مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن5%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148951 / تحميل: 5672
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١
٢

٣

٤

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن

كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء، والصّلاة والسّلام على عبده ورسوله الذي نُزّل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بُعداً من أبعاده، وحقيقةً من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية، وإليها يشير ابن عباس بقوله: إنّ القرآن يفسّره الزمان(١) .

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

__________________

(١) راجع النواة في حقل الحياة، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

٥

والحقّ يقال: انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامّة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية، بل وأتاح للمفسّرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامّة لم تكن معروفة من ذي قبل، وذلك بفضل تطور المناهج العلميّة المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً، وإلى ذلك يشير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جالٍ بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلّص من نشب، فانّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور »(١) .

كما أشار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية، وقال في معرض كلامه عن القرآن: « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحراً لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون »(٢) .

__________________

(١) الكافي: ٢ / ٥٩٩، كتاب فضل القرآن.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة رقم ١٩٨.

٦

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفيّاً على بلغاء العرب في صدر الرسالة، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

والله لقد سمعت من محمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو وما يعلى عليه(١) .

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة، وما هذا إلّا لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوّضهم الله سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام حين سأله السائل، وقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلّا غضاضة ؟ فقال الإمام: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة »(٢) .

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين، إحداهما: الكتاب، والأُخرى: العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ٣٨٧، طبع صيدا، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله: « وما يعلى ».

(٢) البرهان في تفسير القرآن، للسيد البحراني: ١ / ٢٨.

٧

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه، وردّ متشابهه إلى محكماته، وتمييز ناسخه عن منسوخه، وتفسير آيات أحكامه، وإيضاح قصصه وحكاياته، وأمثاله وأقسامه، واحتجاجاته ومناظراته، إضافة إلى بيان أسباب نزوله، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسّر آيات القرآن برمتها، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلّا بتفسير بعض السور، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد أنّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفرديّة والاجتماعيّة فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد، فيفسّرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد، كما

٨

يفسّرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص، وهكذا سائر الآيات، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام ٨٢٠ ه‍ )، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلّي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٦ )، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السّنة في تفسير آيات الأحكام كالجصّاص وغيره، فانّهم فسّروا آيات الأحكام حسب السور، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن »: يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربي مثلاً، بل طريقته في تفسيره: أنّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد، فمثلاً يقول: باب الطهارة، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها على حدّه، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة(١) .

ثمّ إنّ أوّل من توسّع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة، لكنّها جليلة في عالم التفسير، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد، لذا

__________________

(١) التفسير والمفسّرون: ٢ / ٤٦٥.

٩

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلاميّة، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماويّة.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح أنّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي والربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أيّة مسألة أُخرى من المسائل العقائديّة والمعارف العقليّة. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمّة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأيّ دين أنْ يتجلى في صورة « عقيدة سماويّة » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها، كما لا يمكن لذلك المنهج أنْ ينفذ إلى الأعماق والأفئدة بدونها.

ويجدر بالذكر أنّ عناية القرآن تركزت أساساً على إبلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (٢٠٠٠) آية، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (٢٨٨) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة، وما يمتُّ لهما بصلة.

١٠

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنيّة المبتكرة في موضوعها، وهي نعمة منَّ الله سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلّا أنْ أقدّم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه الله) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلّة القشيبة، وهو ( حفظه الله ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من الله سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

١٤ ذي الحجة الحرام من شهور عام ١٤٢٠ ه‍

١١
١٢

مراتب التوحيد

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

١. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ الله واحدٌ أحدٌ لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل إنّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

٢. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ الله تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة، إلّا أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم الله ـ مثلاً ـ هو « عين » ذاته، فذاته كلّها علم، في حين تكون ذاته كلها

١٣

« عين » القدرة، لا أنّ حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء، وحقيقة القدرة شيء آخر، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى، وكلتاهما « عين » الذات المقدّسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلوميّة » غير مفهوم « المخلوقيّة » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتّصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلّا « عين » الأُخرى، وهما « عين » ذاتنا، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آنٍ واحد.

٣. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك‍ :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

١٤

والتوحيد الأفعالي هو أنْ نعتقد بأنّ هذه « الآثار » المخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ الله الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمسَ وأعطاها خاصيّة الإشراق، وخلقَ النار وأعطاها خاصية الإحراق، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى: إنّ « التوحيد الافعالي » هو أنْ نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسببات، ما هو إلّا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته، وأنّ كل سبب وفاعل ـ بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما ـ قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلّا به.

