تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب12%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183261 / تحميل: 5541
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والحاصل أنّ الأمر لا ينفكّ عن الإرادة بمعنى أنّه لا يجوز أن يأمر ولا يريد. والآية لم تدلّ على الجواز بهذا المعنى، كما قرّرنا. بل التّحقيق أنّ أمره كاشف عن إرادته. وأمّا أنّ مراده هل ينفكّ عن إرادته أم لا؟ فشيء آخر يستحقّ في موضعه.

وعلى المعتزلة والكراميّة: أنّه يحتمل أن يكون التّعليق باعتبار التّعلّق، أو كان المعنى لو كان شاء الله هدايتنا الآن، لنهتدي. والحقّ أنّ الأمر لا ينفك عن الإرادة، بالمعنى الّذي حقّقته. وأنّ الإرادة حاثّة من صفات الفعل. وسنحقّق ذلك في موضع آخر ـ ان شاء الله.

( قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ ) ، أي: لم تذلّل للكراب وسقي الحرث.

و «لا ذلول» صفة البقرة، بمعنى غير ذلول.

و «لا» الثّانية. مزيدة(١) لتأكيد الأولى.

والفعلان، صفتا «ذلول»، كأنّه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.

وقرئ لا ذلول (بالفتح)، أي: هناك، أي: حيث هي: كقولك: مررت برجل لا بخيل ولا جبان، أي: هناك، أي: حيث هو.

و «تسقي» من السّقي.

( مُسَلَّمَةٌ ) :

سلّمها الله من العيوب، أو أهلها من العمل، أو خلص لونها من سلم له كذا إذا خلص له، أي: لم يشب صفرتها شيء من الألوان.

( لا شِيَةَ فِيها ) : لا لون فيها يخالف لون جلدها. فهي صفراء كلّها. حتّى قرنها وظلفها.

وهي في الأصل، مصدر وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لون آخر.

( قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ ) ، أي: الحقّ البيّن الّذي لا يشتبه علينا.

وقرئ الآن (بالمدّ) على الاستفهام، ولآن (بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللّام.)(٢) ( فَذَبَحُوها ) :

__________________

(١) أ: تزايدة.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٦٣.

٤١

فيه اختصار. والتّقدير: فحصلوا البقرة المنعوتة، فذبحوها.

( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) (٧١) لتطويلهم في السّؤال وكثرة مراجعاتهم.

وروي(١) أنّهم كانوا يطلبون البقرة الموصوفة، أربعين سنة

، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها إذ روي أنّه كان في بني إسرائيل شيخ صالح، له عجلة. فأتى بها الغيضة. وقال: أللّهمّ إنّي أستودعكها لابني حتّى تكبر. وكان برّا بوالديه. فثبت. وكانت من أحسن البقرة وأسمنها. ووحيدة بتلك الصّفات. فساوموها اليتيم وأمّه حتّى اشتروها بملء مسكها ذهبا. وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.

وفي رواية العيّاشيّ:(٢) أنّه قال الرّضا ـ عليه السّلام: قال لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بعض أصحابه: إنّ هذه البقرة ما شأنها؟

فقال: إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّا بأبيه. وإنّه اشترى سلعة، فجاء إلى أبيه. فوجده نائما والإقليد تحت رأسه. فكره أن يوقظه. فترك ذلك. واستيقظ أبوه.

فأخبره. فقال له: أحسنت! خذ هذه البقرة. فهي لك عوض لما فاتك.

قال: فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: انظروا إلى البرّ ما بلغ بأهله.

وروي أنّ ذلك الشّابّ من بني إسرائيل، قد رأى محمّدا وعليّا في منامه وأحبّهما.

وقالا له: لأنّك تحبّنا نجزيك ببعض جزائك في الدّنيا. فإذا جاءك بنو إسرائيل يريدون شراء البقرة منك، فلا تبعها إلّا برضى من أمّك.

فلّمّا أرادوا شراءها، كلّما زادوا في ثمنها، لم ترض أمّه، حتّى شرطوا على أن يملئوا ثور(٣) بقرة عظيمة في ثمنها، فرضيت.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة. والحديث بتمامه مذكور في شرح الآيات الباهرة، منقولا عن التّفسير المنسوب إلى الحسن العسكريّ ـ عليه السّلام.(٤) وقد ذكرته بتمامه في تفسيرنا الموسوم بالتّبيان. وعلى الله التّكلان.

و «كاد» من أفعال المقاربة. وضع لدنوّ الخبر، حصولا فإذا دخل عليه النّفي، قيل معناه الإثبات، مطلقا. وقيل ماضيا. والحقّ أنّه كسائر الأفعال. ولا ينافي قوله تعالى

__________________

(١) الكشاف ١ / ١٥٣.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٤٦، ح ٥٧، بتفاوت+ مجمع البيان ١ / ١٣٦.

(٣) الظاهر: مسك.

(٤) تفسير العسكري / ١٣١.

٤٢

( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ، قوله( فَذَبَحُوها ) لاختلاف وقتيهما، إذ المعنى أنّهم ما قاربوا أن يفعلوا حتّى انتهت سؤالاتهم. وانقطعت تعلّلاتهم. ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل.(١) ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) :خاطب الجمع، لوجود القتل فيهم.

( فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) : اختصمتم في شأنها، إذ الخصمان يدفع بعضهم بعضا.

وأصل الدّرء: الدّفع. ومنه الحديث ادرؤوا الحدود بالشّبهات، وقول رؤبة.

أدركتها قدّام كلّ مدرة

بالدّفع عنّي درء كلّ غنجة(٢)

فعلى هذا يحتمل أن يكون المعنى تدافعتم بأن طرح قتلها كلّ عن نفسه إلى صاحبه.

وقيل(٣) : الدّرء: العوج. ومنه قول الشّاعر :

فنكّب عنهم درء الأعادي

وداووا بالجنون من الجنون

وأصله: تدارأتم. فأدغمت التّاء في الدّال. واجتلبت لها همزة الوصل.

( وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) (٧٢) :

مظهره وأعمل مخرج، لأنّه حكاية مستقبل، كما أعمل باسط ذراعيه. لأنّه حكاية حال ماضية.

( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ ) :

عطف على «ادّارأتم» وما بينهما اعتراض.

والضّمير للنّفس. وتذكيره على تأويل الشّخص، أو القتيل.

( بِبَعْضِها ) ، أي: بعض كان.(٤) [وقيل(٥) : بأصغريها.

وقيل(٦) : بلسانها.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٦٣.

(٢) هو الظاهر. وفي الأصل ور: غنيجة. وفي أ: عيجة. وفي المصدر (مجمع البيان ١ / ١٣٧): عنجه.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٤) يوجد في أبعد هذه العبارة: وفيه أقول أخذ مستندها غير معلوم.

(٥ و ٦) أنوار التنزيل ١ / ٦٣.

٤٣

وقيل(١) : بفخذها اليمنى.

وقيل(٢) : بالاذن.

وقيل(٣) : بالعجب. وهو اصل الذنب وفي الأحاديث الآتية: أنّ الضرب بذنبها].(٤) نقل(٥) أنّه لما ضرب ببعضها قام حيا وأوداجه تشخب دما. قال: قتلني فلان ابن عمّي. ثم قبض.

[وفيما يأتي من الخبر، أنّه عاش بعد ذلك سبعين سنة].(٦) ( كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) : يدلّ على ما حذف، أي: فضربوه، فحيى.

والخطاب مع من حضر حياة القتيل، أو نزول الآية.

( وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٧٣): لكي بكمل عقلكم وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس، قدر على إحياء الأنفس.

وفي الآية مع ما ذكر في بيانه من الأحاديث الدّلالة على انّ التّموّل والغنى من عند الله، ينبغي أن يطلب منه، لا بمخالفة أمره، كما ناله الفتى من بني إسرائيل ولم ينله القاتل ابن عمّه.

[وفي عيون الأخبار(٧) : حدّثني(٨) أبي ـ رضي الله عنه. قال: حدّثني(٩) عليّ بن موسى بن جعفر بن أبي جعفر الكميدانيّ ومحمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ. قال: سمعت أبا الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ يقول: إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له. ثمّ أخذه فطرحه(١٠) على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل. ثمّ جاء يطلب بدمه.

فقالوا لموسى ـ عليه السّلام: إنّ سبط آل فلان قتلوا فلانا. فأخبرنا من قتله؟

قال: ائتوني ببقرة.

( قالُوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً ) ؟

( قالَ: أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

__________________

(١ و ٢ و ٣) أنوار التنزيل ١ / ٦٣.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٥) الكشاف ١ / ١٥٣+ مجمع البيان ١ / ١٣٧.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٧) عيون الأخبار ٢ / ١٣ ـ ١٤، ح ٣١.

(٨ و ٩) المصدر: حدّثنا.

(١٠) المصدر: وطرحه.

٤٤

ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة، أجزأتهم. ولكن شدّدوا، فشدّد الله عليهم.

( قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) ؟

( قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) ، يعني: لا صغيرة ولا كبيرة،( عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ) ».

ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة، أجزأتهم. ولكن شدّدوا، فشدّد الله عليهم.

( قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ) ؟

( قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) .

ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة، لأجزأتهم. ولكن شدّدوا، فشدّد الله عليهم.

( قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ) .

( قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها. قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) .

فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل.

فقال: لا أبيعها إلّا بملء مسكها ذهبا.

فجاءوا إلى موسى ـ عليه السّلام. فقالوا له ذلك. فقال: اشتروها. فاشتروها.

وجاؤوا بها. فأمر بذبحها. ثمّ أمروا بأن يضربوا(١) الميّت، بذنبها. فلمّا فعلوا ذلك، حيي المقتول. وقال: يا رسول الله! إنّ ابن عمّي قتلني دون من يدّعي عليه قتلي. فعلموا بذلك قاتله.

فقال: رسول(٢) الله، موسى [بن عمران](٣) ـ عليه السّلام ـ لبعض(٤) أصحابه: إنّ هذه البقرة لهابنا.

فقال: وما هو؟

فقال: إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّا بأبيه و [إنّه](٥) اشترى تبيعا(٦) . فجاء إلى أبيه. والأقاليد(٧) تحت رأسه. فكره أن يوقظه. فترك ذلك البيع. فاستيقظ أبوه. فأخبره.

__________________

(١) المصدر: أن يضرب.

(٢) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: لرسول.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: بعض.

(٥) يوجد في المصدر.

(٦) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: بيعا.

(٧) المصدر: ورأى أنّ المقاليد.

٤٥

فقال له: أحسنت! خذ هذه البقرة. فهي لك عوضا لما فاتك.

قال: فقال له رسول الله، موسى [بن عمران](١) ـ عليه السّلام. انظروا إلى البرّ، ما يبلغ(٢) بأهله.

