تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب12%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183373 / تحميل: 5552
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ببدلها ، وأنّها تلفت على وجهٍ مضمون ، وأمّا إذا قامت بالوديعة بيّنة أو أقرّ بها الورثة ولم توجد ، لم يجب ضمانها ؛ لأنّ الوديعة أمانة ، والأصل أنّها تلفت على الأمانة ، فلم يجب ضمانها.

ومنهم مَنْ قال : صورة المسألة أن يثبت أنّ عنده وديعة فتُطلب فلا توجد بعينها ولكن يكون في تركته من جنسها ، فيحتمل أن تكون تلفت ، ويحتمل أن تكون قد اختلطت بماله ، فلـمّا احتمل الأمران أُجري مجرى الغرماء ، وحاصّهم ، فأمّا إذا لم يكن في تركته من جنسها فلا ضمان ؛ لأنّه لا يحتمل إلّا تلفها.

ومنهم مَنْ قال بظاهر قوله ، وأنّه يحاصّ الغرماء بكلّ حال ؛ لأنّ الوديعة يجب عليه ردّها ، إلّا أن يثبت سقوط الردّ بالتلف من غير تفريطٍ ، ولم يثبت ذلك ، ولأنّ الجهل بعينها كالجهل [ بها ](١) وذلك لا يُسقط عنه وجوب الردّ ، كذا هنا(٢) .

فروع :

أ - إذا تبرّم(٣) المستودع بالوديعة فسلّمها إلى القاضي ضمن‌ ، إلّا مع الحاجة.

ب - لا يلحق بالمرض علوّ السنّ والشيخوخة‌ ؛ لأصالة براءة الذمّة.

ج - لو أقرّ المريض بالوديعة ولا تهمة ثمّ مات في الحال ، فالأقرب هنا على قول مَنْ مَنَع من المحاصّة : المحاصّةُ هنا‌ ؛ إذ إقراره بأنّ عنده أو عليه وديعة يقتضي حصوله في الحال ، فإذا مات عقيبه لم يمكن فرض التلف قبل الإيصاء.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٧.

(٣) تبرّم : تضجّر. لسان العرب ١٢ : ٤٣ « برم ».

١٨١

البحث الثالث : في نقل الوديعة‌.

مسألة ٣١ : إذا أودعه في قريةٍ فنقلها المستودع إلى قريةٍ أُخرى‌ ، فإن اتّصلت القريتان وكانت المنقول إليها أحرز أو ساوت الأُولى في الأمن ولا خوف بينهما ، فالأقرب : عدم الضمان ، مع احتماله ؛ لأنّ الظاهر من الإيداع في قريةٍ عدم رضا المالك بنقلها عنها.

وإن لم تتّصل القريتان ، فالأقرب : الضمان ، سواء كان الطريق آمناً أو مخوفاً - وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) - لأنّ حدوث الخوف في الصحراء غير بعيدٍ.

وأظهرهما عندهم : عدم الضمان مع الأمن ، وثبوته لا معه ، كما لو لم تكن بينهما مسافة ، بل اتّصلت العمارتان(٢) .

وقال أكثر الشافعيّة : إن كان بين القريتين مسافة سُمّي المشي فيها سفراً ، ضمن بالسفر بها(٣) .

وبعضهم لا يقيّد ، بل يقول : إن كان بينهما مسافة ضمن. ولم يجعل مطلق المسافة مصحّحاً اسم السفر(٤) .

وقال آخَرون منهم : إن كانت المسافة بينهما دون مسافة التقصير وكانت آمنةً والقرية المنقول إليها أحرز ، لم يضمن(٥) :

وهو يقتضي أنّ السفر بالوديعة إنّما يوجب الضمان بشرط طول السفر. وهو بعيد عندهم ؛ فإنّ خطر السفر لا يتعلّق بالطول والقصر(٦) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

١٨٢

وإن كانت المسافة بحيث لا تصحّح اسم السفر ، فإن كان فيها خوفٌ ضمن ، وإلّا فوجهان:

أحدهما : إنّ الحكم كذلك ؛ لأنّ الخوف في الصحراء متوقّع.

وأظهرهما عندهم : إنّه كما لو لم تكن مسافة(١) .

وإن كانت القرية المنقول عنها أحرز من المنقول إليها ، ضمن المستودع بالنقل ، فإنّ المالك حيث أودعه فيها اعتمد حفظه فيها ، ولو كانت المنقول إليها أحرز أو تساويا ، فلا ضمان ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقد بيّنّا احتمال الضمان.

مسألة ٣٢ : إذا قلنا بالتفصيل - وهو عدم الضمان مع كون القرية المنقول إليها أحرز - وجب معرفة سبب كونها أحرز ، وهو متعدّد :

منها : حصانتها في نفسها أو انضباط أهلها أو امتناع الأيدي الفاسدة عنها.

ومنها : كونها عامرةً لكثرة القطّان بها.

ومنها : أن يكون مسكنه ومسكن أقاربه وأصدقائه بها ، فلا يقدم عليها اللصوص ، ولا يقوى طمعهم فيها ؛ لأنّ قرية أهله وأقاربه أحرز في حقّه.

واعلم أنّا حيث منعنا النقل فذلك إذا لم تَدْعُ ضرورة إليه ، فإن اضطرّ إلى نقلها جاز ، كما جوّزنا له السفر بها مع الحاجة إليه.

مسألة ٣٣ : إذا أراد الانتقال ولا ضرورة إليه ، فالحكم فيه كما سبق فيما إذا أراد السفر.

والنقل من محلّة إلى محلّة أو من دارٍ إلى دارٍ كالنقل من قريةٍ إلى قريةٍ متّصلتي العمارة.

وأمّا إذا نقل من بيتٍ إلى بيتٍ في دارٍ واحدة أو خانٍ واحد ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

١٨٣

لم يضمن وإن كان الأوّل أحرز إذا كان الثاني حرزاً أيضاً.

هذا إذا أطلق الإيداع.

والتحقيق أن نقول : إذا أودعه شيئاً ، ففيه ثلاثة أقسام.

الأوّل : أن يودعه ولا يعيّن له موضعاً لحفظها‌ ، فإنّ المودَع يحفظ الوديعة في حرز مثلها أيّ موضعٍ شاء ، فإن وضعها في حرزٍ ثمّ نقلها إلى حرز مثلها ، جاز ، سواء كان مثل الأوّل أو دونه - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ المودَع ردّ ذلك إلى حفظه واجتهاده ، فكلّ موضعٍ هو حرز مثلها وهي محفوظة فيه فكان وضعها فيه داخلاً تحت مطلق الإذن بالوضع فيه حيث جعل ذلك منوطاً باختياره.

الثاني : إذا عيّن له موضعاً ، فقال : احفظها في هذا البيت‌ ، أو في هذه الدار ، واقتصر على ذلك ولم ينهه عن غيره ، فإن كان الموضع ملكاً لصاحب الوديعة ، لم يجز للمستودع نقلها عنه ، فإن نقلها ضمن ؛ لأنّه ليس بمستودعٍ في الحقيقة ، وإنّما هو وكيل في حفظها ، وليس له إخراجها من ملك صاحبها.

وكذا إن كانت في موضعٍ استأجره لها.

وإن كان الموضع ملكاً للمستودع ، فإن نقلها إلى ما دونه في الحرز أو وضعها فيه ابتداءً ، ضمن ؛ لأنّه خالف أمره في شي‌ءٍ مطلوب فيه مرغوب إليه ، فكان ضامناً ، كما لو وضعها في غير حرزٍ.

وإن كان الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه ، فلا ضمان عليه ؛ لأنّ تعيينه البيت إنّما أفاد تقدير الحرزيّة ، وليس الغرض عينه ، كما لو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة ، فإنّه يجوز أن يزرعها ما يساويها في الضرر أو يقصر ضرره عنها ؛ لأنّ الغرض بتعيينها تقدير المنفعة لا عينها ، كذا هنا ، وحمل التعيين‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٢٦.

١٨٤

على تقدير الحرزيّة دون التخصيص الذي لا غرض فيه ، وبه قال الشافعي(١) .

نعم ، لو كان التلف بسبب النقل ، كما إذا انهدم عليه البيت المنقول إليه ، فإنّه يضمن ؛ لأنّ التلف هنا جاء من المخالفة.

وكذا مكتري الدابّة للركوب إذا ربطها في الاصطبل فماتت ، لم يضمن ، وإن انهدم عليها ضمن.

وكذا لو سُرقت من البيت المنقول إليه أو غُصبت فيه ، على إشكالٍ.

الثالث : إذا عيّن له موضعاً ، فقال : احرزها في هذا البيت‌ ، أو هذه الدار ولا تخرجها منه ولا تنقلها عنه ، فأخرجها ، فإن كان لحاجةٍ بأن يخاف عليها في الموضع الذي عيّنه الحريق أو النهب أو اللّصّ فنقلها عنه إلى أحرزها ، لم يضمن ؛ لأنّ الضرورة سوّغت له النقل.

وإن نقلها لغير عذرٍ ، ضمن مطلقاً عندنا - وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي(٢) - سواء نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل أو كان مساوياً أو أحرز منه ؛ لأنّه خالف صريح الإذن لغير حاجةٍ فضمن ، كما لو نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل وهو حرز مثلها.

