الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 526
المشاهدات: 126132
تحميل: 3314


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126132 / تحميل: 3314
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 17

مؤلف:
العربية

الزُّبُرِ ) (١) .

فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ أولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارة والزلازل والصواعق اخرى ، اقتصاصا منهم للكفر والظلم والطغيان والعصيان الذي كانوا عليه فما المانع أن يصيبكم العذاب ويكون مصيركم نفس المصير فهل أنتم أفضل منهم؟ وهل أنّ كفركم وعنادكم أخفّ حدة؟ وكيف ترون أنّكم مصونون من وقوع العذاب الإلهي؟ أألقي إليكم كتاب من السماء يعطيكم هذا الأمان؟

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الادّعاءات ادّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) (٢) .

«جمع» بمعنى مجموع ، والمقصود هنا هي الجماعة التي لها هدف وقدرة على إنجاز عمل ، والتعبير هنا بـ (منتصر) تأكيد على هذا المعنى لأنّه من مادّة (انتصار) بمعنى الانتقام والغلبة.

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب ، أمّا في الآية مورد البحث والآيات اللاحقة ، فإنّ الحديث عن الكفّار بلغة الغائب ، وهو نوع من أنواع التحقير ، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ ادّعاءهم بالقوّة والقدرة ادّعاء فارغ وقول هراء ، لأنّ الأقوام السابقة من أمثال قوم عاد وثمود وآل فرعون وأضرابهم كانوا أكثر قوّة وسطوة ، ومع ذلك فلم تغن عنهم قوّتهم شيئا حينما واجهوا العذاب ، وكانوا من الضعف كالقشّة اليابسة تتقاذفها الأمواج من كلّ مكان ، فكيف بمن هو أقل عددا وأضعف حيلة وقوّة ومنعة؟

__________________

(١) الضمير في «كفّاركم» يرجع في الظاهر (المشركي العرب) بقرينة الجملة( أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) .

(٢) بالرغم من أنّ (نحن) ضمير جمع فانّ خبرها (جميع) قد جاء مفردا ، وكذلك منتصر والتي جاءت خبرا بعد خبر أو صفة لـ (جميع) ، والسبب في ذلك فإنّ لفظ (جميع) وإن كانت مفردة إلّا أنّ المعنى (جمع).

٣٤١

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيّهم بإخبار غيبي حاسم وقوي ، حيث يقول :( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (١) .

والظريف هنا أن سيهزم من مادّة (هزم) على وزن (جزم) وفي الأصل بمعنى الضغط على الجسم اليابس لحدّ التلاشي. ولهذا السبب استعملت هذه الكلمة (هزم) في حالة تدمير الجيوش وانكسارها.

وربّما أشار هذا التعبير إلى النقطة التالية وهي : رغم حالة الاتّحاد والانسجام لهؤلاء القوم ظاهرا ، إلّا أنّهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح ، فبمجرّد تعرّضها إلى ضغط قوي تتهشّم ، ونرى عكس ذلك في المؤمنين المتصّفين بالقوّة المقترنة بالمرونة ، حيث أنّهم إذا ثقلت عليهم المحن واشتدّت الأزمات وأحنتهم العاصفة فإنّهم سرعان ما يستعيدوا قواهم مرّة اخرى ليواجهوا مصاعب الحياة.

«دبر» بمعنى «خلف» في مقابل (القبل) بمعنى «أمام» ، وسبب ذكر هذه الكلمة هنا لبيان حالة الفرار من ساحة المعركة بصورة كليّة.

لقد صدق هذا التنبّؤ في معركة بدر وسائر الحروب الاخرى حيث كانت هزيمة الكفّار ساحقة ، فإنّه رغم قدرتهم وقوّتهم فقد تلاشى جمعهم.

وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أنّ الهزيمة التي مني بها المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط ، وإنّما هي في الآخرة أشدّ وأدهى ، حيث يقول البارئعزوجل :( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ ) .

وعلى هذا التصوّر ، فما عليهم إلّا أن ينتظروا هزيمة ما حقة في الدنيا ، ومصيرا سيّئا واندحارا أمرّ وأكثر بؤسا في الآخرة.

