تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب12%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183414 / تحميل: 5556
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام: أنّ بني إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي(٢) وغيّروا دين الله وعتوا عن أمر ربّهم. وكان فيهم نبيّ يأمرهم وينهاهم. فلم يطيعوه. وروى أنّه إرميا النّبيّ فسلّط الله عليهم جالوت. وهو من القبط.

فاذلّهم. وقتل رجالهم. وأخرجهم من ديارهم وأموالهم. واستعبد نساءهم. ففزعوا إلى نبيّهم. وقالوا: سل أن الله(٣) يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله.

وكانت النّبوّة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسّلطان في بيت آخر. لم يجمع الله لهم (النّبوّة والملك) في بيت واحد. فمن ذلك قالوا:( ابْعَثْ لَنا [مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) . فقال لهم نبيّهم:( هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا. قالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا ) .

وكان كما قال الله ـ تبارك وتعالى:( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ].(٤) فقال( لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ) . فغضبوا من ذلك.

و( قالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا. وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ. وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ) .

وكانت النّبوّة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف. وكان طالوت من ولد بنيامين(٥) أخي(٦) يوسف لأمّه. لم يكن من بيت النّبوّة ولا من بيت المملكة.

فقال لهم نبيّهم:( إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) . وكان أعظمهم جسما. وكان شجاعا قويّا. وكان أعلمهم. إلّا أنّه كان فقيرا. فعابوه بالفقر. فقالوا:( لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ) .

فقال لهم نبيّهم:( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) . وكان التّابوت الذي أنزل(٧) على موسى ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٨١ ـ ٨٢.

(٢) المصدر: المعاصي.

(٣) المصدر: سل الله. (ظ)

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في المصدر.

(٥) النسخ والمصدر: ابن يامين.

(٦) النسخ: أخو.

(٧) المصدر: أنزل الله.

٣٨١

فوضعته فيه أمّه، فألقته(١) في اليمّ. فكان في بني إسرائيل [معظّما].(٢) يتبرّكون به. فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه(٣) وما كان عنده من آيات النّبوّة. وأودعه يوشع، وصيّه. فلم يزل التّابوت بينهم استخفّوا(٤) . وكان الصّبيان يلعبون به في الطّرقات. فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التّابوت عندهم. فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتّابوت، رفعه الله عنهم.

فلمّا سألوا النّبيّ بعث الله طالوت إليهم ملكا يقاتل(٥) معهم، ردّ الله عليهم التّابوت، كما قال الله:( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) قال: البقيّة ذرّيّة الأنبياء قوله فيه سكينة من ربّكم. فإنّ التّابوت كان يوضع بين يدي العدوّ وبين المسلمين، فيخرج منه ريح طيّبة، لها وجه كوجه الإنسان.

وما في هذا الخبر من أنّ ذلك النّبيّ إرميا، ينافي ما نقل

في مجمع البيان(٦) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ أنّه اسمويل. ويمكن الجمع بأنّهما واحد. والاختلاف من النّقلة، أو من اختلاف التّسمية، بأن عبّر عنه باسمين عند أهل زمانه. وقوله في آخر الخبر «البقيّة ذرّيّة الأنبياء» معناه أنّ البقيّة ممّا تركه ذرّيّة الأنبياء

، كما يشرح في خبر آخر سيجيء.

( وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ) :

الصّندوق، فعلوت من التّوب. فإنّه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وفي تفسير العيّاشيّ(٧) : عن العبّاس بن هلال، قال: سأل عليّ بن أسباط أبا الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ فقال: أي شيء التّابوت الّذي كان في بني إسرائيل؟

قال: كان فيه ألواح موسى التي تكسّرت والطست الّتي تغسل فيها قلوب الأنبياء.

وفي كتاب معاني الأخبار(٨) : حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصّفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن أبي الحسن ـ عليه السّلام قال: سألته(٩) ما كان تابوت موسى؟ وكم كان سعته؟

__________________

(١) المصدر: وألقته. (ظ)

(٢) يوجد في المصدر.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) المصدر: حتّى استخفّوا به.

(٥) المصدر: بعث الله طالوت عليهم يقاتل.

(٦) مجمع البيان ١ / ٣٥٠.

(٧) تفسير العياشي ١ / ١٣٣، ح ٤٤٢.

(٨) معاني الأخبار / ٢٨٤ ـ ٢٨٥، ح ٢. (٩) المصدر: قال: سألته فقلت: جعلت فداك.

٣٨٢

قال: ثلاثة(١) أذرع في ذراعين.

قلت: ما كان فيه؟

قال: عصى موسى والسّكينة.

قلت: وما السّكينة؟

قال: روح الله يتكلم. كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون.

ولا ينافيه ما يأتي في الخبر(٢) من أنّه ريح كذا، لاحتمال أن يكون الرّيح والرّوح واحدا.

وفي أصول الكافي(٣) : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن معاوية بن وهب، عن سعيد السّمّان قال: سمعت عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه يقول: إنّما مثل السّلاح فينا، مثل التّابوت في بني إسرائيل. كانت بنو إسرائيل أيّ أهل بيت وجد التّابوت على بابهم أوتوا النّبوّة. فمن صار إليه السّلاح منّا أوتي الإمامة.

وبهذا المعنى من الأخبار، كثيرة(٤) .

( فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) :

قيل(٥) : أي في إيتاء التّابوت، أو في التّابوت ما تسكنون إليه. وهو التّوراة. وكان موسى إذا قاتل، قدّمه، فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرّون.