ويندرج في ذلك « الإنسان »، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية، وعلّية بالنسبة لأفعاله، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً(١) إليه ذلك، بل هو بحول الله وقوّته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

__________________

(١) المراد من التفويض هو أنّ الله أعطاه الفاعليّة ثمّ هو يفعل ما يريد دون مشيئة الله وعلى نحو الاستقلال، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

١٥

إنّ « التوحيد الأفعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعيّة أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول: يعني مع الاعتراف بهذا، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلّا « الله » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة الله، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل، وأنّ هذه العلل ما هي إلّا وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها: وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول: إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات ـ في هذا الوجود ـ إلّا « الله »، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل »، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

١٦

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع، بل إنّ عادة الله هي التي جرت على أنْ يوجد الله النور بعد طلوع الشمس، والحرارة عند حضور النار، والقطع عند حضور السيف، وإنْ لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شكّ أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن(١) .

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلّا « الله »(٢) ولكن مع الاعتراف ـ إلى جانب ذلك ـ بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار »، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد، ونعني « الله » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى الله في أصل وجوده، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا ـ في الحقيقة ـ بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

__________________

(١) فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول:( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل: ١١ ) فإنّ قوله( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.

(٢) الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

١٧

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنويّة في الفاعلية والتأثير(١) .

٤. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده، وأنّه لا يستحق أحدٌ أنْ يُتّخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلّا لأحد سببين، لا يتوفران إلّا في « الله » جل جلاله :

١. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

__________________

(١) ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة.

فإنّ الفاعل عند هاتين الطائفتين ( الأشاعرة والمجبرة ) لا مشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنّها تستند إلى الله سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة ومشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً » !!

وأمّا الذي نقوله نحن فهو أنّ كل فاعل إنّما يعتمد ـ في فعله وأثره ـ على الله من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره. وأنّ للفاعل ـ مريداً كان أو غير مريد ـ دوراً في حدوث الأثر وبروزه وأنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلّا عن طريق هذا الفاعل.

وكم فرق بين أنْ ننسب أفعال الفاعل كلّها إلى الله مع نفي مشاركته فيها، وبين أنْ نعزي إمكانية التأثير إلى الله مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله.

وسوف يظهر لك الفرق بين المدرستين ـ بنحو أكثر تفصيلاً ـ في البحوث الآتية.

١٨

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى ـ مثلاً ـ بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

٢. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير الله ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلّا ل‍ ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا الله سبحانه لـِما وجودوا فيه من الجمال المطلق، والكمال اللامحدود، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدّسوه وخضعوا له وعظّموه.

أجلْ لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه، وأعطوه بلاءهم وولاءهم، حتى

١٩

أنّهم كانوا سيعبدونه ـ حتماً ـ حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « الله » لكونه خالقهم، ومصدر وجودهم وسابغ النعم عليهم، وواهب القدرة والطول لهم، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود(١) .

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة بالله وليس معه في ذلك شريك، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير الله أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إنْ شاء الله.

غير أنّنا مع تقديرنا لـِما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول: إنّ مراتب التوحيد ـ حسب نظر القرآن ـ لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن، من الصعب، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

__________________

(١) هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.

وعشا عن انواره مناوئوه، وعلى أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذ اكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.

ونقموا عليه سنه لانه كان في العقد الرابع. ولا عجب اذا رأى ذوو الحنكة المسنون، ان لا يكون الخليفة بعد رسول اللّه مباشرة، الا وهو في العقد السابع مثلاً.

وخفي عليهم ان الامامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة، ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات اللّه وتصريحات نبيه (ص). وكانت سن علي يوم وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سن عيسى بن مريم يوم رفعه اللّه عز وجل، أفيجوز لعيسى ان ينتهي بقصارى نبوته في الارض الى هذه السن، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها اللّه لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنيّ الانسان لما اختارها اللّه للمصطفين من عباده في الجنان.

ونقموا عليه قرباه « فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد » ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة - على هذا المنطق - سبباً لنقمة. ولا نفهم كيف كانت « القرابة » بموجتها القصيرة، وبما هي اقرب الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حائلاً دون الخلافة، ثم هي بموجتها الطويلة، وبما هي

٤١

أبعد عن النبي، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.

وحسبوا انهم أحسنوا صنعاً للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة، وبما فسحوا المجال لبيوتات اخرى، تتعاون - بدورها - على غزو المنصب الديني الأعلى، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.

وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لامته ولعترته، حين سجل الخلافة في بيته.