«أدهى» من مادّة (دهو) و (دهاء) بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا مخرج منها ولا نجاة ، ولا علاج لها ، وتأتي أيضا بمعنى الذكاء الشديد ، إلّا أنّ

__________________

(١) مع العلم أنّ من المناسب أن يقال (يولّون الأدبار) إلّا أنّه قيل هنا : (يولّون الدبر) ، لأنّ لهذه المعنى (جنس) حيث تكون في حكم الجمع.

٣٤٢

المقصود منها في الآية الكريمة هو المعنى الأوّل.

نعم إنّهم سيبتلون يوم القيامة بعذاب محتّم وعاقبة بائسة لا مفرّ منها.

* * *

ملاحظة

تنبّؤ إعجازي صريح :

ممّا لا شكّ فيه أنّه عند ما نزلت هذه الآيات في مكّة المكرّمة كان المسلمون أقليّة ضعيفة ، وكان العدو في أوج القوّة والقدرة ، ولم يكن أحد يتوقّع انتصار المسلمين بهذه السرعة ، فهو أمر غير قابل للتصديق في تلك الظروف ، ولا مجال للتنبّؤ به.

وكانت هجرة المسلمين بعد فترة وجيزة من هذا التاريخ حيث اكتسبوا خبرة وقوّة ، ممّا جعلهم يحقّقون الإنتصار والغلبة على المشركين في أوّل مواجهة عسكرية معهم ، وذلك في معركة بدر ، حيث وجّه المسلمون صفعة قويّة مفاجئة لمعسكر الكفر ، ولم يمض وقت طويل إلّا ونلاحظ أنّ الإيمان بالرسالة المحمديّة لم يقتصر على مشركي مكّة فحسب ، بل شمل الجزيرة العربية أجمع ، حيث استسلمت للدعوة الإلهيّة.

أليس هذا النبأ الغيبي الإلهي الذي واجهنا بهذه الصراحة والجديّة معجزة؟

ومن الواضح أنّ أحد عناصر الإعجاز في القرآن الكريم هو تضمّنه للأخبار الغيبية ، وهذا ما نلاحظه في الآية مورد البحث.

* * *

٣٤٣

الآيات

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥) )

التّفسير

المؤمنون في ضيافة الله :

في الحقيقة إنّ هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة. وآخر آية من تلك الآيات تعكس هذه الحقيقة بوضوح ، وهو أنّ يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في الاقتصاص منهم ، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم ، والتي هي أشدّ وأقسى ممّا أصيبوا به في هذه الدنيا.

٣٤٤

وتتحدّث الآية الاولى ـ مورد البحث ـ عن ذلك حيث يقول سبحانه :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) (١) .

يقول البارئعزوجل :( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) حيث يبيّن الله سبحانه أنّ العذاب الإلهي واقع عليهم ولا ريب فيه ، وسيواجهونه عمليّا رغم استهزائهم وسخريتهم وادّعائهم أنّه من نسج الأساطير.

«سقر» على وزن (سفر) وفي الأصل بمعنى تغيّر لون الجلد وتألّمه من أشعّة الشمس وما إلى ذلك. ولأنّ إمكانية تغيير لون الجلد وألمه الشديد من خصوصيات نار جهنّم ، لذا أطلق اسم (سقر) عليها. والمراد من (مسّ) هو حالة التماس واللمس ، وبناء على هذا فيقال في أهل النار : ذوقوا لمس نار جهنّم وحرارتها اللاذعة ، ذوقوا طعمها ، هل هي أكاذيب وخرافات وأساطير ، أم أنّها الحقيقة الصارخة؟

ويعتقد البعض أنّ (سقر) ليس اسم كلّ النار ، بل هو اسم مختّص بجانب منها تكون فيه النار حامية لدرجة مذهلة وخارقة.

وفي ثواب الأعمال عن الصادقعليه‌السلام : «إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر شكا إلى الله شدّة حرّة ، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فأحرق جهنّم»(٢) .

