الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 146465
تحميل: 3280


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146465 / تحميل: 3280
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

المصدّرة بـ «المص» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات وص [أي ما افتتح بـ «ألم» و «ص»] وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ «المر» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات والراءات».

«ولعلّ المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف ، وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض ، لتبيّن له الأمر أزيد من ذلك»(١) .

وثمّة تفسير آخر أشرنا إليه سابقا ، وهو احتمال أن تكون هذه الحروف إشارات ورموزا لأسماء الخالق ونعمه وقضايا اخرى.

مثلا ، في السورة التي نبحثها اعتبروا الحاء إشارة إلى الرحمن ، والميم إلى المجيد ، والعين إلى العليم ، والسين إلى القدوس ، والقاف إلى القاهر(٢) .

يعترض البعض على هذا الكلام بقولهم : لو كان المقصود من الحروف المقطعة أن لا يعلم بها الآخرون فإنّ ذلك غير صحيح ، لأنّ هناك آيات اخرى تصرّح بأسماء الله ، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الرموز والإشارات لا تعني دائما أن يبقى الموضوع أو المعنى سرّيا ، بل قد تكون أحيانا علامة للاختصار ، وهذا الأمر كان موجودا سابقا ، وهو مشهور في عصرنا الراهن ، بحيث أنّ أسماء العديد من المؤسسات والمنظمات الكبيرة ، تكون على شكل مجموعة مختصرة من الحروف المقطّعة التي يرمز كلّ منها إلى جزء من الاسم الأصيل.

بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي ، فتقول :( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.

ومصدر الوحي واحد ، وهو علم الله وقدرته ، ومحتوى الوحي في الأصول والخطوط العريضة واحد أيضا بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات ، بالرغم من أنّ

__________________

(١) الميزان ، للعلّامة محمد حسين الطباطبائي ، المجد ١٨ ، صفحة ٨ ـ ٩.

(٢) يستفاد هذا التّفسير عن حديث للإمام الصادقعليه‌السلام . يراجع تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٨٢٢.

٤٦١

هناك خصوصيات بين دعوة نبي وآخر بحسب حاجة الزمان والمسيرة التكاملية للبشر(١) .

وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات الله الكمالية ، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معين ، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية :( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فعزته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم.

وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيما متناسقا مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الأمور والشؤون.

وتعبير «يوحى» دليل على استمرار الوحي منذ خلق الله آدمعليه‌السلام حتى عصر النّبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار.

قوله تعالى :( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) .

إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألّا يكون غريبا عن مخلوقاته وما يؤول إليه مصيرها ، بل يقوم بتدبير أمورها وحاجاتها عن طريق الوحي ، وهذه هي الصفة الثّالثة من الصفات السبع.

أمّا «العليّ» و «العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة له (سبحانه وتعالى) في هذه الآيات ، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأي طاعة أو عبودية من عباده ، وإنّما قام تعالى بتدبير أمر العباد عن طريق الوحي من أجل أن ينعم على عباده.

الآية التي بعدها تضيف :( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ ) (٢) وذلك بسبب نزول الوحي من قبل الله ، أو بسبب التهم الباطلة التي كان المشركون والكفّار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته.

__________________

(١) بالرغم من الكلام الكثير للمفسّرين حول المشار إليه في اسم الإشارة «كذلك» لكن يظهر أنّ المشار إليه هو نفس هذه الآيات النازلة على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا يكون مفهوم الآية : إنّ الوحي هو بهذا الشكل الذي أنزله الله عليك وعلى الأنبياء السابقين ، وقد استخدم اسم الإشارة للبعيد بالرغم من قرب المشار إليه ، وذلك للتعظيم والاحترام.

(٢) «يتفطرن» من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي.

٤٦٢

ويتّضح ممّا سلف أنّ للجملة معنيين :

الأوّل : أنّها تختص بموضوع الوحي الذي هو حديث الآيات السابقة ، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية (٢١) من سورة «الحشر» في قوله تعالى :( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .

