مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149963 / تحميل: 5731
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة.

في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلّا حادثة واحدة فقط، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط.

ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان :

نشأة باسم الباطن.

وأُخرى باسم الظاهر.

وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان :

مرحلة الوجود الجمعي الدفعي.

ومرحلة الوجود التدريجي.

بل ليس للظاهرة ـ في الحقيقة ـ تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد، وتحقّق واحد، يرى تارة في صورة المجتمع، وأُخرى في صورة المتفرّق.

وأمّا الاختلاف ـ لو كان ـ فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر.

٢. انّ حضور الحوادث والظواهر عند الله دليل على علم الله بها جميعاً، لأنّ حقيقة العلم ليست إلّا حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من

١٠١

فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه.

ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم الله بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه.

وبعبارة أُخرى لو كان هدف الآية هو بيان أنّ الله أخذ من بني آدم « الإقرار » بربوبيته والشهادة بها من جهة حضور هذه الموجودات لدى الله ـ كما تفيده هذه النظرية ـ يلزم علم الله بهذه الموجودات والحوادث لا علم هذه الحوادث والموجودات بالله تعالى، فلا يتحقّق معنى الشهادة والإقرار.

فإنّه ربّما يتصور إنّ حضور الأشياء عند الله كما يستلزم علمه بها، كذلك يستلزم علم تلك الموجودات بالله.

ولكن هذا وهم خاطئ وتصور غير سليم، لأنّ الحضور إنّما يكون موجباً للعلم إذا اقترن بقيام الشيء بالله وإحاطته سبحانه بذلك الشيء، ومثل هذا الملاك موجود في جانب الله حيث إنّه قيوم [ تقوم به الأشياء ]محيط بالكون في حين أنّه لا يوجد هذا الملاك في جانب الموجودات، لأنّها محاطة وقائمة بالله ( أي ليست محيطة بالله ولا أنّ الله سبحانه قائم بها حتى تعلم هي به تعالى ).

٣. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير.

نعم غاية ما يمكن قوله هو أنّ هذه النظرية تكشف عن أحد أبعاد هذه الآية، لكنَّه ليس البعد المنحصر والوحيد.

هذا مضافاً إلى أنّ ألفاظ هذه الآية مثل قوله:( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) ونظائره الذي هو بمعنى أخذ الشهادة والاعتراف والإقرار لا يتلاءم ولا ينسجم

١٠٢

مع هذا التفسير.

النظرية الرابعة

وتظهر هذه النظرية من الشريف المرتضى في أماليه، وإليك نص ما قاله الشريف بلفظه:(١)

إنّ الله تعالى إنّما عنى جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله: بمعرفته وما يجب من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به لئلاّ يقولوا يوم القيامة:( إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وحاصل هذا الكلام وتوضيحه أنّ الله تعالى أخذ الاعتراف من جماعة خاصة، من البشر، وهم العقلاء الكاملون، لا من جميع البشر.

وقد أخذ هذا الاعتراف والميثاق حيث أخذ بواسطة الرسل والأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى البشرية في هذه الدنيا.

وهذه النظرية مبنية على كون « من » في قوله سبحانه:( مِن بَنِي آدَمَ ) تبعيضية لا بيانية، ولأجل ذلك يختص بالمقتدين بالأنبياء.

ويمكن تأييد هذه النظرية بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخذ منهم الاعتراف في بعض المواضع على اختصاصه تعالى بالربوبية، كما يحدّثنا القرآن الكريم إذ يقول:( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (٢) ، وما يشابههما من الآيات التي أخذ فيها الاعتراف من الأشخاص ،

__________________

(١) الأمالي: ١ / ٢٩.

(٢) المؤمنون: ٨٦ ـ ٨٧.

١٠٣

وسيوافيك بعض هذه الآيات عند البحث في التوحيد الخالقي والربوبي.

ولكن ضعف هذه النظرية ظاهر، إذ مآلها انّ المؤمنين بكل نبي هم الذين اعترفوا ـ دون سواهم ـ بتوحيده سبحانه.

ولو كان مقصود الآية هو هذا، لكان ينبغي أن يكون التعبير عنه بغير ما ورد في الآية.

ثم إنّه يجب أن يكون تعبير القرآن عن المعاني الدقيقة بأوضح العبارات وأحسنها وأبلغها.