وفي كتاب الخصال، مثله سواء.(٣)

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٤) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله(٥) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: إنّ رجلا من خيار بني إسرائيل وعلمائهم، خطب امرأة منهم. فأنعمت له. وخطبها ابن عمّ لذلك الرّجل. وكان فاسقا رديئا. فلم ينعموا له.

فحسد ابن عمّه الّذي أنعموا له. فقعد له. فقتله غيلة. ثمّ حمله إلى موسى ـ عليه السّلام.

فقال: يا نبيّ الله! هذا ابن عمّى. قد قتل.

فقال موسى: من قتله؟

قال: لا أدري.

وكان القتل في بني إسرائيل، عظيما جدّا. فعظم ذلك على موسى. فاجتمع إليه بنوا إسرائيل.

فقالوا: ما ترى؟ يا نبيّ الله! وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة. وكان له ابن بارّ. وكان عند ابنه، سلعة.

فجاء قوم يطلبون سلعته. وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه. وكان نائما وكره ابنه أن ينبّهه وينغّص عليه نومه. فانصرف القوم: فلم يشتروا سلعته.

فلمّا انتبه أبوه قال له: يا بنيّ! ما صنعت في سلعتك؟

قال: هي قائمة. لم أبعها. لأنّ المفتاح كان تحت رأسك، فكرهت أن أنبّهك وأنغّص عليك نومك.

قال له أبوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عمّا فاتك من ربح سلعتك.

وشكر الله لابنه ما فعل بأبيه. وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.

__________________

(١) يوجد في المصدر.

(٢) المصدر: بلغ.

(٣) بل في تفسير العياشي ١ / ٤٦، ح ٥٧، وكذلك عنه في البحار ١٣ / ٢٦٣، بعد نقله الحديث عن عيون الأخبار. والظاهر أنّ هذا سهو من صاحب تفسير نور الثقلين، كما يبدو من ملاحظة تفسيره ١ / ٨٨ (!)

(٤) تفسير القمي ١ / ٤٩ ـ ٥٠.

(٥) المصدر: رجالهم.

٤٦

فلمّا اجتمعوا إلى موسى وبكوا وضجّوا قال لهم موسى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) .» فتعجّبوا. و( قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً ) ؟» إنا نأتيك بقتيل. فتقول اذبحوا بقرة! فقال لهم موسى:( أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

فعلموا أنّهم قد أخطأوا. فقالوا:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا، ما هِيَ ) ؟»( قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) (الفارض الّتي قد ضربها الفحل. ولم تحمل. والبكر الّتي لم يضربها.)( قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ) ؟

( قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها ) ، أي: لونها شديد الصّفرة(١) ،( تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) إليها.

( قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ ) ، أي، لم تذلّل( وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ ) ، أي: لا تسقي الزّرع.( مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها ) ، أي، لا نقط فيها إلّا الصّفرة.

( قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ ) (٢) هي بقرة فلان. فذهبوا يشتروها.

فقال: لا أبيعها إلّا بملء جلدها ذهبا.

فرجعوا إلى موسى. فأخبروه.

فقال لهم موسى: لا بدّ لكم من ذبحها بعينها. فاشتروها(٣) بملء جلدها ذهبا، فذبحوها.

ثمّ قالوا: ما تأمرنا؟ يا نبيّ الله! فأوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ إليه: قل لهم: اضربوه ببعضها. وقولوا من قتلك.

فأخذوا الذّنب، فضربوه به. وقالوا: من قتلك؟ يا فلان! فقال: فلان بن فلان. (ابن عمّه(٤) الّذي جاء به.) وهو قوله:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ

__________________

(١) المصدر: شديدة الصفرة.

(٢) يوجد في المصدر بعدها: فذبحوها. وما كادوا يفعلون.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) المصدر: ابن عمى.

٤٧

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

وفي شرح الآيات الباهرة(١) : قال الإمام ـ عليه السّلام: فألزم موسى ـ عليه السّلام ـ أهل القبيلة(٢) بأمر الله، أن يخلف خمسون رجلا من أماثلهم بالله القويّ الشّديد، إله بني إسرائيل مفضّل محمّد وآله الطّيّبين على البرايا أجمعين، إنّا ما قتلنا.

ولا علمنا له قاتلا. ثمّ بعد ذلك أجمع(٣) بنو إسرائيل(٤) على أنّ موسى ـ عليه السّلام ـ يسأل الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يحييّ المقتول، ليسألوه من قتله. واقترحوا عليه ذلك.

قال الإمام ـ عليه السّلام: فأوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ إليه: يا موسى! أجبهم إلى ما اقترحوه. وسلني أن أبيّن لهم القاتل، ليقتل ويسلم غيره من التّهمة والغرامة. فإنّي أريد إجابتهم إلى ما اقترحوه، توسعة الرّزق(٥) على رجل من خيار أمّتك دينه الصّلاة على محمّد وآله الطّيّبين والتّفضيل لمحمّد وعليّ بعده على سائر البرايا، أن أغنيه في الدّنيا ليكون ذلك بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمّد وآله.

فقال موسى ـ عليه السّلام: يا ربّ! بيّن لنا قاتله.

فأوحى الله تعالى إليه: قل لبني إسرائيل: إنّ الله يبيّن لكم ذلك بأن أمركم أن تذبحوا بقرة، فتضربوا ببعضها المقتول، فيحيى. أفتسلمون(٦) لربّ العالمين ذلك؟

ثمّ قال الإمام ـ عليه السّلام: فلمّا استقرّ الأمر، طلبوا هذه البقرة. فلم يجدوها، إلّا عند شابّ من بني إسرائيل، أراه الله تعالى في منامه محمّدا وعليّا، فقالا: إنّك كنت لنا محبّا ومفضّلا. ونحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك في الدّنيا. فإذا راموا منك شراء بقرتك، فلا تبعها، إلّا بأمر أمّك.

ثمّ قال ـ عليه السّلام: فما زالوا يطلبون على النّصف ممّا تقول أمّه ويرجع إلى أمّه، فتضعف الثّمن، حتّى بلغ ملء مسك ثور أكبر ما يكون دنانير. فأوجبت لهم البيع.

فذبحوها. وأخذوا قطعة منها. فضربوه بها. وقالوا: أللّهمّ بجاه محمّد وآله الطّيّبين لـمّا أحييت هذا الميّت. وأنطقته ليخبرنا عن قاتله. فقام سالما سويّا.

فقال: يا نبيّ الله! قتلني هذان ابنا عمّي. حسداني على ابنة عمّي. فقتلاني.

__________________

(١) شرح الآيات الباهرة / ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) المصدر: القتلة.

(٣) المصدر: امر.

(٤) المصدر: بني إسرائيل.

(٥) المصدر: للرزق.

(٦) المصدر: فتسلموا.

٤٨

فقال بعض بني إسرائيل لموسى ـ عليه السّلام: لا ندري أيّهما أعجب: إحياء الله هذا وإنطاقه بما نطق، أو إغناؤه لهذا الفتى بهذا المال العظيم؟

فأوحى الله إليه: يا موسى! قل لبني إسرائيل: من أحبّ منكم أن أطيّب في الدّنيا عيشه وأعظّم في جناني محلّه وأجعل لمحمّد وآله الطّيّبين فيها منادمته، فليفعل كما فعل هذا الفتى: إنّه كان قد سمع من موسى ابن عمران ذكر محمّد وعليّ وآلهما الطّيّبين فكان عليهم مصلّيا، ولهم على جميع الخلائق من الملائكة والجنّ والإنس مفضّلا. فلذلك صرفت إليه هذا المال العظيم.

ثمّ قال ـ عليه السّلام: فقال الفتى: يا نبيّ الله! كيف أحفظ هذه الأموال؟ وكيف لا أحذر عداوة من يعاديني فيها وحسد من يحسدني من أجلها؟

فقال له: قل عليه(١) من الصّلاة على محمّد وآله الطيبين ما كنت تقول، قبل أن تنالها.

فقالها الفتى. فما رامها حاسد، أو لصّ، أو غاصب، إلّا دفعه الله ـ عزّ وجلّ ـ بلطفه.

فلمّا قال موسى ـ عليه السّلام ـ للفتى ذلك، قال المقتول المنشور: أللّهمّ إنّي أسألك بما سألك به هذا الفتى، من الصّلاة على محمّد وآله الطيّبين والتّوسّل بهم، أن تبقيني في الدّنيا متمتّعا بابنة عمّي وتخزي أعدائي وحسّادي وترزقني منها كثيرا(٢) طيّبا.

قال: فأوحى الله إليه: يا موسى! إنّه كان لهذا الفتى المنشور بعد القتل، ستّون سنة. وقد وهبت له بمسألته وتوسّله بمحمّد وآله الطّيّبين، سبعين سنة تمام. مائة وثلاثين سنة صحيحه حواسّه، ثابتة فيها جنانه وقوّته وشهواته. يتمتّع بحلال هذه الدّنيا. ويعيش.

ولا يفارقها. ولا تفارقه. فإذا حان حينه، حان حينها. وماتا جميعا. فصارا إلى جناني. وكانا زوجين فيها ناعمين.

ثمّ قال ـ عليه السّلام: فضجّوا إلى موسى ـ عليه السّلام ـ وقالوا: افتقرت القبيلة ودفعت إلى التّلف وأسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا؟ فادع الله تعالى لنا بسعة الرّزق.

فقال موسى ـ عليه السّلام: يا ويحكم! ما أعمى قلوبكم! أما سمعتم دعاء الفتى صاحب البقرة وما رزقه الله تعالى من الغنى! أو ما سمعتم دعاء(٣) المقتول المنشور وما أثمر

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) المصدر: أولادا كثيرا.

(٣) ليس في المصدر.

٤٩

له من العمر الطّويل والسّعادة والتّنعّم والتّمتّع بحواسّه وساير بدنه وعقله؟ لم لا تدعون الله تعالى بمثل دعائهما وتتوسّلون إلى الله تعالى بمثل وسيلتهما؟ ليسدّ فاقتكم ويجبر كسركم ويسدّ خلّتكم.

فقالوا: أللّهمّ إليك التجأنا وعلى فضلك اعتمدنا. فأزل فقرنا، وسدّ خلّتنا، بجاه محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطّيّبين من آلهم.

فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى! قل لهم: ليذهب رؤساؤكم إلى خربة بني فلان، ويكشفوا في موضع كذا وجه الأرض قليلا، ويستخرجوا ما هناك، فإنّه عشرة آلاف ألف دينار، ليردّوا على كلّ من دفع من(١) ثمن البقرة ما دفع، لتعود أموالهم. ثمّ ليتقاسموا بعد ذلك ما فضل، وهو خمسة آلاف ألف دينار. على قدر ما دفع كلّ واحد منهم في هذه المحنة، لتتضاعف أموالهم، جزاء على توسّلهم بمحمّد وآله الطّيّبين واعتقادهم لتفضيلهم.