وقال أبو سعيد الاصطخري : إن كان الحرز الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه ، لم يضمن بالنقل إليه ؛ لأنه نقلها عنه إلى مثله ، فأشبه ما إذا عيّن له موضعاً فنقلها عنه إلى مثله من غير نهي(٣) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٩ ، البيان ٦ : ٤٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٢) راجع المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، وحلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، والبيان ٦ : ٤٢٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، البيان ٦ : ٤٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

١٨٥

ثمّ تأوّل كلام الشافعي بأنّه أراد بذلك إذا كان الموضع الذي هي فيه ملكاً لصاحب الوديعة(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا نهاه عن نقلها عن دارٍ فنقلها إلى دارٍ أُخرى ضمن ، وإن نهاه عن نقلها عن بيتٍ فنقلها إلى بيتٍ آخَر في الدار لم يضمن ؛ لأنّ البيتين في دارٍ واحدة حرزٌ واحد ، والطريق إلى أحدهما طريق إلى الآخَر ، فأشبه ما لو نقلها من زاويةٍ إلى زاويةٍ(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يكون بيت في الدار يلي الطريق والآخَر لا يليه ، فالذي لا يليه أحرز.

والحقّ ما قلناه ؛ لأنّه خالف لفظ المودع فيما لا مصلحة له فيه ، فوجب أن يضمن ، كما لو نقلها إلى موضعٍ هو دونه في الحرز.

مسألة ٣٤ : قد بيّنّا أنّه إذا نهاه عن النقل عن الموضع الذي عيّنه ، لم يجز له نقلها عنه إلّا لضرورةٍ‌ ، كحريقٍ أو غرقٍ أو نهبٍ أو خوف اللّصّ وشبهه ، فإن حصلت إحدى هذه الأعذار نَقَلها ، ولا ضمان ، سواء نقلها إلى حرزٍ مثل الأوّل أو أدون منه إذا كان حرز مثلها إذا لم يجد أحرز منه.

فإن وجد أحرز منه واقتصر على الأدون ، احتُمل الضمان ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ التعيين لا يفيد الاختصاص ، بل تقدير الحرز ، فإذا تعذّر الشخص وجب الانتقال إلى المساوي أو الأحرز ، وعدمُه ضعيفاً ؛ لأنّ التعيين قد زال ، فساغ النقل للخوف ، فيتخيّر المستودع حينئذٍ ، ولو لم يعيّن له الحرز ابتداءً جاز له الوضع في الأدون ، فكذا إذا عيّنه.

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٠ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، المغني ٧ : ٢٨٥ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٨٧.

١٨٦

والأوّل أقوى.

ولو أمكن النقل عن المعيّن مع عروض إحدى هذه الحالات ، ضمن ؛ لأنّه مفرّط حينئذٍ في الحفظ ، إذ الظاهر أنّه قصد بالنهي عن النقل نوعاً من الاحتياط ، فإذا عرضت هذه الأحوال فالاحتياط النقل ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) .

ولو قال : لا تنقلها وإن حدثت ضرورة ، فحدثت ضرورة ، فإن لم ينقل لم يضمن ، كما لو قال : أتلف مالي ، فأتلفه ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر(٣) .

وإن نقل ، لم يضمن ؛ لأنّه قصد الحفظ والصيانة والإصلاح ، فكان محسناً ، فيندرج تحت عموم قوله تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٤) وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٥) .

مسألة ٣٥ : لو نقلها المستودع عن الموضع المعيّن المنهيّ عن نقلها عنه‌ ، فادّعى المستودع الخوفَ من الحريق أو الغرق أو اللّصّ أو شبهه من الضرورات ، وأنكر المالك ، فإن عرف هناك ما يدّعيه المستودع ، كان القولُ قولَه مع اليمين ؛ لأنّه ادّعى الظاهر ، فصُدّق بيمينه ، وإلّا طُولب بالبيّنة ، فإن لم تكن هناك بيّنة ، صُدّق المالك بيمينه ؛ لأنّه منكر ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٢ و ٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٤) التوبة : ٩١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ - ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١ - ٣٠٢.

١٨٧

ولهم وجهٌ آخَر : إنّ ظاهر الحال يغنيه عن اليمين(١) .

ولهم وجهٌ آخَر غريب فيما إذا لم ينهه عن النقل ، فنقل إلى ما دونه : إنّه لا يضمن(٢) .

وهذا كلّه فيما إذا كان البيت المعيّن أو الدار المعيّنة ملكاً للمستودع ، أمّا إذا كان ملكاً للمالك ، فليس للمستودع إخراجها عن ملكه بحالٍ ، إلّا أن تعرض ضرورة إلى ذلك.

البحث الرابع : في التقصير في دفع المهلكات‌.

مسألة ٣٦ : يجب على المستودع دفع مهلكات الوديعة وما يوجب نقص ماليّتها ؛ إذ الحفظ واجب ، ولا يتمّ إلّا بذلك.

فلو استودع ثياب صوفٍ ، وجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح بمجرى العادة ؛ لئلّا يفسدها الدود.

ولو لم يندفع الفساد إلّا بأن يلبس وتعبق(٣) بها رائحة الآدمي ، وجب على المستودع لُبْسها.

فإن لم يفعل ففسدت بترك اللُّبْس وتعريض الثوب للريح ، كان ضامناً ، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أمّا لو نهاه عن النشر وفِعْلِ ما يحتاج إليه الحفظ فامتنع من ذلك حتى فسدت ، فَعَل مكروهاً ، ولا ضمان عليه ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٣) راجع الهامش (١) من ص ١٥٥.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

١٨٨

ولهم وجهٌ آخَر : إنّ عليه الضمان(١) .

هذا إذا علم المستودع ذلك ، أمّا لو لم يعلم المستودع ذلك بأن أودعه صندوقاً مقفلاً لا يعلم ما فيه ، أو كيساً مشدوداً ولم يُعلمه المالك ، لم يضمن ؛ لعدم التفريط ، وانتفاء التقصير منه.

مسألة ٣٧ : إذا كانت الوديعة دابّةً أو آدميّاً ، وجب على المستودع القيامُ بحراستها ومراعاتها وعلفها وسقيها.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يأمره المالك بالعلف والسقي ، أو ينهاه عنهما ، أو يُطلق الإيداع.

فإن أمره بالعلف والسقي ، وجب عليه فعلهما ورعاية المأمور به.

فإن امتنع المستودع من ذلك حتى مضت مدّة تموت مثل الدابّة في مثل تلك المدّة ، نُظر إن ماتت ضمنها ، وإن لم تمت دخلت في ضمانه ، وإن نقصت ضمن النقصان.

وتختلف المدّة باختلاف الحيوان قوّةً وضعفاً.

فإن ماتت قبل مضيّ تلك المدّة ، لم يضمنها إن لم يكن بها جوع وعطش سابق ، وإن كان وهو عالمٌ ضمن ، وكذا لو كان جاهلاً.

وللشافعيّة في الجاهل وجهان كالوجهين فيما إذا حبس مَنْ به بعض الجوع وهو لا يعلم حتى مات(٢) .

وأظهرهما عندهم : عدم الضمان(٣) .

وعلى تقدير الضمان لهم وجهان : هل يضمن الجميع أو بالقسط؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٣ - ١٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

١٨٩

كما لو استأجر دابّةً لحمل قدرٍ فزاد عليه(١) .

وإن نهاه المالك عن العلف والسقي فتركهما ، كان عاصياً ؛ لما فيه من تضييع المال المنهيّ عنه شرعاً وهتكِ حرمة الروح ؛ لأنّ للحيوان حرمةً في نفسه يجب إحياؤه لحقّ الله تعالى.

وفي الضمان إشكال أقربه : العدم - وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) - كما لو قال : اقتل دابّتي ، فقتلها ، أو أمره برمي قماشه في البحر ، فرماه ، أو أمره بقتل عبده ، فقتله ، فإنّه يأثم ، ولا ضمان عليه ، كذا هنا.

وقال بعضهم : يجب عليه الضمان ؛ لحصول التعدّي في الوديعة ، وهو مقتضٍ للضمان ، فأشبه ما لو لم ينهه(٣) .

ولو علفها وسقاها مع نهيه عنهما ، كان الحكم كما تقدّم في القسم الأوّل.

وقال بعض الشافعيّة : الخلاف هنا مخرَّجٌ ممّا إذا قال : اقتلني ، فقتله هل تجب الدية؟(٤) .

ولم يرتضه باقي الشافعيّة ؛ لأنّا إذا أوجبنا الدية أوجبناها للوارث ، ولم يوجد منه إذن في الإتلاف ، وهنا بخلافه(٥) .

وإن أطلق الإيداع ، فلا يأمره بالعلف والسقي ولا ينهاه عنهما ، فيجب‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٤ ، البيان ٦ : ٤٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٣.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٤٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٣.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢.

١٩٠

على المستودع العلف والسقي ؛ لأنّه التزم بحفظها ، ولأنّه ممنوع من إتلافها جوعاً ، فإذا التزم حفظها تضمّن ذلك علفها وسقيها ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العلف والسقي ؛ لأنّه استحفظه إيّاها ولم يأمره بعلفها(٢) .

وقد بيّنّا الأمر الضمني.

مسألة ٣٨ : لا خلاف في أنّه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابّة والآدمي من ماله‌ ؛ لأصالة البراءة ، والتضرّر المنفي شرعاً ، لكن إن دفع إليه المالك النفقةَ فذاك ، وإن لم يدفع إليه ، فإن كان المالك قد أمره بعلفها وسقيها رجع به عليه ؛ لأنّه أمره بإتلاف ماله فيما عاد نفعه إليه ، فكان كما لو ضمن عنه مالاً بأمره وأدّاه عنه.

وإن أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولا نهاه عنهما ، فإن كان المالك حاضراً أو وكيله طالَبه بالإنفاق عليها أو ردّها عليه ، أو أذن له المالك في الإنفاق فينفق ، ويرجع به إن لم يتطوّع بذلك.

وإن لم يكن المالك حاضراً ولا وكيله ، رفع الأمر إلى الحاكم ، فإن وجد الحاكم لصاحبها مالاً أنفق عليها منه ، وإن لم يجد مالاً رأى الحاكم المصلحة للمالك إمّا في بيعها ، أو بيع بعضها وإنفاقه عليها ، أو إجارتها ، أو الاستدانة على صاحبها من بيت المال أو من المستودع أو من غيره ، فيفعل ما هو الأصلح.

