الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 526
المشاهدات: 126105
تحميل: 3308


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126105 / تحميل: 3308
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 17

مؤلف:
العربية

والكمال! لأنّ معرفة الله رمز تكاملهم.

أجل ، إنّ على العباد أن يعرفوا أنّ ذات الله هي منبع جميع الكمالات ، ويسترفدوا لأنفسهم من كمالاته ويستلهموا منه في وجودهم ليشرق في وجودهم ومض من صفات كماله وجلاله ، فالتكامل والقرب من الله لا يتحقّقان إلّا عن طريق التخلّق بأخلاقه ، وهذا التخلّق فرع معرفته «فلاحظوا بدقّة».

٥ ـ وبملاحظة ما ذكرناه آنفا فإنّنا نقترب من النتائج فنقول : إنّ عبادة الله والعبودية له يعينان السير في ما يرتضيه وأن نستودعه أرواحنا ونعشقه بقلوبنا وأن نتخلّق بأخلاقه!

وإذا كانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت «العبادة» على أنّها الهدف النهائي فمفهومها هو هذا ، أي أنّه بتعبير آخر هو «التكامل الإنساني»!

أجل إنّ «الإنسان الكامل» هو العبد المخلص لله.

٥ ـ الرّوايات الإسلامية وفلسفة خلق الإنسان

ذكرنا آنفا مسألة الهدف من خلق الإنسان ، وعالجنا هذه المسألة عن طريقين : أحدهما عن طريق تفسير آيات القرآن ، والآخر عن طريق الفلسفة ، وقد أوصلنا كلّ منهما إلى نقطة واحدة.

والآن علينا أن نتابع هذه المسألة في المسير الثالث ، أي عن طريق الرّوايات الإسلامية لنعرف نتيجتها من هذه الرّوايات.

والتدقيق أو التأمّل في الرّوايات التالية التي هي بعض ما ورد في هذا الباب يمنحنا العمق في النظر!

ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه لمّا سئل ما معنى قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. قالعليه‌السلام : إنّ اللهعزوجل خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قولهعزوجل :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا

١٤١

لِيَعْبُدُونِ ) فيسّر كلا لما خلق له ، فويل لمن استحبّ العمى على الهدى»(١) .

وهذا الحديث إشارة ذات معنى غزير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله لمّا خلق الناس لهدف تكاملي هيّأ له وسائله التكوينية والتشريعية وجعلها في إختياره.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الإمام الحسين خطب أصحابه فقال : «إنّ اللهعزوجل ما خلق العباد إلّا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه»(٢) .

٦ ـ الإجابة على سؤال

ويرد هنا سؤال آخر ، وهو إذا كان الله قد خلق العباد ليعبدوه ، فعلام يختار قسم منهم طريق الكفر؟ وهل يمكن أن تتخلّف إرادة الله عن هدفه؟!

وفي الحقيقة إنّ الذين يوردون هذا الإشكال خلطوا بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعيّة. لأنّ الهدف من العبادة لم يكن إجباريا ، بل العبادة توأم الإرادة والإختيار. وبهذا يتجلّى الهدف بصورة تهيأة الأرضية أو المجال فمثلا لو قلت إنّي بنيت هذا المسجد ليصلّي الناس فيه ، فمفهومه أنّني هيّأته لهذا العمل! لا أنّني أجبر الناس على الصلاة فيه! وكذلك في الموارد الاخر كبناء المدرسة للدرس ، والمستشفى للتداوي ، والمكتبة للمطالعة!

وهكذا فإنّ الله هيّأ هذا الإنسان للطاعة والعبادة ، ووفّر له كلّ وسائل المساعدة من قبيل والعقل والعواطف والقوى المختلفة في الداخل ، وإرسال الأنبياء والكتب السماوية والمناهج التشريعية في الخارج إلخ.

ومن المسلّم به أنّ هذا المعنى في المؤمن والكافر واحد ، إلّا أنّ المؤمن أفاد من هذه الإمكانات ، والكافر لم يفد!

__________________

(١) توحيد الصدوق طبقا لما نقل في الميزان ، ج ١٨ ، ص ٤٢٣.

(٢) علل الشرائع للصدوق ـ طبقا للمصدر الآنف.

