الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 526
المشاهدات: 126113
تحميل: 3309


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126113 / تحميل: 3309
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 17

مؤلف:
العربية

( وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) .(١)

وقيل أيضا أنّ هاتين العينين هما ، الاولى : «الشراب الطهور» ، والثانية : «العسل المصفّى» وقد جاءتا كليهما في سورة محمّد ، الآية ١٥.

وإذا فسّرنا ال «جنّتان» في الآيات السابقة بـ (الجنّتين المعنوية والمادية) فإنّ (العينين) يمكن أن تكونا عين معنوية وهي (عين المعرفة) وعين ماديّة (عيون الماء الزلال أو الحليب أو العسل أو الشراب الطهور) ولكن لا يوجد دليل خاصّ لأيّ من هذه التفاسير.

وفي الآية اللاحقة ينتقل البحث إلى فاكهة هاتين الجنّتين حيث يقول سبحانه :( فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ ) قسم يشاهد مثيله في الدنيا ، والآخر لا نظير له في هذا العالم أبدا. كما فسّرها البعض أنّهما نوعان من الفاكهة صيفي وشتوي ، أو يابس وطري ، أو صغير وكبير ، إلّا أنّه لا يوجد دليل واضح على أي من هذه الآراء.

إلّا أنّ من المسلّم به ، أنّ الفاكهة الموجودة في الجنّة متنوّعة ومختلفة تماما عن فواكه الدنيا ولا يقاس طعم فواكه الجنّة بطعم فواكه الدنيا ومذاقها.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

لقد طرحت في الآيات السابقة ثلاث صفات لهاتين الجنّتين ، وتستعرض الآية الكريمة التالية الصفة الرابعة حيث يقول تعالى :( مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ) (٢) .

وفي الغالب أنّ الإنسان عند ما يتكئ يكون في جوّ هادئ وفي أمان تامّ ، وهذا التعبير يدلّل على الهدوء الكامل والاستقرار التامّ لدى أهل الجنّة.

«فرش» على وزن «حجب» ، جمع فراش ، وهو الفراش الذي يبسط.

و «بطائن» جمع بطانة ، وهي القماش الداخلي للفرش.

__________________

(١) المطففون ، ٢٧

(٢) متكئين حال لأهل الجنّة الذين ذكروا في الآيات السابقة بعنوان أنّهم( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) .

٤٢١

و «إستبرق» بمعنى الحرير السميك.

والشيء الظريف هنا أنّ أثمن قماش يتصوّر في هذه الدنيا يكون بطانة لتلك الفرش ، إشارة إلى أنّ القسم الظاهر لا يمكننا وصفه من حيث الجمال والجاذبية.

حيث أنّ البطانة غالبا ما تستعمل من القماش الرديء قياسا للوجه الظاهري ، وعلى هذا فإنّنا نلاحظ أنّ أراد نوع من القماش في ذلك العالم يعتبر من أثمن وأرقى أنواع القماش في الدنيا ، فكيف الحال بالثمين من متاع الجنّة؟

ومن المسلّم أنّ الهبات الإلهية في عالم الآخرة لا نستطيع وصفها بالألفاظ ، ولا حتّى تصوّرها ، إلّا أنّ الآيات الكريمة تعكس لنا شبحا وظلالا عنها من خلال ألفاظها المعبّرة.

ونقرأ أيضا في وصف المتع لأهل الجنّة حيث يحدّثنا القرآن عنهم بأنّهم يتكئون على «الأرائك» ـ التخت الذي له متّكأ ـ و «السرير» هو ـ التخت الذي ليس له متكأ ـ والاتّكاء هنا على فرش ، وعلينا عندئذ أن نتصوّركم هي اللذات المتنوّعة في الجنّة ، حيث تارة يتكأ على الأرائك واخرى على السرر المفروشة بهذه الأفرشة الثمينة ، وقد تكون امور اخرى من هذه النعم لا نستطيع إدراكها نحن سكّان هذا العالم.