ثمّ قال ـ عزّ وجلّ:( وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، أي: يريكم سائر آياته، سوى هذه من الدّلالات على توحيده ونبوّة موسى ـ عليه السّلام ـ نبيّه وفضل محمّد على الخلائق سيّد إمائه وعبيده وتثبيت(٢) فضله وفضل آله الطّيّبين، على سائر خلق الله أجمعين، لعلّكم تعقلون وتتفكّرون أن الّذي يفعل هذه العجائب، لا يأمر الخلق إلّا بالحكمة. ولا يختار محمّدا وآله إلّا لأنّهم أفضل ذوي الألباب].(٣) .

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ) :

القساوة: الغلظ مع الصّلابة، كما في الحجر.

وقساوة القلب، مثل في نبوه(٤) عن الاعتبار، وأنّ المواعظ لا تؤثّر فيه. ثمّ لاستبعاد القسوة ونحوه. ثمّ أنتم تمترون.

( مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) ، يعني: إحياء القتيل، أو جميع ما عدّد من الآيات. فإنّها ممّا توجب لين القلب.

( فَهِيَ كَالْحِجارَةِ ) في قسوتها.

( أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) : منها، يعني: أنّها في القساوة مثل الحجارة [أو زائدة عليها، أو أنّها

__________________

(١) المصدر: في.

(٢) المصدر: ثبت.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) أ: بثوه.

٥٠

مثلها، أو مثل ما هو أشدّ منها قسوة، كالحديد. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

ويعضده قراءة الحجرّ بالفتح، عطفا على الحجارة](١) .

وإنّما لم يقل أقسى، لما في أشدّ من المبالغة. والدّلالة على اشتداد القوتين واشتمال المفضّل على زيادة واو للتخيير أو للتّرديد، بمعنى أنّ من عرف حالها شبّهها بالحجارة، أو بما هو أقسى منها.

( وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) : تعليل للتّفضيل. فإنّ الحجارة ينفعل. فإنّ منها لما يتفجّر منه الأنهار.

والتّفجر: الفتح بسعة. ومنها ما ينبع منه الماء. ومنها ما يتردّى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به. وقلوب هؤلاء لا تتأثّر عن أمر الله تعالى.

والخشية مجاز من الانقياد.

( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (٧٤): وعيد على ذلك.

وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر، بالياء والباقون، بالتّاء(٢) .

وقد ورد عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال:(٣) لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب. وإنّ أبعد النّاس من الله، القاسي القلب.

[وفي كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ:(٤) وقال أبو محمّد العسكريّ ـ عليه السّلام: لـمّا نزلت هذه الآية( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) في حقّ اليهود والنّواصب، فغلظ ما(٥) وبّخهم به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله. فقال جماعة من رؤسائهم وذوي الألسن والبيان منهم. يا محمّد! إنّك لمجنون. فتدّعي(٦) على قلوبنا ما الله يعلم منها خلافه إنّ فيها خيرا كثيرا نصوم ونتصدّق ونواسي الفقراء.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّما الخير ما أريد به وجه الله وعمل على ما أمر الله تعالى. فأمّا ما أريد به الرّياء والسّمعة ومعاندة رسول الله ـ صلّى الله عليه

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٣٩.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٤) الاحتجاج ١ / ٥٠.

(٥) المصدر: على اليهود ما.

(٦) المصدر: إنّك تهجونا وتدّعي.

٥١

وآله ـ وإظهار الغنى له والتّمالك والشّرف، فليس بخير. بل هو الشّرّ الخاصّ.(١) ووبال على صاحبه. يعذّبه الله به أشدّ العذاب.

فقالوا له: يا محمّد! أنت تقول هذا ونحن نقول: بل ما ننفقه إلّا لإبطال أمرك ودفع رئاستك ولتفريق أصحابك عنك. وهو الجهاد الأعظم. نؤمل به من الله الثّواب الأجلّ الأجسم.(٢)

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة. وفيه إلزامهم على الوجه الأعظم.

وفي الخرائج والجرائح،(٣) روي عن الحسين بن عليّ ـ عليهما السّلام ـ في قوله تعالى( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) : قال إنّه يقول: يبست قلوبكم، معاشر اليهود! كالحجارة اليابسة. لا ترشح برطوبة، أي: أنّكم لا حقّ الله تؤدّون، ولا بأموالكم تتصدّقون، ولا بالمعروف تتكرّمون، ولا للضّيف تقرون، ولا مكروبا تغيثون، ولا بشيء من الإنسانية تعاشرون، وتواصلون. أو( أَشَدُّ قَسْوَةً ) : أبهم على السّامعين. ولم يبيّن لهم كما يقول القائل: أكلت خبزا أو لحما، وهو لا يريد به أنّه لا أدري ما أكلت، بل يريد أن يبهم على السّامع حتّى لا يعلم ما ذا أكل. وإن يعلم أن قد أكل أيّهما.

( وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ) ، أي: قلوبكم في القساوة بحيث لا يجيء منها خير، يا يهود! في الحجارة ما يتفجّر الأنهار، فيجيء بالخير والنّبات لبني آدم. و( إِنَّ مِنْها ) ، أي: من الحجارة( لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ ) دون الأنهار. وقلوبكم لا يجيء منها الكثير من الخير ولا القليل.( وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ ) ، أي: من الحجارة، إن أقسم عليها باسم الله تهبط. وليس في قلوبكم شيء منه.

فقالوا: يا محمّد! زعمت أنّ الحجارة ألين من قلوبنا؟ وهذه الجبال بحضرتنا.

فاستشهدها على تصديقك. فإن نطقت بتصديقك، فأنت المحقّ.

فخرجوا إلى أوعر جبل. فقالوا: استشهده.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أسألك يا جبل! بجاه محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم خفّف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه.

__________________

(١) كذا في المصدر وفي الأصل ور. ولعله: الخالص.

(٢) المصدر: العظيم.

(٣) تفسير نور الثقلين ١ / ٩٠، ح ٢٤٥، نقلا الخرائج والجرائح.

٥٢

فتحرّك الجبل. وفاض الماء. ونادى: أشهد أنّك رسول الله. وأنّ قلوب هؤلاء اليهود، كما وصفت، أقسى من الحجارة.

فقال اليهود: علينا تلبس. أجلست أصحابك خلف هذا الجبل، ينطقون بمثل هذا؟ فإن كنت صادقا، فتنحّ من موضعك إلى ذي القرار. ومر هذا الجبل، يسير إليك.

ومره أن ينقطع بنصفين، ترتفع السّفلى وتنخفض العليا.

فأشار إلى حجر مد حرج. فتدحرج. ثمّ قال لمخاطبه: خذه. فقرّبه. فسيعيد عليك ما سمعت. فإنّ هذا جزء من ذلك الجبل.

فأخذه الرّجل. فأدناه من أذنه. فنطق الحجر بمثل ما نطق به الجبل.

قال: فإنّني بما اقترحت.

قال: فتباعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى فضاء واسع، ثمّ نادى: أيّها الجبل! بحقّ محمّد وآله الطّيّبين، لـمّا اقتلعت من مكانك بإذن الله وجئت إلى حضرتي.

فتزلزل الجبل. وصار(١) مثل الفرس الهملاج. فنادى: أنا سامع لك، ومطيع أمرك.

فقال: هؤلاء اقترحوا على أن أمرك إن تنقطع من أصلك، فتصير نصفين، فينحطّ أعلاك ويرتفع أسفلك.

فانقطع نصفين. وارتفع أسفله. وانخفض أعلاه. فصار فرعه أصله.

ثمّ نادى الجبل: أهذا الّذي ترون دون معجزات موسى الّذي تزعمون أنّكم به تؤمنون؟

فقال رجل منهم: هذا رجل تتأتّى له العجائب. فنادى الجبل: يا عدوّ الله! أبطلتم بما تقولون نبوّة موسى حيث كان وقوف الجبل فوقهم كالظّلل فيقال هو رجل تتأتّى له العجائب. فلزمتهم الحجّة ولم يسلموا؟

وفي مجمع البيان(٢) : وروى عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال: إنّ حجرا كان يسلّم عليّ في الجاهليّة، وإنّي لأعرفه الآن.

وفي كتاب الخصال(٣) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: كان فيما أوصى

__________________

(١) المصدر: سار. وهو الظاهر.

(٢) مجمع البيان: ١ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) الخصال ١٢٥ ـ ١٢٦، مقطع من ح ١٢٢.

٥٣

به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ عليّا ـ عليه السّلام: يا عليّ! ثلاث يقسين القلب :استماع اللهو، وطلب الصّيد، وإتيان باب السّلطان.

وفيه(١) ، فيما علّم أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ أصحابه: ولا يطول عليكم الأمل(٢) ، فتقسو قلوبكم.

عن أبي عبد الله، عن أبيه(٣) ـ عليهما السّلام. قال: أوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى موسى ـ عليه السّلام: لا تفرح بكثرة المال ـ إلى قوله ـ وترك ذكري يقسي القلوب.

وفي كتاب علل الشّرائع(٤) ، بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة. قال: قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام: ما جفّت الدّموع إلّا لقسوة القلوب. وما قست القلوب إلّا لكثرة الذّنوب.

وفي أصول الكافي(٥) : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عمرو ابن عثمان، عن عليّ بن عيسى رفعه. قال: فيما ناجى الله ـ عزّ وجلّ ـ به موسى ـ عليه السّلام: يا موسى! لا يطول في الدّنيا أملك، فيقسو قلبك. والقاسي القلب، منّي بعيد.

وفي شرح الآيات الباهرة(٦) : قال الإمام ـ عليه السّلام ـ في تأويل ذلك: وقلوبهم لا يتفجّر(٧) منها الخيرات ولا تنشقّ فيخرج منها قليل من الخيرات وإن لم يكن كثيرا.

ثمّ قال ـ عزّ وجلّ:( وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) إذا أقسم عليها باسم الله وبأسماء أوليائه، محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطّيّبين من آلهم ـ صلّى الله عليهم. وليس في قلوبكم شيء من هذه الخيرات.

ثمّ قال ـ عليه السّلام: وهذا التّقريع من الله تعالى لليهود والنّواصب. واليهود جمعوا الأمرين واقترفوا الخطيئتين. فغلظ على اليهود ما وبّخهم به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله. وقال جماعة من رؤسائهم: يا محمّد! إنّك مجنون. تدّعي على قلوبنا ما الله(٨) يعلم منها خلافه. وإن فيها خيرا كثيرا، نصوم ونتصدّق ونواسي الفقراء.