فلو كان مقصوده تعالى هو اعتراف جماعة خاصة ممَّن اقتدوا بالرسل، بتوحيده سبحانه، لوجب أن يبين ذلك بغير ما ورد في الآية من بيان.

هذه هي الآراء والنظريات التي أبداها المفسرون الكبار حول مفاد آية الميثاق والذر ونحن نأمل أن يستطيع المحقّقون ـ في المستقبل ـ من إيقافنا على معنى أوضح وأكثر انسجاماً مع ألفاظ هذه الآية الشريفة، وأن يوفقوا إلى توضيح حقيقتها ومغزاها.

* * *

ذكرنا فيما سبق أنّ النظرية الأُولى تستند إلى طائفة من الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية ولابد من دراستها والتوصل إلى حل مناسب لها.

فالعلاّمة المرحوم السيد هاشم البحراني نقل في تفسيره المسمّى ب‍ « البرهان » في ذيل تفسير آية الميثاق (٣٧) حديثاً(١) .

__________________

(١) البرهان: ٢ / ٤٦ ـ ٥١.

١٠٤

وكذا نقل نور الثقلين ـ وهو تفسير للقرآن على أساس الأحاديث على غرار تفسير البرهان ـ أيضاً (٢٧) حديثاً في ذيل تفسير هذه الآية(١) .

ولابد من الالتفات إلى أنّ هذه الأحاديث والأخبار تختلف في مفاداتها عن بعض، فليست بأجمعها ناظرة إلى النظرية الأُولى، فلا يمكن الاستدلال بها ـ جميعاً ـ على ذلك لوجوه :

أوّلاً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في القول الثاني، أو أنّها قابلة للانطباق على القول الثاني، مثل الأحاديث: ٦ و ٧ و ٢٠ و ٢٢ و ٣٥.

وإليك نص هذه الأحاديث :

أمّا الأحاديث ٦ و ٢٢ و ٣٥ وجميعها واحد راوياً ومروياً عنه وان اختلفت في المصدر، فهي :

عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : كيف أجابوا وهم ذر ؟ فقالعليه‌السلام :

« جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».

ففي هذه الأحاديث ـ كما نلاحظ ـ ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام: « جعل فيهم » وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم.

أما الحديث ٧ فقد روي عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله ( الصادق )عليه‌السلام عن قول الله( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟

__________________

(١) نور الثقلين: ٢ / ٩٢ ـ ١٠٢.

١٠٥

قال :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: ألست بربكم، وفيه المؤمن والكافر ».

وهذا الحديث كما هو واضح يفسّر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني.

وفي الحديث ٢٠ جاء عن المفضل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام في حديث طويل قال فيه :

« قال الله عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم ؟ قالوا: بلى، كان أوّل من قال بلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين ».

وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية « القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية » ولكنّه قابل للانطباق عليها.

ثانياً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث ٢٠.

أمّا ما يدل من تلك الأحاديث ( المنقولة في تفسير البرهان ) على النظرية الأُولى فهي ٣، ٤، ٨، ١١، ١٤، ١٧، ١٨، ٢٧، ٢٩.

وعددها كما هو الظاهر (٩) أحاديث، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز ٥ أحاديث لا أكثر، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها « زرارة بن أعين » بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة ،

١٠٦

ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات، وأمّا نقل رواية زرارة ( التي هي ـ في الحقيقة ـ رواية واحدة ) في خمس صور، فلتعدد من روى هذا الحديث عن « زرارة »، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث.

وعلى هذا فإنّ الأحاديث ٣ و ٤ و ١١ و ٢٧ و ٢٩ التي تنتهي إلى راو واحد هو « زرارة » لا يمكن عدّها خمسة أحاديث، بل يجب اعتبارها حديثاً واحداً لا غير.

وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من ٩ إلى ٥.

يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى ( أعني: ٨ و ١٤ و ١٧ و ١٨ ) فهي مبهمة نوعاً ما، وليست صريحة في المقصود.

وبعض تلك الأحاديث تعتبر هذا الميثاق والميثاق الذي أخذه الله من خصوص النبيين وتحدّث عنه القرآن في الآية ٨١ ـ آل عمران:( وإذ أخَذَ الله ميثاقَ النّبِيِّينَ لَما آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ) تعتبر هذين الميثاقين واحداً مثل الحديث رقم ١٢.