وأخيرا ، وفي خامس نعمة يشير سبحانه إلى كيفية هذه النعم العظيمة حيث يقول :( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ ) .

نعم لا توجد صعوبة في قطف ثمار الجنّة كالصعوبة التي نواجهها في عالمنا هذا.

(جنى) على وزن (بقي) وتعني الفاكهة التي نضج قطفها. (دان) في الأصل (داني) بمعنى قريب.

ومرّة اخرى يخاطب الجميع سبحانه بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

٤٢٢

الآيات

( فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) )

التّفسير

الجنّة والزوجات الحسان :

في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنّتين ، وهنا نتطرّق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات ، حيث يقول سبحانه :( فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ) (١) قد قصرن نظرهنّ على أزواجهنّ ، وليس لهنّ معشوق سواهم. ثمّ يضيف تعالى :( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ ) (٢) .

__________________

(١) إنّ ضمير الجمع في (فيهنّ) يمكن أن يرجع إلى قصور الجنّة أو الحدائق المختلفة لتلك «الجنّتين» أو «نعمها وهباتها».

(٢)( لَمْ يَطْمِثْهُنَ) من مادّة (طمث) ، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية ، وجاءت بمعنى زوال البكارة ، والمراد هنا أنّ النساء الباكرات في الجنّة لم يكنّ لهنّ أزواج قطّ.

٤٢٣

وبناء على هذا فإنّهن بواكر ولم يمسهنّ أحد طاهرات من كلّ الجوانب.

نقل عن (أبي ذرّ) أنّ (زوجة الجنّة تقول لزوجها أقسم بعزّة ربّي إنّي لم أجد شيئا أفضل منك في الجنّة ، فالشكر لله وحده ، الذي جعلني زوجة لك وجعلك زوجا لي)(١) .

«طرف» على وزن (حرف) بمعنى جانب العين ، وبما أنّ الإنسان عند ما يريد النظر يحرّك أجفانه ، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر ، وبناء على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن نظراتهنّ على أزواجهنّ. ويعني أنّهنّ يكننّ الحبّ والودّ لأزواجهنّ فقط ، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.

وفي التعقيب على نعمة الجنّة هذه يكرّر قوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ثمّ يتطرّق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنّة حيث يقول :( كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ) حيث تكون بشرتهنّ باحمرار وصفاء ولمعان الياقوت وبياض وجمال غصون المرجان ، وعند ما يختلط هذان الوصفان (الأبيض والأحمر الشفّاف) فإنّه يمنحهنّ روعة الجمال التي لا مثيل لها.

الياقوت : حجر معدني ويكون غالبا أحمر اللون.

والمرجان : هو حيوان بحري يشبه أغصان الشجر ، يكون أبيض اللون أحيانا واخرى أحمر وألوان اخرى ، والظاهر أنّ المقصود به هنا هو النوع الأبيض(٢) .

ومرّة اخرى ، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي نهاية هذا البحث يقولعزوجل :( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) (٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٨.

(٢) بيّنا شرحا تفصيليا حول المرجان في نهاية الآية (٢٢) من هذه السورة.

(٣) ورد السؤال «هل» هنا بصيغة الاستفهام الاستنكاري ، وفي الحقيقة أنّ هذه الآية هي نتيجة للآيات السابقة والتي

٤٢٤

وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملا صالحا في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟

وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية فسّرت «الإحسان» في هذه الآية بالتوحيد فقط ، أو التوحيد والمعرفة ، أو الإسلام ، إلّا أنّ الظاهر أنّ كلّ واحد في هذه التفاسير هو مصداق لهذا المفهوم الواسع الذي يشمل كلّ إحسان في العقيدة والقول والعمل.

جاء في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «آية في كتاب الله مسجّلة. قلت : وما هي؟ قال : قول اللهعزوجل :( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر ، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به ، وليس المكافأة أن تصنع كم صنع حتّى تربي ، فإنّ صنعت كما صنع كان له الفضل في الابتداء»(١) .