١٤٢

لذلك فقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه حين سئل عن الآية( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قالعليه‌السلام : «خلقهم للعبادة».

قال الراوي : فسألته : خاصّة أم عامّة؟!

فقالعليه‌السلام : «عامّة»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام نفسهعليه‌السلام أنّه لمّا سئل عن تفسير هذه الآية قال : «خلقهم ليأمرهم بالعبادة»(٢) .

وهي إشارة إلى أنّ الهدف لم يكن الإجبار على العبادة بل الإعداد والتهيأة له ، وهذا المعنى يصدق في حقّ عموم الناس(٣) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٣١٤ الحديث ٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) يتّضح ممّا ذكرنا آنفا أنّ الألف واللام في «الجنّ والإنس» للاستغراق ، وتشمل الآية جميع الأفراد ، لا أنّ الألف واللام للجنس ، بحيث تشمل جماعة منهم كما ورد في بعض التفاسير والله العالم.

١٤٣

الآيتان

( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠) )

التّفسير

هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله :

الآيتان آنفتا الذكر اللتان هما آخر سورة الذاريات ، وهما في الحقيقة نوع من الاستنتاج للآيات المختلفة الواردة في السورة ذاتها ولا سيّما الآيات التي تتحدّث عن الأمم السالفة كقوم فرعون وقوم لوط وثمود وعاد ، وكذلك الآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن الهدف من الخلق والإيجاد.

فالآية الاولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوما أنّ هؤلاء المشركين قد انحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة ، فليعلموا أنّ لهم قسطا وافرا من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة :( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ) (١)

__________________

(١) الفعل فلا يستعجلون مجزوم بلا الناهية كما هو واضح ، والنون هنا للوقاية وقد كسرت للدلالة على أنّ ياء المتكلّم محذوفة لفظا أو رسما ومقدرة معنى

١٤٤

ويقولوا إن كان عذاب الله حقّا فلم لا يصيبنا؟!

والتعبير بـ «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم ، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه المناسب ، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعدّ أهمّ مصداق للظلم ، ولذلك فهم يستحقّون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

«الذنوب» : ـ على وزن قبول ـ في الأصل معناه «الفرس التي لها ذنب طويل» ، كما تطلق الكلمة ذاتها على الدلو الكبير التي لها ذنب.

وكان العرب في السابق ينزحون ماء البئر بواسطة الحيوانات بأن يهيّئوا دلاء عظيمة متّصلة بحبال تعين على سحب الدلاء المملوءة بالماء.

وحيث كانت هذه الدلاء تقسّم أحيانا على الجماعات حول البئر ، فتنال كلّ مجموعة دلوا أو أكثر ، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى النصيب والسهم أيضا ، وهي في الآية محل البحث بهذا المعنى أيضا ، غاية ما في الأمر أنّها هنا تشير إلى السهم الكبير(١) .

وهل المراد من هذه الكلمة في هذه الآية التهديد بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟ قال جماعة من المفسّرين بالمعنى الأوّل ، وقال آخرون بالمعنى الثاني.

ونرى أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا العذاب هو العذاب الدنيوي ، لأن العجلة لدى بعض الكفّار هي أنّهم كانوا يقولون للنبي : متى هذا الوعد وأين عذاب الله

ولم لا يأتينا إلخ. فمن الواضح أنّه إشارة إلى عذاب الدنيا(٢) هذا أوّلا.

وثانيا إنّ التعبير بـ( مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ ) الظاهر أنّه إشارة إلى عاقبة الأمم

__________________

(١) يقول بعض الشعراء العرب :

لنا ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب.

(٢) تراجع الآيتان (٥٧) و٥٨) من سورة الأنعام ، والآية (٧٢) من سورة النمل وأمثالها ، وهذا التعبير في القرآن قد يستعمل في شأن القيامة أيضا.

١٤٥

المتقدّم ذكرها في هذه السورة كقوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود الذين نال كلّا منهم نوع من العذاب في الدنيا وهلكوا به جميعا.

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو إذا كانت الآية تشير إلى عذاب الدنيا فلم لا يتحقّق الوعد الإلهي في شأنهم؟!