وقيل(٦) : صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت. لها رأس وذنب كرأس الهرّة.

وذنبها وجناحان فتئن. فيزفّ التّابوت نحو العدوّ. وهم يتبعونه. فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النّصر.

قال في مجمع البيان(٧) : روى ذلك في أخبارنا.

وقيل(٨) : صور الأنبياء من آدم إلى محمّد ـ صلّى الله عليه وآله.

وقيل(٩) : «التّابوت»: القلب. والسّكينة ما فيه من العلم والإخلاص. وإتيانه

__________________

(١) المصدر: ثلاث.

(٢) ر. تفسير القمي ١ / ٨٢. وسيأتى ـ إن شاء الله.

(٣) الكافي ١ / ٢٣٨، ح ١.

(٤) ر. نفس المصدر والموضع.

(٥ و ٦) أنوار التنزيل ١ / ١٣٠.

(٧) مجمع البيان ١ / ٣٥٣.

(٨ و ٩) أنوار التنزيل ١ / ١٣٠.

٣٨٣

تصيير قلبه مقرّ العلم والوقار، بعد أن لم يكن.

والصّحيح ما ذكر في الخبر السّالف، من أنّه ريح طيّبة تخرج من التّابوت له وجه كوجه الإنسان.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : حدّثني أبي، عن الحسن بن خالد، عن الرّضا ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: السّكينة ريح من الجنّة. لها وجه كوجه الإنسان.

( وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ ) ، أي: ذرّيّة الأنبياء. وهما موسى وهارون والآل لتفخيم مفخّم، أو أنبياء بني إسرائيل لأنّهم أبناء عمّهما.

في تفسير العيّاشي(٢) : عن حريز، عن رجل، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قول الله:( يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) ، فقال: رضاض الألواح. فيها العلم والحكمة. العلم جاء من السّماء. فكتب في الألواح. وجعل في التّابوت.

( تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) :

قيل(٣) : رفعه الله بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون.

وقيل(٤) : كان مع أنبيائهم، يستفتحون به حتّى أفسدوا. فغلبهم الكفّار عليه. وكان في أرض جالوت إلى أن ملّك الله طالوت. فأصابهم ببلاء حتّى هلكت خمس مدائن.

فتشاءموا بالتّابوت. فوضعوه على ثورين. فساقهما الملائكة إلى طالوت.

وفي كتاب المناقب(٥) ، لابن شهر آشوب: وفي حديث جابر بن يزيد الجعفيّ: أنّه لـمّا شكت الشّيعة إلى زين العابدين ـ عليه السّلام ـ ممّا يلقونه من بني أميّة. دعا الباقر ـ عليه السّلام. وأمر أن يأخذ الخيط الّذي نزل به جبرئيل إلى النّبيّ ـ عليه السّلام.

ويحركه تحريكا خفيفا(٦) .

قال: فمضى إلى المسجد، فصلّى فيه ركعتين. ثمّ وضع خدّه على الثّرى(٧) . وتكلّم بكلمات. ثمّ رفع رأسه. فأخرج من كمّه خيطا رقيقا(٨) يفوح منه رائحة المسك. وأعطاني

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٨٢.

(٢) تفسير العياشي ١ / ١٣٣، ح ٤٤٠.

(٣ و ٤) الكشاف ١ / ٢٩٣+ أنوار التنزيل ١ / ١٣٠.

(٥) المناقب ٤ / ١٨٣.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) المصدر: التراب.

(٨) المصدر: دقيقا.

٣٨٤

طرفا منه. فمشيت رويدا.

فقال: قف، يا جابر! فحرّك الخيط تحريكا ليّنا خفيفا.

ثمّ قال: اخرج! فانظر ما حال النّاس؟

فخرجت من المسجد. فإذا صياح وصراخ وولولة من كلّ ناحية. وإذا زلزلة شديدة وهدّة ورجفة قد أخربت عامّة دور المدينة وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف إنسان ـ إلى قوله ـ سألته عن الخيط.

قال: هذا من البقيّة.

قلت: وما البقيّة؟ يا ابن رسول الله! قال: يا جابر «بقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة» ويضعه جبرئيل الدنيا(١) .

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٢٤٨) :

يحتمل أن يكون من تمام كلام النّبيّ، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى.

( فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ ) : [انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة. وأصله فصل نفسه عنه. ولكن لـمّا كثر حذف مفعوله صار كاللازم.

قيل(٢) : إنّه قال لهم: «لا يخرج معي إلّا الشّابّ النّشيط الفارغ.» فاجتمع إليه ممّن اختاره ثمانون ألفا.

والأظهر أنّه اجتمع إليه ستّون ألفا وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. لما سيأتي من أنّ من شرب ستّون ألفا، ومن لم يشرب ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وكان الوقت قيظا.

فسلكوا مفازة. وسألوا أن يجري الله لهم نهرا.

( قالَ ) ، أي: نبيّهم.

( إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ) : يعاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه.

( فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ) : فليس من أشياعي، أو بمتّحد معي.

( وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، أي: من لم يذقه من طعم الشيء إذا أذاقه(٣) ، مأكولا أو مشروبا.

__________________

(١) هكذا في المصدر والنسخ. والظاهر: لدينا.

(٢) الكشاف ١ / ٢٩٤+ أنوار التنزيل ١ / ١٣٠.

(٣) كذا في النسخ. ولعله: ذاقه.

٣٨٥

( إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) :

استثناء من قوله «فشرب.» وقدّم عليه الجملة الثّانية، للعناية بها.