وبناء على هذا فالجزاء الإلهي في يوم القيامة يكون أكثر من عمل الإنسان في هذه الدنيا. وذلك تماشيا مع الاستدلال المذكور في الحديث أعلاه.

يقول الراغب في المفردات : الإحسان فوق العدل ، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ، ويأخذ ماله ، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له فالإحسان زائد على العدل

ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى ، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم ، مضافا إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق الله ولطفه ، وبركاتها تعود عليهم.

* * *

__________________

تحدثت عن ستّ نعم من نعم الجنّة.

(١) تفسير العياشي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٩ ، تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٨.

٤٢٥

بحث

جزاء الإحسان :

ما قرأناه في الآية الكريمة :( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) هو قانون عام في منطق القرآن الكريم ، حيث يشمل الله سبحانه والخلق وكافّة العباد ، والمسلمون جميعا يعلمون بعمومية هذا القانون وعليهم مقابلة كلّ خير بزيادة ، كما ذكر الإمام الصادقعليه‌السلام في حديثه أعلاه حيث يفترض أن يكون التعويض أفضل من العمل المنجز (المقدّم) وليس مساويا له ، وإلّا فإنّ المبتدئ بالإحسان هو صاحب الفضل.

وحول أعمالنا في حضرة البارئعزوجل فإنّ المسألة تأخذ بعدا آخر ، حيث أنّ أحد الطرفين هو الله العظيم الكريم الذي شملت رحمته وألطافه كلّ عالم الوجود ، وإنّ عطاءه وكرمه يليق بذاته وليس على مستوى أعمال عباده ، وبناء على هذا فلا عجب أن نقرأ في تأريخ الأمم بصورة متكرّرة أنّ أشخاصا قد شملتهم العناية الإلهيّة الكبيرة بالرغم من إنجازهم لأعمال صغيرة ، وذلك لخلوص نيّاتهم ومن ذلك القصّة التالية :

نقل بعض المفسّرين أنّ شخصا مسلما شاهد امرأة كافرة تنثر الحبّ للطيور في الشتاء فقال لها : لا يقبل هذا العمل من أمثالك ، فأجابته : إنّي أعمل هذا سواء قبل أم لم يقبل ، ولم يمض وقت طويل حتّى رأى الرجل هذه المرأة في حرم الكعبة. فقالت له : يا هذا ، إنّ الله تفضّل عليّ بنعمة الإسلام ببركة تلك الحبوب القليلة(١) .

* * *

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣١٠.

٤٢٦

الآيات

( وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) )

التّفسير

جنّتان بأوصاف عجيبة :

بعد بيان صفات جنّتي الخائفين وخصوصياتهما المتميّزة ، واستمرارا للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنّتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفا وإيمانا بالله تعالى من الفئة الاولى ، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.

يقول سبحانه في البداية :( وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ) .

ذكر تفسير أنّ لهذه الآية الأوّل : أحدهما ما بيّناه أعلاه.

والتّفسير الآخر هو أنّه توجد جنّتان أخريان غير تلكما الجنّتين لهؤلاء

٤٢٧

الأشخاص أنفسهم حيث يتجوّلون ويتنقّلون بين حدائق هذه الجنان ، لأنّ طبع الإنسان ميّال للتنوّع والتبدّل.

وبالنظر إلى لحن هذه الآيات والرّوايات التي وردت في تفسيرها فانّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

ونقرأ حديثا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية أنّه قال : «وجنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما ، جنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» (أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون كناية عن اختلاف مرتبة ودرجة كلّ من الجنّتين)(١) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال : «لا تقولنّ الجنّة الواحدة ، إنّ الله تعالى يقول : «ومن دونهما جنّتان» ، ولا تقولنّ درجة واحدة ، إنّ لله تعالى يقول «درجات بعضها فوق بعض» إنّما تفاضل القوم بالأعمال»(٢) .

