مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149954 / تحميل: 5731
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تلك هي أُصول البراهين وأُمهات الأدلّة المتعارفة(١) التي يستدل بها لإثبات وجود الله سبحانه في مقدور كل فرد من أفراد البشر أن يستفيد منها حسب مذاقه وحسب إدراكه فيهتدي إلى الله ويتوصل إلى معرفته تعالى.

ولذلك يقول القرآن الكريم:( وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) (٢) .

ويعني بذلك أنّ لكل فرد أن يستدل على وجود الله بشيء من هذه البراهين والأدلة فهي أدلة توصل إلى معرفة الله، والإذعان بوجوده لا محالة.

غير أنّ أكثر هذه الأدلة شهرة وشمولاً وأقربها إلى الأذهان هو برهان النظم فهو برهان يلتفت إليه كل أحد مهما بلغت معلوماته من الضيق والضآلة ومهما هبط مستواه الفكري، لأنّ هذا البرهان قائم على إثبات الصانع عن طريق المشاهدات والاستنباطات والمقدمات البسيطة التي يدركها ويلمسها كل إنسان حتى العادي.

ولكن هناك طائفة أُخرى من الأدلة العقلية تفوق مستوى الفهم العام وهي تحتاج ـ لعمقها ـ إلى إمعان ومزيد تعمّق وتدبّر بل وإلى إرشاد « معلم إلهي » متخصّص في هذا العلم، متضلّع في هذا الفن من المعارف وليس ذلك إلّا لدقة مسالكها، وعمق محتوياتها.

ومن هذه الأدلة ما يلي :

٩. برهان الصدِّيقين

وهو أحد البراهين ذات الدلالة القوية على « وجود الله » سبحانه.

__________________

(١) والتي يندرج تحت كل واحد منها آلاف بل آلاف الآلاف من الأدلّة.

(٢) البقرة: ١٤٨.

١٢١

ويتلخص هذا البرهان في: أنّ للإنسان أن يتوصل إلى معرفة الله من مطالعة الوجود نفسه بمعنى أنّه لا يحتاج ـ هنا ـ لإثبات الصانع إلّا إلى مطالعة نفس الوجود لا غير.

ولهذا البرهان أصل قرآني وجذور في كتاب الله الكريم.

وربما يكون قوله تعالى:( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) إشارة إلى هذا الدليل(٢) .

كما ورد في أدعية أئمّة أهل البيت: ما يشير إلى هذا البرهان من قريب أو بعيد :

فقد ورد في الدعاء المعروف بدعاء « الصباح » وهو الدعاء القيّم الذي علّمه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام لتلميذه « كميل » قوله :

« يا من دل على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته »(٣) .

وقد تعرض ابن سينا، الفيلسوف الإسلامي إلى هذا البرهان في كتابه « الإشارات »(٤) .

كما تبعه في ذلك المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه المعروف ب‍ « تجريد الاعتقاد » الذي شرحه تلميذه العلاّمة الحلي رحمهما الله(٥) .

__________________

(١) فصلت: ٥٣.

(٢) وهناك آيات أُخرى ربّما حملوها على هذا البرهان وسيوافيك بيانها في موضعه.

(٣) راجع كتب الأدعية.

(٤) الإشارات: ٣ / ١٨ ـ ٢٨.

(٥) التجريد: ١٧٢، وقد قرر هذا البرهان المرحوم صدر المتألّهين بشكل آخر في كتابه « الأسفار » فليراجعه من أراد أن يقف على تقريره.

١٢٢

وحيث إنّ لهذا البرهان أصلاً قرآنياً ـ كما أسلفنا ـ لذلك سنذكره مفصلاً في محله من هذه البحوث.

١٠. براهين أُخرى

مثل: برهان الوجوب.

برهان الترتب.

برهان الأسد والأخصر.

وهي براهين خارجة عن إطار الهدف الذي من أجله عقدنا هذه البحوث وكتبنا هذه الدراسة، إذ غاية ما نرمي إليه في هذه البحوث هو ذكر البراهين ذات « الأصل القرآني » أي ذكر ما له جذور في كتاب الله من هذه البراهين، لأنّ هدفنا ـ كما يتضح من عنوان هذه الدراسة ـ هو استجلاء « معالم التوحيد في القرآن الكريم »(١) .