والمعنى: الرّخصة في القليل، دون الكثير.

وقرئ بفتح الغين.

( فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ) ، أي: فكرعوا فيه إذا الأصل في الشّرب منه أن لا يكون بوسط، أو أفرطوا في الشّرب إلّا قليلا منهم.

وقرئ بالرّفع، حملا على المعنى، أي: لم يطيعوه.

وروى أنّ الّذين شربوا منه كانوا ستّين ألفا(١) .

وروى عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام(٢) ـ أنّه قال: القليل الّذي لم يشربوا ولم يغترفوا، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.

( فَلَمَّا جاوَزَهُ ) ، أي: طالوت النّهر إلى جنود جالوت،( هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، أي: القليل الّذين لم يخالفوه،( قالُوا ) ، أي: الّذين شربوا منه،( لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ) لكثرتهم وقوّتهم. هذا اعتذار منهم في التّخلّف وتحذير للقليل.

( قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ ) ، أي: الخلّص منهم الّذين تيقّنوا لقاء الله وثوابه بالموت. وسمّاه ظنّا لشبه اليقين بالموت بالظّنّ والشّكّ، كما ورد في الخبر: أنّه ما من يقين لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت.

وهم القليل الّذين لم يشربوا.

( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ) : بتيسيره وتوفيقه.

و «كم»، يحتمل الخبر والاستفهام.

و «من»، مبنيّة، أو مزيدة.

و «الفئة»: الفرقة من النّاس، من فأوت رأسه، أي: شققته، أو من فاء إذا رجع فوزنها فعة، أو فلة. ولا ينافي إطلاق الفئة هنا على أقلّ من عشرة آلاف، ما رواه العيّاشيّ(٣)

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٨٣.

(٢) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٣) تفسير العياشي ١ / ١٣٤، ح ٤٤٤.

٣٨٦

«عن حمّاد بن عثمان قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: لا يخرج القائم ـ عليه السّلام ـ في أقلّ من الفئة. ولا تكون الفئة أقلّ من عشرة آلاف.» من وجهين :

الأوّل: أنّ الإطلاق على الأقلّ هنا للفئة الموصوفة بالقلّة، لا الفئة المطلق. وفي الخبر، مطلقة.

والثّاني: أنّ المراد بالفئة في الخبر المعهودة المذكورة سابقا، بأنّها يكون مع القائم ـ عليه السّلام ـ لا مطلق الفئة.

( وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢٤٩): بالنّصر والإثابة.

( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ) ، أي: ظهروا لهم، ودنوا منهم،( قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (٢٥٠): سألوا ـ أوّلا ـ إفراغ الصّبر في قلوبهم. وهو الّذي ملاك الأمر. وثانيا: ثبات القدم في مداحض الحرب المسبّب عنه.

وثالثا: النّصر على العدوّ المترتّب عليهما.

( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ ) : فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إيّاهم إجابة لدعائهم.

روى في تفسير عليّ بن إبراهيم(١) ، عن الرّضا ـ عليه السّلام: لـمّا تأذّى بنو إسرائيل من جالوت، أوحى الله إلى نبيّهم: أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى ـ عليه السّلام. وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب ـ عليه السّلام ـ اسمه داود بن أسى.

وكان أسى راعيا. وكان له عشر بنين، أصغرهم داود. فلمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت، بعث إلى أسى أن احضر ولدك فلمّا حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه درع موسى ـ عليه السّلام ـ فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه.

فقال لأسى: هل خلّفت من ولدك أحدا؟

قال: نعم. أصغرهم. تركته في الغنم راعيا(٢) .

فبعث إليه [ابنه].(٣) فجاء به فلمّا دعي أقبل ومعه مقلاع. فناداه(٤) ثلاث صخرات في طريقه. فقالت(٥) : «خذنا.» فأخذها في مخلاته. وكان شديد البطش، قويّا في

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٨٢.

(٢) المصدر: يرعاها.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) المصدر: قال: فنادته. (ظ)

(٥) المصدر: فقالت: يا داود.

٣٨٧

بدنه، شجاعا، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى. فاستوت عليه. ففصل طالوت بالجنود حتّى برزوا لجالوت وجنوده. فجاء داود(١) ووقف بحذاء جالوت. وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التّاج وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها(٢) وجنوده من بين يديه. فأخذ داود من تلك الأحجار حجرا. فرمى به ميمنة جالوت فمر في الهواء. ووقع عليهم. فانهزموا. وأخذ حجرا آخر. فرمى به في ميسرة جالوت. فوقع عليهم. فانهزموا. ورمى جالوت بحجر. فصكّ الياقوتة في جبهته. ووصلت إلى دماغه. ووقع إلى الأرض ميّتا. وهو(٣) قوله:( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ) .

( وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ ) بالوجه الّذى روي.

( وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ) ، أي ملك: بني إسرائيل.

قيل(٤) : ولم يجتمعوا قبل داود على ملك.

( وَالْحِكْمَةَ ) : النّبوّة. وأنزل عليه الزّبور.

( وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ) : وعلمه صنعة الحديد وليّنه له.

في كتاب الخصال(٥) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يبعث أنبياء ملوكا(٦) إلّا أربعة بعد نوح: ذا القرنين(٧) واسمه عياش، وداود وسليمان ويوسف ـ عليهم السّلام. فأمّا عياش فملك ما بين المشرق والمغرب. وأمّا داود فملك ما بين الشّامات إلى بلاد إصطخر. وكذلك كان ملك سليمان. وأمّا يوسف فملك مصر وبراريها(٨) ولم يتجاوزها إلى غيرها.