وجاءت الاحداث - بعد ذلك - فنبهت العقول الواعية الى اخطاء القوم وصواب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكانت « عملية الفصل » هذه، هي مثار الخلافات التاريخية الحمر، بين عشاق الخلافة في مختلف الاجيال، ومبعث مآسٍ فظيعة في المسلمين، ومصدر انعكاسات مزرية في مثالية الاسلام، كان المسلمون في غنى عنها لو قدّر للخلافة - من يومها الاول - ان تأخذ طريقها اللاحب الذي لا يجوز فيه اجتهاد، ولا تمسه سياسة، ولا يتصرف فيه احد غير اللّه ورسوله.

« وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى اللّه ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ».

وهل كان التناحر والتطاحن المديد العمر المتوارث مع الاجيال فيما بين الاسر البارزة في المسلمين، الا نتيجة فسح المجال لهذا او ذاك في الطماح الى غزو المقام الرفيع.

وهل كانت المجازر الفظيعة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من تاريخ الاسلام: بين بني هاشم وبني امية: وبين بني الزبير وبني امية: وبين بني العباس وبني امية: وبين بني علي وبني العباس الا النتيجة

٤٢

المباشرة لفصم ذلك التقليد الديني الذي احتاط به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليكون حائلاً دون امثال هذه المآسي والاحداث المؤسفة في الاسلام.

وهل كانت « فجائع العترة » الفريدة من نوعها - بالقتل والصلب والسبي والتشريد - الا اثر الخطأة الاولى، التي خولفت بها سياسة النبي (ص) فيما اراده لامته ولعترته، وفيما حفظ به امته وعترته جميعاً، لو انهم اطاعوه فيما اراد.

ولكنهم جهلوا مغزى هذه السياسة البعيدة النظر، فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، انصهاراً بسياسة اخرى.

وكانت هي المعذرة الظاهرة التي لم يجدوا غيرها معذرة يبوحون بها للناس. اما معذرتهم الباطنة، فلا يعلم بها الا العالم ببواطن الامور وهي على الاكثر لا تعدو الذكريات الدامية في حروب الدعوة الاسلامية، أو الحسد الذي « يأكل الدين كما تأكل النار الحطب » - كما في الحديث الشريف -.

وكان حب الرياسة وشهوة الحكم، شر أدواء الناس وبالاً على الناس، وأشدها استفحالاً في طباع الاقوياء من زعماء ومتزعمين.

وما النبوة ولا الامامة بما هما - منصب إلهي - من مجالات السياسة بمعناها المعروف، وكل سياسة في النبوة أو في شيء من ذيولها الادارية، فهو دين والى الدين. والمرجع الوحيد في كل ذلك، هو صاحب الدين نفسه، وكلمته هي الفصل في الموضوع.

ولكي تتفق معي على مسيس اتصال هذه المناسبة بموضوعنا اتصالاً وشيجاً، عليك ان تتطلع الى اللغة المتظلمة الناقمة التي ينكشف عنها الحسن بن عليعليهما‌السلام في هذا الشأن، بما كتبه الى معاوية، ابان البيعة له في الكوفة. قال:

٤٣

« فلما توفي - يعني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله - تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته واولياؤه، ولا يحل لكم ان تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب ان القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم في امر محمد. فأنعمت لهم وسلمت اليهم، ثم حاججنا(١) نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا اهل بيت محمد واولياءه الى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه وهو الولي النصير.

« ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين ان يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.

« فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وانت ابن حزب من الاحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار!! »(٢) .

وهكذا نجد الحسنعليه‌السلام ، يعطف - بالفاء - عجبه من توثب معاوية على تعجبه لتوثب الاولين عليهم في حقهم وسلطان بيتهم. ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيته بقضايا الخلائف السابقين، وتنبثق معها مناسبات اخرى. بعضها للاخوين. وبعضها للابوين. وبعضها للحق العام.

__________________

١ - وكان من افظع النكايات بقضية اهل البيت:، ان تختفي كل هاتيك المحاججات في التاريخ. ثم لا نقف منها الا على النتف الشاردة التي اغفلتها الرقابة العدوة عن غير قصد وهنا الذكر قول الشاعر المجدد الحاج عبد الحسين الازري:

اقرأ بعصرك ما الاهواء تكتبه

ينبئك عما جرى في سالف الحقب

٢ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٢ ).

٤٤

وما نحن بالذاكرين شيئاً منها هنا، لانا لا نريد ان نتصل بهذه البحوث، في سطورنا هذه، الا بمقدار ما تتصل هي بالصميم من موضوعنا.

وعلمنا ان الرشاقة السياسية البارعة التي ربحت الموقف بعد وفاة رسول اللّه (ص) في لحظات، والتي سماها كبير من اقطابها « بالفلتة » وسماها معاوية « بالابتزاز للحق والمخالفة على الامر(١) »، كانت بنجاحها الخاطف دليلاً على سبق تصميم في الجماعات التي وليت الحل والعقد هناك. فكان من السهل ان نفهم من هذا التصميم « اتجاهاً خاصاً » نحو العترة من آل محمد (ص) له اثره في حينه، وله آثاره بعد ذلك.

