الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 146451
تحميل: 3279


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146451 / تحميل: 3279
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 15

مؤلف:
العربية

الملمّون بتعابير القرآن بخصوص الهداية والضلالة ، يعرفون بوضوح أنّه لا الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية ، إنّما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس.

فأحيانا يقوم الإنسان بعمل معين وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحا في الظلمات.

وهذا هو عين الإختيار والحرية ، فلو أن شخصا أصر على شرب الخمر وأصيب بأنواع الأمراض ، فإنه هو الذي جلب هذا الوضع وهذه الأمراض إلى نفسه ، فالخالق مسبب الأسباب ويعطي التأثيرات المختلفة للأشياء ، ولهذا السبب تربط النتائج به أحيانا(١) .

على أية حال ، فإن هذا أحد أكثر العقوبات ألما بالنسبة للظالمين ، ثمّ تضيف الآية :( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) .

فقد تحدث القرآن المجيد عدة مرات عن طلب الكافرين والظالمين العودة ، فأحيانا عند الموت مثل الآية (٩٩) و (١٠٠) من سورة المؤمنون :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) .

وأحيانا عند القيامة عند ما يقتربون من الجحيم ، كما تقول الآية (٢٧) من سورة الأنعام :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنها ستواجه بالرفض ، لأن العودة غير ممكنة أبدا ، وهذه سنة إلهية لا تقبل التغيير ، فكما أن الإنسان لا يمكنه الرجوع من الكهولة إلى الشباب ، أو من الشباب إلى الطفولة ، أو من الطفولة إلى عالم الأجنة ، كذلك يستحيل الرجوع إلى الوراء والعودة إلى الدنيا من عالم البرزخ أو الآخرة.

الآية الأخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول :( وَتَراهُمْ

__________________

(١) هناك شرح مفصل في هذا الخصوص في نهاية الآية (٣٦) من سورة الزمر ، حيث أوضحنا جميع جوانب هذا الموضوع.

٥٦١

يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ ) (١) .

فالقلق والخوف الشديد يسيطران على وجودهم ، والذلة والاستسلام يطغيان عليهم ، وانتهى كلّ شيء من التكبير ومحاربة وظلم وإيذاء المظلومين ، وينظرون من طرف خفي إلى النّار.

هذه صورة لحالة شخص يخشى من شيء أشد خشية ولا يريد أن ينظر إليه بعينين مفتوحتين ، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه ، لذا فهو مجبور على النظر إليه ، لكن بطرف خفي.

بعض المفسّرين قالوا : إنّ جملة (طرف خفي) تعني هنا النظر بعين نصف مفتوحة ، لأنّهم لا يستطيعون فتح العين كاملة من شدة الخوف والهول العظيم ، أو أنّهم من شدة الانهيار والإعياء لا يستطيعون فتح العين بشكل كامل.

فعند ما تكون حالة الإنسان هكذا قبل أن يدخل النّار فما ذا سيجري عليه عند ما يطؤها ويهوي في أعماقها؟!

أمّا آخر عقاب ذكر هنا ، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين ، كما جاء في آخر الآية :( وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه ، ثمّ زوجه ، وأبناءه وأقرباءه؟ ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!

ثم تضيف : يا أهل المحشر :( أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ ) .

إنّه العذاب الذي ليس هناك أمل بانتهائه ، ولا يتحدد بزمان معين. إنّه العذاب الذي يحرق أعماق الروح وظاهر الجسد على السواء.

وليس من لمستبعد أن يكون القائل لهذا الكلام هم المؤمنون الحقيقيون ، وهم

__________________

(١) «طرف» «بتسكين الراء» مصدر وتعني دوران العين ، وطرفة العين تعني حركة واحدة للعين ، والضمير في (عليها) يعود إلى العذاب ، صحيح أن العذاب مذكر لكنّه يعني هنا النّار وجهنم وضمير المؤنث يعود إليها.