إنّه كلام الله الذي يزلزل السماوات عند نزوله وتكاد تتلاشى ، فلو أنّه نزل على الجبال لتصدّعت ، لأنّه كلام عظيم من خالق حكيم.

والويل لقلب الإنسان ، فهو الوحيد الذي لا يلين ولا يستسلم ، ويصر على عناده وتكبره.

التّفسير الثّاني : أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون الله ، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلّ وعلا.

التّفسير الأوّل يناسب الآيات التي نبحثها والتي تنصب حول الوحي والتّفسير الثّاني يناسب ما نقرؤه في الآيتين (٩٠ ، ٩١) من سورة «مريم» حيث يقول تعالى بعد أن يذكر قول الكفار ـ وقبح قولهم ـ باتخاذه ولدا (!!) :( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) .

ومن الواضح أن ليس ثمّة تعارض بين التّفسيرين.

أمّا عن كيفية انفطار السماوات وانهدام الجبال وهي موجودات جامدة ، فقد ذكروا كلاما وأقوالا متعدّدة في الموضوع تعرضنا لها في نهاية حديثنا عن الآيتين المذكورتين من سورة مريم.

وإذا أردنا أن نقف على استخلاص عام لما قلناه هناك ، فيمكن أن نلاحظ أنّ مجموعة عالم الوجود من جماد ونبات وغير ذلك لها نوع من العقل والشعور ، بالرغم من عدم إدراكنا له ، وهم على هذا الأساس يسبحون الله ويحمدونه ، ويخضعون له ويخشعون لكلامه.

٤٦٣

أو أن يكون التعبير كناية عن عظمة وأهمية الموضوع ، مثلما نقول مثلا : إنّ الحادثة الفلانية كانت عظيمة جدّا وكأنّما انطبقت معها السماء على الأرض.

بقية الآية ، قوله تعالى :( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه ، فهو ـ وفقا للتفسير الأوّل ـ أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته ، يسبحون ويحمدون الله دائما ، يحمدونه بجميع الكمالات ، وينزهونه عن جميع النواقص ، وعند ما ينحرف المؤمنون أحيانا ، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من الله تعالى.

أمّا وفق التّفسير الثّاني ، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عما ينسب إليه من شرك ، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله.

وعند ما تستغفر الملائكة لمثل هذا الذنب العظيم لدى المؤمنين ، فهي حتما ـ ومن باب أولى ـ تستغفر لجميع ما لهم من ذنوب اخرى. وقد يكون الإطلاق في الآية لهذا السبب بالذات.

نقرأ نظيرا لهذه البشرى العظيمة في الآية (٧) من سورة المؤمن في قوله تعالى :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) .

وأخيرا تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، وتنصب حول الغفران والرحمة ، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه ، وبخصوص وظائف المؤمنين ، حيث يقول تعالى :( أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من

٤٦٤

الأسماء الحسنى المختصة بالله تعالى والمرتبطة بالوحي.

وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين ، بل أنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله.

أمّا عن مسألة الوحي فسيكون لنا كلام مفصل في نهاية هذه السورة إن شاء الله عند ما نتحدّث عن الآيتين (٥١ ، ٥٢).

هل تستغفر الملائكة للجميع؟

قد يطرح السؤال الآتي حول قوله تعالى :( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

وهو : الآية تفيد استغفار الملائكة لمطلق أهل الأرض سواء المؤمن منهم أو الكافر ، فهل يمكن ذلك؟

لقد أجابت الآية (٧) من سورة المؤمن على هذا السؤال من خلال قوله تعالى :( يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

وبناء على هذا فإنّ شرط الاستغفار هو الإيمان ، إضافة إلى كونهم معصومين ، وهم بذلك لا يطلبون المستحيل للذين يفتقدون إلى أرضية الغفران.

* * *

٤٦٥

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) )

التّفسير

انطلاقة من «أم القرى» :

تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك ، لذلك فإنّ الآية الأولى في المجموعة الجديدة ، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث يقول تعالى :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) .

حتى يحاسبهم في الوقت المناسب ، ويعاقبهم جزاء أعمالهم.