فإن استدان عليه من بيت المال أو من غير المستودع ، دَفَعه إلى‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٠.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، المغني ٧ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٠.

١٩١

المستودع لينفقه عليها إن رأى ذلك مصلحةً.

وإن استدان من المستودع ، فالأقرب : إنّ الحاكم يتخيّر بين أن يأذن للمستودع في الإنفاق عليها ، وبين أن يأذن لغيره من الأُمناء يقبض من المستودع وينفق ؛ لأنّ المستودع أمين عليها ، فجاز للحاكم الإخلاد [ إليه ](١) في إنفاق ما يستدينه منه عليها ، كما أنّ للمالك أمره بالإنفاق ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه ليس للحاكم أن يأذن للمستودع في الإنفاق ممّا يستدينه منه على المالك ، بل يقيم الحاكم أميناً يقبض منه وينفق ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون أميناً في حقّ نفسه(٢) .

والوجه : ما تقدّم.

وعلى ما اخترناه من جواز إخلاد الحاكم إلى المستودع فالأقرب : إنّه لا يقدّرها ، بل يكل الأمر إلى اجتهاد المستودع ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني لهم : إنّ الحاكم يقدّرها ولا يكلها إلى المستودع(٣) .

[ فإن اختلفا في قدر النفقة ](٤) فالقول قوله فيما أنفق إذا ادّعى الإنفاق بالمعروف ، ولو ادّعى أكثر لم يُقبل قوله إلّا بالبيّنة.

وكذا لو قدّر له الحاكم النفقة ، فادّعى أنّه أنفق أكثر.

ولو اختلف المستودع والمالك في قدر المدّة التي أنفق فيها ، قُدّم قول صاحبها ؛ لأنّ الأصل عدم ذلك ، وبراءة ذمّته.

ولو اختلفا في قدر النفقة ، قُدّم قول المستودع ؛ لأنّه أمين فيها.

____________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٨٢.

(٣) حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٤٤٠.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني ٧ : ٢٩٣ ، والشرح الكبير ٧ : ٢٩٢.

١٩٢

ولو أنفق عليها من غير إذن الحاكم ، فإن قدر على إذن الحاكم ولم يُحصّله ، لم يكن له الرجوع ؛ لأنّه متطوّع.

وإن لم يقدر على الحاكم فأنفق ، فليُشهد على الإنفاق والرجوع ، فإن ترك الإشهاد مع قدرته عليه ، فالأقرب : إنّه متبرّع ، وإن تعذّر عليه الإشهاد ، فالأقرب : إنّه يرجع مع قصده الرجوع ، ويقدّم قوله في ذلك ؛ لأنّه أعرف بقصده.

وإذا قلنا : ينفق ويرجع ، صار كالحاكم في بيعها أو بيع بعضها أو إجارتها أو الاقتراض على مالكها.

ولو ترك المستودع الإنفاقَ مع إطلاق الإيداع ولم يرفعه إلى الحاكم ولا أنفق عليها حتى تلفت ، ضمن إن كانت تلفت من ترك ذلك ؛ لأنّه تعدّى بتركه.

وإن تلفت في زمانٍ لا تتلف في مثله ؛ لعدم العلف ، لم يضمن ؛ لأنّها لم تتلف بذلك.

ولو نهاه عن السقي والعلف ، لم يضمن بترك ذلك على ما تقدّم(١) من الخلاف.

وهل يرجع على المالك؟ إشكال ينشأ : من تبرّعه بالإنفاق ، وعدمه.

مسألة ٣٩ : إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابّة لعلفها أو سقيها ، جاز له ذلك ؛ لأنّ الحفظ يتوقّف عليه ، ولا ضمان.

ولا فرق بين أن يكون الطريق آمناً أو مخوفاً إذا خاف التلف بترك السقي واضطرّ إلى إخراجها.

ولو أخرجها من غير ضرورةٍ للعلف والسقي ، فإن كان الطريق آمناً لا خوف فيه وأمكنه سقيها في موضعها ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لاطّراد‌

____________________

(١) في ص ١٨٩.

١٩٣

العادة بذلك ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة(١) .

ولو علفها وسقاها في داره أو اصطبله حيث يعلف دوابّه ويسقيها ، فقد بالغ في الحفظ.

وإن أخرجها من موضعها وكان يفعل ذلك في دوابّ نفسه لضيق الموضع أو لغيره ، فلا ضمان عليه.

وإن كان يسقي دوابّه فيه ، قال الشافعي : ضمن(٢) .

واختلف أصحابه ، فأطلق بعضُهم وجوبَ الضمان ؛ لأنّه أخرج الوديعة عن الحرز لغير ضرورةٍ(٣) .

وقيّده بعضهم بما إذا كان ذلك الموضع أحرز ، فأمّا إذا كان الموضع المُخْرج إليه أحرز أو مساوياً ، فلا ضمان(٤) .

وقال آخَرون : إنّه محمول على ما إذا كان في الإخراج خوف ، فإن لم يكن فلا ضمان(٥) .

مسألة ٤٠ : إذا تولّى المستودع السقي والعلف بنفسه أو أمر به صاحبه أو غلامه وكان حاضراً لم تزل يده ، فذاك.

وإن بعثها على يده للسقي أو أمره بعلفها أو أخرج الدابّة من يده ، فإن لم يكن صاحبه أو غلامه أميناً ضمن ، وإن كان أميناً فالأقرب : عدم الضمان ؛ لقضاء العادة بالاستنابة في ذلك ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٦) .

والوجهان عند بعضهم مخصوصان بمَنْ يتولّى ذلك بنفسه ، فأمّا في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ - ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ - ٢٩٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

١٩٤

حقّ غيره فلا ضمان قطعاً(١) .

فروع :

أ - لو نهاه عن العلف لعلّةٍ تقتضي النهي - كالقولنج وشبهه - فعلفها قبل زوال العلّة فماتت ، ضمن ؛ لأنّه مفرّط.

ب - العبد المودع والأمة كالدابّة‌ في جميع ما تقدّم.

ج - لو أودعه نخلاً ، فالأقرب : إنّ سقيه واجب كما قلنا في الدابّة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. وفي الثاني : إنّه لا يضمن بترك السقي إذا لم يأمره بالسقي(٢) .

البحث الخامس : في المخالفة في كيفيّة الحفظ‌.

مسألة ٤١ : يجب على المستودع اعتماد ما أمره المالك في كيفيّة الحفظ‌ ، فإذا أمره بالحفظ على وجهٍ مخصوص فعدل عنه إلى وجهٍ آخَر وتلفت الوديعة ، فإن كان التلف بسبب الجهة المعدول إليها ضمن وكانت المخالفة تقصيراً ؛ لأنّه لو راعى الوجه المأمور به لم يتحقّق التلف ، ولو حصل التلف بسببٍ آخَر فلا ضمان.

هذا إذا لم يتحقّق المستودع التلف لو امتثل الأمر ، أمّا إذا تحقّق التلف بالامتثال فخالف للاحتياط في الحفظ فاتّفق التلف فلا ضمان ، لأنّه محسن فلا سبيل عليه ؛ للآية(٣) .

مسألة ٤٢ : إذا أودعه مالاً في صندوقٍ وقال له : لا ترقد عليه‌ ، فخالف ورقد عليه ، فإن تلفت الوديعة بالرقود بأن انكسر رأس الصندوق

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٣) التوبة : ٩١.

١٩٥

بثقله وتلف ما فيه ، ضمن ؛ لأنّه خالف ، وتلفت الوديعة بالمخالفة ، فكان ضامناً.

وإن تلفت بغير الرقود ، فإن كان في بيتٍ محرز فأخذه اللّصّ ، أو كان في برّيّةٍ فأخذه اللّصّ من رأس الصندوق ، فالأقرب : عدم الضمان - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه زاده احتياطاً وحفظاً ، والتلف ما جاء منه.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر : إنّه يضمن - وبه قال مالك - لأنّ رقوده على الصندوق تنبيه عليه وتعظيم لما فيه ، وموهم للسارق نفاسة ما فيه فيقصده(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه زاده احتياطاً وخيراً(٣) ، كما لو قال له : ضَع المال في صحن الدار ، فوضعه في البيت ، لم يضمن ، ولا يقال : إنّ هذا يتضمّن التنبيه عليه ، كذا هنا.

وكذا الخلاف فيما لو قال : لا تقفل عليها ، فقفل ، أو قال : لا تقفل عليها إلّا قفلاً واحداً ، فقفل قفلين ، أو قال : لا تغلق باب البيت ، فأغلق(٤) .

وإن كان في البرّيّة فأخذه اللّصّ من جنب الصندوق ، احتُمل عدمُ الضمان ؛ لأنّه إذا كان فوق الصندوق اطّلع على الجوانب كلّها ، فيكون أبلغ في الحفظ ، وثبوتُه ؛ لأنّه إذا رقد عليه أخلى جنب الصندوق ، وربما لا يتمكّن السارق من الأخذ لو كان [ بجنبه ](٥) .

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « حرزاً » بدل « خيراً ».

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تحته ». والظاهر ما أثبتناه.

١٩٦

وهذا إنّما يظهر إذا فرض الأخذ من الجانب الذي لو لم يرقد عليه لكان يرقد هناك ، وذلك بأن كان يرقد أمام الصندوق فتركه فانتهز السارق الفرصة ، أو قال المالك : ارقد قُدّامه ، فرقد فوقه ، فأخذ السارق المالَ من قُدّامه.

وللشافعيّة وجهان(١) كالاحتمالين.

والأوّل أقوى ؛ لأنّه زاده خيراً(٢) .

وكذا لو قال : ضَعْها في هذا البيت ولا تنقلها ، فخاف عليها فنَقَلها ، فلا ضمان ؛ لأنّه زاده خيراً(٣) .

