأداء الخدمة العسكرية ، أنّ الشاب الذي يفتقد مثل هذا التقوّس يعفى من الخدمة العسكرية أو يحال إلى الأعمال المكتبية الإدارية.

إنّ الإنسان الذي يفتقد مثل هذا التقوس يتعب بسرعة ، ولا يملك الاستعداد الكافي لأداء الخدمة العسكرية التي تستدعي المشي الطويل.

وهكذا كلّ شيء في هذا العالم وفي وجود الإنسان مخلوق بدقّة ونظم ، حتى التقوس البسيط في أخمص قدم الإنسان!

المثال الثّاني : في داخل فم الإنسان وعينه منابع فوّارة منتظمة ودقيقة الإفراز ، يخرج من فتحتها الصغيرة على مدى حياة الإنسان سائلان مختلفان تماما ، لولاهما لما استطاع الإنسان أن يكون قادرا على الرؤية أو التحدّث أو مضغ الطعام وبلعه.

٤٥١

بعبارة اخرى : إنّ الحياة مستحيلة بدون هذين السائلين العاديين ظاهرا!

فبدون أن يكون سطح العين رطبا بشكل دائم يستحيل دوران الحدقة التي ستصاب بآلام كثيرة والأذى بمجرّد ملامستها لأجسام صغيرة ، بل ستمنعها هذه الأجسام عن الحركة.

كذلك إذا لم يكن فم الإنسان وبلعومه رطبا ، فإنّ الكلام يصبح أمرا مستحيلا بالنسبة له ، وكذلك مضغ الطعام وبلعه. بل وحتى التنفس إذا كان الفم جافا.

وكذلك ينبغي أن تكون التجاويف الأنفية رطبة دائما حتى يسهل دخول الهواء ومروره باستمرار.

والدقيق هنا أنّ ماء العين ينزل عبر قنوات خاصة من العين إلى الأنف للمحافظة على رطوبته ، وإذا قدّر لهذا المجرى أن يغلق ليوم واحدا فقط ـ كما نشاهد ذلك في حال بعض المرضى ـ فإن الدموع ستسيل على الوجه بشكل دائم وسيكون لها منظر مزعج مؤذ.

ونفس الكلام يقال بالنسبة للغدد اللعابية في الفم ، فقلّة إفرازاتها تزيد من جفاف اللسان والفم والبلعوم ، وكثرته تعوق التحدث وتجعل اللعاب يسيل من الفم إلى الخارج.

ثم إنّ المذاق الملحي للغدد الدمعية يؤدي إلى حفظ أنسجة العين ضدّ الأجسام الغريبة بمجرّد دخولها إلى العين.

بينما يفتقد اللعاب لأي طعم ، كي يستطيع الإنسان أن يشعر بالمذاق الخاص للأطعمة ، بينما تساعد الأملاح الموجودة فيه على هضم الطعام.

وإذا تدبرنا في طبيعة التكوين الكيمياوي والفيزيائي لسوائل هذه الغدد وأنظمتها الدقيقة ومنافعها ، نتبيّن عندها أنّ وجودها لا يمكن أن يكون مجرّد صدفة عمياء لا تعقل ولا تعي ، بل هي من آيات الله الأنفسية ومصداق لقوله الحق جلّ وعلا :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) .

٤٥٢

وفي إشارة عابرة لكنّها كبيرة الدلالة والمعنى ، يتحدث الإمام الصادق في الحديث المعروف بتوحيد المفضّل ، الذي هو غني جدّا في الإشارة إلى الآيات الآفاقية والأنفسية لله في الوجود ، يقولعليه‌السلام : «أي مفضل! تأمل الريق وما فيه من المنفعة ، فإنّه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ، ليبل الحلق واللهوات فلا يجف ، فإنّ هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان ، ثمّ كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه ، تشهد بذلك المشاهدة»(١) .

فإذا تجاوزنا جسم الإنسان فإنّ روحه بؤرة للعجائب بحيث حيّرت جميع العلماء. وثمّة آلاف الآلاف من هذه الآيات البينات التي تشهد جميعا «أنّه الحق».

وهنا يلتقي صوتنا ـ بدون إرادة منّا ـ مع صوت الحسينعليه‌السلام ، ونقول : «عميت عين لا تراك»!!

نهاية سورة فصّلت

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٣ ، صفحة ٧٧.

٤٥٣
٤٥٤

سورة الشّورى

مكيّة

وعدد آياتها ثلاث وخمسون آية

٤٥٥
٤٥٦

«سورة الشورى»

نظرة عامة في محتوى السورة :

إنّ إطلاق اسم «الشورى» على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية (٣٨) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في أمورهم.