وعن أبي الحسن الأوّل ـ عليه السّلام(٩) ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ اختار من كلّ شيء أربعة. اختار من الأنبياء للسّيف، إبراهيم وداود وموسى وأنا.

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة(١٠) ، بإسناده إلى جعفر بن محمّد، عن أبيه ،

__________________

(١) المصدر: حتّى.

(٢) المصدر: نوره.

(٣) المصدر: فهو.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ١٣١.

(٥) الخصال ١ / ٢٤٨.

(٦) المصدر: الأنبياء ملوكا في الأرض.

(٧) المصدر: ذو القرنين.

(٨) كذا في المصدر وفي النسخ. ولعله: بواديها.

(٩) نفس المصدر ١ / ٢٢٥، ح ٥٨.

(١٠) كمال الدين وتمام النعمة ٢ / ٥٢٤، ح ٣.

٣٨٨

عن جدّه، عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: عاش داود ـ عليه السّلام ـ مائة سنة. منها أربعين سنة في ملكه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : قال: وكان بين موسى وبين داود، خمسمائة سنة، وبين داود وعيسى ألف سنة وخمسمائة سنة.

( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ ) :

وقرأ نافع هنا وفي الحجّ دفاع الله.

( النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) (٢٥١): قيل(٢) : أي: لولا أنّه تعالى يدفع بعض النّاس ببعض وينصر المسلمين على الكفّار، لغلبوا وأفسدوا في الأرض، أو فسدت الأرض بشؤمتهم.

وفي أصول الكافي(٣) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن سعيد(٤) ، عن عبد الله بن القسم، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: انّ الله ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا. ولو اجتمعوا(٥) على ترك الصلاة لهلكوا. وإنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي. ولو اجتمعوا(٦) على ترك الزّكاة لهلكوا. وانّ الله ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ. ولو اجتمعوا(٧) على ترك الحجّ لهلكوا. وهو قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) . فو الله ما نزلت إلّا فيكم. ولا عنى بها غيركم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٨) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: إنّ الله ليدفع ـ وذكر مثله إلّا قوله: فو الله ما أنزلت (الخ.)

وفي مجمع البيان(٩) :( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ ) (الآية) فيه ثلاثة أقوال. الثّاني: أنّ معناه يدفع الله بالبرّ عن الفاجر الهلاك ـ عن عليّ ـ عليه السّلام. وقريب منه ما روى

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٦٥.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٣١.

(٣) الكافي ٢ / ٤٥١، ح ١.

(٤) «على بن سعيد» ليس في ر. وفي المصدر: عليّ بن معبد.

(٥ و ٦ و ٧) المصدر: أجمعوا. (ظ)

(٨) تفسير القمي ١ / ٨٣.

(٩) مجمع البيان ١ / ٣٥٧.

٣٨٩

عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: لولا عباد ركّع وصبيان رضّع وبهائم رتّع، لصبّ عليهم العذاب صبّا.

وروى جابر بن عبد الله(١) ، قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ الله يصلح بصلاح الرّجل السلم ولده وولد ولده وأهل دويرته. ودويرات حوله لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

( تِلْكَ ) إشارة إلى ما قصّ من القصص السّالفة.

( آياتُ اللهِ ) : دلائله على قدرته وإرسالك رسولا.

( نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ ) : بالوجه المطابق الّذي لا يشكّ فيه أهل الكتاب وأرباب التّواريخ.

( وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٢٥٢) لما أخبرت بها من غير تعرّف واستماع.

( تِلْكَ الرُّسُلُ ) ، أي: الجماعة المذكورة قصصهم، أو المعلومة لك أيّها النّبيّ، أو جماعة الرّسل.

و «اللّام»، للاستغراق.

( فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) بأن خصّصناه بما ليس لغيره.

( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ) :

قيل(٢) : هو موسى.

وقيل(٣) : موسى ليلة الخيرة في الطّور، ومحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ليلة المعراج.

وقرئ: كلّم الله وكالم الله. (بنصب لفظ الجلالة.)( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ ) ، يعني: محمّدا ـ صلّى الله عليه وآله.

( دَرَجاتٍ ) [بأن فضّله على غيره. قيل(٤) : وهو محمّد ـ صلّى الله عليه وآله. فإنّه فضّل](٥) بأن فضّله على غيره من وجوه متعدّدة: فإنّه خصّ بالدّعوة العامّة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرّة والفضائل العمليّة والعمليّة الفائتة للحصر.

وفي عيون الأخبار(٦) ، بإسناده إلى عليّ بن موسى، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب ـ عليهم السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: ما خلق الله خلقا

__________________

(١) نفس المصدر نفس الموضع.

(٢ و ٣ و ٤) أنوار التنزيل ١ / ١٣٢.

(٥) يوجد في أ، فقط.

(٦) عيون أخبار الرضا ١ / ٢٠٤.

٣٩٠

أفضل منّي. ولا أكرم عليه منّي.

قال عليّ ـ عليه السّلام: فقلت: يا رسول الله! أفأنت أفضل أم جبرئيل؟

فقال ـ عليه السّلام: إنّ الله(١) تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين.

وفضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين. والفضل بعدي لك يا عليّ وللائمّة من بعدك. وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

وقيل(٢) : إبراهيم خصّصه بالخلّة الّتي هي أعلى المراتب.