وها نحن ننقل لك أيها القارئ نص حديث زرارة أوّلاً، وهذا الحديث هو ما جاء تحت رقم ٣ و ٤ و ١١ و ٢٧ و ٢٩.

وإليك نصها بالترتيب :

عن ابن أبي عمير، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر الباقرعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجل:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) فقال، وأبوه

١٠٧

يسمع :

« حدثني أبي أنّ الله عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً » إلى آخر الحديث.

وعن ابن أُذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال :

« أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذر، فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ».

ومثل هاتين الصورتين بقية الصور لحديث زرارة حرفاً بحرف.

أمّا الروايات الأربع الأُخرى ( أعني: ٨ و ١٤ و ١٧ و ١٨ ) فهي بالترتيب :

عن حمران عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال :

« فقال الله لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة ولا أبالي، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم ؟ قال: ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا » الخ.

وعن ابن مسكان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قلت: معاينة كان هذا ؟ قال :

« نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه ».

١٠٨

وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال :

« أخذ الله من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وهم كالذر، فعرفهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه، وقال: ألست بربكم، قالوا: بلى ».

وفي حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال :

« قول الله عزّ وجلّ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) أخبرك أنّ الله سبحانه لـمّا خلق آدم مسح ظهره فاستخرج ذرية من صلبه سيما في هيئة الذر فألزمهم العقل، وقرر بهم أنّه الرب وأنّهم العبد فأقروا له بالربوبية ».

هذه هي عمدة الأحاديث التي نقلها تفسير البرهان في ذيل الآية المبحوثة تؤيد النظرية الأُولى.

وكذا نقل صاحب تفسير الدر المنثور أحاديث تؤيد هذه النظرية نذكر بعضها :

فمنها ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ».

وغير ذلك كثير(١) .

__________________

(١) راجع الدر المنثور: ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢.

١٠٩

ثالثاً: لقد بين أئمّة الشيعة المعصومون: معياراً خاصاً لمعرفة الصحيح من الأحاديث وتمييزه عن غير الصحيح، وأمرونا بأن نميز صحاح الأحاديث على ضوء هذه المعايير هذا المعيار هو اعتماد ما يوافق الحديث للقرآن وطرح ما يخالفه.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ هذا القسم من الأحاديث ( التي نقلناها عن البرهان ) يخالف ظاهر القرآن، ولذلك ينبغي التسليم أمامها، ورد علمها إلى الأئمّة أنفسهم على فرض صدورها منهم.

١١٠

الفصل الثالث

الله وبراهين وجوده في القرآن

١١١

الله وبراهين وجوده في القرآن

١. كثرة البراهين على وجود الله تعالى.

٢. دليل الفطرة.

٣. برهان الحدوث.

٤. برهان الإمكان.

٥. برهان الحركة.

٦. برهان النظم.

٧. برهان محاسبة الاحتمالات.

٨. برهان التوازن والضبط.

٩. الهداية الإلهية في عالم الحيوان.

١٠. برهان الصدّيقين.

١١. براهين أُخرى.

١١٢

كثرة البراهين على وجود الله تعالى

من الأقوال المشهورة في أوساط العلماء تلك الجملة التي تقول :

« الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ».

فهذه الجملة المقتضبة تشير إلى أنّ الأدلة على وجود الله جل شأنه ليست واحداً ولا اثنين ولا عشر ولا مائة، بل هي بعدد أنفاس المخلوقات.

وهذا الكلام وإن كان مثار عجب ودهشة عند من ليس لديه دراسة مفصلة وتعمّق في العلوم الإلهية إذ كيف يمكن ـ في نظر هؤلاء غير المتعمّقين في الإلهيات وغير الملمّين بعلوم التوحيد ـ.

كيف يمكن أن تكون أدلّة وجود الله بعدد أنفاس الخلائق التي لا يحصيها عدد ولا يحصرها عد ؟!!

ولكن لو أُتيح لنا أن نطّلع على ما ورد في كتب العقائد والفلسفة من الأدلّة على وجود الله، لأدركنا أنّ هذا الكلام لم يكن مبالغاً فيه، بل هو عين الحقيقة.