ثمّ قال ـ عليه السّلام: فقالوا: يا محمّد! زعمت أنّه ما في قلوبنا شيء من مواساة الفقراء ومعاونة الضّعفاء؟ وإنّ الأحجار ألين من قلوبنا. وأطوع لله منّا. وهذه الجبال

__________________

(١) نفس المصدر: ٦٢٢.

(٢) المصدر: الأمد.

(٣) نفس المصدر / ٣٩، ح ٢٣.

(٤) علل الشرائع / ٨١، ح ١.

(٥) الكافي ٢ / ٣٢٩، ح ١.

(٦) تأويل الآيات الباهرة / ٢٤ ـ ٢٥.

(٧) المصدر: لا تنفجر. (٨) المصدر: فالله.

٥٤

بحضرتنا، هلمّ بنا إلى بعضها فاستشهده على تصديقك وتكذيبنا؟

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: نعم. فهلمّوا بنا إلى أيّها شئتم استشهده ليشهد لي عليكم.

قال: فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه.

فقالوا: يا محمّد! هذا الجبل. فاستشهده! فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: أيّها الجبل! إنّي أسألك بجاه محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم خفّف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم إلّا الله ـ عزّ وجلّ ـ، وبحقّ محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم تاب الله تعالى على آدم وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته، وبحقّ محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم وسؤال الله بهم رفع إدريس في الجنّة مكانا عليّا، لـمّا شهدت لمحمّد بما أودعك الله بتصديقه على هؤلاء اليهود، في ذكر(١) قساوة قلوبهم وتكذيبهم في جحودهم لقول محمّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله.

قال: فتحرّك الجبل. فتزلزل.(٢) وفاض عنه الماء. ونادى: يا محمّد! أشهد أنّك رسول الله ربّ العالمين، وسيّد الخلائق أجمعين صلّى الله عليك وآلك إلى العالمين والخلائق أجمعين. وأشهد أن قلوب هؤلاء اليهود أقسى من الحجارة. لا يخرج منها خير. وقد يخرج من الحجارة الماء سيلا وتفجيرا. وأشهد أنّ هؤلاء الكاذبون عليك بما به قذفوك من الفرية على ربّ العالمين.

ثمّ قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: وأسألك، أيّها الجبل! أمرك الله بطاعتي فيما التمسه(٣) منك بجاه محمّد وآله الطّيّبين الّذين بهم نجّى الله تعالى نوحا من الكرب العظيم وبهم برّد الله النار على إبراهيم وجعلها عليه سلاما ومكّنه في جوف النّار على سرير وفراش وبرد(٤) وأنبت مواليه من الأشجار الخضرة النّضرة الزهرة(٥) وعمّر ما حوله من انواع ما لا يوجد إلّا في الفصول الأربعة من جميع السّنة.

قال: فقال الجبل: بلى. أشهد، يا محمّد! لك بذلك. وأشهد أنّك لو اقترحت على

__________________

(١) المصدر: ذكره في.

(٢) المصدر: وتزلزل.

(٣) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: التمسته.

(٤) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: بئر.

(٥) المصدر: آنس هيئة.

٥٥

ربّك أن يجعل رجال الدّنيا قرودا وخنازير، لفعل. وأن يجعلهم ملائكة، لفعل وأن يقلب النّيران جليدا والجليد نيرانا، لفعل. وأن يهبط السّماء إلى الأرض أو يرفع الأرض إلى السّماء، لفعل. وأن يصيّر أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلّها ضرب طرف الكبش(١) ، لفعل. وأنّه قد جعل الأرض والسّماء طوعك والبحار والجبال تنصرف(٢) بأمرك. وسائر ما خلق الله من الرّياح والصّواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة. وما أمرتها به من شيء ائتمرت.

تمّ كلامه صلوات الله عليه. فقالت اليهود بعد: أنت تلبس علينا واقترحوا عليه أشياء أن يفعلها الجبل المشار إليها فأجابهم إليها.

قال الإمام ـ عليه السّلام: فتباعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى فضاء واسع. ثمّ نادى الجبل: يا أيّها الجبل! بحقّ محمّد وآله الطّيّبين الّذين بجاههم ومسألة عباد الله بهم أرسل الله على قوم عاد ريحا صرصرا عاتية تنزع النّاس كأنّهم أعجاز نخل خاوية، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة واحدة في قوم صالح حتّى صاروا كالهشيم المحتضر، لـمّا انقلعت من مكانك بإذن الله وجئت إلى حضرتي.

قال: فتزلزل(٣) الجبل، وصار كالقدح الهملاج، حتّى دنى من إصبعه. فلصق بها.

ووقف. ونادى: ها أنا سامع لك مطيع، يا رسول الله! وإن رغمت أنوف هؤلاء المعاندين، فمرني بأمرك.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ هؤلاء المعاندين اقترحوا عليّ أن أمرك أن تنقلع(٤) من أصلك، فتصير نصفين، ثمّ ينحطّ أعلاك، ويرتفع أسفلك، وتصير ذروتك أصلك، وأصلك ذروتك.

فقال الجبل: أفتأمرنى بذلك، يا رسول الله؟

قال: بلى.

قال: فانقطع الجبل نصفين. وانحطّ أعلاه إلى الأرض. وارتفع أسفله فوق أعلاه.

__________________

(١) المصدر: ظرف الكيش. وفي هامش المصدر: صرة كصرة الكيس (خ ل). وكذلك في تفسير البرهان ١ / ١١٤.

(٢) المصدر: تتصرّف.

(٣) المصدر: فتحرّك.

(٤) المصدر: تنقطع.

٥٦

فصار فرعه أصله، وأصله فرعه.

ثمّ نادى الجبل: معاشر اليهود! هذا الّذي ترون دون معجزات موسى الّذي تزعمون أنّكم به مؤمنون.

فنظر اليهود بعضهم إلى بعض. فقال بعضهم: ما عن هذا محيص. وقال آخرون منهم: هذا رجل مبخوت. ومبخوت(١) تتأتّى له(٢) العجائب. فلا يغرّنّكم ما تشاهدون منه.

فناداهم الجبل: يا أعداء الله! أبطلتم بما تقولون نبوّة موسى؟ هلّا قلتم لموسى إذا قلب العصا ثعبانا وانفلق له البحر طرقا ووقف الجبل كالظّلّة فوقكم: إنّك تؤتى لك العجائب. فلا يغرّنا ما نشاهده منك؟

فألقمهم الجبل بمقالة الصّخور وألزمهم(٣) حجّة ربّ العالمين. (انتهى)](٤)

( أَفَتَطْمَعُونَ ) :

الخطاب لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ والمؤمنين.

( أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) ، أي: اليهود.

( وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) : من أسلافهم،( يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ) ، أي: التوراة، أو حين كلّم موسى،( ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ) : يغيّرونه أو يأوّلونه بما يشتهون،( مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ ) : ولم يبق لهم فيه ريبة.

( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٧٥) أنّهم مبطلون.

فإذا كان أخبار هؤلاء وأسلافهم بهذه الحالة، فما طمعكم بجهّالهم وسفلتهم؟

( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، أي: اليهود.

( قالُوا: آمَنَّا ) ، أي: قال منافقوهم: آمنّا بأنّكم على الحقّ، ورسولكم هو المبشّر به في التوراة.

( وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا ) ، أي: الّذين لم ينافقوا عاتبين على من نافق.

( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ ) وبيّنه في التوراة، من نعت محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ أو الّذين نافقوا لأعقابهم إظهارا، للتّصلّب في اليهوديّة ومنعا لهم عن إبداء ما

__________________

(١) المصدر: فوتآله

(٢) المصدر: لك.

(٣) المصدر: فالقاهم الجبل بمقالتهم الزور ولزومهم.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٥٧

وجدوا في كتابهم، فيتناول الفريقين.

فالاستفهام على الأوّل، تقريع، وعلى الثّاني، إنكار ونهي.

( لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) ليحتجّوا بما فتح الله عليكم، حال كونه ثابتا عند ربّكم، أي: من جملة ما ثبت عند ربّكم، أي: من جملة ما أنزل الله في كتابه.

( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٧٦)، إمّا من كلام اللائمين، وتقديره «أفلا تعقلون أنّهم يحاجّوكم فيغلبون به عليكم»، أو متّصل بقوله أفتطمعون.

والمعنى: أفلا تعقلون حالهم. وأن لا مطمع لكم في إيمانهم.

[وفي مجمع البيان(١) :( تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ ) . (الآية) وروي عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين. إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التّوراة من صفة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله. فنهاهم كبراؤهم عن ذلك. وقالوا: لا تخبروهم بما في التّوراة من صفة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله. فيحاجّوكم به عند ربّكم. فنزلت هذه الآية].(٢)

( أَوَلا يَعْلَمُونَ ) هؤلاء( أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ ) من الكفر وما فتح الله وتحريف الكلم وغيره؟

( وَما يُعْلِنُونَ ) (٧٧) من الإيمان وغير ما فتح الله وتأويلاتهم وتحريفاتهم؟

( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) ، اي: التّوراة( إِلَّا أَمانِيَ ) : استثناء منقطع.

والأمانيّ، جمع أمنيّة. وهي في الأصل: ما يقدّره الإنسان في نفسه.

( وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) (٧٨): لا علم لهم.

روي أنّ رجلا قال للصّادق(٣) ـ عليه السّلام: إذا كان هؤلاء العوامّ(٤) من اليهود(٥) ، لا يعرفون الكتاب إلا ما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمّهم

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٤٢.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) الاحتجاج ٢ / ٢٦٣.

(٤) ليس في ر.

(٥) ر: اليهود من العوامّ.

٥٨

بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلّا كعوامّنا؟ يقلّدون علماءهم. فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال ـ عليه السّلام: بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم، فرق من جهة وتسوية من جهة: أمّا من حيث استووا، فإنّ الله قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما قد ذمّ عوامّهم. وأمّا من حيث افترقوا، فلا.

قال: بيّن لي ذلك، يا بن رسول الله! قال ـ عليه السّلام: إنّ عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّراح وبأكل الحرام والرّشاء وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشّفاعات والعنايات والمضايقات.(١) وعرفوهم بالتّعصّب الشّديد الّذي يفارقون به أديانهم. وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم.

وعرفوهم يقارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه، فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله. فلذلك ذمّهم لـمّا قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه. ووجب عليهم النّظر بأنفسهم، في أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إذ كانت دلالته أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر (ص) لهم. وكذلك عوامّ أمّتنا، إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظّاهر والعصبية الشّديدة والتّكالب على حطام الدّنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه. وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا. وبالرّفق(٢) والبر والإحسان على من تعصّبوا له. وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا. فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الّذين ذمّهم الله تعالى بالتّقليد لفسقة فقهائهم.

وأمّا من كان من الفقهاء، صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم. فأنّ من يركب(٣) من القبائح والفواحش، مراكب فسقة فقهاء(٤) العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا(٥) شيئا.