ثم تخاطب الآية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى :( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) إنّ مسئوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله الى جميع العباد.

٤٦٦

وثمّة في كتاب الله آيات اخرى تشير إلى هذا المعنى :

قوله تعالى :( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (١) .

قوله تعالى :( ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٢) .

قوله تعالى :( وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (٣) .

قوله تعالى :( ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٤) .

إنّ هذه الآيات تبيّن حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه بإرادتهم وحريتهم ، لأنّ القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تمكن في حرية الإختيار ، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّة اخرى ، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي ، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له ، إذ يقول تعالى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) و «امّ القرى» هي مكّة المكرمة ، ثمّ تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء :( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) .

وقد يكون التعبير بـ «كذلك» إشارة إلى أنّه مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين بلسانهم ، فإنّنا كذلك أوحينا إليك بلسانك ، هذا القرآن العربي.

وعليه تكون «كذلك» إشارة إلى :( وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) .

ويمكن أن تكون إشارة إلى ما بعدها ، يعني أنّا أوحيناه إليك بهذه الصورة

__________________

(١) الغاشية ، الآية ٢٢.

(٢) سورة ق ، الآية ٤٥.

(٣) الأنعام ، الآية ١٠٧.

(٤) المائدة ، الآية ٩٩.

٤٦٧

قرآنا عربيا يهدف إلى الإنذار.

صحيح أنّنا نستفيد من نهاية الآية أيّ من قوله تعالى :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) أنّ مسئولية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي التبشير والإنذار ، ولكن بسبب ما للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة ، لذا فإنّ الآية استندت إلى «الإنذار» مرّتين فقط ، مع اختلاف بينهما ، إذ أنّ الكلام شمل في المرحلة الأولى إنذار المستمعين ، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شيء يجب أن يخافوه ، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة للغاية ، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس(١) .

وقد يتساءل البعض هنا : إنّنا نستفيد من قوله تعالى :( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) أنّ الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكّة وأطرافها. أفلا يتنافى هذا المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام؟

الجواب على هذا الاستفهام يتمّ من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه( أُمَّ الْقُرى ) .

إنّ كلمة «أمّ القرى» وهي أحد أسماء مكّة المكرّمة ، مؤلّفة من كلمتين هما : «أمّ» وتعني في الأصل الأساس والبداية في كلّ شيء ، ولهذا السبب تسمى الأمّ بهذا الاسم لأنّها أساس وأصل الأبناء.

ثمّ كلمة «قرى» جمع «قرية» بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة ، سواء كانت المدينة كبيرة أم صغيرة ، أو مجرّد قرية.

وفي القرآن الكريم ثمّة أدلة كثيرة على هذا المعنى.

والآن لنر لماذا سمّيت «مكّة» بأمّ القرى؟

__________________

(١) ينبغي الانتباه ، إلى أنّ (تنذر) تتعدى إلى مفعولين ، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأوّل في الجملة الأولى ، والثّاني في الجملة الثانية. وقد يصحب المفعول الثّاني بالباء فيقال : أنذره بذلك.

٤٦٨

الرّوايات الإسلامية تصرّح بأنّ الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها بالماء ، ثمّ بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه. (تؤيد النظريات العلمية الآن هذا المعنى).

ثمّ تخبرنا الرّوايات بأنّ منطقة الكعبة كانت أوّلا منطقة ظهرت من تحت الماء ، ثمّ بدأت اليابسة بالاتساع من جوار الكعبة ، ويعرف ذلك بدحو الأرض.

وهكذا يتّضح أن مكّة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح الأرض ، لذا فمتى قيل( أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) فالمعنى سيشمل جميع الناس على سطح الكرة الأرضية(١) .

مضافا إلى ذلك ، نحن نعرف أنّ الإسلام بدأ بالانتشار تدريجيا ، ففي البداية أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنذار المقرّبين إليه ، كما ورد في قوله تعالى :( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته ، ويكون أكثر قدرة واستعدادا للانتشار.

ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب ، كما ورد في قوله تعالى :( قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٣) .

وكذلك في قوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) .

وعند ما ترسخت أعمدة الإسلام بين هؤلاء القوم ، وقوي عوده أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوسع من ذلك ، أن ينذر العالم والناس كافة ، كما نقرأ في أوّل سورة الفرقان في قوله تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) وفي آيات اخرى.

__________________

(١) جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (٩٢) وقد ذكرنا هناك توضيحا أوسع ، فليراجع.

(٢) الشعراء ، الآية ٢١٤.

(٣) فصلت ، الآية ٣ ، إنّ ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية ، أمّا إذا فسرناها بالمعنى الفصيح فسيكون للآية مفهوم آخر.

٤٦٩

وبسبب هذا التكليف قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم خارج الجزيرة العربية ، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام.

ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف بقاع العالم ، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة.

أمّا لماذا سمّي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها :

بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد.

أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله.

أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم.

ولكن يظهر أنّ السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين كما نقرأ ذلك واضحا في قوله تعالى :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

وبما أن قوله تعالى :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) يقسّم الناس إلى فئتين ، فإنّ الآية التي بعدها تضيف :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) على الهداية.

إلّا أنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة ، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معيارا للكمال الإنساني؟

إنّ التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الإختيار والحرية.

إنّ الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان ، ومثل هذا الإختيار هو ما يميّز الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأخرى ، وإذا سلبت منه إرادته واختياره فكأنما سلبت منه إنسانيته.

__________________

(١) الواقعة ، الآية ٥٠.

٤٧٠

وكما أن سمة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل ، فهي أيضا سنّة إلهية لا قبل التغيير.

ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر ، وهم يدعون أتباعهم للأنبياء ، في حين أنّ قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة جميع الأنبياء ، فلا معنى للتكليف حينئذ ، ولا للحساب والسؤال والجواب ، ولا النصيحة والموعظة ، وبشكل أولى الثواب والعقاب!

ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردّد الإنسان في أعماله ، ولا معنى لندمه وعزيمته على تصحيح الأخطاء!

تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنّة والسعادة حيال أهل النّار ، فيقول تعالى :( وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وعند ما يشخّص أهل النّار بوصف «الظلم» فيبيّن أنّ المراد من «من يشاء» في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم.

وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنّة في مقابل أهل الظلم الذي هم أهل النّار.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ «ظالم» هنا ، وفي العديد من الآيات القرآنية الأخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط ، بل تشمل الذين يظلمون أنفسهم أيضا ، وتشمل المنحرفين عقائديا ، وهل هناك ظلم أعلى من الشرك والكفر؟

يقول لقمان لابنه وهو يعظه :( يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) .

وفي آية اخرى نقرأ قوله تعالى :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٣.

٤٧١

سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

وقال بعضهم في الفرق بين «ولي» و «نصير» أنّ «الولي» الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعلم من ذلك(١) .

ويحتمل أن تشير كلمة «ولي» إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب.

أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.

* * *

__________________

(١) يلاحظ ذلك في مجمع البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٧٧٩ ، ذيل الآية (٢٢) من العنكبوت.

٤٧٢

الآيات

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) )

التّفسير

الولي المطلق :

أوضحت الآيات السابقة أن لا وليّ ولا نصير سوى الله ، والآيات التي بين أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية ، وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.

تقول الآية بأسلوب التعجب والإنكار :( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) (١) . إلا

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (كالزمخشري في الكشاف والفخر ، الرازي في التّفسير الكبير ـ أنّ «أم» هنا بمعنى الاستفهام

٤٧٣

أنّه :( فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ ) .

فلو أراد هؤلاء أن يختاروا وليا ، فعليهم أن يختاروا الله ، لأنّ أدلة ولايته واضحة في الآيات السابقة ، مع بيان أوصافه الكمالية ، فالعزيز والحكيم ، والمالك والعلي والعظيم ، والغفور والرحيم ، هذه الصفات السبع التي مرّت علينا تعتبر ـ لوحدها ـ أفضل دليل على اختصاص الولاية به.