وهذا السؤال له جوابان :

١ ـ إنّ هذا الوعد تحقّق في شأن كثير منهم كأبي جهل وجماعة آخرين في غزوة بدر وغيرها.

٢ ـ نزول العذاب على جميعهم مشروط بعدم الرجوع نحو الله وعدم التوبة من الشرك ، ولمّا آمن معظمهم في فتح مكّة فإنّ هذا الشرط أصبح منتفيا فلم ينزل عذاب الله.

وفي الآية الأخيرة استكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة إذ تقول :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) .

وكما أنّ هذه السورة بدئت بمسألة المعاد والقيامة ، فإنّها انتهت بالتأكيد عليها كذلك(١) !.

كلمة «الويل» تستعمل في لغة العرب عند ما يقع فرد ما أو أفراد في الهلاك كما تعني العذاب والشقاء ، وقال بعضهم في الويل معنى أشدّ من العذاب.

وكلمات الويل والويس ، والويح تستعمل في لغة العرب لإظهار التأسّف والتأثّر ، غاية ما في الأمر تستعمل كلمة «ويل» لمن يعمل أعمالا قبيحة ، أمّا «ويس» فتستعمل في مقام التحقير ، وكلمة «ويح» تستعمل في موضع الترحّم.

قال بعضهم أنّ «ويلا» بئر من آبار جهنّم أو باب من أبوابها ، غير أنّ مراد القائلين لا يعني بأنّ هذه الكلمة جاءت في اللغة بهذا المعنى فحسب ، بل هي في

__________________

(١) يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا. مع أنّ مثل هذا التعبير في القرآن يكون ليوم القيامة غالبا

١٤٦

الحقيقة بيان لمصداق من المصاديق.

وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن بكثرة ، منها في شأن الكفّار والمشركين والكاذبين والمكذّبين والمجرمين ، والمطفّفين والمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، إلّا أنّ أكثر استعمالها في القرآن في شأن المكذّبين ، وقد تكرّرت الآية( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) في سورة المرسلات وحدها عشر مرّات!.

ربّنا ، نجّنا من عذاب ذلك اليوم العظيم ومن خزيه.

اللهمّ ارزقنا قبول الطاعة والتوفيق للعبودية والفخر بأن نكون عبيدك!

اللهمّ لا تبتلنا بعاقبة المكذّبين المؤلمة الذين كذّبوا رسلك وآياتك وأيقظنا من نومة الغافلين برحمتك يا أرحم الراحمين.

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة الذّاريات

* * *

١٤٧
١٤٨

سورة

الطّور

مكّية

وعدد آياتها تسع وأربعون آية

١٤٩
١٥٠

«سورة الطور»

محتوى السورة :

تتركز بحوث هذه السورة ـ أيضا ـ على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين والمتّقين من جهة ، والمجرمين والمفسدين في ذلك اليوم العظيم من جهة اخرى رغم أنّ فيها مواضيع أخر في مجالات مختلفة من الأمور العقائدية أيضا ـ.

ويمكن على الإجمال ـ أن يقسّم محتوى هذه السورة إلى ستّة أقسام.

١ ـ الآيات الاولى من السورة التي تبدأ بالقسم تلو القسم ، وهي تبحث في عذاب الله. ودلائل القيامة وعلاماتها ـ وعن النار وعقاب الكافرين [من الآية ١ إلى ١٦].

٢ ـ القسم الآخر من هذه السورة يذكر بتفصيل نعم الجنّة ومواهب الله في القيامة وما اعدّ للمتّقين ، وينبّه على ذلك على نحو متتابع! وفي الحقيقة أنّ في هذه السورة إشارة إلى أغلب نعم الجنّة من الآية ١٧ ـ ٢٨.

٣ ـ وفي القسم الثّالث من هذه السورة يقع الكلام عن نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما وجّه إليه الأعداء من التّهم ، ويردّ عليها بنحو موجز من الآية ٢٩ إلى ٣٤.

٤ ـ وفي القسم الرّابع بحث عن التوحيد باستدلالات واضحة من الآية ٣٥ ـ ٤٣.

٥ ـ وفي القسم الخامس من هذه السورة عود على مسألة المعاد وبعض أوصاف يوم القيامة من الآية ٤٤ ـ ٤٧.