٥٦٢

الأنبياء والأولياء وأتباعهم الخاصين ، حيث أنّهم مطهرون من الذنب ، والمظلومين الذين أوذوا كثيرا من قبل هؤلاء الظالمين ، ومن حقهم التحدث بهذا الكلام في ذلك اليوم (وقد أشارت روايات أهل البيتعليهم‌السلام إلى هذا المعنى)(١) .

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة ، وهي أن (العذاب الخالد) لهؤلاء الظالمين ، يدل على أن المقصود هم الكافرون ، كما ورد في بعض الآيات القرآنية :( وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

الآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة ، حيث تقول :( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

فهؤلاء قطعوا أواصر ارتباطهم بالعباد المخلصين والأنبياء والأولياء ، لذلك لا يملكون ناصرا أو معينا في ذلك اليوم ، والقوى المادية سينتهي مفعولها في ذلك اليوم أيضا ، ولهذا السبب سيواجهون العذاب الإلهي بمفردهم.

ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ) .

وفي الآيات السابقة قرأنا :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) .

فهناك تنفي الولي ، وهنا تنفي السبيل ، حيث أنّه ولأجل الوصول إلى الهدف ، يجب أن يكون هناك طريق ، ويجب أن يتوفّر الدليل ، إلّا أن هؤلاء الضالين محرومون من هذا وذاك.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٦.

٥٦٣

الآيات

( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) )

التّفسير

الأولاد هبة الرحمن :

بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانبا من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين ، فإنّ الآيات أعلاه تحذر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم ، وتدعوهم إلى الاستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق.

٥٦٤

فأوّل آية تقول :( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه ، وأحدا يحميكم غير رحمته ، فإنّكم على خطا ، لأن :( ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) .

عبارة( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) تشير إلى يوم القيامة ، وليس إلى يوم الموت.

كما أن عبارة (من الله) تشير إلى أن أحدا لا يستطيع أن يتخذ قرارا بعدم العودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.

وعلى أية حال ، فجميع الطرق التي يعتقد أنّها تنقذ الشخص من العذاب الإلهي تكونن مغلقة في ذلك اليوم ، وأحدها هو العودة إلى عالم الدنيا والتكفير عن الذنوب والخطايا.

أمّا الآخر فهو وجود ملجإ يأمن الإنسان عند اللجوء إليه.

وأخيرا وجود من يقوم بالدفاع عن الإنسان.

فكل جملة من الجمل الثلاث ـ للآية أعلاه ـ تنفي واحدا من هذه الطرق.

وقد فسّر بعضهم جملة( ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) بمعنى أنكم لا تستطيعون أن تنكروا ذنوبكم هناك ، لأن الأدلة والشهود كثيرون بحيث لا مجال للإنكار ، إلّا أن المعنى الأوّل أفضل كما يبدو.

الآية التي بعدها تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتواسيه قائلة :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسئولا عن حفظهم من الانحراف.

( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ) سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.

يجب عليك أن تقوم بإبلاغ الرسالة الإلهية بأفضل وجه ، وتتم الحجّة عليهم ، أمّا القلوب المهيأة فسوف تقبل بذلك بالرغم من أن كثيرا من الجاهلين سوف

__________________

(١) قد تكون عبارة (من الله) في الجملة أعلاه بمعنى (من قبل الله) يعني لا توجد عودة من قبل الخالق ، وقد تكون بمعنى (في مقابل الله) يعني لا يوجد من يستطيع أن يعيدكم إلى هذه الدنيا ضد إرادة الخالق.

٥٦٥

يعرضون عنها ، ولكنك لست مسئولا عنهم.

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في بداية هذه السورة في قوله تعالى :( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) (١) .

ثمّ ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول :( وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها ) ويغفل عن ذكر الخالق :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ ) .

فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة ، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة ، ولا تؤثر فيه دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فعوامل الهداية من حيث «التشريع» هي دعوة رسل الخالق ، ومن حيث «التكوين» قد تكون النعم وقد تكون المصائب ، إلّا أن هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثر فيهم أيّ من هذه العوامل ، وهذا بسببهم أنفسهم وليس بسببك ، لأنّك قمت بمسؤوليتك في الإبلاغ.