لأنّ بعض هذه الأدلّة التي سنشير إلى « أُصولها » وأُمّهاتها ـ هنا ـ من السعة والشمولية بحيث يتّخذ من نظام كل ذرة في عالمنا دليلاً على وجود الله، وطريقاً إلى إثباته.

ومن المعلوم أنّه لا يعلم عدد ذرات هذا العالم إلّا الله تعالى.

وفيما يأتي نذكر أُصول وأُمهات هذه البراهين الرائجة :

١١٣

١. دليل الفطرة

دليل الفطرة ـ كما تحدّثنا عنه في الفصل الأوّل ـ طريق القلب ودليل الفؤاد لا العقل والاستدلال.

فكل فرد ينجذب إلى الله ويميل إليه قلبياً وبصورة لا إرادية، سواء في فترة من حياته، أم في كل فترات حياته دون انقطاع.

وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كل فرد فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود الله، وهذا هو ما يسمّى بدليل « الفطرة ».

٢. برهان الحدوث

برهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على « حدوث » الكون وما فيه.

وملخّصه: أنّ لهذا الكون بداية، وأنّه لذلك فهو مسبوق بالعدم، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم ( أي كان حادثاً )، فإنّ له محدثاً بالضرورة، لامتناع وجود الحادث دون محدث.

ويعتمد المتكلّمون الإسلاميون ـ في الأغلب ـ على حدوث العالم لإثبات الصانع، ربما باعتباره أقرب الأدلة إلى متناول العقول، والأفهام.

٣. برهان الإمكان

يتوسّل الفلاسفة المسلمون ـ في الغالب ـ لإثبات وجود الله بتقسيم الأشياء إلى :

واجب

١١٤

وممكن

وممتنع

وذلك لأنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو :

إمّا أن يقتضي الوجود لذاته، أي ينبع الوجود من ذاته، فهو « واجب الوجود ».

وإمّا يقتضي العدم لذاته، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه، فهو « ممتنع الوجود ».

وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء ( أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته ) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين، أعني: العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته ب‍ « ممكن الوجود ».

وعندما نتصور الأشياء والظواهر الكونية نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود، فلابد أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك وهو الذي أخرجها من عالم المعدومات إلى حيز الموجودات، أو بالعكس.

وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن لاحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلة الوجود ويطرد عن ساحته صفة العدم.

١١٥

وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل « في صفة الإمكان » لاحتاج إلى عامل آخر، وهكذا دواليك بحيث يلزم « التسلسل ».

وأمّا لو كان العامل الخارجي الأوّل ـ في حين كونه موجداً وعلّة للأشياء ـ معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء لزم « الدور » المستحيل في منطق العقول.

ولما كان التسلسل والدور باطلين عقلاً(١) لزم أن نذعن بأنّ كل الحادثات الممكنات تنتهي إلى موجد « غني بالذات » « قائم بنفسه » غير قائم بغيره، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.

وذلك الغني بالذات هو « الواجب الوجود » هو الله العالم، القادر، القيوم القائم بذاته القائم به ما سواه.

وهذا هو دليل الإمكان.

٤. برهان الحركة

كان روّاد العلوم الطبيعية ـ في السابق ـ كأرسطوا وأتباعه، يستدلّون ب‍ « حركة الأجسام والأجرام الفلكية » على وجود المحرّك، وبذلك يثبتون وجود الله.

فكانوا يقولون ما خلاصته: إنّه لا بد لهذه الأجرام المتحرّكة من محرّك منزّه عن الحركة، وذلك استناداً إلى القاعدة العقلية المسلمة القائلة: « لابد لكل متحرّك من محرّك غير متحرّك ».

__________________

(١) سيوافيك بيان جهة بطلان التسلسل والدور في الأبحاث القادمة.

١١٦

٥. برهان النظم

لقد ظل النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة، أحد العوامل المهمة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين(١) من البشر إلى الله، إذ لم يكن من المعقول ـ أبداً ـ أن لا يخضع مثل هذا النظام البديع والمعقد لتدبير قوة عاقلة عليا، وتدبير مدبّر حكيم.

والآيات القرآنية المتعرضة لبيان آثار الله تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات الصانع، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على « برهان النظم ».

فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة، أو ذرة من ذرات العالم، دليلاً على حكمة الله تعالى وبرهاناً على إرادته، فهي بطريق أولى دليل على « أصل وجوده ».

إذ الوجود مقدّم على الصفات، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود.

وسيأتي الحديث المفصّل عن هذا القسم في المستقبل.

٦. برهان محاسبة الاحتمالات

وهو برهان ابتكره علماء الغرب وزاده نضجاً وتوضيحاً العالم المعروف « كريسي موريسون » صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي لم يهدف من كتابته إلّا بلورة وإيضاح هذا البرهان ـ أساساً ـ.

__________________

(١) هذه الأوصاف الثلاثة مقتبسة من القرآن الكريم، فهو عندما يذكر آثار قدرة الله وحكمته وعلمه تعالى يعقب كلامه بهذه العبارات:( أُولُو الأَلْبَابِ ) و( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و( لقوم يتذكّرون ) .

١١٧

وإليك ملخّص هذا البرهان :

يقول: لا شك أنّ ظهور الحياة بشكلها الحاضر على وجه الأرض ليس إلّا نتيجة تضافر شرائط وتوفر علل وعوامل كثيرة بحيث لو فقد واحد منها لامتنع ظهور الحياة على الأرض ولاستحالت حياة الأحياء عليها.

فلو أنّ ظهور الحياة كان نتيجة انفجار أو انفجارات في المادة الأُولى عن طريق المصادفة، لكان من الممكن أن تتحقّق ملياردات الصور والكيفيات ويكون احتمال ظهور هذه الصورة واحداً من مليارات الصور، وحيث إنّ صورة واحدة فقط هي التي تحققت دون بقية الصور ينطرح هذا السؤال :

كيف تحقّقت هذه الصورة الحاضرة دون بقية الصور عقيب الانفجار ؟

وكيف وقع الاختيار على هذه الصورة بالذات من بيان سائر الصور والحال كان المفروض أنّ جميعها متساوية في منطق المصادفة.

إنّنا لا نجد جواباً معقولاً في هذا المجال إلّا أن نعزي الأمر إلى غير المصادفة.

وبعبارة أُخرى: انّ كثرة الشروط اللازمة لظهور الحياة على الكرة الأرضية تكون بحيث إنّ احتمال اجتماع هذه الشرائط بمحض المصادفة مرة في بليون مرة، ولا يمكن لعاقل أن يفسّر ظاهرة من الظواهر بمثل هذا الاحتمال غير العقلائي وغير المنطقي جداً.

وننقل هنا نص ما قاله العالم المعروف تحت عنوان « المصادفة » :

« إنّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد

١١٨

الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدلّ على أنّه طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة، « كان يمكن أن يحدث هكذا » ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !!

وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف ـ كما ينبغي لنا ـ بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا، نتائج المصادفة.

لقد رأينا أنّ هناك ٩٩٩/٩٩٩/٩٩٩ فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة »(١) .

٧. برهان التوازن والضبط

وهذا البرهان من فروع برهان النظم، والمقصود منه هو ذلك « التعادل والتوازن والضبط » الذي يسود عالم الأحياء كلها من حيوانات ونباتات.

ونذكر نموذجاً لذلك من باب المثال فنقول :

يتبيّن لنا من دراسة عالم الحيوان والنبات أنّ كلاً منهما مكمّل للآخر، بحيث لو لم يكن في عالم الطبيعة إلّا الحيوانات فحسب لفنيت الحيوانات وزالت من صفحة الوجود، وهكذا لو لم يكن إلّا النباتات فحسب لفنيت النباتات وزالت هي أيضاً.

__________________

(١) العلم يدعو للإيمان: ١٩٥ ـ ١٩٦.

١١٩

وذلك لأنّ النباتات ـ على وجه العموم ـ تتنفس « ثاني أُكسيد الكاربون » فيما تطلق الأوكسجين في الفضاء.

فأوراق الشجر بمنزلة رئة الإنسان مهمّتها التنفس، في حين أنّ الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتدفع الكربون.

وبهذا يبدو ـ جلياً ـ أنّ عمل كل واحد من هذين الصنفين من الأحياء مكمل لعمل الآخر ومتمم لوجوده، وأنّ حياة كل منهما قائمة على الأُخرى.