__________________

(١) وقد تحدث المرحوم صدر المتألّهين حول برهان « الوجوب » وبرهان « الأسد والأخصر » في كتاب الأسفار: ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٢٣

التوحيد الاستدلالي

في القرآن الكريم

ذكرنا فيما مضى أنّ هناك طريقين لإثبات وجود الله تعالى :

طريق الاستدلال، وطريق الفطرة.

وها نحن نستعرض في هذا الفصل « الأدلّة » العقلية والعلمية الواردة في القرآن لإثبات وجود الله سبحانه ولن نتقيّد بتطبيق هذه الأدلّة القرآنية على البراهين التسعة التي ذكرناها نعم لو حصل أن انطبق دليل قرآني على واحد من تلك البراهين التسعة أشرنا إلى ذلك، وعمدنا إلى توضيحه قدر المستطاع والإمكان.

* * *

بعث رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيئة كانت تسودها الوثنية، وكان الناس إلّا الشاذ منهم وثنيين يعبدون الأصنام ويعكفون على الأوثان رغم اعتقادهم بالله ظناً بأنّ هذه الأصنام والصور المعبودة مقربة عند الله، وشفعاء بينه وبين البشر.

ولأجل هذا تركز اهتمام القرآن على تنزيهه سبحانه عن « الشريك » في العبادة لا على إثبات وجوده، لأنّ وجوده تعالى كان أمراً مسلّماً ومفروغاً عنه في ذلك المجتمع.

١٢٤

وفيما يلي نذكر الآيات التي تبيَّن اعتقاد وثنيي عصر الرسالة حول الله وكيف أنّهم كانوا يعتقدون بوجوده :

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ الله ) (١) .

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ الله ) (٢) .

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (٣) .

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٤) .

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٥) .

( وَلَئِنَ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله ) (٦) .

إنّ ملاحظة مفادات هذه الآيات تفيد ـ بوضوح لا يقبل جدلاً ـ بأنّ المجتمع الجاهلي المعاصر لعصر الوحي ونزول الرسالة لم يكن معتقداً بوجود الله فحسب بل كان معتقداً ـ فوق ذلك ـ بأنّه الخالق الوحيد لهذا الكون والمدبّر الحقيقي لأُموره وشؤونه، بمعنى أنّهم كانوا موحِّدين في الخالقية والربوبية ـ كما هو

__________________

(١) لقمان: ٢٥.

(٢) الزمر: ٣٨.

(٣) الزخرف: ٩.

(٤) الزخرف: ٨٧.

(٥) العنكبوت: ٦١.

(٦) العنكبوت: ٦٣.

١٢٥

المصطلح ـ. ولذلك فإنّ أوّل موضوع طرحه الرسول الأكرم على قومه هو الدعوة إلى « توحيد الله » في العبادة لا الاعتقاد بوجوده.

على أنّ مراجعة معتقدات المشركين والوثنيين في عصر الوحي وقبله، والتي سوف نوردها في الفصل التاسع: « التوحيد في العبادة » أفضل شاهد ودليل على ما قلناه من أنّ انحراف المشركين كان في مسألة « الوحدانية » في العبادة لا في أصل وجود الله.

فهناك ـ في الفصل التاسع ـ سوف نذكر كيف أنّ غالبية وثنيي العرب ما كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام خالقة السماوات والأرض، ولا أنّها مدبّرة للكون إلى جانب الله، بل كانوا يعتقدون بأنّها مقربة عند الله، وشفعاء لديه وكانوا يظنون بأنّ عبادتهم لها ستقربهم إلى الله تعالى، وتوجب الزلفى لديه(١) .

ويدل على وجود مثل هذا الاعتقاد لدى من كان يعبد الأصنام آيات هي :

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله ) (٢) .

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَىٰ الله زُلْفَىٰ ) (٣) .

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ) (٤) .

__________________

(١) نعم لا يمكن القول بأنّ كل وثنيي العرب أو كافة وثنيي العالم على مثل هذا الاعتقاد، بل هناك من يعتقد بتعدد « واجب الوجود » كالمثلثة، أو تعدد « الخالق » تعدداً حقيقياً كالثنويين، أو من يعتقد بتعدد « المدبّر » وسيوافيك بيان مفصل عن مقالاتهم وعقائدهم في الفصل التاسع.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) الزمر: ٣.

(٤) الزمر: ٤٣.