ولا كرامة لهم.(٦)

__________________

(١) المصدر: المضانعات.

(٢) المصدر: بالزخرف.

(٣) المصدر: فانّه من ركب.

(٤) ليس في المصدر.

(٥) المصدر: منّا عنه.

(٦) ليس في المصدر.

٥٩

( فَوَيْلٌ ) ، أي: تحسر وهلك.

مصدر. لا فعل له.

( لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ ) ، أي: المحرّف.

( بِأَيْدِيهِمْ ) : تأكيد.

( ثُمَّ يَقُولُونَ: هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) ، أي: يحصلوا غرضا من أغراض الدّنيا. فإنّه قليل بالنّسبة إلى عقابهم.

( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ) من المحرّف.

( وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (٧٩) من الرّشى.

[وفي كتاب الاحتجاج،(١) للطّبرسيّ ـ رحمه الله ـ بإسناده إلى أبي محمّد العسكريّ ـ عليه السّلام ـ في قوله تعالى( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ ) : إن الأمّيّ، منسوب إلى أمّه، أي: كما هو خرج من بطن أمّه لا يقرأ ولا يكتب.( لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) المنزل من السّماء، ولا المتكلّم(٢) به. ولا يميّزون بينهما،( إِلَّا أَمانِيَ ) ، أي: إلّا أن يقرأ عليهم.

ويقال لهم: إنّ هذا كتاب الله وكلامه. لا يعرفون إن قرئ من الكتاب، خلاف ما هم فيه.( وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) ، أي: ما يقرأ عليهم رؤساؤهم، من تكذيب محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ في نبوّته وإمامة عليّ، سيّد عترته. وهم يقلّدونهم. مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) .

قال ـ عليه السّلام: قال الله تعالى: هذا القوم من اليهود، كتبوا صفة، زعموا أنّها صفة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله. وهي خلاف صفته. وقالوا للمستضعفين منهم: هذه صفة النّبيّ المبعوث في آخر الزّمان، أنّه طويل عظيم البدن والبطن، أهدف، أصهب الشّعر.

ومحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ بخلافه. وهو يجيء بعد هذا الزّمان، بخمسمائة سنة. وإنّما أرادوا بذلك، لتبقى لهم على ضعفائهم رئاستهم. وتدوم لهم إصاباتهم. ويكفوا أنفسهم مؤنة خدمة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وخدمة عليّ ـ عليه السّلام ـ وأهل خاصّته.

فقال الله ـ عزّ وجلّ:( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ. وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) » من هذه الصّفات المحرّمات المخالفات، لصفة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعليّ ـ عليه السّلام ـ الشّدة لهم من العذاب، في أسوء بقاع جهنم. وويل لهم الشّدّة من العذاب، ثانية مضافة

__________________

(١) الاحتجاج ٢ / ٢٦١.

(٢) المصدر: لا المتكذّب.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فيها.

ج - ما يُعدّ للتداوي ، كدهن الخوخ واللوز المـُرّ وحبّة الخضراء وما أشبه ذلك ، فإنّه يجري فيه الربا ؛ لأنّه مكيل أو موزون. وعلّل الشافعي بأنّه يؤكل للتداوي(١) .

د - ما يُعدّ للاستصباح ، كالبزر ودهن السمك. ويجري فيهما الربا ؛ لأنّه مكيل أو موزون ، فيباع كلّ واحد منهما بجنسه متساوياً نقداً لا نسيئةً ، وبصاحبه متفاضلاً نقداً ونسيئةً.

وللشافعيّة وجهان(٢) ، أحدهما : جريان الربا فيه ؛ لأنّه يؤكل ، وأصله حبّ الكتّان ، وهو مأكول يطرح في الملح. والثاني : لا يجري ؛ لأنّه لا يؤكل في عادة الناس ، ولهذا لا يستطاب ، وأكله سَفَهٌ.

مسألة ٩٠ : يجوز بيع المطبوخ بالني‌ء من جنسه ومن غير جنسه‌ ، وكذا المطبوخ بالمطبوخ ، لكن يعتبر في المتّحد جنسه تساوي القدر والحلول دون غيره ، عند علمائنا ؛ عملاً بالأصل.

وقال الشافعي : لا يجوز بيع المطبوخ بالني‌ء(٣) مع اتّحاد الجنس مطلقاً ؛ لأنّ النار تعقد أجزاءه فتختلف فيؤدّي ذلك إلى التفاضل بينهما لو كانا على حالة الادّخار(٤) .

____________________

(١) اُنظر : المجموع ٩ : ٣٩٨ ، و ١٠ : ١٨٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٨ ، المجموع ٩ : ٣٩٨ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥.

(٣) في نسختين من التذكرة ، المرموز لهما بـ « خ ، ه‍ » المعتمدتين في تحقيق قسم البيع ( الجزء السابع ) منها المطبوع بمطبعة النجف عام ١٣٧٤ ه‍ زيادة : ولا بيع المطبوخ بالمطبوخ.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٣ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٨.

١٨١

وينتقض بالتمر ؛ فإنّ الشمس تُجفّفه ، ويختلف جفافها فيه. ولأنّ ذلك غير معتدّ به ؛ لعدم العلم بجفافه أزيد.

إذا ثبت هذا ، فإنّ عصير العنب جنس يباع بعضه ببعضٍ متساوياً - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ حالته حالة كمال ، ولا ينقص إذا بلغ إلى حالة كماله بالحموضة. وكذا عصير الرمّان والسفرجل والتفّاح وقصب السُّكّر.

ويجوز بيع بعض هذه الأجناس بجنس آخر منها متفاضلاً ؛ لتعدّدها جنساً. وكذا إن طُبخت بالنار أو بعضها ، عندنا مطلقاً وعند الشافعي مع اختلاف الجنس لا اتّفاقه ، فلا يجوز عنده بيع المطبوخ بالمطبوخ ولا بغيره إذا اتّفق الجنس(٢) .

مسألة ٩١ : جيّد كلّ شي‌ء ورديئه جنس لا يباع أحدهما بالآخر متفاضلاً لا نقداً ولا نسيئةً‌ ، ويجوز متساوياً نقداً لا نسيئةً ، عند علمائنا ، فلا يجوز بيع درهم صحيح بدرهم مكسّر مع زيادة تقابل الصحّة ، وبه قال الشافعي ، خلافاً لمالك ، وقد تقدّم(٣) .

مسألة ٩٢ : يجوز بيع الجنسين المختلفين بأحدهما‌ إذا زاد على ما في المجموع من جنسه بحيث تكون الزيادة في مقابلة المخالف ، وذلك كمُدّ عجوة ودرهم بمُدَّيْ عجوة أو بدرهمين أو بمُدَّيْ عجوة ودرهمين ، عند علمائنا أجمع - وبه قال أبو حنيفة(٤) - حتى لو باع ديناراً في خريطة‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٣ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٤ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦ ، المغني ٤ : ١٦٥ - ١٦٦.

(٢) اُنظر : المغني ٤ : ١٦٥ - ١٦٦ ، والشرح الكبير ٤ : ١٦٣.

(٣) تقدّم في ص ١٤٦ ، الفرع ( ب ) من المسألة ٧٧.

(٤) حلية العلماء ٤ : ١٧٠ - ١٧١ ، الحاوي الكبير ٥ : ١١٣ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٧ - ٣٤٨.

١٨٢

بمائة دينار ، جاز.

لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ؛ لأنّ الربا هو بيع أحد المثلين بأزيد منه من الآخر ، والمبيع هنا المجموع ، وهو مخالف لأفراده.

وما رواه أبو بصير قال : سألته عن السيف المفضّض يباع بالدراهم؟

قال : « إذا كانت فضّته أقلّ من النقد فلا بأس ، وإن كانت أكثر فلا يصلح »(١) .

وسأله عبد الرحمن بن الحجّاج عن شراء ألف درهم ودينار بألفي درهم ، قال : « لا بأس بذلك »(٢) .

ولأنّ أصل العقود الصحّة ، ومهما أمكن حمله عليها لم يحمل على الفساد ، كشراء اللحم من القصّاب ، فإنّه سائغ ؛ حملاً على التذكية ، ولا يحمل على الميتة وإن كان الأصل ؛ لأنّ أصالة الصحّة أغلب. وكذا لو اشترى إنسان شيئاً بمال معه ، حُمل على أنّه له ليصحّ البيع.

وهنا يمكن حمل العقد على الصحّة بأن يجعل الخريطة في مقابلة ما زاد على الدينار ، فيصحّ العقد ، وفي مسألة مُدّ عجوة بصرف المـُدّ الآخر من التمر في مقابلة الدرهم ، أو صرف الدرهم إلى الدرهم والدرهم الآخر في مقابلة المـُدّ ، أو صرف مُدّ عجوة إلى الدرهمين والدرهم إلى المـُدَّيْن.

وقال الشافعي : لا يجوز ذلك كلّه - وبه قال أحمد - لأنّ فضالة بن عبيد قال : شريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخزر ، فذكرت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : « لا يباع مثل هذا حتى يفصل »(٣) .

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١١٣ / ٤٨٩ ، الاستبصار ٣ : ٩٨ / ٣٣٩.

(٢) الكافي ٥ : ٢٤٦ / ٩ ، الفقيه ٣ : ١٨٥ / ٨٣٤ ، التهذيب ٧ : ١٠٤ / ٤٤٥.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٢١٣ / ٩٠ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٤٩ / ٣٣٥٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٥٦ / ١٢٢٥ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٤ - ٨٥.

١٨٣

ولأنّ العقد إذا جمع عوضين ، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه ، فإن كان مختلف القيمة ، اختلف ما يأخذه(١) من العوض ، كما لو باع ثوبين بدراهم ، فإذا احتيج إلى معرفة ثمن كلٍّ منهما ، قوّم الثوبين وقسّم على قدر القيمتين ، فلو كانت قيمة أحدهما ستّة والآخر ثلاثة وبِيعا بعشرة ، بسطت عليهما أثلاثاً. وبهذا الطريق يعرف قيمة شقص الشفعة ، المنضمّ إلى غيره. وكذا لو تلف أحد العبدين المبيعين صفقةً في يد البائع قبل القبض ، فكذا هنا إذا باع مُدّاً ودرهماً بمُدَّيْن ، فينظر إلى ما يساوي الدرهم ، فيكون مُدّاً ونصفاً ، فيخصّ الدرهم ثلاثة أخماس المـُدَّيْن(٢) .

والجواب : جاز أن يكون في القلادة من الذهب ما يزيد ، فتجب معرفة القدر ، فلهذا أوجب الفصل. وقسط الثمن لا يقتضي شراء كلّ جزء بما قسط عليه من الثمن.