ثم تذكر دليلا آخر فتقول :( وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

ويجب اللجوء إليه لا لغيره ، لأنّ المعاد والبعث بيده ، وأنّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو مصيره بعد الموت.

ثم تذكر دليلا ثالثا فتقول :( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وهذه إشارة إلى أنّ الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقة.

الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول :( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) . فهو التوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.

إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب ، فهل تستطيع الأصنام والشياطين التي تعبدونها أن تقوم بذلك ، أم أنّ هذا الأمر يختص بالله الحكيم والعالم والقادر على حل مشاكل عباده ، وتنفيذه لحكمه وإرادته دون غيره؟

إذن فالله العزيز الحكيم هو الحاكم لا غيره.

لقد حاول بعض المفسّرين حصر مفهوم الاختلاف الذي تشير إليه الآية في قوله تعالى :( مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) في الاختلاف الوارد في الآيات المتشابهة ، أو في الاختلاف والمخاصمات الحقوقية فقط ، إلّا أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك ، إذ هي تشمل الاختلاف سواء كان في المعارف الإلهية والعقائد ، أم الأحكام

__________________

ـ الإنكاري ، أما البعض الآخر ـ كالطبرسي في «مجمع البيان» والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ـ فقد اعتبروها بمعنى «بل».

٤٧٤

الشرعية ، أم القضايا الحقوقية والقضائية ، أم غير ذلك ممّا يحدث بين الناس لقلّة معلوماتهم ومحدوديتها ، إنّ ذلك ينبغي أن يحل عن طريق الوحي ، وبالرجوع إلى علم الله وولايته.

وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية بالله ، تقول الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ) (١) فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية ولهذا السبب :( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) أيّ أعود إليه في المشكلات والشدائد والزلات.

جملة :( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ) تشير إلى الربوبية المطلقة لله بمعنى الحاكمية المتزامنة مع التدبير. ونحن نعلم أنّ للربوبية قسمين : القسم التكويني الذي يعود إلى إرادة نظام الوجود ، والقسم التشريعي الذي يقوم بتوضيح الأحكام ووضع القوانين وإرشاد الناس بواسطة الرسل والأنبياءعليهم‌السلام .

وعلى أساس ذلك طرحت الآية فيما بعد قضية «التوكل» و «الإنابة» حيث تعني الأولى رجوع جميع الأمور الذاتية في النظام التكويني إلى الخالق جلّ وعلا.

والثّانية تعني رجوع الأمور التشريعية إليه(٢) .

الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلا خامسا على ولاية الله المطلقة ، أو دليلا على ربوبيته ، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة ، إذ تقول :( فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

«فاطر» من مادة «فطر» وتعني في الأصل فتق شيء ما ، ويقابلها «قط» التي تعني بقول البعض الشق العرضي.

وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج

__________________

(١) في بداية هذه الجملة تكون كلمة «قل» مقدّرة ، فهذه الجملة وما بعدها تتحدث عن لسان النبيّ فقط ، أمّا جملة( مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) فهي استمرار لحديث الخالق جلّ وعلا. والذين اختاروا غير ذلك لم يسلكوا الطريق الصحيح في الظاهر.

(٢) الميزان ، المجلد ١٨ ، الصفحة ٢٣.

٤٧٥

الموجودات منه.

وبهذه المناسبة فإنّ «فطر» تطلق على «طلاع» التمر عند ما يتفتق ويخرج منه التمر.

والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها ، لأنّ الخالقية تشملها جميعا.

ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول :( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) (١) .

وهذه لوحدها تعتبر إحدى الدلائل الكبيرة على تدبير الله وربوبيته وولايته ، حيث خلق سبحانه وتعالى للناس أزواجا من أنفسهم ، وهو يعتبر أساسا لراحة الروح وسكون النفس ، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساسا لبقاء النسل واستمراره ، وتكاثره.