١٢٦

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ ) (١) .

ولكن رغم كل هذا لا يمكن لأحد أن يدّعي عدم وجود ملحدين ـ بتاتاً ـ في عصر الرسالة، أو يدّعي أنّ القرآن الكريم لم يتحدّث أبداً حول أصل وجود الله، بل على خلاف هذا النظر فإنّ بعض الآيات القرآنية تكشف عن وجود ملحدين في عصر الرسالة، كما أنّ هناك مجموعة من البراهين العلميّة في القرآن الكريم قد وردت ـ في الحقيقة ـ لإثبات وجود الله.

وسنذكر الآيات الدالة على كلا الأمرين.

ونذكر أوّلاً الآية التي تذكر عقيدة جماعة من الماديين الذين كانوا يعاصرون عهد الوحي، حول الإنسان وما سواه من الظواهر الكونية مبدأ ومآلا، حيث يقولون ـ حسبما يحدثنا القرآن ـ :

( وَقَالُوا مَا هِيَ إلّا حَيَاتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) (٢) .

ومن الطبيعي أنّ هذا المنطق أعني: زعم هؤلاء بأنّ سبب هلاك البشر هو مرور الزمن لم يكن إلّا بسبب عدم اعتقادهم بوجود « خالق » اسمه الله، هو الذي يميت كما خلق.

فهم كانوا يعتقدون بأنّ الحياة والموت ما هما إلّا أثرين من آثار المادة. أي

__________________

(١) الأنعام: ٩٤.

(٢) الجاثية: ٢٤.

١٢٧

من الآثار الفيزياوية والكيمياوية للمادة ـ حسب المصطلح الحديث ـ.

فحينما تشيخ المادة وتهرم بسبب مرور الزمن فتأخذ طريقها ـ في المآل ـ إلى البلى وتؤول إلى دنيا العدم، فذلك هو الموت.

إذا تبيّن هذا نقول: هل من المعقول أن يطرح القرآن هذه النظرية الإلحادية عن لسان أتباعها في عصر الرسالة ثم لا يعمد إلى نقدها والرد عليها، ولا يقيم ضدها ما يرفع الشك ويزيل الشبهة ؟!!

لقد كان الأُستاذ العلاّمة الطباطبائي ـ صاحب تفسير الميزان ـ يصر في محاضراته العلميّة على أنّ القرآن الكريم لم يتعرض مطلقاً لإثبات أصل وجود الله، ولم يقم عليه أي دليل أبداً، وذلك إمّا لبداهة وجود الله وفطريته، أو لأنّ ذات الله أسمى من أن يحتاج إثباتها إلى دليل.

ولكنّنا نتصور أنّه قد وردت في الكتاب العزيز براهين لإثبات وجود الله تعالى، وسوف نورد هذه البراهين في هذه الدراسة بنحو من الأنحاء بإذن الله.

١٢٨

التوحيد الاستدلالي: البرهان الأوّل

برهان الفقر والإمكان

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَىٰ الله والله هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ *إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيدٍ *وَمَا ذَلِكَ عَلَىٰ الله بِعَزِيزٍ ) (١) .(٢)

قبل الورود في توضيح الآيات التي وردت لإثبات وجوده سبحانه نأت بنكتة وهي: أنّه قد سبق منا ـ آنفاً ـ أنّ البراهين الواردة في القرآن حسب النوع تناهز عشرة براهين أو أكثر، ولسنا مدّعين أنّ هذه الآيات صريحة في تلك البراهين أو منطبقة عليها انطباقاً تاماً حسب العناوين التي نأتي بها في أوّل البحث، وإنّما هدفنا هو طرح الأدلّة التي تعرّض لها القرآن واستدلّ بها لإثبات الصانع، سواء كانت هذه الأدلّة الواردة في القرآن منطبقة مع الأدلّة والبراهين السالفة الذكر أم لا.

__________________

(١) فاطر: ١٥ ـ ١٧.

(٢) يصف القرآن الكريم ( الله تعالى ) في الآية الأُولى من الآيات الثلاث بأنّه الغني الحميد، وقد جاء في الآيتين التاليتين دليل ذلك :

١. أمّا أنّ الله غني، فلأنّه يمكنه أن يعدمنا لنعلم أنّه لا يحتاج إلينا، وأنّه لو شاء لأتى بخلق جديد، وهذا مفاد ( الآية ١٦ ).