فكانوا المغلوبين على امرهم، والمقصيين - عن عمد - في سائر التطورات البارزة التي شهدها التاريخ يومئذ(٢) .

فلا الذي عهد بالخلافة قدمهم. ولا الذي حصر الخليفة في الثلاثة من الستة انصفهم. ولولا رجوع الاختيار الى الشعب نفسه مباشرة، بعد حادثة الدار، لما كان للعترة نصيب من هذا الامر على مختلف الادوار.

__________________

١ - تجد ذلك صريحاً فيما كتبه معاوية لمحمد بن ابي بكر. قال: « كان ابوك وفاروقه اول من ابتزه - يعني علياًعليه‌السلام - حقه وخالفه على امره. على ذلك اتفقا واتسقا، ثم انهما دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وارادوا به العظيم. ثم انه بايع لهما وسلم لهما. واقاما لا يشركانه في امرهما، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه - ثم اردف قائلاً -: فان يك ما نحن فيه صواباً، فابوك استبد به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل ابوك من قبل، ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا اليه، ولكنا رأينا اباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله » اه المسعودي على هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٧٨ - ٧٩ ).

٢ - ونجد في كلمات امير المؤمنين (ع) شواهد كثيرة على ذلك. قال: « فواللّه ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض اللّه نبيه حتى يوم الناس هذا ». وقال: اللهم اني استعديك على قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي امراً هو لي

٤٥

ثم كان لهذا « الاتجاه الخاص » أثره في خلق معارضة قوية للعهدين اللذين رجعا بامرهما الى العترة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي حروب البصرة وصفين فمسكن شواهد كثيرة على ما نقول.

وفي موقف ابن عمر(١) وسعد بن ابي وقاص واسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وقدامة بن مظعون وعبد اللّه بن سلام وحسان بن ثابت وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وهم « القعّاد » الذين آثروا الحياد، واستنكفوا من البيعة لعلي ولابنه الحسنعليهما‌السلام شواهد اخرى.

ولهذه المعارضة ميادينها المختلفة والوانها المتعددة. ومنها المواقف السلبية النابية التي جوبه بها زعماء العترةعليهم‌السلام ، في المدينة اولاً، وفي الكوفة اخيراً.

والا فما الذي كان يحدو علياًعليه‌السلام ، ليقول من على منبره في الكوفة:

« يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الاطفال وعقول ربات الحجال، أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني الى رحمته من بينكم، ووددت أني لم أركم ولم أعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظاً. وجرعتموني الامرين أنفاساً. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان »

الى كثير مما يشبه هذا القول، مما أثر عنه في خطبه وكلماته.

اليست هي المعارضة التي زرعت نوابتها الخبيثة في كل مكان من حواضر عليعليه‌السلام ، فأخذت على الناس التقاعس عن نصرته بشتى المعاذير.

____________

١ - قال المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٥ ص ١٧٨ - ١٧٩ ): « ولكن عبد اللّه بن عمر بايع يزيد بعد ذلك وبايع الحجاج لعبد الملك بن مروان!. » ورأى المسعودي ان يسمى هؤلاء « القعاد » بالعثمانية. ورأى ابو الفدا ( ج ١ ص ١٧١ ) ان يسميهم « المعتزلة » لاعتزالهم بيعة علي (ع) - اقول: وما هم بالعثمانية ولا المعتزلة ولكنهم الذين ماتوا ولم يعرفوا امام زمانهم.

٤٦

أقول هذا. ولا اريد ان أتتاسى - معه - العوامل الاخرى التي شاركت « الاتجاه » - الآنف الذكر - في تكوين هذه المعارضة بموقفيها - الايجابي المسلح والسلبي الخاذل - تجاه العترة النبوية في العهد الهاشمي الكريم.

ولا أشك بان العدل الصارم، والمساواة الدقيقة في التوزيع التي كانت طابع هذا العهد، بل هي - دون ريب - طابع العهود الهاشمية مع القرن الاول، في نبوتها وفي خلافتها. - هي الاخرى التي تحسس منها الناس أو قسم من الناس، بشيء من الضيق لا يتسع للطاعة المطلقة ولا للاخلاص الحر اللذين لن ينتفع بغيرهما في ميدان سلم أو ميدان حرب.

والظروف الطارئة بمقتضياتها الزمنية التي طلعت بها على الناس خزائن الممالك المهزومة في الفتوح، والطعوم الجديدة من الحياة التي لا عهد لهؤلاء الناس بمثلها من قبل - كل ذلك، كان له أثره في خلق الحس المظلم الذي من شأنه ان يظل دائماً في الجهة المعاكسة للنور.