وقد تكون عبارة «إذا أذقنا» في الآية أعلاه (وهي هنا بخصوص رحمة الخالق ، وفي آيات قرآنية اخرى بخصوص العذاب الإلهي) إشارة إلى أن النعم والمصائب في هذه الدنيا تعتبر لا شيء بالنسبة إلى نعم ومصائب الآخرة. أو قد تكون بمعنى أن هؤلاء الأشخاص يصابون بالغرور والطغيان بمجرّد قليل من النعمة ، واليأس والكفر بقليل من المصائب.

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة ، وهي أن الخالق يوكل النعم إلى نفسه ، لأن رحمته تقتضي ذلك ، بينما يوكل المصائب والابتلاءات إليهم ، لأنّها نتيجة أعمالهم.

واستخدام كلمة (الإنسان) في مثل هذه الآيات تشير إلى طبيعة (الإنسان غير

__________________

(١) الشورى ، الآية ٦.

٥٦٦

المهذّب) حيث أنّه ذو تفكير قصير ونفسية ضعيفة ، وتكرار ذلك ـ في الآية أعلاه ـ يؤكّد على هذا المعنى.

ثمّ لبيان حقيقية أن أي نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق ، ولا يملك الأفراد شيئا من عندهم ، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة ، حيث تقول :( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) .

ولهذا السبب فإنّ الكل يأكل من مائدة نعمه ، ويحتاج إلى لطفه ورحمته ، فليس منطقيا الغرور عند النعمة ، ولا اليأس عن المصيبة.

و «نموذج» واضح لهذه الحقيقة وأن كلّ ما موجود هو منه ، والأفراد لا يملكون شيئا من عندهم هو أنّه :( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ) .

وبهذا الترتيب فإن الناس يقسّمون إلى أربع مجاميع : من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات ، ومن عنده البنات ويريد الذكور ، ومن عنده الذكور والإناث ، والمجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.

والعجيب أن أي شخص لا يستطيع الانتخاب في هذا المجال سواء في الماضي أو في الوقت الحاضر ، بالرغم من تقدم وتطور العلوم ، ورغم المحاولات العديدة فإن أحدا لم يستطع أن يهب الأبناء للعقيم الحقيقي ، أو يعين نوع المولود وفقا لرغبة الإنسان بالرغم من دور بعض الأطعمة أو الأدوية في زيادة احتمال ولادة الذكر أو الأنثى ، إلّا أن هذا يبقى مجرّد احتمال ولا توجد أية نتيجة حتمية لهذا الأمر.

وهذا نموذج واضح لعجز الإنسان ، ودليل على المالكية والحاكمية والخالقية للبارئ جلّ وعلا ، وهل هناك مثال أوضح من هذا؟

والطريف في الأمر أن هذه الآيات قدّمت الإناث على الذكور ، لكي توضح

٥٦٧

الأهمية التي يعطيها الإسلام لمنزلة المرأة ، ومن جانب ثان تقول للذين لهم تصورات خاطئة عن ولادة البنت أو الأنثى ـ ويكرهونها ـ أن الخالق يعطي الشيء الذي يريده هو وليس ما تريدونه أنتم ، وهذا دليل على أنّه هو الذي ينتخب.

إن استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلا واضحا على أن الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته ، وليس صحيحا للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.

كما أن استخدام عبارة (يزوجهم) لا تعني التزويج هنا ، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس وبعبارة اخرى فإن مصطلح (التزويج) يأتي أحيانا بمعنى المجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة ، لأن (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.

واعتبر بعضهم هذه الآية بمعنى ولادة الذكور والإناث على الترتيب ، والبعض الآخر اعتبرها بمعنى ولادة التوائم ، يعني الذكر والأنثى.

ولكن العبارة أعلاه لا تدل على أي من التفاسير المذكورة.

إضافة إلى ذلك فإنها لا تتناسب مع ظاهر الآية ، لأن الآية تريد الكلام عن مجموعة ثالثة رزقها الله البنات والبنين.

وعلى أية حال ، فإن المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كلّ شيء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب ، فهو القادر والعليم والحكيم ، حيث يقترن علمه بقدرته ، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها :( إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) .