وفي نفس الموضوع ورد حديث للرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جنّتان من ذهب للمقرّبين ، وجنّتان من ورق لأصحاب اليمين»(٣) أي من فضّة.

ثمّ يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ثمّ ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنّتين التي تشبه ـ إلى حدّ ما ـ ما ذكر حول الجنّتين السابقتين ، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاخرى حيث يقول سبحانه :( مُدْهامَّتانِ ) .

«مدهامتان» : من مادّة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل ، ثمّ أطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة ، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار ، ممّا يعكس منتهى السرور

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٦ وكما ذكرنا أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون إشارة إلى اختلاف درجة هاتين الجنّتين.

٤٢٨

والإنشراح ، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.

ويضيف سبحانه مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة يصف الجنّة وصفا إضافيا حيث يقول سبحانه :( فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ) .

«نضّاختان» من مادّة (نضخ) بمعنى فوران الماء.

ومرّة اخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجنّ سؤالا استنكاريا فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتتحدّث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنّتين حيث تقول :( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) .

لا شكّ أنّ للفاكهة مفهوما واسعا يشمل جميع أنواعها ، إلّا أنّ التمر والرمّان خصّا بالذكر هنا لأهميّتهما الخاصّة ، لا كما يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ ذكرهما هو لأنّهما لا يدخلان ضمن مفهوم الفاكهة ، إذ أنّ هذا التصوّر خاطئ ، لأنّ علماء اللغة أنكروا ذلك ، بالإضافة إلى أنّ عطف الخاصّ على العام في الموارد التي لها امتيازات أمر معمول به وطبيعي. قال تعالى :( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ) .(١)

وهنا جاءت عبارة (جبريل وميكال) وهما من الملائكة العظام بعد ذكر لفظ الملائكة بصورة عامّة.

ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) البقرة ، ٩٨.

٤٢٩

بحث

قيمة الفاكهة :

الشيء الجدير بالذكر أنّ الآيات أعلاه خصّت الفاكهة بالذكر من بين مختلف أنواع أغذية الجنّة كما خصّت فاكهتي (الرطب والرمّان) بالذكر من بين جميع فواكه الجنّة أيضا.

والغريب هنا ذكر النخل بدلا من الرطب ، أمّا الرمّان فقد ذكر باسمه ، ولا بدّ أن يكون لكلّ واحد من هذه الفواكه خصوصية.

أمّا ذكر الفاكهة بالخصوص من بين عموم الأغذية الموجودة في الجنّة فذلك لأهميّة الفاكهة في تغذية الإنسان : حتّى قيل : أنّ الإنسان موجود آكل للفاكهة ، وللفاكهة دور مهمّ في وجود الإنسان ودوام حياته لا على الصعيد العلمي فقط ، بل من الناحية التجريبيّة لعموم الناس أيضا.

أمّا ذكر شجرة النخيل بدل فاكهتها فيمكن أن يكون للحاظ أنّ هذه الشجرة موضع استفادة من جهات عديدة ، في حين أنّ شجرة الرمّان ليست كذلك.

فالنخلة يستفاد من ورقها في صنع وسائل عديدة من لوازم الحياة كالفرش والقبّعات والملابس ووسائل الحمل والنقل والأسرّة ، ويستفاد من أليافها في امور شتّى كذلك ، كما أنّ البعض منها له خواص طبية ، وحتّى أنّ جذعها يستخدم كأعمدة في البناء أو جسور لعبور الأنهار.

أمّا إختيار هاتين الفاكهتين من بين جميع فواكه الجنّة فهو بسبب تنوّعهما : فأحدهما : ينمو في المناطق الحارّة (النخيل). والاخرى : تنمو في المناطق الباردة (الرمّان). أحدهما تتميّز بالمادّة السكرية ، والاخرى تتميّز بالمادّة الحامضية ، واحدة حارّة من حيث طبيعتها والاخرى باردة ، إحداهما مغذّية والاخرى مرويّة.