فروع :

أ - لو باع نوعين من جنس واحد مختلفي القيمة بنوعٍ واحد ، كدينار معزّي ودينار أبريزي بدينارين أبريزية ، جاز مع التساوي قدراً ، ولا اعتبار بالقيمة عندنا. وكذا لو باع درهماً صحيحاً بدرهم مكسور أو درهماً صحيحاً ودرهماً مكسوراً بصحيحين أو مكسورين ، سواء قلّت قيمة المكسور عن‌

____________________

(١) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : ما يأخذ. وما أثبتناه من المغني والشرح الكبير.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٠ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٧ ، حلية العلماء ٤ : ١٧٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ١١٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٤ - ٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣ ، المغني ٤ : ١٦٩ - ١٧٠ ، الشرح الكبير ٤ : ١٧٠ - ١٧١.

١٨٤

قيمة الصحيح أو لا. وكذا درهم وثوب بدرهمين ، وبه قال أحمد في الجنس الواحد(١) ، كبيع دينارين مختلفين بدينارين متّفقين ، وكبيع مكسور وصحيح بمكسورين أو صحيحين.

وجوّزه أبو حنيفة مطلقاً ، ومَنَعه الشافعي مطلقاً ، وقد تقدّم(٢) .

والأصل أنّ الصنعة لا قيمة لها في الجنس ، ولهذا لا يجوز بيع المصوغ بأكثر متفاضلاً.

ب - لو تلف الدرهم المعيّن المنضمّ إلى المـُدّ قبل قبضه أو ظهر استحقاقه‌ وكان المثمن مُدَّيْن ودرهمين ، احتمل بطلان البيع في الجميع حذراً من الربا ؛ لاستلزام بسط الثمن على أجزاء المبيع إيّاه ، فتلفُ نصفه - على تقدير مساواة المـُدّ درهماً - يقتضي سقوط النصف من الثمن ، فيصير ثمن المـُدّ الثاني مُدّاً ودرهماً.

ويحتمل البطلان في التخالف ؛ فإنّ المقتضي لصحّة هذا البيع صرف كلّ جنس إلى ما يخالفه لتحصل السلامة من الربا ، فالدرهم في مقابلة المـُدَّيْن خاصّة ، ويبقى المـُدّ في مقابلة الدرهمين.

ويحتمل التقسيط ؛ لأنّه مقتضى مطلق العقد ، والربا المبطل إنّما يعتبر حين العقد ، وهو في تلك الحال كان منفيّاً.

ج - لو باعه مُدّاً ودرهماً بمُدَّيْن ثمّ تلف الدرهم المعيّن وكان المـُدّ المضاف إليه يساوي درهماً ، وكلٌّ من المـُدَّيْن يساوي درهماً أيضاً ، بقي مُدٌّ في مقابلة المـُدّ الآخر ، وبطل البيع في المـُدّ الثاني.

ولو كان يساوي درهمين ، فقد تلف ثلث العوض ، فيبطل من الآخر ثلثه ، فيبقى مُدٌّ في مقابلة مُدٌّ وثلث مُدٌّ ، ولا يثبت الربا هنا ؛ لأنّ الزيادة‌

____________________

(١) المغني ٤ : ١٧١ ، الشرح الكبير ٤ : ١٧١ - ١٧٢.

(٢) في ١٤٦ - ١٤٧ ، الفرع ( ب ) من المسألة ٧٧.

١٨٥

حصلت بالتقسيط الثابت بعد صحّة البيع.

د - لو كان كلٌّ من المـُدَّيْن لواحدٍ فباعهما أحدهما ولم يُجز الآخر ، بطل البيع في مُدّه ، وسقط من الثمن نصف المـُدّ ونصف درهم ، وثبتا للبائع في مقابلة مُدّه إن تساويا قيمةً ، ولو اختلفا فكانت قيمة مُدّ الفاسخ نصفَ قيمة مُدّ البائع ، كان للبائع ثلثا مُدٍّ وثلثا درهمٍ عوض مُدّه.

ه- لو باعه مُدّاً ودرهماً بمُدَّيْن فتلف الدرهم قبل القبض وهو يساوي مُدّاً ونصفاً ، فالذي يخصّ الدرهم ثلاثة أخماس المـُدَّيْن ، فيبقى مُدٌّ في مقابلة أربعة أخماس مُدٍّ ، ويجي‌ء الاحتمالات.

و - لو باعه درهماً صحيحاً ومكسوراً بدرهمين صحيحين ثمّ تلف الصحيح المعيّن ، بسطت قيمة الصحيحين على الصحيح والمكسور ، وسقط ما قابل الصحيح منها ، ويجي‌ء الاحتمالات.

مسألة ٩٣ : يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بمثلها‌ ، وبشاة خالية من اللبن ، وبلبن من جنسها ، عند علمائنا ، خلافاً للشافعي(١) .

لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ؛ لأنّ الشاة ليست مقدّرةً بالكيل والوزن ، ولا اللبن الذي في ضرعها ، وإنّما يكون مكيلاً أو موزوناً بعد حلبه ، فأشبه الثمرة على رؤوس النخل. ولأنّه ما دام في الضرع يكون تابعاً للمبيع ليس مقصوداً بالذات.

احتجّ بأنّ اللبن يأخذ قسطاً من الثمن ؛ لحديث المصرّاة ، فإنّ النبيّعليه‌السلام أوجب مع ردّها بعينها صاعاً من تمر(٢) ، ولو لا دخوله في العقد وتقسيط‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨٤ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٥٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٢٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٦١.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٩٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ / ١١ ، سنن أبي داوُد ٣ : =

١٨٦

الثمن عليه ، لم يضمنه ، كما أنّ المشتري إذا ردّ المبيع بعيبٍ بعد أن حدث عنده نماء أو ولد في يده ، لم يردّ عوض ذلك. ولأنّ اللبن في الضرع كالشي‌ء في الوعاء والدراهم في الخزانة ، وإذا كان له قسط من الثمن ، كان بيع لبن مع غيره بلبن.

والجواب : المنع من أخذه قسطاً من الثمن ، وإلزامه بالصاع ؛ لأنّه فصل اللبن عن الشاة وانتفع به ، والبحث في المتّصل في أساسات الحيطان ، فإنّها تتبع الدار ، ولو قُلعت ، قُوّمت بانفرادها.

سلّمنا ، لكنّ البيع وقع للجملة لا للأجزاء ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيعه منفرداً؟

فروع :

أ - لو باع الشاة اللبون بلبن البقر ، جاز عندنا ؛ لأنّه يجوز بيعه بلبن الشاة ، فلبن غيره أولى.

وللشافعي قولان(١) مبنيّان على أنّ الألبان هل هي جنس واحد أو أجناس متعدّدة؟ فعلى الأوّل لا يجوز ، ويجوز على الثاني. ويجب التقابض عنده في الحال قبل التفرّق ، لأنّه بيع لبن بلبن من جنس آخر.

ب - لو كانت الشاة لا لبن فيها ، جاز بيعها بلبن جنسها أو ( من غير )(٢) جنسها. وكذا لو كان في ضرعها لبن فحلبه ثمّ باعها بلبن ، جاز‌

____________________

= ٢٧٠ / ٣٤٤٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٥٣ / ١٢٥١ ، سنن النسائي ٧ : ٢٥٣ و ٢٥٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٣١٨ و ٣١٩.

(١) اُنظر : التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٥٣ ، والحاوي الكبير ٥ : ١٢٣ - ١٢٥ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٩ ، وروضة الطالبين ٣ : ٦١.

(٢) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : بغير.

١٨٧

- وبه قال الشافعي(١) - لأنّ المتخلّف في الضرع يسير لا يحلب في العادة ، فلا عبرة له.

ج - لو كانت مذبوحةً وفي ضرعها لبن ، جاز بيعها بلبن ، وبشاة مذبوحة في ضرعها لبن ، وبخالية من لبن. وبحيّةٍ ذات لبن وخاليةٍ عنه ، وبلبن من جنسها.

وقال الشافعي : لا يجوز إذا كان في الشاة المذبوحة لبن ، وإن لم يكن في ضرعها لبن ، جاز إذا سُلّمت لتزول جهالتها(٢) .

د - قد بيّنّا أنّه يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن. ومَنَعه أكثر الشافعيّة(٣) .

وليس بشي‌ء ؛ لأنّ اللبن المتّصل بأصله لا اعتبار به في العوضين ، كما يجوز بيع السمسم بمثله من غير اعتبار الدهن فيهما ، وكذا لو باع داراً مموّهة بالذهب بمثلها أو داراً فيها بئر ماءٍ بمثلها.

احتجّوا بأنّ اللبن في الضرع بمنزلة كونه في الآنية ، فكأنّه باع شاةً ولبناً بشاة ولبن ، ولو كان اللبنان منفصلين ، لم يجز ، وكذا إذا كانا في الضرع.

ثمّ فرّقوا بين السمسم بمثله وبين المتنازع بأنّ الدهن غير موجود فيه بصفته وإنّما يحصل بالتخليص والطحن.

والماء غير مملوك عند بعضهم ، ولا يدخل في البيع ، بل كلّ مَنْ

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٦١.

(٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر. وحكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٦٢ ، المسألة ١٠٠.

(٣) اُنظر المصادر في الهامش (١) من ص ١٨٥.

١٨٨

أخذه استحقّه. وعند آخرين أنّه مملوك وأصل في البيع إلّا أنّ في ثبوت الربا في الماء قولين ، فإن نفيناه عنه ، فلا بحث ، وإلّا منعنا من بيع الدار بالدار وفيهما ماء.

والجواب : المنع من مساواة كون اللبن في الضرع لكونه في الإناء ؛ لأنّه بعد الحلب مقدّر بكيل أو وزن ، بخلاف كونه في الضرع. ولأنّه كالجزء من الشاة تابع للمبيع لا أصلا ، بخلاف المحلوب.

وما ذكروه في دهن السمسم ينقض عليهم المنع من بيع السمسم بالشيرج ، فإنّه إذا لم يكن في السمسم بصفته ، لم يمنع مانع من بيعه بالدهن. وكون الماء غير مملوك باطل.

ه- يجوز بيع نخلة فيها ثمر بنخلة مثمرة أو بثمرة أو بنخلة خالية ؛ لما مرّ في الشاة ، خلافاً للشافعي(١) .

مسألة ٩٤ : كلّ ما لَه حالتا رطوبة وجفاف من الربويّات يجوز بيع بعضه ببعض‌ مع تساوي الحالين إذا اتّفق الجنس. وإن اختلف ، جاز مطلقاً ، فيجوز بيع الرطب بمثله ، والعنب بمثله ، والفواكه الرطبة بمثلها ، والحنطة المبلولة بمثلها ، واللحم الطري بمثله ، والتمر والزبيب والفواكه الجافّة ، والمقدَّد والحنطة اليابسة كلّ واحد بمثله - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد وأحمد والمزني(٢) - لوجود المقتضي ، وهو عموم الحلّ ، السالم عن معارضة الربا ؛ لتساويهما في الحال وفيما بعدُ. فإن اختلفا في حالة اليبس ، فبشي‌ء يسير لا اعتبار به كالتمر الحديث‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ١٢٥.