ومن الضروري أن نشير إلى أن كلمة (عقيم) المأخوذة من كلمة (عقم) ـ على وزن (بخل) وكذلك على وزن (فهم) ـ وتعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير ، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهن غير مستعدة لتقبل النطفة ونمو الطفل ، كما تسمى بعض الرياح بالرياح العقيمة لعدم قدرتها على ربط الغيوم الممطرة ، و «اليوم العقيم» يطلق على اليوم الذي ليس فيه

٥٦٨

سرور وفرح ، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.

وأخيرا فإن الغذاء (المعقم) يطلق على الغذاء الذي تم القضاء على جميع ميكروباته ، بحيث لا يمكنها النمو في ذلك المحيط.

* * *

٥٦٩

الآية

( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) )

سبب النّزول

فيما يلي خلاصة لما ذكره بعض المفسّرين من سبب النّزول في هذه الآية : جاء عدد من اليهود إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : لماذا لا تتكلم مع الخالق؟ ولماذا لا تنظر إليه؟ فلو كنت نبيّا حقّا فافعل مثل موسى حيث نظر إلى الخالق وتحدث معه ، وسوف لا نؤمن بك أبدا حتى تفعل ما نطلبه منك ، عندها أجابهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ موسى لم ير الخالق أبدا ، هنا نزلت الآية أعلاه (حيث وضحت كيفية الارتباط بين الأنبياء والخالق)(١) .

التّفسير

طرق ارتباط الأنبياء بالخالق :

هذه السورة ، كما قلنا في بدايتها ، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، ص ٥٨٧٣.

٥٧٠

فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به ، لأن الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي).

وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية ، لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهم نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية ، ألا وهي قضية الوحي والارتباط بين الأنبياء والخالق.

في البداية تقول الآية :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ) لأنّ الخالق منزه عن الجسم والجسمانية.

( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) كما كان يفعل موسى حيث أنّه كان يتحدث في جبل الطور ، وكان يسمع الجواب عن طريق الأمواج الصوتية التي كان يحدثها الخالق في الفضاء ، دون أن يرى أحدا ، لأنّه لا يمكن مشاهدة الخالق بالعين المجرّدة.

( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) .

نعم ، فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدث الخالق مع عبادة لـ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .

فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان ، وكل أفعاله حكيمة ، ويتمّ ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.

هذه الآية تعتبر ـ في الحقيقة ـ ردا على الذين يتصورون ـ بجهالة ـ أن الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه ، حيث أن الآية تعكس بشكل دقيق ومختصر حقيقة الوحي والروح.

ومن مجمل الآية نستفيد أن الارتباط بين الأنبياء والخالق يتمّ عبر ثلاثة طرق هي :

١ ـ الإيحاء ، حيث كان كذلك بالنسبة للعديد من الأنبياء مثل نوح ، حيث

٥٧١

تقول الآية :( فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) (١) .

٢ ـ( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) كما كان الخالق يتكلم مع موسى في جبل طور ،( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) (٢) .

وقد اعتبر البعض أيضا أن( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) تشمل الرؤيا الصادقة والحقيقية.

٣ ـ إرسال الرّسول ، كما في الوحي الى الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالآية تقول :( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) (٣) .

ولم يقتصر الوحي على هذا الطريق بالنسبة للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل كان يتمّ بطرق اخرى أيضا.

ومن الضروري أن نشير إلى أن الوحي قد يتمّ أحيانا في اليقظة ، كما أشير إلى ذلك أعلاه ، وأحيانا في المنام عن طريق الرؤيا الصادقة ، كما جاء بشأن إبراهيم وأمره بذبح ابنه إسماعيلعليهما‌السلام [بالرغم من اعتبار بعضهم أن ذلك مصداق لـ( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) .

وبالرغم من أن الطرق الثلاثة التي ذكرتها الآية تعتبر الطرق الرئيسية للوحي ، إلّا أن بعضا من هذه الطرق لها فروع بحد ذاتها ، فالبعض يعتقد أن الملائكة تقوم بإنزال الوحي عبر أربعة طرق :

١ ـ يقوم الملك بإلقاء الوحي إلى روح النّبي وقلبه دون أن يتجسد أمامه أيّ النفث في الروع كما نقرأ ذلك في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول : «إن روح القدس نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب».