كما أنّ التمر يتمتّع بالكثير من المواد الحياتية وأنواع الفيتامينات ، وقد اكتشفت ثلاث عشرة مادّة حياتية فيه ، وخمس أنواع من الفيتامينات بالإضافة

٤٣٠

إلى بقيّة خواصها الاخرى ، (وقد بحثناها في نهاية الآية رقم (٥) من سورة مريم في هذا التّفسير تحت عنوان : التمر غذاء مقوّ وباعث للنشاط).

وأمّا «الرمّان» الذي عرّف في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّه سيّد الفواكه(١) ، فقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة حول فوائد هذه الفاكهة ومنها تنقية الدم ، واحتوائها على مقادير كبيرة من فيتامين (سي). كما ذكرت في الكتب فوائد كثيرة اخرى للرمّان (الحلو والحامض) كتقوية المعدة ، ودفع الحمى الصفراء ، واليرقان ، والجرب (مرض جلدي) وتقوية البصر ، ورفع التقيّحات المزمنة ، وتقوية اللثة ، ودفع الإسهال كما نقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في التأكيد على هذه الفاكهة : «أطعموا صبيانكم الرمّان فإنّه أسرع لشبابهم»(٢) .

وجاء في حديث آخر : «فإنّه أسرع لألسنتهم»(٣) .

وجاء في حديث آخر للإمام الصادقعليه‌السلام والإمام الباقرعليه‌السلام أنّهما قالا : «وما على وجه الأرض ثمرة كانت أحبّ إلى رسول الله من الرمّان»(٤) .

* * *

__________________

(١) نقل هذا التعبير في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ١٦٣).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ١٦٤ حيث جاء في حديث آخر أنّه أسرع لألسنتهم.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٦٥.

(٤) الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٥٢.

٤٣١

الآيات

( فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨) )

التّفسير

زوجات الجنّة مرّة اخرى :

استمرار لشرح نعم الجنّتين التي ذكرت في الآيات السابقة ، تتحدّث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان الله التي أعدّها للصالحين من عباده ، حيث يقول سبحانه في البداية :( فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ ) (١) .

__________________

(١) الضمير في (فيهنّ) والذي هو جمع مؤنث يمكن أن يرجع إلى مجموع الجنّات الأربع ، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجنّتين اللتين ذكرتا أخيرا ، بلحاظ ما فيهما من حدائق عديدة وقصور مختلفة ، وهذا أنسب لأنّه في هذا فصل بين الجنّتين

٤٣٢

تستعمل كلمة (خير) غالبا للصفات الجيّدة والجمال المعنوي ، أمّا «حسن» فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود بـ( خَيْراتٌ حِسانٌ ) أولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة ، وحسن الظاهر.

وجاء في الرّوايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنّة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة ، وعدم الإيذاء ، وعدم النظر للرجال الأجانب والخلاصة أنّ جميع صفات الخير والجمال التي يجب أن تكون في الزوجة الصالحة موجودة فيهنّ ، وهذه الصفات إشارة للصفات العالية التي يجب أن تكون في نساء هذه الدنيا ويجسّدن الاسوة بذلك لجميع الناس والقرآن الكريم يعبّر عنهنّ باختصار رائع أنهنّ( خَيْراتٌ حِسانٌ ) (١) .

ثمّ يضيف مستمرّا في وصف الزوجات في الجنّة :( حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ) .

«حور» : جمع حوراء وأحور ، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتما وبياضها ناصعا ، وأحيانا تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههنّ أبيض.

والتعبير بـ «مقصورات» إشارة إلى أنهنّ مرتبطات ومتعلّقات بأزواجهنّ ومحجوبات عن الآخرين.

«خيام» : جمع خيمة ، وكما ورد في الرّوايات الإسلامية ، فإنّ الخيم الموجودة في الجنّة لا تشبه خيم هذا العالم من حيث سعتها وجمالها.