١٥١

٦ ـ وأخيرا فإنّ القسم الأخير من هذه السورة الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم الأمور المذكورة آنفا بأمر نبي الإسلام بالصبر والاستقامة والتسبيح والحمد لله ووعده بأنّ الله حاميه وناصره.

وهكذا تتشكّل السورة من مجموعة منسجمة منطقية وعاطفية تنشدّ إليها قلوب السامعين.

وتسمية هذه السورة بـ «الطور» تناسبا لما ورد في الآية الاولى من ذكر كلمة الطور فيها.

فضيلة تلاوة هذه السورة :

ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة الطور كان حقّا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة»(٢) !

وواضح أنّ كلّ هذا الأجر والثواب العظيم في الدنيا والآخرة هو لأولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكّر والتفكّر بدوره وسيلة للعمل.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٦٢ ـ تفسير البرهان ، ص ٢٤٠

(٢) المصدر السابق.

١٥٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) )

التّفسير

هذه السورة ـ هي الاخرى ـ من السور التي تبدأ بالقسم القسم الذي يهدف لبيان حقيقة مهمّة ، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.

وأهميّة هذه المسألة إلى درجة بحيث إنّ الله أقسم في آيات مختلفة من القرآن بأنواع كثيرة من المقدّسات لتتجلّى عظمة ذلك اليوم ووقوعه حتما.

وتلوح في بداية السورة خمسة آيات تبدأ بالقسم ، وفيها معاني مغلقة تدعو إلى التفكير ممّا جعلت المفسّرين يبحثون فيها من جميع الوجوه.

يقول سبحانه وتعالى :

( وَالطُّورِ ) .

«الطور» ـ في اللغة معناه الجبل ـ ولكن مع ملاحظة أنّ هذه الكلمة تكرّرت

١٥٣

في عشر آيات من القرآن الكريم ، تسع منها كانت في الكلام على «طور سيناء» وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى ، فيعلم أنّ المراد منه هنا في الآية محلّ البحث (الطور ذاته) خاصّة لو أنّنا لا حظنا أنّ الألف واللام في هذه الكلمة هي للعهد.

فبناء على ذلك ، فإنّ الله يقسم في أوّل مرحلة بواحد من الأمكنة المقدّسة في الأرض حيث نزل عليها الوحي.

وفي تفسير قوله تعالى :( وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ) احتمالات متعدّدة أيضا ، إذ قال بعضهم : المراد به اللوح المحفوظ. وقال آخرون : بل هو القرآن الكريم ، ومضى بعض إلى أنّه «صحيفة الأعمال» ، وذهب آخر إلى أنّه «كتاب التوراة» النازل على موسىعليه‌السلام .

ولكن بتناسب القسم المذكور آنفا فإنّ الآية تشير هنا إلى «كتاب موسى» أو كلّ كتاب سماوي.

( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) .

كلمة «الرقّ» مشتقّة من الرقّة ، وهي في الأصل الدقّة واللطافة ، كما تطلق هذه الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه و «المنشور» : معناه الواسع ، ويعتقد بعضهم أنّ هذه الكلمة تحمل في مفهومها معنى اللمعان أيضا.

فبناء على ذلك وقع القسم على كتاب نشر على صفحاته أحسن ما يكتب وهو في الوقت ذاته مفتوح وواسع غير ملتو.

( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) .

هناك تفاسير مختلفة في «البيت المعمور» كذلك إذ قال بعضهم المراد منه البيت الذي في السماء محاذيا للكعبة ، وهو معمور بطواف الملائكة وزيارتهم إيّاه ،

١٥٤

ويلاحظ هذا المعنى في روايات إسلامية مختلفة وردت في مصادر متعدّدة(١) . وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ سبعين ألف ملك يزورون ذلك البيت كلّ يوم ولا يعودون إليه أبدا.

وذهب البعض أنّ المراد منه «الكعبة» وهي بيت الله في الأرض المعمور بالحجّاج والزوّار ، وهو أوّل بيت وضع للعبادة على الأرض.

وقال بعضهم المراد من البيت المعمور هو «قلب المؤمن» الذي يعمره الإيمان وذكر الله.