٢. وأمّا أنّه تعالى حميد، فلأنّه قادر على ذلك وهذا هو مفاد ( الآية ١٧ ).

١٢٩

وصفوة القول: إنّ ما نبغيه هنا هو التتلمذ على القرآن واتّخاذه إماماً ومعلماً لنا في هذا المجال لا ما يقوله الحكماء والفلاسفة والعلماء نعم لو طابق شيء من كلامهم مع ما ذهب إليه القرآن واستدل به أشرنا إليه، وقلنا انّ هذا الاستدلال يشير إلى دليل النظم أو الإمكان أو

وفي كل ذلك نستعين الله على فهم مراد كتابه ومفاهيمه، وهو ولي التوفيق.

لا ريب أنّ « فقر » الشيء دليل قاطع على احتياجه إلى « غني قوي » يزيل حاجته، ويمسح عن وجهه غبار الاحتياج والافتقار، فما لم تمتد يد من الخارج إلى ذلك الشيء لم يرتفع فقره، ولم يندحر احتياجه.

تلك حقيقة لا يمكن أن يجادل أو يشك في أمرها أحد.

من هنا لا بد أن يكون لهذا الكون ـ بأسره ـ من أفاض عليه الوجود.

فالظواهر الكونية من الذرة إلى المجرة مقرونة ب‍ « الفقر الذاتي » فجميعها مسبوقة بالعدم، ولهذا فهي تحتاج في تحقّقها ووجودها إلى « غني » يطرد عنها غبار العدم، ويلبسها حلّة الوجود.

افترض ـ للمثال ـ أيّة ظاهرة شئت تجد أنّها قبل أن ترتدي حلّة الوجود كانت تختفي خلف حجاب العدم وتنغمس في ظلماته، ثم استطاعت ـ في ظل قدرة فعّالة ـ أن تمزّق حجب العدم، وتشق طريقها إلى عالم الوجود.

ومن المعلوم أنّه لو لم يكن ثمّت غني باسم « العلة » لما قدر لهذه الظاهرة المعدوم ـ أصلاً ـ أن تدخل إلى ساحة الوجود، ذلك لأنّ نسبة أي شيء ممكن يتصوّره الذهن، إلى الوجود والعدم سواء، بمعنى أنّه كما لا يترجح وجوده ذاتياً كذلك لا يترجح عدمه ذاتياً أيضاً.

١٣٠

ويسمّى هذا التساوي في منطق العلماء ب‍ « الإمكان ».

ولكي ندرك بنحو أحسن معنى هذا التساوي، ومعنى الإمكان المذكور لابد أن نشير إلى مثال مقنع في هذا المقام.

إنّ للفلاسفة في تصوير « الإمكان » بياناً نشير إليه فيما يأتي :

فهم يقولون :

لنفترض دائرة، ولنضع ما نتصوّره في ذهننا من الأشياء في وسط هذه الدائرة تماماً.

ولنجعل على طرف من الدائرة: الوجود، ونجعل في مقابله العدم.

ثمّ يقولون :

إنّ الشيء الممكن هو كهذا « الشيء المتصور الموضوع في وسط الدائرة » لا يقتضي بذاته أي واحد من الحالتين لا الوجود ولا العدم. بل هو بالنسبة إليهما سواء بمعنى أنّ الوجود أو العدم لا ينبع من ذات ذلك الشيء وإلاّ لكان ذلك الشيء « ممتنع الوجود » ان اقتضى العدم ذاتياً، أو « واجب الوجود » ان اقتضى الوجود ذاتياً.

ولأجل ذلك فإنّ كل الظواهر التي كانت معدومة ـ ذات يوم ـ ثم لبست حلة الوجود في يوم آخر ما هي ـ في الحقيقة ـ إلّا سلسلة من « المفاهيم المجردة عن الوجود أو العدم » كالنقطة الموجودة في وسط الدائرة بين كفتي الوجود والعدم التي نسبتها إلى كل من الحالتين سواء ولو حدث أن خرجت هذه « المفاهيم المجردة » عن وسط الدائرة ومالت إلى إحدى الحالتين الوجود أو العدم فإنّ ذلك الخروج لم يتحقّق بالضرورة إلّا بسبب « علة » ساقت تلكم الظاهرة إلى الحالة التي

١٣١

تلبست بها.