ولكي لا يتصوّر أنّ هذه الشدّة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي ، يقول سبحانه :( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

نعم إنّ عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب ، وكذلك سيكون عقابهم المؤلم في الآخرة ، وليس الجزاء فقط ، ذلك أنّ الله سبحانه خلق كلّ شيء بحساب

__________________

(١) «سعر» : كما بيّنا سابقا في آخر الآية (٢٤) من نفس السورة لها معنيان : الأوّل : انّها جمع سعير بمعنى اشتعال النار. والثّاني : بمعنى الجنون ، والهيجان الذي يلازمه اضطراب التوازن الفكري ، وفي الآية مورد البحث يمكن أن يكون بالمعنيين معا ، وإذا قصدنا المعنى الثاني فيكون مفهوم الآية كذلك : أنّهم كانوا يقولون إذا اتّبعنا إنسانا مثلنا فإذا نحن في ضلال وجنون ، وهنا يردّ القرآن الكريم عليهم بقوله : ستعلمون يوم القيامة آثاركم وتكذيبكم للأنبياء هو الضلال والجنون.

(٢) تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

٣٤٥

وتقدير ، فالأرض والسماء والكائنات الحيّة والموجودات الجامدة وأعضاء الإنسان ومستلزمات الحياة كلّها خلقت بقدر معلوم ، ولا يوجد شيء في هذا الوجود بدون حساب وتقدير ، لأنّ الخلّاق عليم حكيم ومقدّر.

ثمّ يضيف تعالى إنّه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب ، بل انّها مقترنة مع القدرة والحسم ، لأنّه :( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) .

وتتجسّد الإرادة الربّانية والأوامر الإلهيّة من خلال كلمة «كن» فيترتّب على ذلك فورا وجود الشيء. (حتّى كلمة «كن» جاءت من باب ضيق البيان ، وإلّا فإنّ الإرادة الإلهيّة متحقّقة بمجرّد الإرادة).

ولذلك فإنّ اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر الله بلمح البصر ، وكلّ شيء يكون في مسار الآخرة حينئذ ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.

كما أنّ المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية والزلازل والطوفان والرياح العاتية كلّ ذلك يحدث بمجرّد الأمر الإلهي وبدون تأخير.

إنّ هذه الإنذارات الموجّهة للعصاة والمذنبين كلّها من أجل أن يعلموا أنّ الله ، كما هو حكيم في أمره فإنّه حازم في فعله ، فهو حكيم في عين الحزم ، وحازم في عين الحكمة ، فليحذروا مخالفة تعاليمه وأوامره.

وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفّار والمجرمين مرّة اخرى ، ويلفت انتباههم. إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول :( وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

«أشياع» جمع (شيعة) وتطلق على الأتباع الذين ينشرون ويشيعون ما يرتبط بالشخص المتّبع في كلّ الحالات ويسندونه ويناصرونه ، وإذا استعملت بمعنى (تابع) فإنّها تكون بنفس القصد.

ومن الطبيعي فإنّ الأقوام السابقة لم يكونوا أتباعا وشيعة لمشركي مكّة وأمثالهم ، بل العكس هو الصحيح ، ولكن بما أنّ المؤيّدين لشخص ما يشبّهونه في

٣٤٦

سلوكه ، لذا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الشبيه والمماثل أيضا.

ويجدر بنا القول بأنّ هذه الطائفة من مشركي مكّة كانوا يستعينون ويستفيدون من الخطّ الفكري الذي كانت الأقوام السابقة عليه ، ولهذا السبب فإنّ كلمة (أشياع) أطلقت على الأقوام السابقة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الكريمة تؤكّد هذه الحقيقة مرّة اخرى ، وهي أنّ أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام السابقة ، لذا فلا يوجد دليل على أنّ مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم ، فاتّعظوا وعوا.

ثمّ يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم ، بل هي باقية ومسجّلة عليهم ، يقول سبحانه :( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.

«زبر» جمع (زبور) بمعنى الكتاب ، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان ، ويحتمل البعض أنّ المقصود هنا هو : «اللوح المحفوظ» ، ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع صيغة الجمع.

ثمّ يضيف سبحانه :( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) .

وبناء على هذا فحاسب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، حيث يستلم المرجمون صفحة أعمالهم كاملة ، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها( وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(١)

«مستطر» من مادّة (سطر) في الأصل بمعنى (صفّ) سواء ما يتعلّق بالأفراد أو الأشجار أو الكلمات التي تصف على الأوراق ، ولكون المعنى الأخير أكثر

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

٣٤٧

استعمالا ، لذا يتبادر إلى الذهن معناها الأخير.