وفي بحران هذا « الاتجاه الخاص » الذي تعاون على تكوينه ربع قرن من السنين، يتمثل عهد عليعليه‌السلام في خلافته قبل بيعة الحسن في الكوفة.

والحسن من عليعليهما‌السلام كبير ولده، وولي عهده، وشريك سرائه وضرائه، يحس بحسّه ويألم بألمه. وهو - اذ ذاك - على صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بابيه من قومه ومن رعيّته ومن أعدائه، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها، وكان ينطوي ممّا يدور حوله على شجى مكتوم، يشاركه فيه أخوه كما يشاركه في اخوّته. وكان هذا الشجى المكتوم، هو الشيء الظاهر مما خلف به هؤلاء المسلمون - يومئذ - نبيَّهم في عترته، جواباً على قوله (ص) لهم: « فانظروا كيف تخلفوني فيهما!! ».

٤٧

وكان الحسنعليه‌السلام ، اذ ينطوي على هذا الشجى، لا يلبث ان يستروح الامل - أحياناً - بما يجده في صحابة أبيه البهاليل من النجدة والحيوية والمفاداة وشمائل الاخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في دنيا، ولا شائبة هوى في سياسة.

ومن هؤلاء، القواد العسكريون، والخطباء المفوّهون. والفقهاء والقراء والصفوة الباقية من بناة الاسلام. كانوا - بجدارة - العدة التي يستند عليها امير المؤمنين، في حربه وسلمه. وكانوا - بحق - دعامة العهد الهاشمي فيما تعرض له هذا العهد، من زلازل وزعازع واخطار.

وكانوا المسلمين الذين وفوا لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما واثقوه عليه في ذريته، بأن يمنعوهم بما يمنعون به انفسهم وذراريهم. فلم لا يستروح الحسن بهم روائح الامل لقضية ابيه، بل لقضية نفسه.

وكانوا المؤمنين الذين آمنوا بكلمات اللّه في اهل بيت نبيهم وذوي قرباه وآمنوا بوصيّنبيهم، وبمراتبه التي رتبها اللّه له أو رتّبه لها. وفهموا علياً كما يجب أن يفهم. وعليٌّ هو ذلك البطل الذي لم يحلم المسلمون بعد رسول اللّه (ص) بمثله، اخلاصاً في الحق، وتفادياً في الاسلام، ونصحاً للمسلمين، واستقامة على العدل، واتساعاً في العلم. ولن ينقص علياً في كبرياء معانيه، جحود الآخرين فضائله ومميزاته، ولهؤلاء الآخرين من مطامعهم واهوائهم شغل شاغل يملأ فراغ نفوسهم. وما في ملاكات عليعليه‌السلام متسع للاهواء والمطامع. فليكن هؤلاء - دائماً - في الملاكات البعيدة عن علي، وليكونوا في المعسكر الذي يقوم على المساومة بالمال والولايات

وليكن مع علي زمرته المنخولة تلك، المسلمة اسلامها الصحيح امثال عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وحذيفة بن اليمان، وعبد اللّه وعبد الرحمن ابني بديل، ومالك بن الحارث الاشتر، وخباب بن الارت، ومحمد بن ابي بكر، وابي الهيثم بن التيهان، وهاشم بن عتبة

٤٨

ابن ابي وقاص ( المرقال )، وسهل بن حنيف، وثابت بن قيس الانصاري، وعقبة بن عمرو، وسعد بن الحارث بن الصمة، وابي فضالة الانصاري، وكعب بن عمرو الانصاري، وقرضة بن كعب الانصاري، وعوف بن الحارث بن عوف، وكلاب بن الاسكر الكناني، وابي ليلى بن بليل واضراب هؤلاء من قادة الحروب وأحلاس المحاريب، الذين انكروا الظلم، واستعظموا البدع، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتسابقوا الى الموت في سبيل اللّه، استباق غيرهم الى المطامع في سبيل الدنيا.

ومن الخير، أن ننبّه هنا، الى ان جميع هذه الصفوة المختارة كانت قد استشهدت في ميادين عليعليه‌السلام ، وان ثلاثاً وستين بدرياً استشهد معهم في صفين(١) وحدها، وان أضعاف هذه الاعداد كانت خسائر الحروب المتعاقبة مدى ثلاث سنوات.

فما ظنك الآن، بذلك الامل الذي كان يداعب الحسنعليه‌السلام بوجود الانصار، وهل بقي للحسن - بعد هذا - الا الشجى المكتوم، مضاعفاً على تضاعيف الايام.

اما معسكر عليعليه‌السلام ، فقد نكب نكبته الكبرى، حين أصحر من خيرة رجالاته، ومراكز الثقل فيه.