إلّا أنّ ظاهر الآية هو واحد من المعنيين الأوّلين المذكورين آنفا ، وبملاحظة التعابير المختلفة في القرآن عن الكعبة بالبيت يكون المعنى الثاني أكثر انسجاما.

أمّا المقصود بـ( السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) فهو «السماء» لأنّنا نقرأ في الآية (٣٢) من سورة الأنبياء :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ) .

كما نقرأ في الآيتين (٢٧) و٢٨) من سورة النازعات( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) فالله هو الذي أعلى سقفها وجعلها متّسقة ومنتظمة.

ولعلّ الوجه ـ في التعبير ـ بالسقف هو أنّ النجوم والكرات السماوية إلى درجة من الكثرة بحيث غطّت السماء فصارت كأنّها السقف ، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجوّ الذي يحيط بالأرض أو ما يسمّى بالغلاف الجوّي ، وهو بمثابة السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصدّ الأشعّة الضارّة من الوصول إلى الأرض.

( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) .

«للمسجور» : في اللغة معنيان : الأوّل الملتهب ، والثّاني المملوء. ويقول

__________________

(١) ورد في بحار الأنوار أكثر من عشر روايات في هذا المجال ، ج ٥٨ ، ص ٥٥ وما بعدها.

١٥٥

الراغب في مفرداته : سجر على وزن فجر معناه إشعال النار ، ويعتقد أنّ الآية تعطي هذا المعنى ولم يتحدّث عن المعنى الثاني ، إلّا أنّ العلّامة الطبرسي يذكر أنّ المعنى الأوّل هو ما تقدّم ، وكذلك تشير بعض كتب اللغة إلى ذلك.

والآيات الاخر في القرآن تؤيّد المعنى الأوّل أيضا كما هي الحال في الآيتين (٧١) و٧٢) إذ قال سبحانه :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .

ونقرأ في نهج البلاغة عن «أمير المؤمنين» في شأن «الحديدة المحماة» إذ يقول لأخيه «عقيل» : «أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ...»(١) .

ولكن أين هو هذا «البحر المسجور»؟ قال بعضهم هو البحر المحيط بالأرض «أو البحار المحيطة بها» وسيلتهب قبل يوم القيامة ، ثمّ ينفجر كما نقرأ ذلك في الآية (٦) من سورة التكوير( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) ونقرأ في الآية (٣) من سورة الإنفطار( وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ) .

إلّا أنّ بعضهم فسّر ذلك بالبحر الذي في باطن الأرض وهو مؤلّف من مواد منصهرة مذابة ، وما ورد في حديث عن الإمام الباقر الذي نقله «العياشي» شاهد على هذا المعنى ، وقد ورد في هذا الحديث أنّ قارون يعذّب في البحر المسجور(٢) مع أنّ القرآن يقول في شأنه :( فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ) (٣) .

وهذان التّفسيران لا يتنافيان ، ويمكن أن تكون الآية قسما بهما معا ، إذ كلاهما من آيات الله ومن عجائب هذا العالم الكبرى.

وممّا يلفت النظر أنّ المفسّرين لم يتناولوا بالبحث علاقة هذه الأقسام الخمسة فيما بينها ، إلّا أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الاوّل بينها ارتباط وعلاقة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٣٨.

(٣) سورة القصص ، الآية ٨١.

١٥٦

لأنّها جميعا تتحدّث عن الوحي وخصوصياته ، فالطور محلّ نزول الوحي ، والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضا ، سواء كان التوراة أو القرآن ، والبيت المعمور هو محلّ ذهاب وإيّاب الملائكة ورسل وحي الله.

أمّا القسمان الآخران فيتحدّثان عن الآيات التكوينية «في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدّث عن الآيات التشريعيّة».

وهذان القسمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها ، والآخر يشير واحد من علائم المعاد المهمّة ودلائله ، وهو الواقع بين يدي القيامة!.

فبناء على هذا فإنّ التوحيد والنبوّة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيمان] الخمسة.

وبعض المفسّرين يرون أنّ هذه الآيات جميعها تشير إلى موسى وسيرة تأريخه وحياته ، وذكروا ارتباط الآيات على النحو التالي :

الطور هو الجبل الذي نزل الوحي على موسى عنده.

والكتاب المسطور : هو التوراة.