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ٢٧.

(٢) النساء ، الآية ١٦٤.

(٣) البقرة ، الآية ٩٧.

٥٧٢

٢ ـ يتقمص الملك أحيانا شكل الإنسان ويتحدث مع النّبي (حيث تذكر الأحاديث أن جبرئيل ظهر بصورة دحية الكلبي)(١) .

٣ ـ وأحيانا يكون على شكل رنين الجرس الذي يدوي صوته في الآذان ، وكان هذا أصعب أنواع الوحي بالنسبة للرسول حيث كان يتصبب عرقا حتى في الأيّام الباردة ، وإذا كان راكبا على دابة فإنّها كانت تقف وتجثو على الأرض.

٤ ـ كما كان يظهر جبرئيل أحيانا بصورته الأصلية التي خلقه الله عليها ، وهذا ما حدث مرتين فقط طوال حياة رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [كما سيأتي تفصيل ذلك في سورة النجم ـ الآية ١٢](٢) .

* * *

بحثان

الأوّل : الوحي في اللغة والقرآن والسنة

يرى الراغب في مفرداته إن أصل الوحي يعني الإشارة السريعة سواء بالكلام الخافت ، أو الصوت الخالي من التراكيب الكلامية ، أو الإشارة بالأعضاء (بالعين واليد والرأس) أو بالكتابة.

ومن خلال ذلك نستفيد أن الوحي يشتمل على السرعة من جانب والإشارة من جانب آخر ، لذا فإن هذه الكلمة تستخدم للارتباط الخاص والسريع للأنبياء مع عالم الغيب ، وذات الخالق المقدسة.

__________________

(١) «دحية بن خليفة الكلبي» هو أخو الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرضاعة ، وكان من أجمل الناس في ذلك الزمان ، حيث كان جبرئيل يظهر على صورته عند مجيئه للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [مجمع البحرين ـ كلمة دحى] ، وكان من أشهر صحابة الرّسول ومعروفا بالوجه الحسن ، وقد أرسله النّبي الأكرم إلى قيصر الروم (هرقل) حاملا رسالة منه في العام السادس أو السابع للهجرة ، وبقي حيا إلى أيّام خلافة معاوية.

(٢) في ظلال القرآن ، المجلد السابع ، ص ٣٠٦.

٥٧٣

وهناك معان مختلفة (للوحي) في القرآن المجيد وفي لسان الأخبار ، فأحيانا تكون بخصوص الأنبياء ، وأحيانا للناس الآخرين ، وأحيانا تطلق للارتباط الخاص بين الناس ، وأحيانا الارتباط الخاص بين الشياطين ، وأحيانا بخصوص الحيوانات.

وأفضل كلام في هذا المجال هو ما ورد عن عليعليه‌السلام في رده لشخص سأل عن الوحي ، حيث قسمه الإمام إلى سبعة أقسام هي :

١ ـ وحي الرسالة والنبوّة : مثل( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) (١) .

٢ ـ الوحي بمعنى الإلهام : مثل( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) (٢) .

٣ ـ الوحي بمعنى الإشارة : مثل( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (٣) .

٤ ـ الوحي بمعنى التقدير : مثل( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) (٤) .

٥ ـ الوحي بمعنى الأمر : مثل( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) (٥) ٦ ـ الوحي بمعنى الأكاذيب : مثل( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٦) .

٧ ـ الوحي بمعنى الإخبار : مثل( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ

__________________

(١) النساء ، الآية ١٦٣.

(٢) النحل ، الآية ٦٨.

(٣) مريم ، الآية ١١.

(٤) فصلت ، الآية ١٢.

(٥) المائدة ، الآية ١١١.

(٦) الأنعام ، الآية ١١٢.

٥٧٤

فِعْلَ الْخَيْراتِ ) (١) .