ولو أمره بدفن الوديعة في بيته وقال : لا تبن عليه ، فبنى ، فهو كما لو قال : لا ترقد عليه ، فرقد.

تذنيب : لو نقل المستودع الوديعةَ عند الخوف إلى مكانٍ‌ غير ما عيّنه المالك بأُجرةٍ ، لم يرجع بها على المالك ؛ لأنّه متطوّع متبرّع.

مسألة ٤٣ : إذا استودع دراهم أو دنانير أو شبهها وأمره المالك بأن يربطها في كُمّه فأمسكها في يده ، ضمن‌ ؛ لأنّه خالف المالكَ في تعيين الحرز ، ولأنّ الكُمّ أحرز ؛ لأنّ الإنسان في معرض السهو والغفلة والنسيان فيرسل يده فتسقط الوديعة ببسط اليد والإرسال ، فإذا خالف المستودع في الإحراز عن الأعلى إلى الأدنى لا لضرورةٍ كان ضامناً.

واختلفت الرواية عن الشافعي ، فروى المزني أنّه لا يضمن(٤) ، ونقل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ - ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٢ و ٣) في الطبعة الحجريّة : « حرزاً » بدل « خيراً ».

(٤) مختصر المزني : ١٤٧ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٠ ، البيان ٦ : ٤٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

١٩٧

الربيع عنه الضمان(١) .

واختلف أصحابه على طريقين :

منهم مَنْ قال : ليست على قولين ، وإنّما هي على اختلاف حالين ، وفيها طريقان :

أحدهما : إنّه إن لم يربطها في الكُمّ واقتصر على الإمساك باليد ، ضمن ، كما نقله الربيع ، ورواية المزني محمولة على ما إذا أمسك باليد بعد الربط في الكُمّ.

وأصحّهما عندهم : إنّ رواية المزني محمولة على ما إذا تلفت بأخذ غاصبٍ ، فلا يضمن ؛ لأنّ اليد أحرز بالإضافة ، وإن سقطت بنومٍ أو نسيانٍ ضمن ؛ لأنّها لو كانت مربوطةً في الكُمّ ما ضاعت بهذا السبب ، فالتلف حصل بسبب المخالفة(٢) .

ومنهم مَنْ قال : إنّ المسألة على قولين :

أحدهما : الضمان ؛ لأنّ ما في اليد يضيع بالنسيان وبسط اليد ، وما في الكُمّ لا يضيع بهما.

وهذا القول يقتضي الضمان بالوضع في اليد مطلقاً ؛ لأنّها ليست حرزاً على هذا القول.

والثاني : عدمه ؛ لأنّ اليد أحرز من الكُمّ ؛ لأنّ الطرّار يأخذ من الكُمّ ، ولا يتمكّن من الأخذ من اليد(٣) .

فروع :

أ - لو أمره بالربط في كُمّه فامتثل ، لم يحتج في ذلك إلى الإمساك‌

____________________

(١) الأُمّ ٤ : ١٣٧ ، مضافاً إلى المصادر المزبورة في الهامش السابق ما عدا مختصر المزني.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩ - ٣٠٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، البيان ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨.

١٩٨

باليد ؛ لأنّه جعلها في حرزٍ أمره المالك به ، فلا يفتقر إلى الزيادة.

ب - لو أمره بربطها في كُمّه فجعلها في جيبه ، لم يضمن‌ ؛ لأنّ الجيب أحرز ، فإنّه ربما نسي فسقط الشي‌ء من كُمّه ، إلّا إذا كان واسعاً غير مزرور ، وهو أحد قولَي الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ ضعيف : إنّه يضمن(٢) .

ولو انعكس فقال : ضَعْها في جيبك ، فربطها في كُمّه ، ضمن لا محالة.

ج - إذا ربطها في كُمّه بأمر المالك ، فإن جعل الخيط الرابط خارجَ الكُمّ فأخذها الطرّار ضمن‌ ؛ لأنّ فيه إظهارَ الوديعة ، وهو يتضمّن تنبيه الطرّار وإغراءه ، ولأنّ قطعه وحلّه على الطرّار أسهل ، وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقدة لم يضمن إذا احتاط في الربط وقوّة الشدّ ؛ لأنّها إذا انحلّت بقيت الدراهم في الكُمّ.

وإن جعل الخيط الرابط داخلَ الكُمّ ، انعكس الحكم ، فإن أخذه الطرّار لم يضمن ، وإن سقط بالاسترسال ضمن ؛ لأنّ العقد إذا انحلّ تناثرت الدراهم.

واستشكل بعضُ الشافعيّة هذا التفصيلَ ؛ لأنّ المأمور به مطلق الربط ، فإذا أتى به وجب أن لا ينظر إلى جهات التلف ، بخلاف ما إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فأفضى إلى التلف ، وقضيّة هذا أن يقال : إذا قال : احفظ الوديعة في هذا البيت ، فوضعها في زاويةٍ منه فانهدمت عليها ، يضمن ؛ لأنّها لو كانت في زاويةٍ أُخرى لسلمت ، ومعلومٌ أنّه بعيد(٣) .

مسألة ٤٤ : إذا أودعه دراهم في طريقٍ أو سوقٍ ولم يقل له : اربطها‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، البيان ٦ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

١٩٩

في كُمّك ، أو : أمسكها في يدك ، فربطها في كُمّه وأمسكها بيده ، فقد بالغ في الحفظ.

وكذا لو جعلها في جيبه وهو ضيّق أو واسع مزرور ، ولو كان واسعاً غير مزرورٍ ضمن ؛ لسهولة أخذها باليد.

ولو أمسكها بيده ولم يربطها في كُمّه ، لم يضمن إن قلنا : اليد حرز ، وإلّا ضمن.

وقال الشافعي : إن تلفت بأخذ غاصبٍ لم يضمن ، وإن تلفت بغفلةٍ أو نومٍ أو بسط يدٍ ضمن(١) .

ولو ربطها ولم يمسكها بيده ، فالحكم النظر إلى كيفيّة الربط وجهة التلف عندهم(٢) .

ولو وضعها في الكُمّ ولم يربط فسقطت ، ضمن.

وفصّل بعضُ الشافعيّة فقال : إن كانت خفيفةً لا يشعر بها ضمن ؛ لتفريطه في الإحراز ، وإن كانت ثقيلةً يشعر بها لم يضمن(٣) .

وقياس هذا يلزم طرده فيما سبق من صُور الاسترسال كلّها.

ولو وضعها في كور عمامته من غير شدٍّ ، ضمن.

مسألة ٤٥ : إذا أودعه شيئاً وهو في السوق أو الطريق أو غيره ، وقال : احفظ هذه الوديعة في بيتك‌ ، وجب على المستودع المبادرة إلى بيته والإحراز فيه ، فإن أخّر من غير عذرٍ ضمن ، ولو كان لعذرٍ فلا ضمان.

وكذا لو بادر إلى المضيّ إلى بيته فتلفت ، لم يضمن.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، البيان ٦ : ٤٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

والمساكين والضّعفاء؟

فصام إرميا سبعا. ثمّ أكل أكلة. فلم يوح إليه شيء. ثمّ صام(١) سبعا. فأوحى الله إليه: يا إرميا! لتكفّنّ عن هذا أو لأردّنّ وجهك إلى(٢) قفاك.

قال: ثمّ أوحى الله إليه: قل لهم: لأنّكم رأيتم المنكر، فلم تنكروه.

فقال إرميا: ربّ! أعلمني من هو حتّى آتيه. وأخذ لنفسي وأهل بيتي منه أمانا.

فقال: ائت موضع كذا وكذا. فانظر إلى غلام أشدّهم زمنا(٣) ، وأخبثهم ولادة، وأضعفهم جسما، وأشرّهم غذاء. فهو ذاك.

فأتى إرميا ذلك البلد. فإذا هو بغلام في خان زمن ملقى على مزبلة وسط الخان.

وإذا له أمّ تزبي بالكسر. وتفتّ الكسر بالقصعة. وتحلب عليه لبن(٤) خنزيرة لها. ثمّ تدنيه من ذلك الغلام. فيأكله.

فقال إرميا: إن كان في الدّنيا الّذي وصفه(٥) الله، فهو هذا.

فدنا منه. فقال له: ما اسمك؟

فقال: بخت نصر.

فعرف أنّه هو. فعالجه حتّى برئ. ثمّ قال له: أتعرفني؟

قال: لا. أنت رجل صالح.

قال: أنا إرميا، نبيّ بني إسرائيل. أخبرني الله أنّه سيسلّطك على بني إسرائيل.

فتقتل رجالهم. وتفعل بهم كذا وكذا.

فتاه الغلام في نفسه في ذلك الوقت.

ثمّ قال إرميا: اكتب لي كتابا بأمان منك.

فكتب له كتابا. وكان يخرج إلى(٦) الجبل. ويحتطب. ويدخل المدينة. ويبيعه.

فدعا إلى حرب بني إسرائيل(٧) . وكان مسكنهم في بيت المقدس. فأجابوه(٨) . وأقبل بخت نصر

__________________

(١) يوجد في المصدر بعد هذه الفقرة: وأكل أكلة ولم يوح إليه. ثم صام سبعا.

(٢) المصدر: في.

(٣) المصدر: زمانا.

(٤) ليس في المصدر.

(٥) وضعه.

(٦) المصدر: في.

(٧) المصدر: إلى حرب بني إسرائيل وأجابوه.

(٨) ليس في المصدر.

٤٢١

فيمن أجابه(١) نحو بيت المقدس، وقد اجتمع إليه بشر كثير. فلمّا بلغ إرميا إقباله نحو بيت المقدس استقبله على حمار له، ومعه الأمان الّذي كتبه له بخت نصر. فلم يصل إليه إرميا من كثرة جنوده وأصحابه. فصير الأمان على خشبة(٢) . ورفعها.