إنّ « العلة الموجدة » هي التي جرّت الظاهرة المذكورة إلى ناحية الوجود.

كما أنّ « علة العدم » هي التي جرّتها إلى ناحية العدم.

بناء على هذا فإنّ الوجود أو العدم لم يكن ولن يكون عيناً ولا جزءاً أصيلاً في ذات الشيء المجرد عن علة الوجود أو العدم، بل جاذبية العامل الخارجي هي التي ساقت ذلكم الشيء إلى إحدى الناحيتين

فإن كان هناك موجد غني، جرّ الظاهرة قهراً إلى ناحية الوجود.

وأمّا لو واجهت الظاهرة فقدان علة الوجود انجذبت قهراً إلى جانب العدم.

على أنّ هناك فرقاً بين مسألة « وجود » الظاهرة و « عدم وجودها ».

فلظهور ظاهرة ما ووجودها لابد من حضور علة موجدة ضمن ظروف وشروط خاصة لتعطي الوجود لتلك الظاهرة.

بينما لا يحتاج فقدان الظاهرة إلى أي نوع من الفعل والانفعال، بل يكفي لفقدان أية ظاهرة فقدان علتها فقط.

إنّ الظواهر الحاضرة فعلاً، والتي كانت قبل هذا معدومة، ومختبئة خلف حجب العدم قروناً متمادية، لم يكن فقدانها ـ في تلك الأزمنة ـ لأجل أنّها كانت ترفض الوجود ذاتياً إذ لو كان كذلك لامتنع وجودها بالمرة وإلى الأبد، بل إنّ فقدانها في تلك الأوقات إنّما هو لفقدان مقتضي وجودها، ومجرد فقدان هذا المقتضي كان كافياً لأن تنجذب الظواهر الكونية المذكورة بسببه إلى ناحية العدم وأن لا تتجلّى على مسرح الوجود.

١٣٢

ثمّ إنّ قولنا: بأنّ الظواهر تنجذب إلى ناحية « الوجود » على أثر وجود عللها لا يعني أنّ هذه الظواهر بعد وجودها بسبب العلة تتخلص نهائياً من صفة « الفقر الذاتي » ومن خصلة « الإمكان الذاتي » فتنقلب إلى موجودات غنية، لا تحتاج إلى علة.

لا نقول ذلك، لأنّه لا يمكن أن ينقلب ما هو « فقير بالذات » إلى « غني بالذات »(١) إنّما المقصود هو أنّ الظاهرة تلبس حلة الوجود مع كونها متصفة بالفقر والإمكان الذاتيين دون أن تفقد هذه الصفة حتى بعد ارتدائها حلة الوجود.

ولأجل هذا « الإمكان والفقر الذاتيين » يكون الاحتياج إلى العلة احتياجاً أبدياً وحالة دائمية لا تفارق طبيعة الأشياء، بحيث لو انقطع الارتباط بين « العلة والمعلول » لحظة واحدة لم يبق للظاهرة أي وجود بل عادت خبراً بعد أثر كما يقول المثل السائر.

ولتوضيح هذه الحقيقة نشير إلى مثالين :

١. لنتصور قصراً فخماً غارقاً في أضواء المصابيح المتعدّدة المتنوعة.

فعند ما يرى الشخص السطحي التفكير هذا المشهد يظن أنّ هذا النور نابع من القصر نفسه أي انّ طبيعة المصابيح مضيئة بنفسها. بينما لو تفحص هذا جيداً لرأى أنّ هذا النور وهذه الأضواء تتعلّق ب‍ « مولد الكهرباء » بحيث لو انقطع الارتباط بين المصابيح والمولد الكهربائي لحظة واحدة لغرق القصر بأسره في

__________________

(١) نعم غاية ما يحصل أنّ الظاهرة بعد انضمام العلّة إليها تصبح غنية بالعرض ـ حسب المصطلح الفلسفي ـ وهو يجتمع مع « الفقر الذاتي » ولا يناقضه ولا يعارضه.

١٣٣

الظلام، ولهذا فلابد أن يستمر المولد الكهربائي في إمداد القصر بالطاقة والتيار الكهربائي حتى يبقى ذلك القصر مضاء سابحاً في الأنوار.