(٢) المدوّنة الكبرى ٤ : ١٠٢ ، المنتقى - للباجي - ٤ : ٢٤٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٨٨ ، المغني ٤ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦٤ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣٤ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.

١٨٩

بالعتيق. ولأنّ معظم منفعته في حال رطوبته ، فجاز بيع بعضه ببعضٍ ، كاللبن.

وقال الشافعي : لا يجوز بيع الرطب بالرطب متساوياً ؛ لأنّهما على غير حالة الادّخار ، ولا نعلم تساويهما في حالة الادّخار ، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر ، كالرطب بالتمر(١) .

وهو ضعيف ؛ لما بيّنّا من التفاوت اليسير.

وينتقض بالرطب الذي لا يصير تمراً في العادة ، كالبربن وشبهه ، فإنّ فيه قولين(٢) ، وكذا الفواكه التي لا تجفّف والبقول.

وأمّا إن باع بعض الجنس الواحد ببعض مع اختلاف الحالين ، كبيع الرطب بالتمر ، والعنب بالزبيب ، واللحم الطري بالمقدَّد ، والحنطة المبلولة باليابسة ، والفاكهة الجافّة بالرطبة ، فالمشهور عند علمائنا : المنع وإن تساويا قدراً - وبه قال سعد بن أبي وقّاص وسعيد بن المسيّب ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد(٣) - لما رواه الجمهور : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سُئل عن بيع الرطب بالتمر ، فقال : « أينقص الرطب إذا يبس؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « فلا إذَنْ »(٤) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام

____________________

(١) مختصر المزني : ٧٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨١ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٣ ، شرح السنّة - للبغوي - ٥ : ٦٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨١ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ ، المغني ٤ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦٤.

(٣) المغني ٤ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦١ ، بداية المجتهد ٢ : ١٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨١ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٣ ، شرح السنّة - للبغوي - ٥ : ٥٩ - ٦٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.

(٤) سنن الدار قطني ٣ : ٥٠ / ٢٠٦ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٣٨ ، المغني ٤ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩.

١٩٠

قال : « لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أنّ اليابس يابس والرطب رطب ، فإذا يبس نقص »(١) .

ولأنّه جنس يجري فيه الربا بِيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان في حال الكمال والادّخار ، فوجب أن لا يجوز ، كالحنطة بالدقيق.

وقال بعض(٢) علمائنا بالجواز مع التساوي - وبه قال أبو حنيفة(٣) - لأنّ الصادقعليه‌السلام سُئل عن العنب بالزبيب ، قال : « لا يصلح إلّا مِثْلاً بمثل » قال : « والتمر والرطب مِثْلاً بمثل»(٤) .

ولأنّه وجد التساوي فيه كيلاً حال العقد ، فالنقصان بعد ذلك لا يؤثّر فيه ، كالحديث والعتيق.

والرواية ضعيفة ؛ لأنّ سماعة في طريقها. والقياس لا يُسمع في مقابلة النصّ ، مع قيام الفرق ؛ فإنّ الحديث والعتيق على صفة الادّخار ولقلّة النقصان فيه لا يمكن الاحتراز عنه.

فروع :

أ - نبّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « أينقص إذا جفّ؟ »(٥) على علّة الفساد ، وأنّ المماثلة عند الجفاف تعتبر - وإلّا فهوعليه‌السلام يعلم النقصان عند الجفاف - [ و ](٦) جَعْل الوصف المنصوص عليه علّةً بالنصّ يقتضي‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٩٤ / ٣٩٨ ، الاستبصار ٣ : ٩٣ / ٣١٤.

(٢) هو ابن إدريس في السرائر ٢ : ٢٥٨ - ٢٥٩.

(٣) بدائع الصنائع ٥ : ١٨٨ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣١ ، شرح السنّة - للبغوي - ٥ : ٥٩ - ٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، المغني ٤ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦١.

(٤) التهذيب ٧ : ٩٧ / ٤١٧ ، الاستبصار ٣ : ٩٢ / ٣١٣.

(٥) اُنظر : المصادر في الهامش (٤) من ص ١٨٩.

(٦) أضفناها لأجل السياق.

١٩١

العموميّة في جميع صُور موارده.

ب - لا خلاف في جواز بيع الرطب بالتمر في صورة العرايا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

ج - قد بيّنّا عموميّة الحكم في جميع صُور الوصف الذي هو النقص عند الجفاف ، وأنّه لا يجوز بيع رطبه بيابسه ، سواء اتّفقت العادة بضبط الناقص أو لا. ويجوز عندنا بيع رطبه برطبه متساوياً ، خلافاً للشافعي(١) في الأخير.

وحكى إمام الحرمين وجهاً للشافعي في المشمش والخوخ وما لا يعمّ تجفيف رطبه أنّه يجوز بيع بعضه ببعض في حال الرطوبة ؛ لأنّ رطوبتها أكمل أحوالها ، والتجفيف ، في حكم النادر(٢) .

د - يجوز بيع الحنطة المقليّة بمثلها متساوياً وبغير المقليّة ؛ لقلّة الرطوبة فيها.

وخالف الشافعي(٣) فيهما معاً.

ه- لا يجوز بيع الحنطة وفروعها بالنخالة متفاضلاً ؛ لأنّهما جنس واحد ؛ حيث إنّ أصلهما الحنطة.

وقال الشافعي : يجوز ؛ لأنّ النخالة ليست مطعومةً(٤) .

ونحن نمنع التعليل بالطعم.

و - لا يجوز بيع الحنطة المسوّسة بالحنطة المسوّسة إذا لم يبق فيها‌

____________________

(١) اُنظر المصادر في الهامش (١) من ص ١٨٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٥ : ١٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦.

١٩٢

لبٌّ إلّا متساوياً ، خلافاً للشافعي ؛ فإنّه سوّغ البيع مع التفاضل ، حيث علّل بالطعم(١) . وهو ممنوع.

ز - المأكولات التي لا تكال ولا توزن كالمعدودات لا ربا فيها عندنا ، إلّا على رأي مَنْ يُثبت الربا في المعدودات.

وللشافعي قولان ، ففي القديم : لا ربا فيها. وفي الجديد : يثبت(٢) .

فعلى قولنا وقوله القديم يجوز التفاضل فيها ، كرُمّانة برُمّانتين وسفرجلة بسفرجلتين. وعلى الجديد لا يجوز بيع المتفاضل.

وأمّا مع التساوي : فإن كان ممّا ييبس وتبقى منفعته يابساً كالخوخ المشمّس ، فإذا جفّ ، جاز بيع بعضه ببعض متساوياً ، ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطباً عنده(٣) ، كما لا يجوز بيع الرطب بالرطب عنده(٤) .

وإن كان ممّا لا ييبس ولا ينتفع بيابسه كالقثّاء والخيار وشبههما ، ففي جواز بيع بعضه ببعض رطباً متساوياً قولان : المنع ، نصّ عليه في الاُم ؛ لأنّ بعضه يحمل من الماء أكثر من البعض. والجواز ؛ لأنّ معظم منفعته في حال رطوبته ، فجاز ، كاللبن باللبن. وكذا حكم الرطب الذي لا يصلح للتجفيف والعنب الذي لا يصلح لذلك(٥) .

ثمّ إنّ هذا المبيع إن كان ممّا لا يمكن كيله ، كالقثّاء والبطّيخ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٧ و ٢٧٨ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٣٤ - ٣٣٧ ، شرح السنّة - للبغوي - ٥ : ٤٤ ، المجموع ٩ : ٣٩٧ ، حلية العلماء ٤ : ١٤٨ - ١٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤ - ٤٥.

(٣ و ٤ ) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ و ٥٥.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٢ و ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ و ٥٥.

١٩٣

والخيار وما أشبهه ، فإنّه يباع بعضه ببعض وزناً متساويين عنده ، وإن كان ممّا يمكن كيله ووزنه ، كالتفّاح والخوخ الصغار ، فوجهان : جواز بيع بعضه ببعض وزناً ؛ لأنّه أحصر له. والكيل ؛ لأنّ الاُصول الأربعة كلّها مكيلة ، فرُدّت إليها(١) .

مسألة ٩٥ : يجوز بيع مُدّ حنطة فيها قَصَل‌ٌ - وهو عقد التبن - أو زُؤان - وهو حبّ أسود غليظ الوسط - أو تراب بمجرى العادة بمُدّ حنطة مثله أو بخالص من ذلك ، عند علمائنا ، وكذا إذا كان في أحدهما شعير ، سواء كثر عن الآخر أو ساواه ، وسواء زاد في الكيل أو لا ؛ عملاً بالأصل السالم عن الربا ؛ لأنّ التقدير تساويهما وزناً أو كيلاً. والقَصَل والزُّؤان والتراب بمجرى العادة والشعير لا يؤثّر ؛ لقلّته ، فأشبه الملح في الطعام والماء اليسير في الخلّ.

وقال الشافعي : لا يجوز بيعه بمثله ولا بالخالص. أمّا بمثله : فللاختلاف ؛ إذ قد يكون القَصَل وشبهه في أحدهما أكثر. وأمّا بالخالص : فلتفاضل الحنطتين. أمّا إذا كان التراب يسيراً جدّاً بحيث لا يزيد في الكيل ، فإنّه يجوز بيعه بمثله لا بالخالص. وكذا التبن الناعم جدّاً ؛ لأنّه لا يأخذ قسطاً من المكيال ؛ لأنّه يكون في خلل الحنطة ، فلا يؤدّي إلى تفاضل الكيل وتفاوت الحنطتين. ولا يجوز فيما يوزن وإن قلّ التراب ، عنده ؛ لأنّ قليله يؤثّر في الميزان(٢) .

تذنيب : حكم الدرديّ في الخَلّ والثفل في البزر‌ حكم التراب في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٨١ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٩ - ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤.

١٩٤

الحنطة.

تنبيه : لو كان أحد العوضين مشتملاً على الآخر غير مقصود ، صحّ مطلقاً ، كبيع دار مموّهة بالذهب بالذهب.

المطلب الثاني : في شرط التقدير.

قد عرفت أنّه يشترط في الربا أمران : الاتّحاد في الجنس ، وقد مضى. وكونهما مقدَّرين بالكيل أو الوزن إجماعاً.

وهل يثبت الربا مع التقدير بالعدد؟ الأصحّ : المنع ؛ عملاً بالأصل.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا يكون الربا إلّا فيما يكال أو يوزن »(١) .

وسُئلعليه‌السلام عن البيضة بالبيضتين ، قال : « لا بأس ما لم يكن فيه كيل ولا وزن »(٢) .