فقال: من أنت؟

فقال: أنا إرميا النّبيّ الّذي بشّرتك بأنّك سيسلّطك الله على بني إسرائيل. وهذا أمانك لي.

قال: أمّا أنت فقد آمنتك. وأمّا أهل بيتك فإنّي أرمي من هاهنا إلى بيت المقدس.

فإن وصلت رميتي إلى بيت المقدس، فلا أمان لهم عندي. وإن لم تصل، فهم آمنون.

وانتزع قوسه. ورمى نحو بيت المقدس. فحملت الرّيح النّشابة حتّى علقتها في بيت المقدس.

فقال: لا أمان لهم عندي.

فلمّا وافى نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة، وإذا دم يغلي وسطه. كلّما ألقي عليه التّراب خرج وهو يغلي.

فقال: ما هذا؟

فقالوا: هذا دم نبيّ كان لله. فقتله ملوك بني إسرائيل. ودمه يغلي. كلّما ألقينا عليه التّراب، خرج يغلي.

فقال بخت نصر: لأقتلنّ بني إسرائيل أبدا حتّى يسكن هذا الدّم.

وكان ذلك الدّم، دم يحيى بن زكريا ـ عليهما السّلام. وكان في زمانه ملك جبّار يزني بنساء بني إسرائيل. وكان يمرّ بيحيى بن زكريا، فقال له يحيى: اتّق الله، أيّها الملك! لا يحلّ لك هذا.

فقالت له امرأة من اللّواتي كان يزنى بهنّ حين سكر: أيّها الملك! اقتل يحيى.

فأمر أن يؤتى برأسه. فأتي رأس يحيى ـ عليه السّلام ـ في طشت. وكان الرّأس يكلّمه. ويقول: «يا هذا! اتّق الله. لا يحلّ لك هذا.» ثمّ غلا الدّم في الطّشت، حتّى فاض إلى الأرض. فخرج يغلي. ولا يسكن. وكان بين قتل يحيى وبين خروج بخت نصر، مائة سنة. فلم يزل بخت نصر يقتلهم. وكان يدخل قرية قرية، فيقتل الرّجال والنّساء

__________________

(١) «فيمن أجابه» ليس في المصدر.

(٢) المصدر: قصبة.

٤٢٢

والصّبيان وكلّ حيوان. والدّم يغلي. ولا يسكن. حتّى أفنى(١) من بقي منهم.

ثمّ قال: بقي أحد في هذه البلاد؟

قالوا: عجوز في موضع كذا وكذا.

فبعث إليها. فضرب عنقها على الدّم. فسكن. وكانت آخر من بقي. ثمّ أتى بابل فبنى بها مدينة. وأقام. وحفر بئرا. فألقى فيها دانيال. وألقى معه اللّبوة. فجعلت اللّبوة تأكل طين البئر ويشرب دانيال لبنها. فلبث بذلك زمانا. فأوحى الله إلى النّبيّ الّذي كان في بيت المقدس أن: اذهب بهذا الطّعام والشّراب إلى دانيال. واقرأه منّي السّلام.

قال: وأين هو يا ربّ؟

قال: هو في بئر بابل. في موضع كذا وكذا.

قال: فأتاه. فاطّلع في البئر.

فقال: يا دانيال! قال: لبّيك صوت غريب.

قال: إنّ ربّك يقرئك السّلام. وقد بعث إليك بالطّعام والشّراب.

فدلّاه(٢) إليه.

قال: فقال دانيال: [الحمد لله الّذي لا ينسى من ذكره].(٣) الحمد لله الّذي لا يخيب من دعاه. الحمد لله الّذي من توكّل عليه كفاه(٤) . الحمد لله الّذي من وثق به لم يكله إلى غيره. الحمد لله الّذي يجزي بالإحسان إحسانا. الحمد لله الّذي يجزي بالصّبر نجاة. الحمد لله الّذي يكشف ضرّنا عند كربتنا. (و) الحمد لله الّذي هو ثقتنا حين تنقطع الحيل منّا.

الحمد لله الّذي هو رجاؤنا حين ساء ظنّنا بأعمالنا.

قال: فأري بخت نصر في نومه كانّ رأسه من حديد، ورجليه من نحاس، وصدره من ذهب.

قال: فدعا المنجّمين. فقال لهم: ما رأيت في المنام(٥) ؟

__________________

(١) المصدر: أفناهم.

(٢) المصدر: فأدلاه.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) يوجد في المصدر بعد هذه الفقرة: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره. الحمد لله الذي لا يخيّب من دعاه.

(٥) ليس في المصدر.

٤٢٣

قالوا: لا ندري(١) . ولكن قصّ علينا ما رأيت.

فقال: وأنا أجري عليكم الأرزاق منذ كذا وكذا ولا تدرون ما رأيت في المنام.

فأمر بهم. فقتلوا.

قال: فقال له بعض من كان عنده: إن كان عند احد شيء، فعند صاحب الجبّ.

فإنّ اللّبوة لم تعرض له. وهي تأكل الطّين. وترضعه.

فبعث إلى دانيال. [وأحضره عنده].(٢) فقال: ما رأيت في المنام؟

فقال: رأيت كأنّ رأسك من كذا(٣) ، ورجليك من كذا(٤) ، وصدرك من كذا(٥) .

قال: هكذا رأيت. فما ذاك؟

قال: قد ذهب ملكك. وأنت مقتول إلى ثلاثة أيّام. يقتلك رجل من ولد فارس.

قال: فقال له: إنّ عليّ لسبع مدائن، على باب كلّ مدينة حرس. وما رضيت بذلك حتّى وضعت بطّة من نحاس على باب كلّ مدينة. لا يدخل عليه غريب إلّا صاحت عليه، حتّى يؤخذ.

قال: فقال له: إنّ الأمر كما قلت لك.

قال: فبثّ الخيل. وقال: لا تلقون أحدا من الخلق إلّا قتلتموه، كائنا ما كان.

وكان دانيال جالسا عنده. وقال: لا تفارقني هذه الثّلاثة الأيّام فإن مضت قتلتك.

فلمّا كان في اليوم الثّالث ممسيّا أخذه الغمّ. فخرج. فتلقّاه](٦) غلام كان يخدم ابنا له من أهل فارس. وهو لا يعلم أنّه من أهل فارس. فرفع(٧) إليه سيفه. وقال له: يا غلام! لا تلق أحدا من الخلق إلّا وقتلته وإن لقيتني.

فأخذ الغلام سيفه، فضرب به بخت نصر. فقتله. وخرج إرميا على حماره. ومعه تين قد تزوّده وشيء من عصير. فنظر إلى سباع البرّ، وسباع البحر، وسباع الجوّ تأكل تلك

__________________

(١) المصدر: ما ندري.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) المصدر: حديد.

(٤) المصدر: نحاس.

(٥) المصدر: ذهب.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٧) لعله الصواب: فدفع.

٤٢٤

الجيف. ففكّر في نفسه ساعة. ثمّ قال: أنّى يحيى الله هؤلاء. وقد أكلتهم السّباع.

فأماته الله مكانه. وهو قول الله تعالى:( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) ، أي: أحياه.

فلمّا رحم الله بني إسرائيل وأهلك بخت نصر، ردّ بني إسرائيل إلى الدّنيا. وكان عزير لـمّا سلّط الله بخت نصر على بني إسرائيل، هرب ودخل في عين. وغاب فيها. وبقي إرميا ميّتا مائة سنة. ثمّ أحياه الله. فأوّل ما أحيى منه عينيه في مثل غرقئ البيض. فنظر.

فأوحى الله إليه:( كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً ) .

ثمّ نظر إلى الشّمس قد ارتفعت. فقال:( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .

فقال الله تبارك وتعالى:( بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ) ، أي: لم يتغيّر.( وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً ) .

فجعل ينظر إلى العظام البالية المنفطرة تجتمع إليه، وإلى اللّحم الّذي قد أكلته السّباع يتآلف إلى العظام، من هاهنا وهاهنا، ويلتزق بها حتّى قام وقام بها حماره.

فقال:( أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فقد ظهر لك من تلك الأخبار، أنّ تلك الحكاية وقعت بالنّظر إلى عزير وإرميا، كليهما. ويمكن أن يكون قوله: «أو كالّذي مرّ على قرية إشارة إلى كليهما على سبيل البدل.

والقرية بيت المقدس حين خرّبه بخت نصر.

وقيل(١) : القرية التي خرج منها الألوف.

وقيل(٢) : غيرهما.

واشتقاقها من القرى. وهو الجمع.

( وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) : خالية ساقطة حيطانها على سقوفها.

( قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ) : اعتراف بالقصور عن معرفة طريق الإحياء واستعظام، لقدرة المحيي.

و «أنّى» في موضع نصب، على الظّرف، بمعنى متى، أو على الحال، بمعنى كيف.

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ١٣٥.

٤٢٥

( فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ) : فألبثه ميّتا مائة عام.

( ثُمَّ بَعَثَهُ ) بالإحياء.

( قالَ ) ، أي: الله.

وقيل(١) : ملك أو نبىّ آخر.

( كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) :

قال: قبل النّظر إلى الشّمس: «يوما.» ثمّ التفت فرأى بقيّة منها، فقال:( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) ، على الإضراب.

( قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ) : لم يتغيّر بمرور الزّمان.

واشتقاقه من «السّنه» و «الهاء»، أصليّة إن قدّر «لام» السّنه «هاء»، و «هاء» سكت إن قدّرت «واوا.» وقيل(٢) : أصله لم يتسنّن، من الحمأ المسنون. فأبدل النّون الثّالثة حرف علّة، كتقضّى البازي. وإنّما أفرد الضّمير، لأنّ الطّعام والشّراب كالجنس الواحد. وقد سبق في الخبر أنّ طعامه كان تينا، وشرابه عصيرا ولبنا. وكان الكلّ على حاله.