فلو كانت في الأرض: « النباتات » فقط لنفذ الكربون ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولو لم يكن في الأرض إلّا « الحيوانات » فقط لفني الأوكسجين ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولكان معنى كل ذلك فناء النوعين بالمرة وزوالهما من وجه الأرض بسرعة.

٨. الهداية الإلهية في عالم الحيوانات

يعتبر « اهتداء » الحيوانات والحشرات إلى ما يضمن بقاءها، واستمرار حياتها، دليلاً آخر على وجود « هاد » لها فيما وراء الطبيعة هو الذي يقوم بهدايتها في مسيرة الحياة، ويلهمها كل ما يفيدها ويساعدها على العيش والبقاء إلهاماً أسماه القرآن ب « الوحي ».

ولهذا البرهان جذور وأُصول قرآنية، ولذلك سنتعرض له بالبحث ونتاوله بالتحقيق بنحو مبسوط في المستقبل، كما سنبرهن على أنّه غير البرهان المعروف ببرهان « النظم في عالم الوجود ».

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :

١ ـ لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه

٢٢١

فادهش الجميع ذلك(١) .

٢ ـ وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا(٢) .

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :

ونحن نقول : لا نقاش في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ...ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً »(٣) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦.

٢ ـ المناقب لابن شهراشوب : ج ١ ، ص ٢٤.

٣ ـ مريم : ٢٤ و ٢٥.

٢٢٢

إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم »عليها‌السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريمعليها‌السلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟(١) .

وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :

أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.

وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب(٢) .

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى

__________________

١ ـ «وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : ٣٧ ).

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٤٠١.

٢٢٣

الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيحعليه‌السلام ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره(١) .

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال : «وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ »(٢) .

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر(٣) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٢ ـ الصف : ٦.

٣ ـ «الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : ١٥٧ ).

٢٢٤

٧

العَوْدة

إلى اَحضان العائلة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.

وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.

وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.

وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الاستاذ ينصح تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم

٢٢٥

بقطعة من الجص صورة على المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إن فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل ، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايامها وسنواتها الاولى.

٢٢٦

لقد حافظت مرضعةُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ، حتّى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول :

أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) وارضعت في بني سعد »(١) .

ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة » ، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب » ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : « عبد اللّه »(٢) .

سَفْرةٌ إلى يثرب :

منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى « يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن(٣) وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته إلى مكة فقد اُمّه

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٣ ـ كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه »عليه‌السلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

٢٢٧

العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب‍ « الابواء »(١) .

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده « عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد » أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به(٢) .

ان القرآن الكريم يُذكّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفترة يتمه ويقول : «ألمَ يجدْكَ يتيماً فآوى ».

إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا ، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه ، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٨.

٢٢٨

وانه لم يكن لوالديه اي دخل فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب :

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه ، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة « عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!!(١) .

كفالة أبي طالب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص(٢) وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

__________________

١ ـ كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ٢ ، ص ١٠ و ١١ من تاريخه حول سيرة عبد المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

٢ ـ في حوادث السنة العاشرة.

٢٢٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقبل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً(١) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة.

يقولون : إن النبي شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب(٢) وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب.

سَفرةٌ إلى الشام :

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش إلى الشام كل سنة مرة واحدة.

فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد « محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث اضطرته إلى أن يرضى

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٧٩ ، وامهما هي فاطمة المخزومية.

٢ ـ لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ١ ، ص ١٥ طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.

٢٣٠

بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة(١) .

لقد كانت سفرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ، من اجمل وأطرف اسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى مكة.

واليك فيما يلي مجمل هذه القضية :

كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده.

وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من

__________________

١ ـ ويذكر « أبو طالب » في ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات :

إنَّ ابنَ آمِنة النبي محمَّداً

عِندي يفوقُ منازل الأولاد

لما تعَلّق بالزمام رحمتُه

والعيسُ قد قلَّصْنَ بالازواد

فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ

مثل الجمان مُفرّق الأفراد

راعيتُ فيه قرابة موصولة

وحفَظت فيه وصية الأجداد

وأمرتُه بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت أنجاد

حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا

لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحُسّاد

( تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ وديوان ابي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ).