ويمكن أن تكون لبعض هذه الأقسام السبعة فروعا اخرى تزيد عند استعمالها من استخدامات الوحي في الكتاب والسنة ، لذا فإن «التفليسي» ذهب في كتابه (وجوه القرآن) الى وجود عشر معاني أو أوجه للوحي ، وبعضهم ذكر عددا أكثر من هذا.

ومن خلال هذه الاستخدامات المختلفة للوحي ومشتقاته نستنتج أن الوحي الإلهي على نوعين : (وحى تشريعي) و (وحي تكويني).

فالوحي التشريعي هو ما كان ينزل على الأنبياء ، ويمثل العلاقة الخاصة بينهم وبين الخالق ، حيث كانوا يستلمون الأوامر الإلهية والحقائق عن هذا الطريق.

أمّا الوحي التكويني فهو في الحقيقة وجود الغرائز والقابليات والشروط والقوانين التكوينية الخاصة التي أوجدها الخالق في أعماق جميع الكائنات في هذا العالم.

الثّاني : حقيقة (الوحي) المجهولة

لقد قيل الكثير حول حقيقة الوحي ، ولكن بما أن هذا الارتباط المجهول خارج حدود إدراكاتنا ، لذا فإن هذه الكلمات لا تستطيع أن تعطي صورة الواضحة للموضوع ، وأحيانا تؤدي الى الانحراف عن جادة الصواب ، وقد ذكرنا آنفا ما يمكن قوله في هذا المجال ، وفي الحقيقة فإن ما يمكن قوله بشكل جميل ومختصر ، ولم تصل بحوث المفكرين والعلماء لأكثر من ذلك ، وفي نفس الوقت لا بدّ هنا من ذكر بعض التفاسير التي طرحها الفلاسفة القدماء والجدد حول الوحي :

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٧٣.

بحار الأنوار ـ المجلد ١٨ ـ ص ٢٥٤.

٥٧٥

١ ـ تفسير بعض الفلاسفة القدماء

يرى هؤلاء ـ وفقا لمقدمات مفصلة ـ أن الوحي هو عبارة عن الاتصال الخارق (لنفس الرّسول) مع (العقل الفعّال) المسيطر بظله على عالم (الحس المشترك) و (الخيال).

وتوضيح ذلك :

أنّ القدماء كانوا يعتقدون أن الروح الإنسانية لها ثلاث قوى : قوّة الحس المشترك وبواسطتها يدرك الإنسان صور المحسوسات ، و (قوّة الخيال) وبواسطتها يدرك بعض الصور الذهنية ، و (القوة العقلية) التي يدرك بواسطتها الصور الكلية.

ومن جانب آخر ، فهم يعتقدون بنظرية الأفلاك التسعة لبطليموس ، وكانوا يعتقدون بوجود (النفس المجرّدة) لها مثل (الروح لأجسادنا) ويضيفون : إن هذه النفوس الفلكية تستلهم من كائنات مجرّدة تسمى (العقول) ، وعلى هذا الأساس فهم يقولون بوجود (تسعة عقول) تختص (بالأفلاك التسعة).

ومن جانب ثالث كانوا يعتقدون أن النفوس الإنسانية وأرواحها يجب أن تستلهم من الكائن المجرد الذي يسمى بـ (العقل الفعال) وذلك لأجل إظهار القابليات وإدراك الحقائق ، حيث كان يسمى بـ (العقل العاشر) ، أمّا سبب تسميته بالفعال فلأنّه أساس حدوث القابليات للعقول الجزئية.

ومن جانب رابع كانوا يعتقدون أنّه مهما قويت الروح الإنسانية فإنّه سيزداد ارتباطها واتصالها بالعقل الفعال الذي هو خزانة ومصدر المعلومات ، لذا فإنّ الروح القوية والكاملة تستطيع أن تكتسب أوسع المعلومات من (العقل الفعال) بأمر من الخالق ، وذلك في أقصر مدة.

وأيضا فإذا قويت (قوّة الخيال) فانّها تستطيع أن تنقل هذه المفاهيم إلى الحس بشكل أفضل ، وعند ما يقوى الحس المشترك الإنسان أن يدرك القضايا

٥٧٦

المحسوسة الخارجية بشكل أفضل أيضا.