وقرأ حمزة والكسائيّ(٣) : لم يتسنّ (بغير الهاء في الوصل.)( وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ ) كيف تفرّقت عظامه، أو انظر إليه سالما في مكانه، كما ربطته.

( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) ، أي: وفعلنا ذلك لنجعلك آية.

( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ ) ، يعني: عظام الحمار، أو عظام الموتى التي تعجّب من إحيائها، أو عظامه.

( كَيْفَ نُنْشِزُها ) : كيف نحييها، أو نرفع بعضها إلى بعض.

و «كيف» منصوب «بننشزها.» والجملة حال من العظام، أي: انظر إليها محياة.

__________________

(١) نفس المصدر: ١ / ١٣٦.

(٢) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

٤٢٦

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: ننشزها، من انشز الله الموتى.

وقرئ: ننشزها، من نشزهم، بمعنى: أنشزهم.

( ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ) :

فاعل «تبيّن» مضمر. يفسّره ما بعده. تقديره: فلمّا تبيّن له أنّ الله على كلّ شيء قدير.

( قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢٥٩) :

فحذف الأوّل، لدلالة الثّاني عليه، أو ما قبله، أي: فلمّا تبيّن له ما أشكل عليه.

وقرأ حمزة والكسائيّ: قال اعلم على الأمر.

والأمر مخاطبه، أو هو نفسه خاطبها به، على طريقة التّبكيت.

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) :

قيل(١) : إنّما سأل ذلك ليصير علمه عيانا.

وقيل(٢) : لـمّا قال نمرود: «أنا أحي وأميت»، قال له: «إنّ إحياء الله تعالى برد الرّوح إلى بدنها»، فقال نمرود: «هل عاينته؟» فلم يقدر أن يقول «نعم.» وانتقل إلى تقدير آخر. ثمّ سأل ربّه أن يريه ليطمئنّ قلبه، على الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.

( قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ) بأنّي قادر على الإحياء.

قال ذلك له. وقد علم أنّه آمن ليجيب بما أجاب به. فيعلم السّامعون غرضه.

( قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، أي: بلى آمنت. ولكن سألته لأزيد بصيرة بمضامّة العيان إلى الوحي.

وفي محاسن البرقيّ(٣) : عنه، عن محمّد بن عبد الحميد، عن صفوان بن يحيى قال: سألت أبا الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ عن قول الله لإبراهيم:( أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، أكان في قلبه شكّ؟

قال: لا. كان على يقين. ولكنّه أراد من الله الزّيادة في يقينه.

وفي تفسير العيّاشيّ(٤) عن عليّ بن أسباط: أنّ أبا الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ سئل عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أكان في قلبه شكّ؟

قال: لا ولكنّه أراد من الله الزّيادة في يقينه.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣٧٢.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٣٦.

(٣) المحاسن / ١٩٤، ح ٢٤٩.

(٤) تفسير العياشي ١ / ١٤٣، ح ٤٧٢.

٤٢٧

قال: والجزء واحد من عشرة.

وفي روضة الكافي(١) : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: لـمّا رأى إبراهيم ـ عليه السّلام ـ ملكوت السّماوات والأرض، التفت. فرأى جيفة على ساحل البحر، نصفها في الماء ونصفها في البرّ. تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء. ثمّ ترجع. فيشدّ بعضها على بعض. فيأكل بعضها بعضا. وتجيء سباع البرّ، فتأكل منها. فيشدّ بعضها على بعض. فيأكل بعضها بعضا. فعند ذلك تعجّب إبراهيم ـ عليه السّلام ـ ممّا رأى: فقال:( رَبِّ! أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) . قال: كيف تخرج ما تناسل الّتي أكل بعضها بعضا؟

( قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، يعنى: حتّى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلّها.

( قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) .

فقطّعهنّ. وأخلطهن كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السّباع الّتي أكل بعضها بعضا. فخلط ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا.( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ) .

فلمّا دعاهنّ أجبنه. وكانت الجبال عشرة.

[وفي أصول الكافي(٢) : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن أبيه، عن نصر بن قابوس قال: قال لي أبو عبد الله ـ عليه السّلام: إذا أحببت أحدا من إخوانك فاعلمه ذلك. فإنّ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ قال:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ].(٣)

( قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ) : نسرا وبطّا وطاوسا وديكا.

وروي(٤) : الطّاووس والحمامة والدّيك والهدهد.

وروى(٥) : الدّيك والحمامة والطّاووس والغراب.

__________________

(١) الكافي ٨ / ٣٠٥، ح ٤٧٣.

(٢) الكافي ٢ / ٦٤٤، ح ١.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) مجمع البيان ١ / ٣٧٣.

(٥) نفس المصدر ونفس الموضع.

٤٢٨

وخصّ الطّير لأنّه أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواصّ الحيوان. والطير سمّى به، أو جمع، كصحب.

( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) : واضممهنّ إليك لتتأمّلها وتتعرّف شأنها، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء.

وقرأ حمزة ويعقوب: فصرهنّ (بالكسر.) وهما لغتان.

وقرئ: فصرّهنّ (بضمّ الصّاد وكسرها، مشدّدة الرّاء) من صرّه يصرّه، إذا جمعه.

وفصرهنّ من التّصرية. وهي الجمع، أيضا.

( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) :

وقرأ أبو بكر: جزءا (بضمّ الزّاي) حيث وقع، أي: ثمّ جزئهنّ.

وفرّق أجزاءهنّ على الجبال الّتي بحضرتك.

( ثُمَّ ادْعُهُنَ ) : بأسمائهن.

( يَأْتِينَكَ سَعْياً ) : مسرعات طيرانا.

( وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ ) لا يعجز عمّا يريد.

( حَكِيمٌ ) (٢٦٠) ذو حكمة بالغة في كلّ ما يفعله ويذره.

وفي عيون الأخبار(١) : حدّثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشيّ ـ رض ـ قال :

حدّثني أبي، عن حمدان بن سليمان النّيسابوريّ، عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا ـ عليه السّلام. فقال له المأمون: يا بن رسول الله! أليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟

قال: بلى.

قال: فما معنى قول الله ـ عزّ وجلّ: و( عَصى آدَمُ رَبَّهُ ) (إلى أن قال) فأخبرني عن قول إبراهيم:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) .

قال الرّضا ـ عليه السّلام: إنّ الله تعالى كان أوحى إلى إبراهيم ـ عليه السّلام: «إنّي متّخذ من عبادي خليلا. إن سألني إحياء الموتى، أجبته.» فوقع في نفس إبراهيم ـ عليه السّلام ـ أنّه ذلك الخليل. فقال :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ / ١٥٥، ح ١.

٤٢٩

( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على الخلّة.

( قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً. وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

فأخذ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ نسرا وبطّا(١) وطاوسا وديكا. فقطّعهنّ. وخلطهنّ.

ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال الّتي(٢) حوله. وكانت عشرة منهنّ جزء. وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه. ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ. ووضع عنده حبّا وماء. فتطايرت تلك الأجزاء، بعضها إلى بعض، حتّى استوت الأبدان. وجاء كلّ بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه.

فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ. فطرن. ثمّ وقعن. فشربن من ذلك الماء. والتقطن من ذلك الحبّ. وقلن: يا نبيّ الله! أحييتنا، أحياك الله.

فقال إبراهيم ـ عليه السّلام: بل الله يحيي ويميت. وهو على كلّ شيء قدير.

قال المأمون: بارك الله فيك، يا أبا الحسن!

وفيه(٣) ، في باب استسقاء المأمون بالرّضا ـ عليه السّلام ـ بعد جرى كلام بين الرّضا ـ عليه السّلام ـ وبعض أهل النّصب، من حجّاب المأمون ـ لعنهم الله: فغضب الحاجب عند ذلك فقال: يا ابن موسى! لقد عدوت طورك وتجاوزت قدرك. إن بعث الله تعالى بمطر يقدر(٤) وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، جعلته آية تستطيل بها، وصولة تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم ـ عليه السّلام ـ لـمّا أخذ رؤوس الطّير بيده، ودعا أعضاءها الّتي كان فرّقها على الجبال، فأتينه سعيا، وتركبن على الرّؤوس، وخفقن وطرن بإذن الله ـ عزّ وجلّ. فإن كنت صادقا فيما توهّم، فأحي هذين وسلّطهما عليّ. فإنّ ذلك يكون حينئذ آية معجزة. فأمّا ماء المطر المعتاد، فلست أنت أحقّ بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الّذى دعا كما دعوت.

وكان الحاجب أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند المأمون الذي كان مستندا إليه. وكانا متقابلين على المسند.

فغضب عليّ بن موسى الرّضا ـ عليه السّلام. وصاح بالصّورتين: دونكما الفاجر.

__________________

(١) ليس في المصدر. وفي أ: بطّا وطائرا.

(٢) هكذا في أو المصدر. وفي الأصل ور: حولها.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٨، ح ١.

(٤) المصدر: مقدّر.

٤٣٠

فافترساه. ولا تبقيا له عينا ولا أثرا.

فوثبت الصّورتان. وقد عادت أسدين. فتناولا الحاجب. ورضّاه. وهشّماه.

وأكلاه. ولحسا دمه. والقوم ينظرون متحيّرين ممّا يبصرون. فلمّا فرغا أقبلا على الرّضا ـ عليه السّلام ـ وقالا له: يا وليّ الله في أرضه! ما ذا تأمرنا أن نفعل بهذا. أنفعل به ما فعلنا بهذا؟ ـ يشير ان إلى المأمون.

فغشي على المأمون ممّا سمع منهما. فقال الرّضا ـ عليه السّلام: قفا.

فوقفا. ثمّ قال الرّضا ـ عليه السّلام: صبّوا عليه ماء ورد. وطيّبوه.