وعلى كلّ حال فإنّه إنذار آخر لهؤلاء العاصين والمغفّلين والجهلة.

ولمّا كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالبا ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة ، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى ، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل ، فهنا أيضا بعد الحديث عن مصير الكفّار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتّقين حيث يقول سبحانه :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) .

(نهر) على وزن (قمر) ، وكذلك (نهر) على وزن (قهر) والاثنان يعنيان مجرى الماء الكثير ، ولهذا يطلق على الفضاء الواسع كذلك ، أو الفيض العظيم أو النور المنتشر (نهر) ـ على وزن قمر ـ.

وبغضّ النظر عن الحديث اللاحق ، يمكن أن يكون هذا المصطلح في الآية أعلاه بنفس المعنى الأصلي ، أي أنّ كلمة (نهر) بمعنى نهر الماء ، ولا إشكال في كون الكلمة بصيغة المفرد ، لكونها تدلّ على معنى الجنس والجمع ، فينسجم مع (جنّات) جمع «جنّة» ، ويمكن أن يكون المراد منها هو اتّساع الفيض الإلهي والنور العظيم في ظلال الجنّة ورحابها الواسعة ، وبذلك تشمل المعنيين.

ولكن نقرأ هنا في حديث للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي نقل عن الدرّ المنثور أنّه قال : «النهر : الفضاء والسعة ، وليس بنهر جار»(١) .

وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح البارئ بصورة أكثر (مستقر المتّقين) حيث يقول سبحانه أنّهم :( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) .

ويا له من وصف رائع وظريف! حيث أنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٩.

٣٤٨

تجمعان كلّ السماوات الرائعة :

الأولى : أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل ، بل كلّه حقّ يجد فيه المتّقون كلّ ما وعدوا به كاملا غير منقوص.

الثانية : أنّهم في جوار وقرب الله سبحانه ، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي. وهذا القرب هو من الله المالك القادر ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتّقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه ، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته ، وهو المنّان الذي لا ينقصه شيء في السماوات والأرض ، والذي وعد المتّقين بالخير العظيم وأعدّ لهم عظيم العطايا والإحسان.

والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدّث فيها عن الهبات وجزاء أصحاب اليمين ، حيث في البداية تتحدّث عن العطايا الماديّة التي تشمل البساتين الوارفة والحدائق الغنّاء والأنهار الجارية ، ثمّ تتحدّث بعد ذلك عن الجزاء المعنوي العظيم ، والذي يتجسّد بحضورهم من المليك المقتدر. وذلك تهيئة للإنسان من مرحلة إلى اخرى ، يغمرها الشوق والحبور ، والرغبة في العمل الصالح ، خصوصا أنّ تعابير (المليك) و (المقتدر) و (مقعد صدق) تدلّ جميعها على دوام وبقاء هذا الحضور والقرب المعنوي من الذات الإلهيّة.

* * *

بحوث

١ ـ التّقدير والحساب في كلّ شيء

تشير الآية الكريمة( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) رغم إيجازها إلى حقيقة مهمّة كامنة في جميع الكون وحاكمة عليه ، وهي دقّة الخلق والتقدير في جميع الوجودات.

٣٤٩

ومهما تطوّر العلم فانّ الإنسان يطّلع على مزيد من هذه الحسابات والتقديرات الإلهيّة الدقيقة في عالم الوجود ، والتي تشمل الكائنات المجهرية والأجرام السماوية العظيمة.

فمثلا : نسمع عن روّاد الفضاء أنّهم طبقا للحسابات العلمية الدقيقة التي أنجزت بواسطة مئات الأفراد المتخصّصين المستخدمين العقول الإلكترونية ، أنّهم سيهبطون بسفنهم الفضائية بنفس النقطة المحدّدة لهم على سطح القمر ، مع العلم أنّ كلّ شيء سيتغيّر في الفترة الزمنية التي تسير فيها السفينة الفضائية بين الأرض والقمر ، حيث يدور القمر حول نفسه وكذلك حول الأرض ويتغيّر مكانه بصورة كليّة ، وتدور الأرض حول نفسها ، وكذلك حول الشمس وبسرعة فائقة. ولأنّ جميع هذه التغييرات والحركات محسوبة ، ومقدّرة بصورة مضبوطة ودقيقة بحيث لا تتخلّف عن هذه الأنظمة ، يستطيع الفضائيون الهبوط في النقطة المحدّدة لهم على سطح القمر نتيجة تلك الحسابات والتقديرات الدقيقة.