ومن خلال هذه المقدمات سيتنتجون أن روح النّبي لها ارتباط واتصال كبير جدا بالعقل الفعال ، لأنّها قوية بشكل خارق ، ولهذا السبب تستطيع أن تأخذ المعلومات بشكل عام من العقل الفعال في أكثر الأوقات.

وبما أن القوة الخيالية للنبي قوية جدا أيضا ، وفي نفس الوقت تتبع القوة العقلية ، لذا فإنها (أي القوة الخيالية) تستطيع أن تعطي صورا محسوسة مناسبة للصور الكلية المأخوذة من العقل الفعال ، و، أن ترى نفسها ضمن أطر حسية في أفق الذهن ، فمثلا لو كانت تلك الحقائق العامة من باب المعاني والأحكام فسيسمعها من لسان شخص بمنتهى الكمال ، وذلك على شكل ألفاظ موزونة بمنتهى الفصاحة والبلاغة.

ولأن قوته الخيالية مسيطرة بشكل كامل على الحس المشترك ، لذا فإنّها تستطيع أن تعطي طبيعة حسية لهذه الصور ، ويستطيع النّبي أن يرى ذلك الشخص بعينه ويسمع ألفاظه بإذنه.

نقد وتحليل

هذه النظرية تعتمد على مقدمات يعتبر القسم الأعظم منها مرفوضا في الوقت الحاضر ، فمثلا أفلاك بطليموس التسع والنفوس والعقول المرتبطة بها تعتبر جزءا من الأساطير ، لعدم وجود أي دليل على إثباتها ، بل وتوجد أدلة ضدها.

ومن جانب آخر فإن هذه الفريضة لا تتلاءم مع الآيات القرآنية بخصوص الوحي ، لأن الآيات القرآنية تصرّح بأن الوحي نوع من الارتباط مع الخالق الذي قد يكون عن طريق الإلهام أحيانا ، وأحيانا اخرى عن طريق الملك أو سماع الأمواج الصوتية أمّا القول بأنّه وليد القوة الخيالية والحس المشترك وأمثال ذلك فهو في غاية الضعف وعدم الانسجام مع الآيات القرآنية.

٥٧٧

ومن الإشكالات الأخرى على هذا الكلام هو تصنيفه للنبي في قائمة الفلاسفة والنوابغ بعقل وروح أقوى ، في حين أنّنا نعلم أن طريق الوحي مغاير تماما لطريق الإدراكات العقلية.

فهذه المجموعة من الفلاسفة أساءت لأساس الوحي والنبوة دون قصد ولأنّهم لم يلمّوا بالحقيقة سلكوا طريق الخيال والأسطورة.

وهناك تفصيلات أكثر عن هذا الموضوع تأتي ضمن البحوث القادمة.

٢ ـ تفسير بعض الفلاسفة الجدد

هذه المجموعة من الفلاسفة اعتبرت الوحي باختصار نوعا من (الشعور الباطن) وجاء في (دائرة معارف القرن العشرين) حول الوحي ما يلي :

(كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم المتدينة يقولون بالوحي لأن كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء ، فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية إلى أن مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة وتغالت حتى أنكرت الخالق والروح معا وعللت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاف من المتنبأة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم ، وإمّا إلى هذيان مرض يعتري بعض العصبيين فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحا تكلمهم وهم لا يرون في الواقع شيئا. رواج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي ، فلما ظهرت آية الأرواح في امريكا سنة ١٨٤٦ وسرت منها إلى أوروبا كلها وأثبت للناس بدليل محسوس وجود عالم روحاني آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة تغير وجه النظر في المسائل الروحانية ، وحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة ، وأعاد العلماء النحت فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر لا على أسلوب التقليد الديني ولا من طريق الغرب في مهامة الخيالات ، فتأدوا إلى نتائج وإن كانت غير ما قرره علماء الدين

٥٧٨

الإسلامي إلا أنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد أحيل إلى عالم الأمور الخرافية)(١) .