و «الخيمة» كما ذكر علماء اللغة وبعض المفسّرين لا تطلق على الخيم المصنوعة من القماش المتعارف فحسب. بل تطلق أيضا على البيوت الخشبية وكذلك كلّ بيت دائري. وقيل أنّها تطلق على كلّ بيت لم يكن من الحجر

__________________

(١) قال البعض : إنّ خيرات جمع (خيّرة) على وزن (سيّدة) ، وقيل لها خيرات للتخفيف ، واعتبرها آخرون أنّها جمع (خيرة) على وزن (حيرة) وعلى كلّ حال فإنّها تعطي معنى الوصف ، وليس بمعنى (أفعل التفضيل) لأنّه لا يجمع.

٤٣٣

وأشباهه(١) .

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ويضيف سبحانه وصفا آخر لحوريات الجنّة حيث يقول :( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ ) (٢) .

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنّة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات(٣) .

ويستفاد أيضا من الرّوايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنّة(٤) وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة الله سبحانه.

ثمّ يضيف تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنّة يذكر سبحانه تعالى :( مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ) .

«رفرف» في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار ، ثمّ أطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

«عبقري» في الأصل بمعنى كلّ موجود قلّ نظيره ، ولذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أنّ كلمة (عبقر) كان في البداية اسما لمدينة (بريان) انتخبه العرب لها ، لأنّ هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم ونادر. لذا فإنّ كلّ موضوع يقلّ نظيره ينسب لها ويقال «عبقري» ، وذكر البعض أنّ «عبقر» كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية(٥) .

__________________

(١) لسان العرب ومجمع البحرين والمنجد.

(٢) حول معنى الطمث أعطينا توضيحا كافيا في نهاية الآية رقم (٥٦) من نفس السورة.

(٣) الرعد ، ٢٣ ، والمؤمن ، ٨.

(٤) الدّر المنثور ، ص ١٥١.

(٥) تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

٤٣٤

والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر وتستعمل كلمة «عبقري» ككلمة مستقلّة بمعنى نادر الوجود ، وتأتي جمعا في بعض الأحيان ، كما في الآية مورد البحث.

و (حسان) جمع (حسن) على وزن «نسب» بمعنى جيّد ولطيف.

وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعابير حاكية جميعا عن أنّ كلّ موجودات الجنّة رائعة : الفاكهة ، الغذاء ، القصور ، الأفرشة والخلاصة أنّ كلّ شيء فيها لا نظير له ولا شبيه في نوعه ، ولا بدّ من القول هنا أنّ هذه التعبيرات لا تستطيع أبدا أن تعكس تلك الإبداعات العظيمة بدقّة ، وإنّها تستطيع ـ فقط ـ أن ترسم لنا صورة تقريبية من الصورة الحقيقيّة للموجودات في الجنّة.

وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجنّ والإنس هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنّة؟ إنّ كلّ هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم إلّا أنّه ـ مع الأسف ـ قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة ، ومصدر عطائها وهو الله سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل فأيّا منها تنكرون وتكذّبون؟

ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

«تبارك» من أصل (برك) على وزن (درك) بمعنى صدر البعير ، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلا ، ومن هنا استعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة ، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة ، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهيّة المقدّسة باعتبارها مصدرا لجميع الخيرات والبركات.

٤٣٥

واستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهيّة ـ سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق ـ فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك ، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.

والمقصود من (اسم) هنا هو صفات الله تعالى خصوصا الرحمانية التي هي منشأ البركات ، وبتعبير آخر فإنّ أفعال الله تعالى مصدرها من صافته ، وإذا خلق عالم الوجود فذلك من إبداعه ونظام خلقه ، وإذا وضع كلّ شيء في ميزان فذلك ما أوجبته حكمته ، وإذا وضع قانون العدالة حاكما على كلّ شيء فإنّ (علمه وعدالته) توجبان ذلك. وإذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مرّ بنا في هذه السورة فإنّ (انتقامه يقضي ذلك ، وإذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات والنعم العظيمة الماديّة والمعنوية ـ في هذا العالم وفي الآخرة ـ فإنّ رحمته الواسعة أوجبت ذلك ، وبناء على هذا فإنّ اسمه يشير إلى صفاته وصفاته هي نفس ذاته المقدّسة.