وقيل(٣) : إدريس لقوله تعالى(٤) :( وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) وقيل(٥) : أولو العزم من الرّسل.

والإبهام في جميع تلك الاحتمالات، للتّفخيم. ويحتمل الحمل على الكلّ. والإبهام لعدم التّعيين. يدلّ عليه ما رواه العيّاشيّ في تفسيره(٦) ، عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: بالزّيادة بالإيمان يفضّل(٧) المؤمنون بالدّرجات عند الله.

قلت: وإنّ للإيمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله؟

فقال: نعم.

قلت: صف لي ذلك ـ رحمك الله ـ حتّى أفهمه.

فقال: ما فضّل الله أولياءه(٨) بعضهم على بعض. فقال:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) . (إلى آخر الآية.) وقال(٩) :( وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ ) . وقال(١٠) :( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ) . وقال(١١) :( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ) . فهذا ذكر الله درجات الإيمان ومنازله عند الله.

[وفي أصول الكافي(١٢) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم

__________________

(١) المصدر: يا عليّ إنّ الله.

(٢ و ٣) أنوار التنزيل ١ / ١٣٢.

(٤) مريم / ٥٧.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ١٣٢.

(٦) تفسير العياشي ١ / ١٣٥، ح ٤٤٧.

(٧) المصدر: تتفاضل.

(٨) المصدر: به أولياءه.

(٩) البقرة / ٢٥٣. (١٠) الإسراء / ٢١. (١١) آل عمران / ١٦٣.

(١٢) الكافي ٢ / ٤١، ح ١.

٣٩١

بن يزيد قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ وذكر حديثا طويلا. وفيه يقول ـ عليه السّلام: ثمّ ذكر ما فضّل الله ـ عزّ وجلّ ـ به أولياءه بعضهم على بعض. فقال ـ عزّ وجلّ:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ ) فوق بعض درجات. (إلى آخر الآية.)](١)

( وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ) : المعجزات. أفرده لإفراط اليهود والنّصارى في تحقيره وتعظيمه. وجعل معجزاته مخصوصة بالذّكر. لأنّها آيات واضحة، أو معجزات عظيمة. لم يستجمعها غيره.

( وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) :

في أصول الكافي(٢) : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه رفعه، عن محمّد بن داود الغنويّ، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في حديث طويل. يقول فيه ـ عليه السّلام: فأمّا ما ذكر من أمر السّابقين، فإنّهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين. جعل الله فيهم خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح القوّة وروح الشّهوة وروح البدن. فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين. وبها علّموا الأشياء. وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئا. وبروح القوّة جاهدوا(٣) عدوّهم وعالجوا معاشهم. وبروح الشّهوة أصابوا لذيذ الطّعام ونكحوا الحلال(٤) من شباب النّساء.

وبروح البدن دبّوا ودرجوا. فهؤلاء مغفور مصفوح عن ذنوبهم.

ثمّ قال: قال الله ـ عزّ وجلّ:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .

ثمّ قال في جماعتهم(٥) :( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) . يقول: أكرمهم ففضّلهم على من سواهم.

فهؤلاء مغفور لهم. مصفوح عن ذنوبهم.

( وَلَوْ شاءَ اللهُ ) إلزام النّاس على طريقة واحدة، مشيئة حتم،( مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) : من بعد الرّسل،( مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ) : المعجزات.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) الكافي ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢، ح ١٦.

(٣) أ: جاهدوهم.

(٤) أ: النكاح.

(٥) المجادلة / ٢٢.

٣٩٢

( وَلكِنِ اخْتَلَفُوا ) . لأنّه لم يجبرهم على الاهتداء للابتلاء.

( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ) بتوفيقه.

( وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) لإعراضه عنه بخذلانه.

( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا ) : التّكرار للتّوكيد.

( وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) (٢٥٣): فيوفّق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ المختلفين بعد الرّسل، بين مؤمن وكافر، لا ثالث لهما.

وفي كتاب الاحتجاج(١) ، للطّبرسي ـ رحمه الله: وعن الأصبع بن نباتة قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ يوم الجمل. فجاء رجل حتّى توقّف بين يديه. فقال: يا أمير المؤمنين! كبّر القوم وكبّرنا. وهلّل القوم وهلّلنا. وصلّى القوم وصلّينا. فعلام(٢) نقاتلهم؟

فقال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام: على ما أنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه.

فقال: يا امير المؤمنين! ليس كلّ ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلّمنيه؟

فقال عليّ ـ عليه السّلام: لـمّا(٣) أنزل الله في سورة البقرة.

فقال: يا أمير المؤمنين! ليس كلّ ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلّمنيه؟

فقال عليّ ـ عليه السّلام: هذه الآية:( تِلْكَ الرُّسُلُ ) . ـ وقرأ الى( يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) ـ فنحن الّذين آمنا. وهم الّذين كفروا.

فقال الرّجل: كفر القوم وربّ الكعبة! ثمّ حمل، فقاتل حتّى قتل ـ رحمه الله.

وفي أمالي شيخ الطّائفة(٤) ، شبهه مع تغيير غير مغيّر للمعنى.

وفي آخره بعد قوله: ومنهم من كفر. فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى بالله ـ عزّ وجلّ ـ وبالنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبالكتاب وبالحقّ. فنحن الّذين آمنوا. وهم الّذين كفروا. وشاء الله قتالهم بمشيئته وإرادته.

وفي روضة الكافي(٥) : ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر ـ عليه السّلام: انّ العامّة يزعمون أن بيعة أبي بكر حيث اجتمع النّاس كانت

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٢٤٨.