ويستطيع المنجّمون كذلك من التنبّؤ بالخسوف والكسوف الجزئي والكلّي ، وقبل عشرات السنين ، وفي مختلف نقاط العالم ، وتلك قرائن ودلائل على دقّة المقاييس في هذا الوجود العظيم.

وفي الكائنات الصغيرة والديدان الدقيقة نلاحظ دقّة المقاييس والحساب بصورة تدعو للظرافة والإعجاب والانبهار عند ما نشاهد طبيعة العروق والأعصاب والأجهزة المختلفة لهذه الكائنات.

وعند ما ندقّق في الكائنات المجهرية كالمكروبات والفيروسات والأميبيات يبلغ إعجابنا أوجه لما نلاحظه من الدقّة فيها ، حيث إنّ الواحد على الألف من المليم وأصغر من ذلك يدخل في عالم الحساب ، والأعجب من ذلك حينما ندخل عالم الذرّة حيث تصل الدقة فيها إلى حدّ لا يصدّق وخارج عن الحدود المألوفة.

إنّ هذه المقاييس ليست مختّصة بالمسائل الكميّة فقط ، بل إنّ التركيبات

٣٥٠

الكيفية أيضا تتمتّع بنفس الخصوصيات الحسابية ، فالنظام المتحكّم على روح الإنسان وميوله وغرائزه ، وكذلك المقاييس الدقيقة في مسير المتطلّبات الفردية والاجتماعية للإنسان إذا طرأ عليها أي تغيير فإنّ النظام الحياتي الفردي والاجتماعي سيتعرّض للتغيّر والانهيار.

وفي عالم الطبيعة هنالك موجودات يتغذّى بعضها على البعض الآخر ، وكلّ منها يوقف حالة النمو والتكاثر لكلّ منها ، فالطيور الجارحة تتغذّى على لحوم الطيور الصغيرة ، وتمنع تزايدها بصورة أكثر من اللازم حتّى لا تضرّ المحاصيل الزراعية ، ولذا فإنّ الطيور الجارحة معمّرة ، وهذه الطيور المعمّرة قليلة البيض والفراخ ، وعدد محدود من هذه الأفراخ يستطيع العيش ، حيث يستدعي نموّها وبقاؤها ظروفا خاصّة ، ولو قدّر لهذه الطيور أن يكون لها فراخا كثيرة وبهذا العمر الطويل لأدّى ذلك إلى انقراض الطيور الصغيرة.

إنّ لهذه الحالة أمثلة عديدة وواسعة في عالم الحيوان والنبات ، والمطالعات المختلفة في هذا المجال تزيدنا وعيا في فهم الآية الكريمة :( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

٢ ـ التقدير الإلهي وإرادة الإنسان

قد يتوهّم البعض من خلال ما طرحته الآية الكريمة من الإعتقاد بالتقدير والحساب الإلهي أنّ أعمالنا وممارساتنا التي قوم بها لا بدّ أن تكون واقعة ضمن هذا القانون فهي مخلوقة لله تعالى أيضا وبالتالي فلسنا مسئولين عنها ولا اختبار لنا فيها.

ولكن كما قلنا سابقا فإنّ أعمالنا هي بتقدير ومشيئة البارئعزوجل ، ولن تخرج عن دائرة قدرته وإرادته أبدا ، وقد جعلنا الله سبحانه مختارين فيها ضمن ما قدّر لنا ، ولذلك عيّن لنا مسئوليات وتكاليف فلو لم نكن مختارين فإنّ هذه

٣٥١

المسؤوليات والتكاليف ستكون بلا معنى حيث أنّ فقدان الإرادة يجعلنا مجبورين في أعمالنا ، وهذا خلاف التقدير الإلهي.