واما دنيا عليعليه‌السلام ، فقد عادت لسقيا الغصص وشرب الرنق - على حد تعبيره هو فيما ندب به أصحابه عند مصارعهم -.

وتلفّت عليّ الى آفاقه المترامية التي تخضع لامره، فلم يجد بين جماهيرها المتدافعة، من ينبض بروح اولئك الشهداء، أو يتحلى بمثل مزاياهم، اللهم الا النفر الاقل الذي لا يناط به أمل حرب ولا أمل سلم.

ولولا قوة تأثيره في خطبه، وعظيم مكانته في سامعيه، لما تألف له - بعد هؤلاء - جيش، ولا قامت له بعدهم قائمة.

__________________

١ - اسم موضوع على شاطئ الفرات بين « عانة » و « دير الشعار ». كان ميدان الحروب الطاحنة بين الكوفة والشام.

٤٩

وهكذا أسلمته ظروفه لان يكون هدف المقاطعة من بعض، وهدف العداء المسلح من آخرين، وهدف الخذلان الممقوت من الاتباع ( فلا اخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء ).

وأيّ حياة هذه التي لا تحفل بأمل، ولا ترجى لنجاح عمل. وقد أزمع فيها الترحال عباد اللّه الاخيار، الذين باعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى.

فسُمِعَ وهو يقول ( اللهم عجل للمراديّ شقاءه ) وسُمِعَ وهو يقول ( فما يحبس أشقاها ان يخضبها بدم أعلاها )، وسُمِعَ وهو يقول ( أما واللّه لوددت ان اللّه أخرجني من بين أظهركم وقبضني الى رحمته من بينكم ).

وسلام عليه يوم وُلِد. ويوم سبق الناس الى الاسلام. ويوم صنع الاسلام بسيفه. ويوم امتحن. ويوم مات. ويوم يبعث حياً.

وترك من بعده لولي عهده، ظرفه الزمنّي النابي، القائم على اثافيّه الثلاث - فقر الأنصار. والعداء المسلَح. والمقاطعة الخاذلة.

٥٠

البيعة

٥١

اذا كان الدين في الاسلام، هو ما يبلّغه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لانه الذي لا ينطق عن الهوى « ان هو الا وحي يوحى »، واذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعيّنه النبي للخلافة، لانه المرجع الأعلى في الاثبات والنفي، فالحسن بن علي، هو الخليفة الشرعي، بايعه الناس أو لم يبايعوه.

ذكره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر، كما تضافر به الحديث عنه، فيما رواه علماء السنة(١) ، وفيما أجمع على روايته علماء الشيعة، وفيما اتفق عليه الفريقان، من قوله له ولاخيه الحسين: « انتما الامامان ولأُمَّكما الشفاعة(٢) ». وقوله وهو يشير الى الحسين: « هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة(٣) » - الحديث -.

وأمره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتل - أن يصلي(٤) بالناس، وأوصى اليه عند وفاته قائلاً: « يا بنيّ أنت ولي الامر وولي الدم، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ودفع اليه الكتاب والسلاح، ثم قال له: « يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن اوصي اليك، وأن أدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصى اليّ رسول اللّه ودفع اليّ

__________________

١ - تجد ذلك مفصلاً في ينابيع المودة ( ج ٢ ص ٤٤٠ ) فيما يرويه عن الحمويني في فرائد السمطين، وعن الموفق بن احمد الخوارزمي في مسنده. وروى ذلك ابن الخشاب في تاريخه وابن الصباغ في « الفصول المهمة »، والحافظ الكنجي في « البيان ». وأسعد بن ابراهيم بن الحسن بن علي الحنبلي في « أربعينه ». والحافظ البخاري ( خاجه بارسا ) في « فصل الخطاب ».

٢ - الاتحاف بحب الاشراف، للشبراوي الشافعي ( ص ١٢٩ ط مصر ) ونزهة المجالس. للصفوري الشافعي ( ج ٢ ص ١٨٤ ).

٣ - ابن تيمية في منهاجه ( ج ٤ ص ٢١٠ ).

٤ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٦١ ).

٥٢

كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك، اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين ». ثم أقبل على الحسين فقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك هذا ». ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك محمد. فأقرِئه من رسول اللّه ومني السلام »(١) .

صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة، الى مراجعها من اهل البيتعليهم‌السلام وغيرهم. وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها. والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك؟

وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الامامة.

- نصوص نبوية متواترة من طرقهم، ومروية بوضوح من طرق غيرهم، تحصر الامامة في اثني عشر اماماً كلهم من قريش(٢) ، وتذكر - ضمناً - أو في مناسبة اخرى، أسماءهم اماماً اماماً الى آخرهم، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الارض قسطاً وعدلاً، بعد أن تكون قد امتلأت ظلماً وجوراً.