(٢) المصدر: فعلى ما.

(٣) المصدر: ما.

(٤) أمالي الشيخ ١ / ٢٠٠.

(٥) الكافي ٨ / ٢٧٠، ح ٣٩٨.

٣٩٣

رضا لله ـ عزّ ذكره. وما كان الله ليفتن أمّة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ من بعده.

فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام: او ما يقرءون كتاب الله؟ أو ليس الله يقول(١) :( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ؟

قال: قلت: إنّهم يفسّرون على وجه آخر.

قال: أو ليس من أخبر الله ـ عزّ وجلّ ـ عن الّذين من قبلهم من الأمم، أنّهم قد اختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات، [حيث قال:( وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ]. ) (٢) ( وَلكِنِ اخْتَلَفُوا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا. وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) ؟ في هذا يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد اختلفوا من بعده. فمنهم من آمن. ومنهم من كفر.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ) : ما أوجب عليكم إنفاقه،( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ) : وهو يوم القيامة الّذي لا بيع فيه، فيحصل ما ينفق بالبيع، أو يفتدى النّفس ويخلص من العذاب، بإعطاء شيء وشرائها، ولا خلّة حتّى يستغنى بالأخلّاء، ولا شفاعة إلا لمن رضى له قولا حتّى يتّكل على الشّفعاء.

( وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢٥٤): يريد التّاركون للزكاة الّذين ظلموا أنفسهم، أو(٣) وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه على غير وجهه. فوضع الكافرون موضعه تغليظا وتهديدا، كقوله: «( وَمَنْ كَفَرَ ) ، مكان من لم يحجّ، وإيذانا بأن ترك الزّكاة من صفات الكفّار لقوله:( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) .

وفي من لا يحضره الفقيه(٤) : وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم. وهو قوله ـ عزّ وجلّ(٥) .( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) .

واعلم! أنّ الأخبار في فضل آية الكرسيّ كثيرة. فمنها ما مرّ في صدر الكتاب. ومنها

__________________

(١) آل عمران / ١٤٤.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) ر: و. (ظ)

(٤) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٧، ح ٢١.

(٥) المؤمنون / ٩٩.

٣٩٤

ما رواه في الخرايج والجرائح(١) ، عن عبد الله بن يحيى الكاهليّ قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: إذا لقيت السّبع ما ذا تقول؟

قلت: لا أدري.

قال: إذا لقيته فاقرأ في وجهه آية الكرسيّ وقل: «عزمت عليك بعزيمة الله وعزيمة رسوله وعزيمة سليمان بن داود وعزيمة عليّ أمير المؤمنين والأئمّة من بعده.» فإنّه ينصرف عنك.

قال عبد الله: فقدمت الكوفة. فخرجت مع ابن عمّ لي إلى قرية. فإذا سبع قد اعترض لنا في الطّريق. فقرأت في وجهه آية الكرسيّ وقلت: عزمت عليك بعزيمة الله (إلى آخرها) إلّا تنحّيت عن طريقنا. ولم تؤذنا. فإنّا لا نؤذيك.

ومنها ما رواه في الكافي(٢) ، عن عليّ بن إبراهيم [عن محمّد بن عيسى](٣) وعدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله وسهل بن زياد، جميعا، عن محمّد بن عيسى، عن أبي محمّد الأنصاريّ، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: شكا إليه رجل عبث أهل الأرض بأهل بيته وبعياله. فقال: كم سقف بيتك؟

قال(٤) : عشرة أذرع.

فقال اذرع ثمانية أذرع ثمّ اكتب آية الكرسيّ فيما بين الثمانية إلى العشرة كما تدور. فإنّ كلّ بيت سمكه أكثر من ثمانية أذرع، فهو محتضر تحضره الجنّ، يكون فيه مسكنه(٥)

وعن عليّ بن إبراهيم،(٦) عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، وأحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، جميعا، عن يونس، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال في سمك البيت: إذا رفع ثمانية أذرع، كان مسكونا. فإذا زاد على ثمان فليكتب على رأس (الثّمانية)(٧) آية الكرسيّ.

وبإسناده(٨) إلى محمّد بن إسماعيل، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: إذا كان

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ / ٩٥، ح ١٠٨، نقلا عن الخرايج والجرائح.

(٢) الكافي ٦ / ٥٢٩، ح ٣.

(٣) ليس في أو في المصدر.

(٤) المصدر: فقال. (ظ)

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ: تكون فيه تسكنه.

(٦) نفس المصدر نفس الموضع، ح ٤.

(٧) المصدر: الثمان.

(٨) نفس المصدر ٦ / ٦٢٩، ح ٧.

٣٩٥

البيت فوق ثمانية أذرع، فاكتب في أعلاه آية الكرسيّ.

ومنها ما رواه في من لا يحضره الفقيه(١) ، في وصيّة النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعليّ ـ عليه السّلام: يا عليّ! ومن كان في بطنه ماء أصفر فليكتب على بطنه آية الكرسيّ ويشربه. فإنّه يبرأ بإذن الله ـ عزّ وجلّ.

ومنها ما رواه في كتاب الخصال(٢) ، عن عتبة بن عمير الليثي، عن أبي ذرّ ـ ره ـ قال: دخلت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهو في المسجد جالس وحده (إلى أن قال) قلت له: فأي آية أنزلها الله عليك أعظم؟

قال: آية الكرسيّ. ثمّ قال: يا أبا ذرّ! ما السّموات السّبع في الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة.