ففعل ذلك به. وعاد الأسدان يقولان: أتأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الّذي أفنيناه؟

قال: الى مقرّكما(١) . فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ فيه تدبيرا هو ممضيه.

فقالا: ما ذا تأمرنا؟

فقال: عودا إلى مقرّكما، كما كنتما.

فعادا(٢) الى المسند. وصارا صورتين كما كانتا.

فقال المأمون: الحمد لله الّذي كفاني شرّ حميد بن مهران، يعني: الرّجل المفترس.

ثمّ قال للرّضا ـ عليه السّلام: يا بن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ هذا الأمر لجدّكم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ثمّ لكم. ولو شئت لنزلت عنه لك.

فقال الرّضا ـ عليه السّلام: لو شئت لما ناظرتك ولم أسألك. فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ قد أعطاني من طاعة سائر خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصّورتين، إلّا جهّال بني آدم. فإنّهم وإن خسروا حظوظهم فلله ـ عزّ وجلّ ـ فيه تدبير. وقد أمرني يترك الاعتراض عليك وإظهار ما أظهر من العمل من تحت يدك، كما أمر يوسف(٣) من تحت يد فرعون مصر.

قال: فما زال المأمون ضئيلا إلى أن قضى في عليّ بن موسى الرّضا ـ عليه السّلام ـ ما قضى.

وفي كتاب الخصال(٤) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله تعالى:( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (الآية) قال: أخذ

__________________

(١) «إلى مقركما» ليس في أ. وفي المصدر: لا. (ظ)

(٢) المصدر: فصاروا.

(٣) أ: كما أمر يوسف بالعمل.

(٤) الخصال ١ / ٢٦٤، ح ١٤٦.

٤٣١

الهدهد والصّرد والطّاووس والغراب. فذبحهنّ. وعزل رؤوسهنّ. ثمّ نحز أبدانهنّ في المنحاز بريشهنّ ولحومهنّ وعظامهنّ حتّى اختلطت. ثمّ جزّأهنّ عشرة أجزاء، على عشرة أجبل.

ثمّ وضع عنده حبّا وماء. ثمّ جعل مناقيرهنّ بين أصابعه.

ثمّ قال: ائتين سعيا بإذن الله.

فتطاير بعضها إلى بعض اللّحوم والرّيش والعظام، حتّى استوت الأبدان، كما كانت. وجاء كلّ بدن حتّى التزق برقبته الّتي فيها رأسه والمنقار. فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ. فوقفن. فشربن من ذلك الماء. والتقطن من ذلك الحبّ.

ثمّ قلن: يا نبيّ الله! أحييتنا أحياك الله.

فقال إبراهيم: بل الله يحيي ويميت.

فهذا تفسيره الظّاهر(١) .

قال عليّ ـ عليه السّلام: وتفسيره في الباطن: خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام.

فاستودعهن(٢) علمك. ثمّ ابعثهن(٣) في أطراف الأرضين حججا لك على النّاس. وإذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر، يأتوك سعيا بإذن الله تعالى.

وفي هذا الكتاب(٤) : وروى أنّ الطيّور الّتي أمر بأخذها: الطاووس والنّسر والدّيك والبطّ.

وفي تفسير العيّاشيّ(٥) : عن عبد الصّمد قال: جمع لأبي جعفر المنصور القضاة. فقال لهم: رجل أوصى بجزء من ماله. فكم الجزء؟ فلم يعلموا كم الجزء. وشكّوا فيه. فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمّد ـ عليهما السّلام: رجل أوصى بجزء من ماله. فكم الجزء؟ فقد أشكل ذلك على القضاة، فلم يعلموا كم الجزء. فإن هو أخبرك به.

وإلّا فاحمله على البريد. ووجّهه إليّ.

فأتى صاحب المدينة أبا عبد الله ـ عليه السّلام. فقال له: إنّ أبا جعفر بعث إليّ أن أسألك عن رجل أوصى بجزء من ماله. وسأل من قبله من القضاة. فلم يخبروه ما هو.

وقد كتب إليّ إن فسّرت ذلك له وإلّا حملتك على البريد إليه.

__________________

(١) أ: تفسير الظاهر.

(٢) المصدر: فاستودعهم. (ظ)

(٣) المصدر: ابعثهم. (ظ)

(٤) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٥) تفسير العياشي ١ / ١٤٣، ح ٤٧٣.

٤٣٢

فقال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: هذا في كتاب الله بيّن. إنّ الله يقول ممّا قال ابراهيم:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) (إلى قوله)( عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) . وكانت الطيّر أربعة والجبال عشرة. يخرج الرّجل من كلّ عشرة أجزاء جزءا واحدا. وإنّ إبراهيم دعي بمهراس. فدقّ فيه الطّير جميعا. وحبس الرّؤوس عنده. ثمّ أنّه دعا بالّذي أمر به. فجعل ينظر إلى الرّيش كيف يخرج وإلى العروق عرقا عرقا حتّى ثمّ جناحه مستويا فأهوى نحو إبراهيم. فقال(١) ابراهيم ببعض الرؤوس. فاستقبله به. فلم يكن الرّأس الّذي استقبله لذلك البدن حتّى انتقل إليه غيره، فكان موافقا للرّأس. فتمّت العدّة. وتمّت الأبدان.

وفي الخرايج والجرائح(٢) : وروى عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصّادق ـ عليه السّلام ـ مع جماعة. فقلت: قول الله لإبراهيم:( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، أكانت(٣) أربعة من أجناس مختلفة؟ أو من جنس واحد؟

قال: أتحبّون أن أريكم مثله؟

قلنا: بلى.

قال: يا طاوس! فإذا طاوس طار إلى حضرته.

ثمّ قال: يا غراب! فإذا غراب بين يديه.

ثمّ قال: يا بازي! فإذا بازي بين يديه(٤) .

ثمّ قال: يا حمامة! فإذا حمامة بين يديه. ثمّ أمر بذبحها، كلّها، وتقطيعها، ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كلّه بعضه ببعض.

ثم أخذ رأس الطاووس. فقال: يا طاوس! فرأيت لحمه وعظامه وريشه تتميّز عن غيرها، حتّى التصق ذلك كلّه برأسه، وقام

__________________

(١) لعله: فمال.

(٢) الخرائج والجرائح ٢٦٤+ تفسير نور الثقلين ١ / ٢٨١، نقلا عن الخرايج والجرائح.

(٣) المصدر: وكانت.

(٤) المصدر: يديها.

٤٣٣

الطاووس بين يديه حيّا.

ثمّ صاح بالغراب كذلك. وبالبازي والحمامة كذلك. فقامت كلّها أحياء بين يديه.

( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) : على تقدير مضاف، أي: مثل نفقتهم كمثل حبّة، أو مثلهم كمثل باذر حبّة.

وإسناد الإنبات إلى الحبّة، مجاز.

والمعنى أنّه: يخرج منها ساق. ينشعب منها سبع شعب. لكلّ منها سنبلة. فيها مائة حبّة. وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه. وقد يكون في الذّرة والدّخن وفي البرّ في الأراضي المغلة.

( وَاللهُ يُضاعِفُ ) تلك المضاعفة،( لِمَنْ يَشاءُ ) بفضله، وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه.

في تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : وقال أبو عبد الله ـ عليه السّلام:( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.

وفي كتاب ثواب الأعمال(٢) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: إذا أحسن العبد المؤمن، ضاعف الله له عمله، بكلّ حسنة سبعمائة ضعف. وذلك قول الله تعالى:( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) .

( وَاللهُ واسِعٌ ) : لا يضيق عليه ما يتفضل به.

( عَلِيمٌ ) (٢٦١) بنيّة المنفق وإخلاصه.

وفي تفسير العيّاشيّ(٣) : عن المفضّل بن محمّد الجعفيّ قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله تعالى:( حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ ) قال: «الحبّة»، فاطمة ـ صلّى الله عليها. و «السبع(٤) السنابل»، سبعة من ولدها. سابعها(٥) قائمهم.

قلت: الحسن.

قال: إنّ الحسن إمام من الله. مفترض طاعته. ولكن ليس من السّنابل السّبعة.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٩٢.

(٢) ثواب الأعمال / ٢٠١، ح ١.

(٣) تفسير العياشي ١ / ١٤٧، ح ٤٨٠.

(٤) كذا في ر والمصدر. في الأصل وأ: السبعة.

(٥) المصدر: سابعهم. (ظ)

٤٣٤

أوّلهم الحسين وآخرهم القائم.

فقلت: قوله:( فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) .

فقال: يولد الرّجل منهم في الكوفة مائة من صلبه وليس ذاك إلّا هؤلاء السّبعة.

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢٦٢) :

«المنّ» أن يعتدّ بإحسانه على من أحسن إليه.

و «الأذى» أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه.

و «ثمّ» للتّفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى. ولعلّه لم تدخل الفاء فيه. وقد تضمّن ما أسند إليه معنى الشّرط، إيهاما بأنّهم أهل لذلك. وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا؟

وفي كتاب الخصال(١) ، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن عليّ ـ عليهم السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ الله كرّه لكم، أيّتها الأمّة! أربعا وعشرين خصلة. ونهاكم عنها (إلى قوله ـ عليه السّلام ـ) وكرّه المنّ في الصّدقة.

عن أبي ذرّ(٢) ، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله: المنّان الّذي لا يعطي شيئا إلّا يمنّه، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر.

عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام(٣) ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ الله تعالى كرّه لي ستّ خصال وكرّهتهنّ(٤) للأوصياء من ولدي وأتباعهم من بعدي: العبث في الصلاة، والرّفث في الصّوم، والمنّ بعد الصّدقة (الحديث.)