والبيت المعمور : مركز مجيء وإيّاب الملائكة ويحتمل أن يكون بيت المقدس.

والسقف المرفوع هو ما ذكر في قصّة بني إسرائيل( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) .(١)

والبحر المسجور هو البحر الملتهب الذي عوقب قارون به لأنّه خالف موسى فهوى فيه.

إلّا أنّ هذا التّفسير يبدو بعيدا ، ولا ينسجم مع الرّوايات المنقولة في المصادر

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٧١.

١٥٧

الإسلامية ، وكما قلنا فإنّ السقف المرفوع بشهادة آيات القرآن الاخر والرّوايات المذكورة فيه هو السماء.

تبقى لطيفة دقيقة هنا وهي ما العلاقة بين هذه الأقسام والمقسم به.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال ـ مع ملاحظة ما بيّناه آنفا ـ وهو أنّ هذه الأقسام والتي تدور حول محور قدرة الله في عالم التكوين والتشريع تدلّ على أنّ الله قادر على إعادة الحياة وبعث الموتى من قبورهم مرّة اخرى. وهذا هو غاية الأقسام المذكورة كما قرأنا في الآيات الأخيرة من ـ الآيات محلّ البحث ـ( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) .

* * *

١٥٨

الآيات

( يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) )

التّفسير

كانت في الآيات السابقة إشارة وتلميح عن عذاب الله في يوم القيامة ـ بصورة مغلقة ـ أمّا الآيات ـ محلّ البحث ـ ففيها توضيح وتفسير لما مرّ ، فتتحدّث أوّلا عن بعض حالات يوم القيامة وخصائصه ، ثمّ عن كيفية تعذيب المكذّبين فتقول :( يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ) (١) .

«المور» : على وزن قول ـ له معان عديدة في اللغة. يقول الراغب في مفرداته :

__________________

(١) كلمة «يوم» منصوبة على أنّها ظرف وهي متعلّقة باسم الفاعل «واقع» الواردة في الآيات المتقدّمة.

١٥٩

المور معناه الجريان السريع. كما قال إنّ المور يطلق على الغبار الذي تجري به الريح لكلّ جهة أيضا.

وقد ورد في «لسان العرب» أنّ «المور» معناه الحركة والذهاب والإيّاب ، كما يطلق على «الموج» ومنهم من قال : المور هو الحركة الدائرة. ومن مجموع هذه التفاسير يستفاد أنّ «المور» هو الحركة السريعة والدوران المقترن بالذهاب والإيّاب والاضطراب والتموّج ، وعلى هذا فإنّ النظام الحاكم على الكرات يضطرب بين يدي يوم القيامة وتنحرف عن مداراتها وتتّجه إلى كلّ جهة ذهابا وإيّابا ، ثمّ تتبدّل وتولّد سماء جديدة بأمر الله كما تقول الآية (١٠٤) من سورة الأنبياء :( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) .

ونقرأ في الآية (٤٨) من سورة إبراهيم :( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) .

ثمّ يضيف القرآن في آية اخرى :( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) .

أجل ، الجبال تنقلع من أمكنتها وتتحرّك وتسير ثمّ تندكّ وتتلاشى كما تشهد بذلك آيات القرآن الاخر فتغدو( كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) ،(١) ثمّ تكون قاعا خالية من كلّ شيء كما يقول القرآن :( فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ) (٢) .

كلّ ذلك هو إشارة إلى أنّ هذه الدنيا وما فيها وما عليها تندكّ ويحدث مكانها عالم جديد بأنظمة جديدة ويكون الإنسان أمام نتائج أعماله وجها لوجه.

لذا فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا :( فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (٣) .

أجل ، حين تعمّ الوحشة والاضطراب جميع الخلق لتغيّر العالم ، تهيمن على المكذّبين وحشة عظيمة وهي العذاب الإلهي لأنّ «الويل» : إظهار التأسّف

__________________

(١) سورة القارعة ، الآية ٥.

(٢) لمزيد التوضيح يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٠٥) من سورة طه.

(٣) إلقاء هنا للتفريع ، أي حيث تكون الأرض قاعا صفصفا ولا ملجأ من الله فويل يومئذ للمكذّبين.

١٦٠