- ونصوص خاصة، من كل امام على خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس.

ثم يكون من تفوّق الامام، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته، أدلة وجدانية اخرى، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها.

__________________

١ - اصول الكافي ( ص ١٥١ ) وكشف الغمة ( ص ١٥٩ ) وغيرهما.

٢ - ففي صحيح مسلم ( ج ٢ ص ١١٩ ) في باب « الناس تبع لقريش » عن جابر بن سمرة قال: « سمعت رسول اللّه (ص) يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ». وروى نحواً منه البخاري ( ج ٤ ص ١٦٤ ) وابو داود والترمذي في جامعه والحميدي في جمعه بين الصحيحين. ورواه غيرهم. والحديث بحصره العدد في الاثني عشر من قريش، وبما يفصله صحيح مسلم من كون هذا العدد هو عدد الخلفاء الى ان تقوم الساعة، صريح بما يقوله الامامية في ائمتهم، دون ما وقع في التاريخ من أعداد الخلفاء ومختلف عناصرهم.

٥٣

اما بيعة الناس فليست شرطاً في امامة الامام. وانما على الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية. ولا تصحّح الامامية بيعة غيره. ولا تقع من أحدهم الا اضطراراً.

وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة، أن لا يبايع الناس من الائمة المنصوص عليهم، الا الامامين علياً والحسنعليهما‌السلام .

وابتدأ بعد الحسن عهد « الخلافات » الاسمية، التي ترتكز في نفوذها على السلاح، وتقوم في بيعتها على شراء الضمائر بالمال. أو كما قال الغزالي « وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق(١) ».

وكان الاولى بالمسلمين، أو بمؤرخة الاسلام على الاخص، ان يغلقوا عهد « الخلافة » بنهاية عهد الحسنعليه‌السلام ، ليشرعوا بعده عهد « الملك » بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوّةً بما ترسَّمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا على المسلمين خلافاتهم فرضاً، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميّهم « الخلفاء » من دون استحقاق لهذا الاسم، وأساء الى الاسلام من حيث أراد الاحسان.

ترى، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبهاً بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام، أن يصلي « الجمعة » يوم الاربعاء، أو يصليها مرةً اخرى في ضحى النهار، أو يتطلب محرماً، أو يبيع الذهب باكثر منه وزناً، أو يلحق العهار بالنسب، أو يقتل المؤمن صبراً، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز على اخوانه المسلمين بالحرب؟ الى غير ذلك والى أنكى من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها الى الدين. فَلمَ لا يكون صاحبها رئيس دنيا و « ملكاً » بدل أن نسميه رئيس دينٍ و « خليفةً »؟. وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن - نعتها اللائق بها -. فماذا كان من يزيد وماذا كان من

__________________

١ - تراجع « دائرة المعارف » لفريد وجدي مادة « حسن » ( ج ٣ ص ٢٣١ ).

٥٤

عبد الملك ومن الوليد، ومن آخرين وآخرين.

كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين الى الانتصاف للاسلام، فلا يضيفون الى مراكزه الدينية العليا، الا الاكفاء المتوفرين بتربيتهم على مثاليّته والذين هم أقرب الناس شبهاً بمصدر عظمته الاول (ص).

وعلمنا - مما تقدم - أن الحسن بن عليعليهما‌السلام ، كان أشبه الناس برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقاً وخلقاً وهيأة وسؤدداً(١) . وانه كان عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك. وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة. والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع. و « السيد » المطلق لقبه الشخصيّ الذي لقبه به جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسباً، وخيرهم أباً واماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة. كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية(٢) .

فلم لا يكون - على هذا - هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة. كما كان - الى ذلك - هو الامام المقطوع على أمره بالنص. ولم لا يضاف

__________________

١ - الارشاد ( ص ١٦٧ ) واليعقوبي ( ج ٢ ص ٢٠١ ) وغيرهما.

٢ - قال معاوية ذات يوم - وعنده اشراف الناس من قريش وغيرهم: « اخبروني بخير الناس اباً واماً وعماً وعمة خالاً وخالة وجداً وجدة »، فقام مالك بن العجلان، فأومأ الى الحسن فقال: « ها هو ذا ابوه علي بن ابي طالب، وامه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمه جعفر الطيار في الجنان، وعمته ام هانئ بنت ابي طالب، وخاله القاسم ابن رسول اللّه وخالته بنت رسول اللّه زينب، وجده رسول اللّه، وجدته خديجة بنت خويلد ». فسكت القوم. ونهض الحسن. فاقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: « أحب بني هاشم حملك على ان تكلمت بالباطل؟ ». فقال ابن العجلان: « ما قلت الا حقاً، وما احد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق، الا لم يعط امنيته في دنياه، وختم له بالشقاء في آخرته. بنو هاشم انضرهم عوداً، وأوراهم زنداً، كذلك يا معاوية؟ قال: اللهم نعم ». ( البيهقي ج ١ ص ٦٢ ).