٢. لنتصوّر أرضاً مملحة تحت أشعة الشمس، ونحن نريد أن تبقى رطبة ففي هذه الصورة لابد أن تتوالى قطرات الماء عليها فتسقط القطرة ثم تليها القطرة الثانية قبل أن تجف الأُولى وهكذا حتى نحافظ على رطوبتها ونحول دون جفافها إذ في غير هذه الصورة تجف الأرض تحت أشعة الشمس.

هذان مثالان يوضحان لنا أنّ « الفقير ذاتياً » لابد من ارتباطه بعلة وجوده على الدوام وبصورة مستمرة ليحافظ على وجوده وذلك لأنّه ليس من طبيعته: الوجود، وما ليس الوجود من طبيعته افتقر إلى علة موجدة واستمر افتقاره هذا ما دام « الفقر الذاتي » إلى الوجود ملازماً له، وحاكماً فيه.

من البيان السابق نستنتج الأُمور التالية :

أوّلاً: أنّ احتياج الظواهر إلى العلة هو مقتضى ذاتي لتلك الظواهر، وأمر ملازم لها، بحيث لا ينفك هذا الاحتياج عنها لا في حال تلبسها بالعدم، ولا في حال اتصافها بالوجود.

ثانياً: أنّ حالة الشيء المحتاج الممكن لن تتغيّر ولن تتبدّل ما لم يساعده « الغني » في ذلك.

ثالثاً: أنّ جميع البشر، وجميع الظواهر الكونية فقيرة ومحتاجة ـ بطبيعتها ـ وأنّها كانت تبقى محكومة بالعدم ما لم يتوفر علتها ولو كان الوجود عيناً أو جزءاً من ذاتها وطبيعتها لما عدمت ولا لحظة واحدة. ولو أنّ غنياً بذاته غير مفتقر في وجوده إلى غيره، لم يمد إليها يد العون ولم يفض عليها الوجود لبقيت خلف حجب

١٣٤

العدم إلى الأبد.

وحيث إنّ الفقر والاحتياج من لوازم ذوات تلك الأشياء ـ لأجل ذلك ـ يجب أن تبقى محكومة بالفقر في كل الحالات، حتى بعد وجودها.

بناء على ذلك، ومن ملاحظة حالة الموجودات الكونية، وملاحظة فقرها واحتياجها الذاتي وكونها غير قادرة على تغيير حالتها ووضعها وانتقالها من عالم العدم إلى صفحة الوجود دون الاعتماد على ركن أصيل غني.

أقول: من ملاحظة كل هذه الأُمور يمكن الاستدلال على وجود خالق غني أصيل هو الذي منح الوجود لهذه الأشياء، وهو بالتالي واهب الكون والمكان والوجود والزمان لجميع الممكنات كما ويمكن ـ بهذا الدليل ـ إثبات احتياج الممكنات ـ بجملتها ـ إليه في كل الأزمنة واللحظات وفي جميع الأحوال والأوقات، ابتداء من أول عمرها إلى آخره، احتياجاً لازماً لا ينقطع، وافتقاراً دائماً لا يزول ولا يرتفع.

هذا هو ما صرح به القرآن الكريم في نداء يشمل جميع أبناء البشر إذ قال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَىٰ اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (١) .

ففي هذه الآية ركز القرآن الكريم على موضوع « الفقر الذاتي » في الإنسان واحتياجه إلى « العلة الموجدة » أي الله تعالى، إذ قال:( أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلىٰ اللهِ ) وصرح بأنّ الموجود الوحيد الذي يمكنه رفع هذا الاحتياج والفقر الإنساني هو الله تعالى شأنه.

فهو الوحيد الذي يقدر على مساعدة البشر، وليس سواه بقادر على ذلك

__________________

(١) فاطر: ١٥.

١٣٥

لاتصاف ما سواه بصفة الإمكان.

وقد بيَّنت الآية هذه الحقيقة بقولها:( إِلىٰالله والله هُو [ أي وحده ]الغَنِيُّ ) .

على أنّ القرآن الكريم لا يعتبر الإنسان محتاجاً وفقيراً إلى الله قبل الخلق فحسب، بل هو محكوم لهذا الفقر والحاجة حتى بعد أن يرتدي حلّة الوجود

وهذا هو ما تفيده جملة:( أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلىٰ الله )

فهي كما نلاحظ لم يؤخذ فيها « قيد الزمان الماضي » فلم يقل مثلاً: كنتم الفقراء إلى الله، بل بإطلاقها وعدم تقيدها بالزمان تشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا يعني بكل وضوح أنّ الإنسان محتاج إلى الله سبحانه، وجوداً وبقاءً.