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٥) : وقال الصّادق ـ عليه السّلام: ما شيء أحبّ إليّ من رجل سلفت(٦) منّي إليه يد أتبعها(٧) أختها وأحسنت بها له. لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع(٨) لسان شكر الأوائل].(٩)

__________________

(١) الخصال ٢ / ٥٢٠، ح ٩.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٨٤، ح ٢٥٣.

(٣) نفس المصدر ١ / ٣٢٧، ح ١٩.

(٤) المصدر: كرههنّ.

(٥) تفسير القمي ١ / ٩٢.

(٦) المصدر: سلف.

(٧) المصدر: أتبعة.

(٨) المصدر: فقطع.

(٩) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٤٣٥

( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) : ردّ جميل،( وَمَغْفِرَةٌ ) : تجاوز عن السّائل الحاجة، أو نيل مغفرة من الله بالرّدّ الجميل، أو عفو عن السّائل بأن يعذره ويغتفر ردّه،( خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً ) : خبر عنهما. والابتداء بالنّكرة المخصّصة بالصّفة.

( وَاللهُ غَنِيٌ ) عن الإنفاق بمنّ وأذى،( حَلِيمٌ ) (٢٦٣) عن معاجلة من يمنّ ويؤذى.

وقد روى عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال: إذا سأل السّائل، فلا تقطعوا عليه مسألته، حتّى يفرغ منها. ثمّ ردّوا عليه بوقار ولين، إمّا بذل يسير، أو ردّ جميل.

فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جانّ. ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم الله تعالى؟

(رواه في مجمع البيان(١) .)

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) : لا تبطلوا أجرها بكلّ واحد منهما.

وفي مجمع البيان(٢) : روى عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثمّ آذاه بالكلام، أو منّ عليه، فقد أبطل الله صدقته.

وفي تفسير العيّاشيّ(٣) : عن المفضّل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن جعفر بن محمّد، وأبي جعفر ـ عليهما السّلام ـ في قول الله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (إلى آخر الآية) قال: نزلت في عثمان. [وجرى في معاوية وأتباعهما.

وعن أبي عبد الله ـ عليه السّلام(٤) ـ فهو قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) لمحمّد وآل محمّد ـ عليهما السّلام. هذا تأويل.

قال: نزلت في عثمان].(٥)

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣٧٥.

(٢) نفس المصدر ١ / ٣٧٧.

(٣) تفسير العياشي ١ / ١٤٧، ح ٤٨٢.

(٤) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٤٨٣.

(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٤٣٦

( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، كإبطال المنافق الّذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضاء الله ولا ثواب الآخرة، أو مماثلين الّذي ينفق رئاء.

فالكاف في محل النّصب على المصدر، أو الحال.

و «رئاء» نصب على المفعول له، أو الحال بمعنى مرائيا، أو المصدر، أي: إنفاقا رئاء.

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ ) : كمثل حجر أملس،( عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ ) : مطر عظيم القطر،( فَتَرَكَهُ صَلْداً ) : أملس نقيّا من التّراب،( لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) : لا ينتفعون بما فعلوا رياء، ولا يجدون ثوابه.

والضّمير للّذي ينفق، باعتبار المعنى، كقوله: إنّ الّذي حانت بفلج دمائهم.

( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (٢٦٤) إلى الخير والرّشاد.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : ثمّ ضرب الله مثلا فيه. فقال:( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا. وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) ، قال: من كثر امتنانه وأذاه لمن يتصدّق عليه، بطلت صدقته، كما يبطل التّراب الّذي يكون على الصّفوان. و «الصّفوان»: الصّخرة الكبيرة الّتي يكون في مفازة، فيجيء المطر، فيغسل التّراب عنها، ويذهب به. فيضرب الله هذا المثل لمن اصطنع المعروف، ثمّ أتبعه بالمنّ والأذى].(٢)

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) :

في تفسير العيّاشيّ(٣) : عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال:( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) ، قال: عليّ أمير المؤمنين ـ عليه السّلام :أفضلهم. وهو ممّن ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٩١، بتفاوت.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) تفسير العياشي ١ / ١٤٨، ح ٤٨٦.

٤٣٧

[وعن سلام عن المسيّب(١) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) قال: أنزلت في عليّ ـ عليه السّلام].(٢)

( وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) : وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان. فإنّ المال شقيق الرّوح. فمن بذل ما له لوجه الله، ثبت بعض نفسه. ومن بذل ماله وروحه، ثبتها كلّها، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء. مبتدأ من أصل أنفسهم(٣) .

( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ) ، أي: ومثل نفقة هؤلاء في الزّكاة كمثل بستان بموضع مرتفع.

فإنّ شجره يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. وقرأ ابن عامر وعاصم: بربوة (بالفتح.) وقرئ بالكسر. وثلاثها لغات فيها.

( أَصابَها وابِلٌ ) : مطر عظيم القطر.

( فَآتَتْ أُكُلَها ) : ثمرتها.

وقرئ بالسّكون للتّخفيف.

( ضِعْفَيْنِ ) : نصب على الحال، أي: مضاعفا.

و «الضّعف»: المثل، أي: مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل.

وقيل(٤) : أربعة أمثاله.

وقيل(٥) : مثل الّذي كانت تثمر كما أريد بالزّوج الواحد، في قوله(٦) :( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

( فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ ) فطلّ، اي: فيصيبها طلّ، أو فالّذي يصيبها.

( فَطَلٌ ) أو فطلّ يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها، لارتفاع مكانها.

و «الطّلّ» ما يقع باللّيل على الشّجر والنّبات.

والمعنى: أنّ نفقات هؤلاء زاكية عند الله. لا تضيع بحال، وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضمّ إليها من أحوالها.

__________________

(١) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٤٨٥.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) يوجد في أ، بعد هذه الفقرة: أو تثبيتا من أنفسهم عن المنّ والأذى، كما رواه العياشي عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ [تفسير العياشي ١ / ١٤٨] وقال: نزلت في عليّ ـ عليه السّلام.» وهو مشطوب في المتن وليس في ر.

(٤ و ٥) أنوار التنزيل ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٦) هود / ٤٠.

٤٣٨

( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢٦٥): تحذير عن الرياء. وترغيب في الإخلاص.

( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ) : الهمزة للإنكار.

( أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) : جعل الجنّة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار، تغليبا لها لشرفهما وكثرة منافعهما. ثمّ ذكر أنّ فيها من كلّ الثّمرات، ليدلّ على احتوائها على سائر أنواع الأشجار.

قيل(١) : ويجوز أن يكون المراد بالثّمرات المنافع.

( وَأَصابَهُ الْكِبَرُ ) ، أي: كبر السّنّ. فإنّ الفاقة في الشّيخوخة أصعب.

و «الواو»، للحال، أو للعطف، حملا على المعنى. فكأنّه قيل(٢) : أيودّ أحدكم لو كانت له جنّة وأصابه الكبر.

( وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ ) لا قدرة لهم على الكسب.

( فَأَصابَها إِعْصارٌ )

في تفسير العيّاشيّ(٣) : عن أبي بصير، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام:( إِعْصارٌ فِيهِ، نارٌ ) ، قال: ريح.

( فِيهِ نارٌ ) : صفة «إعصار.»( فَاحْتَرَقَتْ ) : عطف على «أصابه»، أو تكون باعتبار المعنى(٤) .

( كَذلِكَ ) ، أي: مثل هذا التّبيين،( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (٢٦٦): فيها فتعتبرون.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) من حلاله أو جياده.

وفي الكافي(٥) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله تعالى:( أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) ، فقال: كان القوم قد كسبوا مكاسب في الجاهليّة. فلمّا أسلموا

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ١٣٩.

(٣) تفسير العياشي ١ / ١٤٨، ح ٤٨٧.

(٤) يوجد في أبعد هذه الفقرة: وفي تفسير العياشي، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: الرياح. فمن امتنّ على تصدّق عليه كان كمن كانت له جنّة كثيرة الثمار وهو شيخ ضعيف له أولاد ضعفاء. فتجيء نار فتحترق [فتحرق، ظ]. ماله كلّه.

(٥) الكافي ٤ / ٤٨، ح ١٠.

٤٣٩

أرادوا أن يخرجوها من أموالهم، ليتصدّقوا بها. فأبى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.

وفي تفسير العيّاشيّ(١) : عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد ـ عليهما السّلام ـ قال: كان أهل المدينة يأتون بصدقة الفطر إلى مسجد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وفيه عرق(٢) يسمّى الجعرور(٣) وعرق يسمّى معافارة. كانا عظيم نواهما، رقيق لحاهما في طعمهما مرارة.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ للخارص: لا تخارص عليهم هاتين(٤) اللّونين. لعلّهم يستحيون لا يأتون بهما.

فأنزل الله ـ تبارك وتعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) (إلى قوله)( تُنْفِقُونَ ) .

وفي مجمع البيان(٥) : وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف. فيدخلونه في تمر الصدقة ـ عن عليّ ـ عليه السّلام.

وقد روي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله(٦) ـ أنّه قال: إنّ الله يقبل الصّدقات.

ولا يقبل منها إلّا الطّيّب.

( وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) ، أي: من طيّباته. فحذف المضاف، لدلالة ما تقدّم.

( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ) : ولا تقصدوا الرّديء،( مِنْهُ ) ، أي: من المال.

وقرئ بضمّ التّاء وبكسر الميم.

( تُنْفِقُونَ ) : حال مقدّرة من فاعل «تيمّموا». ويجوز أن يتعلّق به منه. ويكون الضمير للخبيث. والجملة حالا منه.

وقيل: يجوز أن يكون الضّمير لـمّا أخرجنا وتخصيصه بذلك. لأنّ التّفاوت فيه أكثر.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ١٥٠، ح ٤٩٣.

(٢) المصدر: غدق.

(٣) المصدر: الجعرود.

(٤) المصدر: هذين. (ظ)

(٥ و ٦) مجمع البيان ١ / ٣٨٠.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493