ونلاحظ في مقابل إفراط (الجبريين) تفريط جماعة (القدريين) أو المفوّضة الذين يذهبون صراحة إلى القول بأنّ الله لا يتدخّل في أعمالنا وممارساتنا ، حيث إنّهم يحدّون ويحجمون دائرة الهيمنة الإلهيّة على الإنسان ويعتقدون باستقلاليتهم تماما عن المشيئة الإلهيّة ، وبذلك سلكوا طريق الشرك من هذه الجهة.

والحقيقة أنّ الجمع بين أصلي (التوحيد والعدل) يحتاج إلى دقّة وضبط ، فلو فسّرنا التوحيد بأنّ الله خالق كلّ شيء حتّى أعمالنا بشكل لا نملك أي إختيار فيها فإنّنا نكون بذلك قد أنكرنا أصل العدل ، لأنّ مقترفي الذنوب مجبرون على ارتكاب المعاصي ثمّ ينتظرهم الجزاء المتمثّل بالعقاب ، وهذا خلاف العدالة.

وإذا فسّرنا «العدل» بأنّ الله تعالى ليس له أي لون من التدخّل في أعمالنا فإنّنا سنخرج الإرادة الإلهيّة من الهيمنة علينا ، وعندئذ نقع في وادي الشرك.

ويمثّل مفهوم «الأمر بين الأمرين» الإيمان الخالص والصراط المستقيم وخطّ الوسط بين (الجبريين والقدريين) وهو أن نعتقد بأنّنا مختارين ، واختيارنا هذا يكون ضمن الهيمنة الإلهية ، حيث تستطيع الإرادة الإلهية في أي لحظة أن تسلب منّا هذا الإختيار ، وهذا ما يذهب إليه أهل البيتعليهم‌السلام .

والنقطة الجديرة بالذكر أنّه وردت في نهاية الآيات مورد البحث روايات عديدة في ذمّ هاتين الجماعتين في كتب تفسير أهل السنّة والشيعة ، ومن جملتها نقرأ في حديث النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «صنفان من امّتي ليس لهم في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ، أنزلت فيهم آية في كتاب الله :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) »(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني نقل عن البخاري والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه وابن عبّاس ، ج ٢٧ ، ص ٨١ ، وذكر القرطبي مثل هذا الحديث في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦٣٨.

٣٥٢

«المرجئة» من مادّة (إرجاء) بمعنى تأخير الشيء ، وهذا اصطلاح يستعمل للجبريين ، لأنّهم لم يلاحظوا الأوامر الإلهيّة وارتكبوا المعاصي لظنّهم أنّهم مجبورون ، أو لاعتقادهم أنّ مصير مرتكبي الذنوب الكبيرة غير معلوم لتصوّرهم أنّ البتّ فيها مؤجّل إلى يوم القيامة(١) .

كما نقرأ في حديث للإمام الباقرعليه‌السلام : «نزلت هذه الآية في القدرية :( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا* كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (٢) .

إشارة إلى أنّ المقصود من التقدير والحساب هنا أنّ الله سبحانه قد جعل لكلّ ذنب ما يناسبه من الحساب والجزاء الدقيق. وهذا تفسير آخر ممّا فسّرت به الآية.أو أنّ المقصود بها إلفات نظر الذين أنكروا التقدير الإلهي وظنّوا أنّ الله تعالى ليست له تدخّل في أعمالهم وأنّهم قادرون على كلّ شيء ، ويأتي إليهم التنبيه الإلهي في ضرورة ملاحظة القدرة الإلهية العظيمة ، وإلّا فعليكم أن تذوقوا جزاء انحرافكم وهو مسّ سقر).

٣ ـ الأمر الإلهي كلمة واحدة

من الواضح أن لا فاصلة زمانية بين العلّة التامّة والمعلول ، لذلك ورد في اصطلاح الفلاسفة أن تقدّم العلّة على المعلول أمر رتبي ، وبالنسبة إلى الإرادة الإلهية في أمر الإيجاد والخلق والذي هو أوضح مصداق للعلّة التامّة ، أو أنّه مصداق وحيد للعلّة التامّة يتّضح هذا المعنى أكثر.

ولذلك فإذا فسّروا الآية :( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ ) بكلمة (كن) فإنّها من ضيق البيان. وإلّا فإنّ كلمة (كن) مركّبة من الكاف والنون ، وهي أيضا تحتاج إلى زمان ، حتّى (الفاء) في (فيكون) والتي توضّح نوعا من الزمان فإنّها من ضيق البيان كذلك ،

__________________

(١) مجمع البحرين مادّة (رجا).