٢٣١

النظرات الفاحصة ، والتحديق في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب » وقالوا : هذا وليّه.

فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ، سلني عمّا بدا لك.

فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه(١) .

هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام(٢) .

وربما قيل أنه تابع ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ».

اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن :

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ، واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

__________________

١ ـ روى تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٢ و ٣٣ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٣ هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

٢٣٢

ما أظهره رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعاليم رفيعة سامية بعد ٢٨ عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً » بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل وتكذبه الموازين العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا :

١ ـ لقد كان « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام ، ولقائه ب‍ « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ، فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و « الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ والشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

٢ ـ إن مدة هذا اللقاء كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم القراءة والكتابة من احد.

٢٣٣

هذا مضافاً إلى أنه لم يكن يصاحبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

٣ ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام ، ولم يكن مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟!

وعلى كل حال فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

٤ ـ إذا كان محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تلقى اُموراً ومعارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ، ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة وانت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع الإتهام إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته ، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرةْ عند

٢٣٤

« مروة » يجالس غلاماً نصرانياً استغلوا تلك الفرصة وقالوا : لقد أخذ « محمّد » كلامه من هذا الغلام ، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله : «ولَقدْ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحدْونَ إليْه أَعجَمِيَّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبيْنٌ »(١) .

ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا ، ومن نسج خيالهم!!

٥ ـ إن قصص الانبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والانجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام(٢) .

٦ ـ إذا كان راهب « بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

٧ ـ يعتبرُ الكتاب المسيحيّون « محمّداً »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم مسبق

__________________

١ ـ النحل : ١٠٣.

٢ ـ تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.

٢٣٥

أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ، وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة « القصص » الآية (٤٤) هكذا : «وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».

وجاء في سورة « هود » الآية (٤٩) بعد نقل قصة نوح : «تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».

إن هذه الآيات توضح أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع.

وهكذا جاء في الآية (٤٤) من سورة « آل عمران » : «ذلِكَ مِنْ أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».

إن هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ».

واليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ).

* * *

٢٣٦

١ ـ داودعليه‌السلام :

جاء في التوراة : « إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة(١) ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!!(٢) .

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داودعليه‌السلام بافضل الاوصاف إذ يقول ( في الآية ١٥ و ١٦ من سورة النمل ) : «وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ وَقالَ يا أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ».

٢ ـ النبيّ سليمانعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن النبيّ العظيم سليمانعليه‌السلام :

١ ـ « وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا »(٣) .

أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!!

__________________

١ ـ أي في مقدمة الجيش المحارب.

٢ ـ العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر ٣ إلى ٢٧.

٣ ـ إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول ٦.

٢٣٧

٢ ـ وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!!(١) .

إن سليمان ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمانعليه‌السلام «ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ عِلماً »(٢) .

ويقول : «وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين »(٣) .

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

٣ ـ يعقوبعليه‌السلام :

إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوبعليه‌السلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة

__________________

١ ـ التوراة : الملوك الأول الاصحاح : ١١ ، العبارات ١ : ١١.

٢٣٨

زوجته الأخرى ) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!!(١) .

هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!!

وأما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : «وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن »(٢) .

ويقول تعالى أيضاً : «وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار »(٣) .

٤ ـ إبْراهيمعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن إبراهيمعليه‌السلام إنّه لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة : إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : ١ إلى ٤٦ ، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.

٢٣٩

بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ، وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ، وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب »(١) .

إن ابراهيم الخليلعليه‌السلام في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :

١ ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٢ ـ إمامُ الناس : «إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً » ( البقرة : ١٣٤ ).

٣ ـ مُسْلِمٌ : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٤ ـ حَليمٌ : «إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٥ ـ امة كامِلَة بمفرده : «إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة » ( النحل : ١٢٠ ).

٦ ـ أواهٌ يَخشى اللّه : «إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٧ ـ مصطفى : «لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار » ( ص : ٤٨ ).

٨ ـ ذو قلب سَليم : «إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم » ( الصافات : ٤٨ ).

٥ ـ المسيحعليه‌السلام :

إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه ، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!!(٢)

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر ١ ـ ٢٠.

٢ ـ إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : ٣١ ـ ٣٥.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672