وبالرغم من أنّ خطاب الآية موجّه للإنسان ، والمعنى منصب عليه من خلال «يذرؤكم» إلّا أنّ هذا الأمر هو حكم سائد وسنة جارية في جميع الأنعام والموجودات الحية الأخرى التي تسري عليها التكاثر بالمثل.

وفي الواقع إنّ توجيه الخطاب للإنسان دونها يشير الى مقامه الكريم ، وأما أمر البقية فيتبيّن من خلال الإنسان كمثال.

الصفة الثّالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات الله الأخرى ، وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أي صفة من صفات الله ، لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة الله يتمثل في «التشبيه» حيث يشبهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته ، وهو أمر يؤدي للسقوط في وادي الشرك!

__________________

(١) الضمير في «فيه» يعود إلى «التدبير» أو «جعل الأزواج» و «يذرؤ» من «ذرأ» على وزن «زرع» وتعني «الخلق» لكنّه الخلق الذي يقترن ويتزامن مع إظهار الأفراد. وقد وردت أيضا بمعنى الانتشار.

٤٧٦

إنّ وجود الله تعالى ليس له نهاية ولا يحد بحد ، وكل شيء غيره له نهاية وحد من حديث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل ، وفي كلّ شيء.

وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.

لذا فإنّ ما يثبت لغيره لا يصح عليه (سبحانه وتعالى) ولا ينطبق على ذاته المنزّهة ، بل ولا معنى له.

فبالنسبة إلينا تكون بعض الأمور سهلة والأخرى صعبة ، وبعض الأحداث وقع في الماضي وبعضها يقع الآن ، ومنها ما يقع في المستقبل. وبعض الأشياء صغير وبعضها كبير.

إنّ مقاييس هذه الأشياء ومدلولاتها ومفاهيمها تحتكم إلى وجودنا المحدود ، وهي تلائم إدراكنا وحاجتنا إلى مقايسة الأشياء بغيرها.

أمّا هذه المواصفات والمقاييس والمصطلحات المحدودة ، فإنّ أيا منها لا ينطبق على صفات الله ، إذ لا معنى لديه للقرب والبعد ، فالكل قريب وفي متناول إرادته ، ولا معنى للصعب والسهل ، فكل شيء سهل وطوع إرادته المطلقة ، ولا يوجد مستقبل وماض ، فكل شيء بالنسبة إليه تعالى حضور وحال.

إنّ إدراك هذه المعاني غير مستطاع من دون تفريغ الذهن وتخليته ممّا هو فيه.

لهذا السبب يقال : إنّ من السهل معرفة أصل وجود الخالق جلّ وعلا ، لكن من الصعب معرفة صفاته.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا الشأن : «وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء»(١) .

تشير نهاية الآية إلى صفات اخرى من صفات الله :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

هو الخالق والمدبّر ، والسميع والبصير ، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٨٤.

٤٧٧

أو مثيل ، ولهذا لا ينبغي الاستظلال إلّا تحت ولايته ، ولا تصح العبودية والربوبية إلّا له ، وذلك لا يكون ألّا بفك قيود عبودية الغير ، وتصريفها إليه دون غيره سبحانه وتعالى.

الآية التي بعدها تتحدّث عن ثلاثة أقسام أخرى من صفات الفعل والذات حيث توضح كلّ واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعد خاص.

يقول تعالى :( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى ، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه منه ، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس «مفاتيحها» وحسب( وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

«مقاليد» جمع «مقليد» وتعني المفتاح ، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كلّ شيء ما ، فيقال مثلا : إنّ مفتاح هذا الأمر بيدي ، يعني أنّ برنامجه وطريقه وشرائطه كلّها تحت قدرتي وفي يدي.(٢) .

وفي الصفة الأخرى ، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية :( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض فإنّ جميع الأرزاق في قبضته ، ويقسمها وفقا لمشيئته التي تصدر بمقتضى حكمته ، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.

إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها ، ومكانها وسائر شؤون حياتها الأخرى ، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى :( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

وهناك ما يشبه هذا الأمر وهو ما جاء في الآية (٦) من سورة «هود» في قوله تعالى:( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ

__________________

(١) المنافقون ، آية ٧.