ولكن بالإضافة إلى هذا الموضوع ، وإلى ما تتضمنه السورة من بحوث ومضامين السور المّكية من بحث في المبدأ والمعاد ، والقرآن والنبوّة ، فإنّها تتناول قضايا اخرى يمكن الإشارة إليها مختصرا بما يلي من نقاط :

القسم الأول : وهو أهم أقسام السورة ، يشتمل البحث فيه على قضية الوحي الذي يمثل طريق ارتباط الأنبياءعليهم‌السلام بالله تبارك وتعالى.

والملاحظ أنّ هذا الموضوع يلقي بظلاله على جميع أجزاء السورة ، فالسورة تبدأ بالإشارة إليه وتنتهي به أيضا.

وكامتداد لهذا الموضوع تثير السورة بحوثا حول القرآن ونبوة نبيّ الإسلام وبداية الرسالة منذ أيام نبيّ الله نوحعليه‌السلام .

القسم الثّاني : إشارات عميقة المعنى إلى دلائل التوحيد ، وآيات الله في الآفاق والأنفس التي تكمّل البحث في موضوع الوحي.

وفي هذا القسم ثمّة بحوث حول توحيد الربوبية.

القسم الثّالث : في السورة إشارات إلى قضية المعاد ومصير الكفار في القيامة.

٤٥٧

وهو محدود قياسا إلى الأقسام الأخرى.

القسم الرابع : تشتمل السورة على مجموعة من البحوث الأخلاقية التي تعكسها السورة بشكل خاص ودقيق. فهي تدعو أحيانا إلى ملكات خاصة مثل الاستقامة والتوبة والعفو والصبر وإطفاء نار الغضب.

وتنتهي في المقابل عن الرذيلة ، والطغيان في مقابل النعم الإلهية ، أو العناد وعبادة الدنيا ، وكذلك تنهى عن الفزع والجزع عند ظهور المشاكل.

إنّ السورة تنطوي على مجموعة متكاملة من دروس الهدى هي في الواقع شفاء للصدور ومسالك نور في طريق الحق.

فضيلة تلاوة السورة :

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلّي عليه الملائكة ، ويستغفرون له ويترحمون عليه»(١) .

وفي حديث آخر عن الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام «من قرأ حم عسق بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، حتى يقف بين يدي اللهعزوجل فيقول : عبدي أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها ، أمّا لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت من قراءتها ، ولكن سأجزيك جزاءك ، أدخلوه الجنّة».

وعند ما يدخل الجنّة يرفل بأنواع النعم الإلهية التي ذكرها الإمام الصادق في الحديث الآنف بشكل مفصل(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ـ ١٠ ، ص ٣١ ، طبعة دار المعرفة.

(٢) ثواب الأعمال ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، صفحة ٥٥٦.

٤٥٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) )

التّفسير

تكاد السماوات يتفطّرن!

مرة اخرى تواجهنا الحروف المقطّعة في مطلع السورة ، وهي هنا تنعكس بشكل مفصل ، إذ بين أيدينا خمسة حروف.

«حم» موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى أضيف إليها مقطع( عسق ) .

وقد ذكرنا مرارا أنّ للمفسّرين آراء وبحوثا كثيرة حول هذه الحروف ، يجملها صاحب مجمع البيان العلّامة الطبرسي في أحد عشر قولا ، وقد ذكرنا أهم

٤٥٩

تلك الأقوال في مطلع الحديث عن سور : البقرة ، آل عمران ، والأعراف ، ومريم ، وغضضنا الطرف عن غير المهم منها.

ونذكر الآن بعضا لا بأس به من هذه الأقوال بالرغم من عدم قيام دليل قاطع على صحتها.

فمنها قولهم أنّ هذه الحروف جاءت كأسلوب للفت أنظار الناس إلى القرآن ، لأنّ المشركين والمعاندين كانوا قد تواصوا فيما بينهم على عدم استماع آيات الله ، خاصّة عند ما كان رسول الله يقرؤها عليهم ، إذ كانوا يثيرون الضوضاء ، لذلك جاءت الحروف المقطعة (في ٢٩ سورة قرآنية) لتكون أسلوبا جديدا في جلب الانتباه.

وقد ذكر العلّامة الطباطبائي احتمالا آخر يمكن أن نضيفه إلى ما استخلصه العلّامة الطبرسي من الأقوال الأحد عشر ليكون المجموع اثنا عشر تفسيرا.

وما ذكره العلامة الطباطبائي وإن كان مثله مثل غيره من الأقوال ممّا لم يقم الدليل القاطع عليه ، إلّا أنّه من المفيد أن نستعرضه بإيجاز.

يقول العلّامة الطباطبائي : «إنك إن تدبرت بعض التدبّر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم ، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين ، وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور».

«ويؤكّد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ ، كما في مفتتح الحواميم من قوله :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ ) أو ما هو في معناه ، وما في مفتتح الراءات من قوله :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) أو ما في معناه ، ونظير ذلك في مفتتح الطواسين ، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه».

«ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا ، ويؤيد ذلك ما نجده في سورة الأعراف

٤٦٠