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٦.

٣٥٣

بل حتّى تشبيه( كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (١) (٢) .

وعند ما يتحدّث عن الأمر الإلهي في يوم القيامة ويشبهه بـ (لمح بالبصر) يضيف (أو هو أقرب).

وعلى كلّ حال فإنّ الحديث هنا عن الزمان حسب التعبيرات اليومية لنا ، وكذلك فإنّ القرآن الكريم يخاطبنا بلغتنا ، وإلّا فإنّ أوامر الله تعالى فوق الزمان.

وضمنا فإنّ التعبير بـ (واحدة) يمكن أن يكون إشارة لهذا المعنى ، وهو أنّ أمرا واحدا يكفي ولا يحتاج إلى تكرار ، أو أنّها إشارة إلى أنّ أمره تعالى حول الصغير والكبير وحتّى خلق السموات الواسعة أجمع لا يختلف عن خلقه لذرّة التراب.

وفي الأصل فإنّ الكبير والصغير والسهل الصعب يكون في مقاييسنا الفكرية المحدودة وقدرتنا الضئيلة ، أمّا عند ما يكون الحديث عن القدرة الإلهية العظيمة فإنّ هذه المفاهيم تتلاشى تماما ، ويصبح الكلّ بلون واحد وشكل واحد ، (فتدبّر).

ويطرح هنا «سؤال» : وهو إذا صحّ معنى الجملة أعلاه وهو أنّ كلّ شيء يوجد آنا (في الآن) فإنّ هذا الأمر لا يتناسب مع مشاهدة التدرّج في حوادث العالم.

ويتّضح «الجواب» عند ما نلاحظ هذه النقطة ، وهي أنّ أمره تعالى في كلّ مكان وكلّ شيء هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر ، ولكن محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف ، فإذا صدر الأمر الإلهي للجنين أن يكمل دورته تسعة أشهر ، فلن تزيد وتنقص لحظة واحدة. والفورية هنا هي أن يكمل الجنين الدورة في نهاية المدّة المحدّدة ، ولو اعطي أمر للكرة الأرضية أن تدور في كلّ أربع وعشرين ساعة مرّة حول نفسها؟ فإنّ هذا الأمر غير قابل للتخلّف ، وبتعبير آخر فإنّ تنفيذ أمره تعالى لا يحتاج إلى أيّ وقت زماني ، والموجود هنا هو محتوى الأمر. ومن خلال معرفة السنّة التدريجية للعالم المادّي وخاصيّته

__________________

(١) «لمح» على وزن (مسح) والأصل بمعنى لمعان البرق ثمّ جاءت بمعنى النظر السريع.

(٢) النحل ، ٧٧.

٣٥٤

وطبيعة الحركة ـ نلاحظ أنّها تتأثّر بالزمان.

٤ ـ بداية ونهاية سورة القمر

النقطة الجديرة بالذكر أنّ «سورة القمر» بدأت بإنذار وتخويف المشركين بقرب وقوع يوم القيامة ، وانتهت بهدوء يطمئن المؤمنين الحقيقيين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهذا هو الطريق المرسوم للتربية ، حيث يبدأ بالتحذير والتخويف وينتهي بطمأنة النفوس المضطربة وتقويم الأهواء المنحرفة ورفع الخوف والاضطراب وعندئذ تغمر الأرواح بالسكينة والهدوء بالقرب من الجوار الإلهيّ الأبدي.

والحقيقة أنّ الإيمان بأنّ الله هو المالك الذي ليس له منازع والحاكم الذي لا رادّ لحكمه في كلّ الوجود ، واليقين بأنّ الله هو المقتدر ، النافذة قدرته على كلّ شيء يبعث في الإنسان هدوءا منقطع النظير.