والكلام في هذا المجال كثير ، إلّا أن خلاصته أنّهم اعتبروا الوحي تجليا للوجدان الخفي وإظهارا لعالم اللاشعور في الإنسان الذي هو أقوى بكثير من عالم الشعور فيه وبما أنّ الأنبياء كانوا رجالا متميّزين فقد كانوا يتمتعون بوجدان قوي جدّا وذي ترشحات مهمّة.

نقد وتحليل

واضح أن ما تقوله هذه المجموعة هو افتراض بحت ، حيث لم يذكروا أيّ دليل على ذلك ، وفي الحقيقة فقد اعتبروا الأنبياء أفرادا لهم نبوغ فكري وشخصية عظيمة ، دون أن يقبلوا ارتباطهم بمصدر عالم الوجود (الخالق العظيم) واكتسابهم للعلوم عن طريقه ومن خارج كيانهم.

إنّ مصدر خطئهم هو أنّهم أرادوا قياس الوحي وفقا لمعايير العلوم التجريبية ، ونفي أي شيء خارج دائرتها ، وجميع الموجودات في هذا العالم يجب أن تدرك بهذا المعيار ، وإلّا فهو غير موجود.

هذا الأسلوب من التفكير ترك آثاره السيئة ، ليس في موضوع الوحي فحسب ، بل في العديد من البحوث الفلسفية والعقائدية الأخرى. لذا فإن هذا التفكير مرفوض من أساسه ، لأنّهم لم يذكروا أيّ دليل على تقييد جميع الكائنات في العالم بالكائنات المادية وما ينتج عنها.

٣ ـ النبوغ الفكري

البعض الآخر تجاوز هذه الأقوال وأعلن بشكل رسمي أن الوحي نتيجة

__________________

(١) دائرة المعارف القرن العشرين ١٠ / مادة (وحى).

٥٧٩

للنبوغ الفكري للأنبياء ، ويقول : إنّ الأنبياء كانوا أفرادا ذوي فطرة طاهرة ونبوغ خارق ، حيث كانوا يدركون مصالح المجتمع الإنساني ، وبواسطته يضعون له المعارف والقوانين.

وهذا الكلام في الواقع ينكر بصراحة نبوّة الأنبياء ، ويكذب أقوالهم ، ويتهمهم بأنواع الأكاذيب (العياذ بالله).

وبعبارة أوضح فإنّ أيّا ممّا ذكرناه لا يعتبر تفسيرا للوحي ، وإنّما هي افتراضات مطروحة في حدود الأفكار ، ولأنّهم أصروا على عدم الاعتراف بوجود قضايا اخرى خارج إطار معلوماتهم ، لذا فإنّهم واجهوا الطريق المسدود.

الكلام الحق في الوحي :

لا يمكننا الاحاطة ـ بلا شك ـ بحقيقة الوحي وارتباطاته ، لأنّه نوع من الإدراك خارج عن حدود إدراكنا ، وهو ارتباط خارج عن حدود ارتباطاتنا المعروفة. فعالم الوحي بالنسبة لنا عالم مجهول وفوق إدراكاتنا ، فكيف يستطيع إنسان ترابي أن يرتبط مع مصدر عالم الوجود؟!

وكيف يرتبط الخالق الأزلي الأبدي مع مخلوق محدود وممكن الوجود! وكيف يتيقن النّبي عند نزول الوحي أن هذا الارتباط معه؟

هذه أسئلة يصعب الجواب عليها بالنسبة لنا ، ولا داعي للإصرار على فهمها.

أمّا الموضوع الذي يعتبر معقولا بالنسبة لنا ويمكن قبوله فهو وجود ـ أو إمكانية وجود ـ هذا الارتباط المجهول.

فنحن نقول : لا يوجد أيّ دليل عقلي ينفي إمكانية مثل هذا الأمر ، بل على العكس من ذلك حيث نرى ارتباطات مجهولة في عالمنا نعجز عن تفسيرها ، وهذه الارتباطات تؤّكد وجود مرئيات ومدركات اخرى خارج حدود حواسنا وارتباطاتنا.

٥٨٠