والتعبير بـ( ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) إشارة إلى كلّ صفات جماله وجلاله :( ذِي الْجَلالِ ) إشارة إلى الصفات السلبية ، و (ذي الإكرام) إشارة إلى الصفات الثبوتية.

والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم الله (الرحمن) وانتهت باسم الله ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

* * *

ملاحظات

١ ـ في الآية رقم (٣٧) من هذه السورة بعد ذكر النعم الإلهيّة المختلفة المعنوية والماديّة في الدنيا يقول سبحانه :( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

وفي نهاية السورة وبعد ذكر أنواع النعم الاخروية يقول سبحانه :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

٤٣٦

إنّ هاتين الآيتين توضّحان حقيقة مهمّة وهي أنّ جميع الخطوط تنتهي إلى ذاته المقدّسة ، وأنّ جميع ما في الوجود مصدره الله سبحانه ، فالدنيا منه ، والعقبى كذلك ، وإنّ جلاله وإكرامه قد شمل كلّ شيء.

٢ ـ ونقرأ في حديث للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ رجلا كان يدعو الله في حضرته حيث قال : «يا ذا الجلال والإكرام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد استجيب لك فسل(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد رجلا يقيم الصلاة حيث دعا بعد الركوع والسجود والتشهّد بهذا الدعاء : اللهمّ انّي أسألك بأنّ لك الحمد ، لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك ، المنّان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيّوم انّي أسألك فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى»(٢) .

٣ ـ نقرأ في حديث للإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية :( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) أنّه قال : «نحن جلال الله وكرامته التي أكرم العباد بطاعتنا»(٣) .

ومن الواضح أنّ أهل البيتعليه‌السلام لا يدعون لغير الله ، ولا يأمرون بغير طاعته وهم هداة الطريق إليه ، وسفن النجاة في بحر الحياة المتلاطم. وبناء على هذا ، فإنّهم يمثّلون مصاديق جلال الله وإكرامه ، لأنّ الله تعالى قد شمل الناس بنعمة الهداية بواسطة أوليائه.

٤ ـ ذكر البعض أنّ أوّل آيات قرئت في مكّة على قريش علنا هي الآيات الأوائل لهذه السورة يقول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : اجتمع يوما أصحاب رسول الله فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ. فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا ، قالوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريد رجلا

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٥٣.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٥٣.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٢٧٢.

٤٣٧

له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ، قال : دعوني فإنّ الله سيمنعني ، قال : فغذا ابن مسعود حتّى أتى المنام في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتّى قام عند المقام ثمّ قرأ :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) رافعا بها صوته :( الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قال : ثمّ استقبلها يقرؤها قال : فتأمّلوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أمّ عبد؟ قال : ثمّ قالوا : إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتّى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثمّ انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه.

فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا ، قالوا : لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون(١) .

ولهذا السبب فقد اعتبر ابن مسعود أوّل مسلم جهر بالقرآن في مكّة أمام المشركين(٢) .

ربّنا ، يا ذا الجلال والإكرام ، نقسم عليك بجلالك وإكرامك ألّا تحرمنا من نعم وهبات الجنّة.

ربّاه ، إنّ دائرة رحمتك واسعة جدّا ، وإنّنا لم نعمل عملا يليق برحمتك ، فعاملنا بما يليق بمقام رحمانيّتك.

إلهنا ، نحن لا نكذّب أيّا من نعمك ، ونعتبر أنفسنا غارقين بإحسانك دائما ، فأدم نعمك علينا.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الرحمن

* * *

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٣٦.

(٢) اسد الغابة ، ج ٣ ، ص ٢٥٧.

٤٣٨
٤٣٩

سورة

الواقعة

مكّية

وعدد آياتها ستّ وتسعون آية

٤٤٠