٥٥

اليه المركز الدينيّ الأعلى، وهو من عرفت مقامه وسموّه ومميزاته. واذا تعذر علينا أن نفهم الامامة والكفاءة للخلافة، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلى، فأي علامة اخرى تنوب عنها أو تكفينا فهمها.

خرجعليه‌السلام الى الناس، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه، ولكنه وقف على منبر أبيه، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه.

فقال: « لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم، وانزل القرآن. وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله(١) ».

وتأبين الحسن هذا - بأسلوبه الخطابي - فريد لا عهد لنا بمثله، لانه - كما ترى - لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم أفضل درجاتها، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسنعليه‌السلام ، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء؟. ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به، هي التي سدّت عليه - وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب - أبواب القول فيما ينبغي أن يقول، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً، فكان في اختيار

__________________

١ - اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩٠ ) وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦ ) ومقاتل الطالبيين.

٥٦

الاسلوب الخاص، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات.

نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين على غير هذا الاسلوب، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء.

انه ينظر اليه من زاويته الربانية - نظر امام الى امام - فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم، ولا يضاهيه - في شتى مراحله - وليٌّ ولا زعيم.

رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسى، ويموت يوم يموت موسى، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا، الى جنب هذه المكرمات الكرائم، حتى يعرض اليها في تأبينه.

ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع « الفريد » فيما أبن به الحسن أباهعليهما‌السلام ، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد.

وهذه احدى مواقفه الخطابية، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب، من جده ومن أبيه ( صلى اللّه عليهما وعلى آلهما ). وسيكثر منذ اليوم أمثالها، من الحسن « الخليفة »عليه‌السلام ، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.

٥٧

ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع - وقد غص بالناس - ابن عمه « عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب ». ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيهعليهما‌السلام .

ثم قال - بصوته الجهوريّ الموروث - الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم، الا داعي السماء الى الارض:

« معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي امامكم فبايعوه » « يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه، ويهديهم الى صراط مستقيم ».

وفي الناس الى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على امامته بعد ابيه. فقالوا: « ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ». وبادروا الى بيعته راغبين.

وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة ابيهعليه‌السلام ، سنة اربعين للهجرة(١) .

وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته - معها - البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم « جارية بن قدامة »، وفارس على يد عاملها « زياد بن عبيد »، وبايعه - الى ذلك - من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته - فيما نعلم - الا معاوية ومن اليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس. وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.

__________________

١ - يرجع فيما ذكرناه هنا الى شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١١ ) وذكر غيره مكان عبيد اللّه أخاه عبد اللّه. وسنشير في فصل « القيادة والنفير » الى ان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.

٥٨

اما الخلافة الشرعية. فقد تمت « على ظاهرتها العامة » من طريق البيعة الاختيارية، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، امتداداً لمادة النور النبويّ، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.

فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر:

نال الخلافة اذ كانت له قدراً

كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

ويعود الامام الحسنعليه‌السلام - بعد أن أُخذت البيعة له - فيفتتح عهده الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار

فيقول. ( وهو بعض خطابه ):

« نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه الاقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّ وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال: ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ».

ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله:

٥٩

« واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون. فستلقون للرماح وردا، وللسيوف جزرا، وللعُمُد حطما، وللسهام غَرَضا. ثم لا ينفع نفساً ايمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً(١) »

ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمَّر الامراء ونظر في الامور(٢) .

قبول الخلافة

وتحذلق بعض المترفهين بالنقد، فرأى من « التسرع » قبول الحسن للخلافة، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج، بعضها ألم، وبعضها خسران.

ولكي نتبين مبلغ الاصابة في التسرع الى هذا النقد. نقول:

اما اولاً:

فلما كان الواجب على الناس ديناً، الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه، كان الواجب على الامام - مع قيام الحجة بوجود الناصر - قبول البيعة من الناس.

اما قيام الحجة - فيما نحن فيه - فقد كان من انثيال الناس طواعية الى البيعة في مختلف بلاد الاسلام، ما يكفي - بظاهر الحال - دليلاً عليه. ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.

واما ثانياً:

فان مبعث هذا الانعكاس البدائي، عن قضية الحسنعليه‌السلام هو

__________________

١ - روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار ( ج ١٠ ص ٩٩ ) والمسعودي.

٢ - وروى هذا النص اكثر المؤرخين.

 

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672