(٢) بهذا الخصوص لدينا بحث مفصل يمكن مراجعته في نهاية الحديث عن الآية (٦٣) من سورة «الزمر».

٤٧٨

فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي بحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات الله الكمالية سواء الذاتية منها أو الفعلية.

فقد وصفته بصفات الولاية المطلقة ، إحياء الموتى ، قدرته على كلّ شيء ، خلقه للسماوات والأرض ، خلقه للأزواج وتكثير النسل ، لا يوجد مثيل له ، سميع ، بصير ، له خزائن السماوات والأرض ، رزاق ، وعليم بكل شيء.

إنّها صفات تكمل الواحدة منها الأخرى من حيث البيان ، وكلّها دليل على ولايته وربوبيته ، وبالنتيجة تعتبر طريقا لإثبات توحيده في العبادة.

* * *

بحوث

١ ـ معرفة صفات الله تعالى

إنّ علمنا وعلوم الكائنات جميعا محدود ، لذا لا نستطيع أن نصل إلى كنه وحقيقة ذات الخالق غير المحدودة ، لأنّ المعرفة بحقيقة شيء ما تعني الإحاطة به ، فكيف يستطيع الكائن المحدود أن يحيط بالذات غير المحدودة؟

وكذلك الحال بالنسبة لصفات الله ، إذ لا يمكن معرفتها بالنسبة لنا ، خصوصا وأنّ صفاته هي عين ذاته.

لذلك فعلمنا بذات الخالق وصفاته هو علم إجرائي ، وأكثر ما يدور حول آثاره جلّ وعلا.

من جانب آخر لا تستطيع ألفاظنا أن تبيّن ذات الله وصفاته المطلقة غير المحدودة ، لأنّ ألفاظنا موضوعة لتلبية حاجاتنا في حياتنا اليومية ، لذلك سوف نصل إلى معاني خاطئة من خلال استخدام ألفاظنا في توصيف صفات الخالق الكمالية ، كالعلم والقدرة والحياة والولاية والمالكية ، وسائر الصفات الأخرى.

٤٧٩

نقول مثلا : إنّ الله هو «الأول» وهو أيضا «الآخر» هو «الظاهر» وهو «الباطن» هو مع كلّ شيء وليس مع شيء ، وبعيد عن كلّ شيء إلّا أنّه ليس غربيا عنه.

قد يبدو في بعض هذه الألفاظ تناقض أو تضاد ، لأنّ معاني الألفاظ نقيسها على الأشياء والموجودات المحدودة ، فيمكن أن يكون هو الأوّل ولا يكون الآخر ، والظاهر ولا يكون باطن ، ولكن التفكير الدقيق في ذات الله وصفاته يوصلنا إلى إمكانية انطباق معاني هذه الألفاظ عليه ، فهو الأوّل في نفس الوقت الذي هو الآخر ، وهو الباطن في نفس الوقت الذي يكون فيه هو الظاهر أيضا.

وعلينا أن نعترف هنا بأنّ المهم في معرفة أوصافه الجمالية والجلالية هو أن ننتبه إلى حقيقة :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى هذه الحقيقة بوضوح فيقول : «ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إيّاه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه»(١) .

وفي مكان آخر يقولعليه‌السلام : «كل مسمّى بالوحدة غير قليل»(٢) .

خلاصة القول : يجب ولوج البحث في صفات الخالق على ضوء قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وعلينا أن ننظر إلى ذاته المقدسة من خلال قوله تعالى:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) وعبارة «سبحان الله» في العبادات وغيرها تشير إلى هذه الحقيقة.

٢ ـ ملاحظة أدبية

إنّ الكاف في جملة( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) للتشبيه ، وتعني المثل أيضا. لذا فإنّ هذا التكرار أصبح سببا لأن يعتبر الكثير من المفسّرين أنّها زائدة ، وأنّها جاءت

__________________

(١) الخطبة رقم (١٨٦).

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ٦٥.

٤٨٠