وقد نقل بعض المفسّرين أنّ هذين الاسمين المقدّسين مليك ومقتدر لهما تأثير عميق في استجابة الدعاء حتّى نقل بعض الرواة : إنّني داخل المسجد وكنت أتصوّر بأنّه الصبح ولكن تبيّن لي عدم انقضاء الليل وبقي قسط كبير منه ، ولم يكن أحد غيري في المسجد ، وفجأة سمعت حركة من ورائي ، فخفت ولكنّي رأيت أنّ شخصا مجهولا قد ناداني : أيّها الشخص المملوء قلبك خوفا لا تخف وقل : «اللهم إنّك مليك مقتدر ، ما تشاء من أمر يكون». ثمّ اطلب ما تريد ، فيقول : إنّي قرأت هذا الدعاء المختصر ولم أطلب شيئا إلّا وأجيب(١) .

ربّنا ، أنت المليك المقتدر فتفضّل علينا بالتوفيق في كلّ إيمان وعمل وتقوى ، كي نكون في مقعد صدق وفي جوار قربك ورحمتك.

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٨٣.

٣٥٥

إلهنا ، نحن نؤمن أنّ يوم القيامة يوم رهيب وصعب ومرّ للعاصين ، أملنا في ذلك اليوم بلطفك وكرمك.

ربّاه ، امنحنا روحا يقظة وعقلا واعيا لكي نتّعظ بمصير السابقين ولا نسير في مسارهم المهلك

نهاية سورة القمر

* * *

٣٥٦
٣٥٧

سورة

الرّحمن

مكّية

وعدد آياتها ثمان وسبعون آية

٣٥٨

«سورة الرّحمن»

محتوى السورة :

توضّح هذه السورة بصورة عامّة النعم الإلهية المختلفة ، سواء كانت ماديّة أو معنوية ، والتي تفضّل بها البارئعزوجل على عباده وغمرهم بها ، ويمكن تسميتها لهذا السبب بـ (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالاسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة ، وتنهي هذه السورة آياتها بإجلال وإكرام البارئ سبحانه ، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبناء على هذا فإنّ السياق العام للسورة يتعلّق بالحديث عن المنن والنعم الإلهيّة المختلفة والعظيمة. ومن جهة اخرى فإنّنا نستطيع أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام :

القسم الأوّل : الذي يشمل أوّل آيات السورة حيث الحديث عن النعم الإلهية الكبيرة ، سواء تلك التي تتعلّق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه ، أو الحساب والميزان ، وكذلك سائر الأمور الاخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان ، إضافة إلى الغذاء الروحي والجسمي له.

القسم الثّاني : يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجنّ.

القسم الثّالث : يتضمّن توضيح الآيات والدلائل الإلهيّة في الأرض والسماء.

٣٥٩

القسم الرّابع : وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدّث الآيات عن نعم الله في عالم الآخرة بدقّة وظرافة ، خاصّة عن الجنّة ، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق

وأخيرا في القسم الخامس نلاحظ الحديث باختصار عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب ولأنّ الأصل في هذه السورة أنّها مختّصة ببيان الرحمة الإلهيّة ، لذا لم نلاحظ تفاصيل كثيرة حول مصيرهم ، خلافا لما نلاحظه في موضوع الحديث عن النعم الخروية حيث التفصيل والشمول الذي يشرح قلوب المؤمنين ويغمرها بالسعادة والأمل ، ويزيل عنها غبار الحزن والهمّ ، ويغرس الشوق في نفوسهم

إنّ تكرار آية :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) وفي مقاطع قصيرة أعطت وزنا متميّزا للسورة ، وخاصّة إذا قريء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها فإنّ حالة من الشوق والانبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن.

ولذلك فلا نعجب عند ما نقرأ في حديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «لكلّ شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره»(١) .

والجدير بالذكر أنّ مصطلح «العروس» يطلق في اللسان العربي على المرأة والرجل ما داموا في مراسيم الزواج(٢) .

وبما أنّ المرأة والرجل في تلك المراسم في أفضل وأتمّ الحالات وأكمل الاحترامات ، ومن هنا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الموجودات اللطيفة جدّا وموضع الاحترام.

إنّ سبب إختيار اسم (الرحمن) لهذه السورة لتتناسب التسمية مع المضمون ، وهذا واضح.

__________________

(١) مجمع البيان بداية سورة الرحمن ، وجاء كذلك في الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٠.

(٢) لسان العراب ومجمع البحرين وصحاح اللغة و.

٣٦٠