إذا تقرّر هذا ، فلا ربا إلّا فيما يكال أو يوزن مع التفاوت. ولو تساويا قدراً ، صحّ البيع نقداً.

ولو انتفى الكيل والوزن معاً ، جاز التفاضل نقداً ونسيئةً ، كثوبٍ بثوبين وبيضة ببيضتين ، سواء اختلفت القيمة أو اتّفقت.

مسألة ٩٦ : الأجناس الأربعة - أعني الحنطة والشعير والتمر والملح - مكيلة في عهده‌صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يباع بعضها ببعض إلّا مكيلةً. ولا يجوز بيع شي‌ء منها بشي‌ء آخر من جنسها وزناً بوزن وإن تساويا ، ولا يضرّ مع الاستواء في الكيل التفاوتُ في الوزن. وأمّا الموزون : فلا يجوز بيع بعضه‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٦ / ١٠ ، الفقيه ٣ : ١٧٥ / ٧٨٦ ، التهذيب ٧ : ١٧ /٧٤ ، و ١٩ ، ٨١ ، و ٩٤ ، ٣٩٧ ، و ١١٨ / ٥١٥ ، الاستبصار ٣ : ١٠١ / ٣٥٠.

(٢) التهذيب ٧ : ١١٨ / ٥١٣ ، الاستبصار ٣ : ١٠٠ - ١٠١ / ٣٤٩.

١٩٥

ببعض كيلاً ، ولا يضرّ مع الاستواء في الوزن التفاوتُ في الكيل - وبه قال الشافعي(١) - لأدائه إلى التفاضل في المكيال ؛ لاحتمال أن يتفاوتا بأن يكون أحدهما أوزن وأثقل من البعض ، فيأخذ الأخفّ في المكيال أكثر فيتفاضلا في الكيل ، وقد نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه(٢) .

أمّا لو تساويا في الثقل والخفّة وعلم التفاوت(٣) بينهما ، فالأقرب : الجواز - خلافاً للشافعي(٤) - لأنّ التفاوت اليسير لا اعتبار به ، كما في قليل التراب.

أمّا الملح إذا كان قِطَعاً كباراً ، فإنّه يباع وزناً ؛ لتجافيه في المكيال ، فيعتبر حاله الآن - وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٥) - نظراً إلى ما لَه من الهيئة في الحال.

والآخر : أنّه يسحق ويباع كيلاً(٦) . وليس بمعتمد.

وكذا كلّ ما يتجافى في المكيال يباع بعضه ببعض وزناً.

وأمّا ما عدا الأجناس الأربعة : فإنّ كان موزوناً على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو موزون. وكذا إن كان مكيلاً في عهدهعليه‌السلام ، حُكم فيه بالكيل ، فلو أحدث الناس خلاف ذلك ، لم يعتدّ بما أحدثوه ، وكان المعتبر تقرير الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو العادة في عهدهعليه‌السلام ، وبه قال الشافعي(٧) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٢١٠ / ١٥٨٧.

(٣) في « ق » : « التقارب » بدل « التفاوت ».

(٤) اُنظر : المصادر في الهامش (١).

(٥ و ٦ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.

(٧) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.

١٩٦

وحكي عن أبي حنيفة أنّه يعتبر فيه عادات البلدان(١) .

وقد روى ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة »(٢) .

ولأنّ المعتاد في زمانهعليه‌السلام يضاف التحريم إليه كيلاً أو وزناً ، فلا يجوز أن يتغيّر بعد ذلك ؛ لعدم النسخ بعدهعليه‌السلام .

وأمّا ما لم يكن على عهدهعليه‌السلام ولا عُرف أصله بالحجاز أو لم يكن أصلاً في الحجاز فإنّه يرجع فيه إلى عادة البلد ، وبه قال أبو حنيفة ؛ فإنّه قال : المكيلات المنصوص عليها مكيلات أبداً ، والموزونات موزونات أبداً ، وما لم ينصّ عليه فالمرجع فيه إلى عادة الناس(٣) ؛ لأنّ أنساً قال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ما وزن مِثْلاً بمِثْل إذا كان نوعاً واحداً ، وما كِيل منه مِثْلاً بمِثْل إذا كان نوعاً واحداً »(٤) .

ولأنّ غير المنصوص قد عُهد من الشارع ردّ الناس فيه إلى عوائدهم ، كما في القبض والحرز والإحياء ، فإنّها تُردّ إلى العرف ، وكذا هنا.

وللشافعي وجهان :

أحدهما : أنّه يردّ إلى عادة الحجاز في أقرب الأشياء شبهاً به ، كالصيد يتبع فيه ما حكمت الصحابة به في قتل المحرم. وما لم يحكم فيه بشي‌ء يردّ إلى أقرب الأشياء شبهاً به.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠.

(٢) مصابيح السنّة ٢ : ٣٣٨ ، ٢١٢١ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١٢ : ٣٩٢ / ٣٩٣ ، ١٣٤٤٩ ، حلية الأولياء ٤ : ٢٠ ، وفيها : « مكيال أهل المدينة ميزان أهل مكة ».

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٦٢ ، الكتاب - بشرح اللباب - ١ : ٢٦٦ - ٢٦٧.

(٤) سنن ، الدارقطني ٣ : ١٨ / ٥٨ ، المغني ٤ : ١٣٦ - ١٣٧.

١٩٧

والثاني : يعتبر عادة البلاد ويحكم فيه بالغالب ، كما في الحرز والإحياء والقبض حين ردّ الناس فيه إلى العرف. وينبغي أن يكون مع استواء البلاد فيه - فكأنّه لا يعلم الكيل أغلب عليه أو الوزن - أن يردّ إلى أقرب الأشياء شبهاً ؛ لتعذّر العرف فيه(١) .

فروع :

أ - ما أصله الكيل يجوز بيعه وزناً سلفاً وتعجيلاً ، ولا يجوز بيعه بمثله وزناً ؛ لأنّ الغرض في السلف والمعجّل بغير جنسه معرفة المقدار ، وهو يحصل بهما ، والغرض هنا المساواة ، فاختصّ البيع في بعضه ببعض به.

ب - إذا كان الشي‌ء يكال مرّة ويوزن اُخرى ولم يكن أحدهما أغلب ، فالوجه : أنّه إن كان التفاوت بين المكاييل يسيراً ، جاز بيع بعضه ببعضٍ متماثلاً وزناً وكيلاً. وإن كان التفاوت كثيراً ، لم يجز بيعه وزناً ، بل كيلاً.

وقال بعض الشافعيّة : إن كان أكبر جرماً(٢) ، اعتبر الوزن ؛ لأنّه لم يعهد في الحجاز الكيل فيما هو أكبر جرماً من التمر. وإن كان مثله أو أصغر ، فوجهان : الوزن ؛ لقلّة تفاوته. والكيل ؛ لعمومه ؛ فإنّ أكثر الشبه مكيل(٣) .

وقال بعضهم : ينظر إلى عادة الوقت(٤) .

____________________

(١) اُنظر العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨١.

(٢) أي : أكبر جرماً من التمر.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.

١٩٨

ج - لو كان الشي‌ء يباع في بعض البلاد جزافا وفي بعضها كيلا أو وزنا‌ ولم يكن له أصل أو لم يعرف ، قال الشيخ : يحكم بالربا بالاحتياط(١) .

وقيل : يحكم بعادة البلد الذي يقع فيه(٢) .

د - لو اختلفت البلدان فكان في بعضها يباع كيلا وفي بعضها يباع وزناً وفي بعضها جزافاً ، فالوجه : ما تقدّم أيضاً من أنّ لكلّ بلد حكم نفسه ، فيحرم التفاضل فيه إذا كان في بلد يكال أو يوزن. ويجوز في غيره.

وقال بعض الشافعيّة : الاعتبار بعادة أكثر البلدان ، فإن اختلفت العادة ولا غالب ، اعتبر بأشبه الأشياء به(٣) .

وقال بعضهم : الاعتبار بعادة بلد البيع(٤) .

ه- لا فرق بين المكيال المعتاد في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر المكاييل المحدثة بعده ، كما أنّا إذا عرفنا التساوي بالتعديل في كفّتي الميزان ، نكتفي به وإن لم نعرف قدر ما في كلّ كفّة.

و - لا بُدّ في المكيال من معرفة مقداره ، فلا يجوز التعويل على قصعة ونحوها ممّا لا يعتاد الكيل بها ، إلّا إذا عرف نسبتها إلى الصاع. وكذا الوزن لا بُدّ من اعتباره بالأرطال المعهودة المقدّرة في نظر الشرع ، فلو عوّلا على صنجة مجهولة ، لم يصحّ.

وقد يمكن الوزن بالماء بأن يوضع الشي‌ء في ظرف ويلقى على الماء وينظر إلى مقدار غوصة. لكنّه ليس وزناً شرعيّاً ولا عرفيّاً ، فيحتمل التعويل‌

____________________

(١) النهاية : ٣٧٨.

(٢) القائل هو المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ٤٥ ، والمختصر النافع : ١٢٧.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.

١٩٩

في الربويّات عليه.

مسألة ٩٧ : ما يباع كيلاً أو وزناً لا يجوز بيعه مجازفةً‌ - وبه قال الشافعي(١) - لما فيه من الغرر المنهيّ عنه.

ولقول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « ما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً فلا يصلح مجازفةً »(٢) .

وقال مالك : يجوز في البادية بيع المكيل دون الموزون جزافاً(٣) ؛ لأنّ المكيال يتعذّر في البادية ، وفي التكليف به(٤) مشقّة ، فجاز بالحزر والتخمين ، كبيع التمر بالرطب في العرايا.

والجواب : نمنع تعذّر المكيال ؛ لأنّه يمكن بالقصعة وشبهها ممّا لا يخلو أحد عنه غالباً ، ويُعلم تقديره إمّا تحقيقاً أو تقريباً. نعم ، الميزان يتعذّر غالباً. ويعارض بأنّ الكيل معنى يعتبر المماثلة والمساواة به فيما يجري فيه الربا ، فاستوى فيه الحضر والبادية كالوزن. وبيع العرايا مستثنى ؛ لحاجة الفقراء إلى الرطب.

فروع :

أ - المراد جنس المكيل والموزون وإن لم يدخلاه‌ إمّا لقلّته كالحبّة والحبّتين أو لكثرته كالزُّبْرة(٥) العظيمة.

ب - إذا خرج بالصنعة عن الوزن ، جاز التفاضل فيه ، كالثوب‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٤٤.

(٢) الفقيه ٣ : ١٤٣ / ٦٢٧ ، التهذيب ٧ : ١٢٢ / ٥٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١٠٢ / ٣٥٥.

(٣) حلية العلماء ٤ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٢.

(٤) في « ق ، ك» : وفي تكليفهم إيّاه.

(٥) أي : القطعة الضخمة من الحديد. لسان العرب ٤ : ٣١٦ « زبر ».

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493