وفيه(٣) ، فيما علّم أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ أصحابه: وإذا اشتكى أحدكم عينه فليقرأ آية الكرسيّ. وليضمر في نفسه أنّها تبرء. فإنّه يعافى ـ إن شاء الله تعالى.

ومنها ما رواه في أصول الكافي(٤) ، عن محمّد بن يحيى، عن عبد الله بن جعفر، عن السّيّاريّ، عن محمّد بن بكر، عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ أنّه قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنّ في بطني ماء أصفر. فهل من شفاء؟

فقال: نعم بلا درهم ولا دينار. ولكن اكتب على بطنك آية الكرسيّ.

وتغسلها. وتشربها. وتجعلها ذخيرة في بطنك. فتبرأ بإذن الله ـ عزّ وجلّ.

ففعل الرّجل. فبرئ بإذن الله ـ عزّ وجلّ.

ومنها ما رواه في كتاب ثواب الأعمال(٥) ، بإسناده عن رجل سمع أبا الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ يقول: من قرأ آية الكرسيّ عند منامه، لم يخف الفالج ـ إن شاء الله. ومن قرأها بعد كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمّة.

ومنها ما رواه في عيون الأخبار(٦) ، في باب ما جاء عن الرّضا ـ عليه السّلام ـ من الأخبار المجموعة، بإسناده عن عليّ ـ عليه السّلام. قال: قال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله :

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٢٦٩.

(٢) الخصال ٢ / ٥٢٤، ح ١٣.

(٣) نفس المصدر ٢ / ٦١٦، ح ١٠.

(٤) الكافي ٢ / ٦٢٥، ح ٢١.

(٥) ثواب الأعمال / ١٣١، ح ١.

(٦) عيون أخبار الرضا ٢ / ٦٥، ح ٢٨٩.

٣٩٦

من قرأ آية الكرسيّ مائة مرّة، كان كمن عبد الله طول حياته.

[وفي مجمع البيان(١) : روى جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: لـمّا أراد الله ـ عزّ وجلّ ـ أن ينزل «فاتحة الكتاب» و «آية الكرسيّ» و «شهد الله» و( قُلِ ألْلَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ) (إلى قوله)( بِغَيْرِ حِسابٍ ) ، تعلّقن بالعرش. وليس بينهنّ وبين الله حجاب. وقلن: يا ربّ! تهبطنا دار الذّنوب(٢) وإلى من يعصينّك. ونحن معلّقات بالطّهور وبالقدس.

فقال: وعزّتي وجلالي! ما من عبد قرأ كنّ في دبر كلّ صلاة(٣) إلّا أسكنته حضيرة القدس، على ما كان فيه، وإلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة، وإلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناه المغفرة، وإلّا أعذته من كلّ عدوّ ونصرته عليه ولا يمنعه دخول الجنّة إلّا أن يموت. وقد مرّ في أوّل الفاتحة](٤)

( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) : مبتدا وخبر. وللنّحاة خلاف في أنّه هل يضمر للأخير مثل في الوجود، أو يصحّ، أو يوجد؟ وإلّا صحّ أنّ إلّا هو خبره.

والمعنى: أنّ الله انتفى مستحقّ للعبادة غيره بحسب الإمكان والوجود، يعني: لا يمكن ولا يوجد مستحقّ للعبادة غيره.

( الْحَيُ ) :

قيل(٥) : الحيّ الّذي له صفة يقتضي الحسّ والحركة الإراديّة ويقتضي صحّة العلم والقدرة. والمراد به في صفة الله تعالى أنّه غير مرتبط الوجود بغيره، بطريق المعلوليّة، مع كونه قديرا عالما.

وفي كتاب التّوحيد(٦) ، بإسناده إلى أبي بصير، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في حديث طويل يذكر فيه صفة الرّبّ ـ عزّ وجلّ ـ وفيه يقول: لم يزل حيّا بلا حياة. [كان حيّا بلا حياة حادثة.

وبإسناده(٧) إلى عبد الأعلى، عن العبد الصّالح، يعني: موسى بن جعفر

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٤٢٦.

(٢) المصدر: إلى دار الذنوب.

(٣) كلّ صلاة مكتوبة.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٥) ر. تفسير صدر المتألهين ٤ / ٧٩ ـ ٨٠.

(٦) التوحيد / ١٧٣، ح ٢.

(٧) نفس المصدر / ١٣٨، ح ١٣.

٣٩٧

ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. وفيه: كان حيّا بلا كيف ولا أين. حيّا بلا حياة حادثة.

بل حيّ لنفسه.

وبإسناده(١) إلى جابر الجعفيّ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: سمعته يقول: إنّه نور لا ظلمة فيه، وعلم لا جهل فيه، وحياة لا موت فيه].(٢)

( الْقَيُّومُ ) : الدّائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. فيعول من قام الأمر، إذا حفظه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٣) . حدّثنا محمّد بن أبي عبد الله قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل، عن عليّ بن العبّاس، عن جعفر بن محمّد، عن الحسين بن أسد، عن يعقوب بن جعفر قال سمعت موسى بن جعفر ـ عليهم السّلام ـ يقول: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أنزل على عبده محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم. ويسمّى بهذه الأسماء الرّحمن الرّحيم العزيز الجبّار العليّ العظيم. فتاهت هنا لك عقولهم. واستخفّت أحلامهم. فضربوا له الأمثال. وجعلوا له أندادا. وشبّهوه بالأمثال. ومثّلوه أشباها. وجعلوه يزول ويحول. فتاهوا في بحر عميق لا يدرون ما غوره، ولا يدركون بكيفيّته بعده.

( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) :

«السّنة»: فتور يتقدّم النّوم.

و «النّوم»: حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدّماغ، من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواسّ الظّاهرة عن الإحساس، رأسا. وهنا إشكال مشهور. وهو تقديم السّنة عليه. وقياس المبالغة عكسه. وأجيب بأنّه قدّمه على ترتيب الوجود، وبأنّه على القياس. وهو التّرقّي من الأدنى إلى الأعلى. [لأنّ عدم الأخذ من النّوم، أعلى لقوّته من عدم أخذ السّنة الضعيفة. ففي ترتيبهما التّرقّي من الأدنى إلى الأعلى.

وفي أصول الكافي(٤) : أبو عبد الله الأشعريّ، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن حمّاد بن عثمان قال: جلس أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ متورّكا رجله اليمنى على فخذه اليسرى. فقال له رجل: جعلت فداك! هذه جلسة مكروهة.

فقال: لا. إنّما هو شيء قالته اليهود: لـمّا أن فرغ الله ـ عزّ وجلّ ـ من خلق السّماوات والأرض واستوى على العرش، جلس هذه الجلسة، ليستريح. فأنزل الله عزّ

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) تفسير القمي ٢ / ٣٦١.

(٤) الكافي ٢ / ٦٦١، ح ٥.

٣٩٨

وجلّ:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) .

وبقي أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ متورّكا كما هو].(١)

والجملة تأكيد لما قبله. ولذلك ترك العاطف. فإنّ عدم أخذ السّنة والنّوم يؤكّد كونه قيّوما. وكذا في قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) . لأنّه تقرير لقيّوميّته واحتجاج على تفرّده في الإلهيّة. وما فيهما أعمّ من أن يكون داخلا في حقيقتهما، أو خارجا عنهما، متمكّنا فيهما.

( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) : «من»، استفهاميّة. مبتدأ. و «ذا» موصول خبره. والموصول صفته. والاستفهام على سبيل الإنكار. وهو بيان لكبرياء شأنه، أي: لا أحد يساويه، أو يداينه. يستقلّ بدفع ما يريد شفاعة فضلا عن أن يقاومه(٢) عنادا.

ومن يشفع، يشفع بإذنه. وله مكانه عنده.

وفي محاسن البرقيّ(٣) ، بإسناده، قال: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام: قوله( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) . [أي من هم؟](٤) قال: نحن أولئك الشّافعون.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٥) : وأمّا آية الكرسيّ، فإنّه حدّثني أبي، عن الحسن بن خالد أنّه قرأ أبو الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ الم( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) ، أي: نعاس له ما في السّموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثّرى. عالم الغيب والشّهادة. هو الرّحمن الرّحيم.( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .

وفي روضة الكافي(٦) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه(٧) ، عن أحمد بن محمّد بن خالد(٨) ، عن محمّد بن سنان، عن أبي جرير القميّ، وهو محمّد بن عبيد الله، وفي نسخة: عبد الله، عن أبي الحسن ـ عليه السّلام:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) وما بينهما وما تحت الثّرى.

عالم الغيب والشّهادة(٩) . هو الرّحمن الرّحيم.( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .(١٠) ]

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) هكذا في أ. وفي الأصل ور: يعاوقه.

(٣) المحاسن / ١٤٠، ح ١٧٤.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) تفسير القمي ١ / ٨٤.(٦) الكافي ٨ / ٢٩، ح ٤٣٨.

(٧) ليس في المصدر. (٨) المصدر: أحمد بن محمد عن محمد بن خالد.

(٩) ليس في المصدر. (١٠) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٣٩٩

( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) : ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس. لأنّك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي، أو أمور الدّنيا وأمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسّونه وما يعقلونه، أو ما يدركونه وما لا يدركونه.

والضّمير لما في السّموات والأرض. لأنّ فيهم العقلاء، أو لما دلّ عليه.

«من ذا» من الملائكة والأنبياء والأئمّة.

( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) : من معلوماته،( إِلَّا بِما شاءَ ) : أن يعلموا.

( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) :

«الكرسيّ» في الأصل، اسم لما يقعد عليه. ولا يفضل عن مقعد القاعد. وكأنّه منسوب إلى الكرس. وهو الملبد. مجاز عن علمه تعالى.

في كتاب التّوحيد(١) ، قال: حدّثنا أبي ـ رحمه الله ـ قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن القسم بن محمّد، عن سليمان بن داود(٢) ، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

قال: علمه.

حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ـ رحمه الله(٣) ـ قال: حدّثنا محمّد بن الحسن(٤) قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) ، فقال: يا فضيل! السّموات والأرض وكلّ شيء في الكرسيّ.

وفي الكافي(٥) ، مثله، سواء.

وكذا «العرش» مجاز عن علم له تعالى أعلى من الأوّل، كما رواه في كتاب التّوحيد(٦) ، بإسناده إلى حنان بن سدير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في حديث طويل يقول فيه: ثمّ العرش في الوصل منفرد(٧) من الكرسيّ. لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب.

__________________

(١) التوحيد / ٣٢٧، ح ١.

(٢) المصدر: سليمان بن داود المنقريّ.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٣.

(٤) المصدر: محمد بن الحسن الصفّار.

(٥) الكافي ١ / ١٣٢، ح ٥ ـ ٣.

(٦) التوحيد / ٣٢١، ح ١.

(٧) المصدر: متفرّد.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493