وينقل الحكماء والفلاسفة المسلمون في هذا الصدد حديثاً عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه :

« الفقر سواد الوجه في الدارين »(١) .

ويقال: إنّ مراد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه العبارة هو: الإشارة إلى أنّ حاجة الإنسان إلى الله أمر ملازم له في الدنيا والآخرة.

وقد ركز القرآن الكريم في مواضع متعددة على صفة « الغنى » في الذات الإلهية بحيث يمكن اعتبار ذلك إشارة ضمنية أو صريحة إلى هذا البرهان، نعني: برهان الفقر والإمكان.

وإليك فيما يلي بعض الآيات التي وصف الله فيها بالغنى :

__________________

(١) تجد نصَّ هذا الحديث في الكتب الفلسفية والعرفانية وسفينة البحار: ٢ / ٣٧٨.

١٣٦

( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) (١) .

وهذا هو موسى الكليمعليه‌السلام يعتبر نفسه محتاجاً إلى ما وهبه له ربّه وما أنزل وينزل عليه ـ ومن ذلك وجوده ـ إذ يقول:( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (٢) .

وقد وصف الله ذاته في تسعة عشر موضعاً(٣) آخر بأنّه الغني إذ يقول ـ على غرار ما مر في الآية المبحوثة هنا ـ:( واللهُ الغَنْيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ ) (٤) .

فقر الأشياء وبرهان الإمكان

إنّ هذه الآية، أعني قوله تعالى:( وَاللهُ الغَنْيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ ) ، يمكن أن

__________________

(١) النجم: ٤٨.

(٢) القصص: ٢٤.

(٣) نشير فيما يلي إلى هذه المواضع بذكر السورة والآية :

البقرة: ٢٦٣ و ٢٦٧.

آل عمران: ٩٧.

الأنعام: ١٣٣.

يونس: ٦٨.

إبراهيم: ٨.

الحج: ٦٤.

النمل: ٤٠.

النساء: ١٣١.

العنكبوت: ٦.

لقمان: ١٢ و ٢٦.

فاطر: ١٥.

الزمر: ٧.

محمّد: ٣٨.

الحديد: ٢٤.

الممتحنة: ٦.

التغابن: ٦.

(٤) محمّد: ٣٨.

١٣٧

تكون ناظرة إلى « برهان الإمكان »(١) ، لأنّ التركيز في هذه الآية واقع ـ كما نرى ـ على مسألة « الفقر والاحتياج » الكائنين في أبناء البشر والملازمين للكيان الإنساني حتى بعد وجوده، ملازمة الظل للشاخص.

إنّ الفقر والاحتياج عين الإمكان أو ملازم له، لأنّ الممكن يفقد ـ بطبيعته ـ الوجود، والعدم، إذا قيس ب‍ « واجب الوجود » و « ممتنع الوجود »، ولذا فالممكن في حد ذاته مفتقر في اتصافه بإحدى الحالتين ( أعني: الوجود والعدم ) إلى العلة التي توجده، أو تعدمه.

فعندما نقول: الإنسان ممكن الوجود فكأنّنا نقول: الإنسان فاقد ـ في مقام التصور ـ للوجود ومحتاج للتلبّس بالوجود والاتصاف به إلى « غني » يأتي به ويهب له الوجود.

لهذا يمكن القول بأنّ أساس الاستدلال في هذه الآية هو: « برهان الإمكان ».

__________________

(١) المقصود من الإمكان في هذا الفصل هو: الإمكان الماهوي الذي هو صفة الماهية والمفاهيم الذهنية، وليس الإمكان الوجودي الذي له معنى آخر وأجماله هو: « تعلّق الموجودات بالله القائم بنفسه ».

والحاصل أنّ الإمكان قد يقع صفة للماهية ومعناه حينئذ تساوي « الماهية » بالنسبة إلى الوجود والعدم.

وقد يقع صفة لنفس « الوجود » ولا يصح حينئذ تفسيره بتساوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، إذ لا معنى لتساوي الوجود بالنسبة إلى الوجود، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري، بل معناه عندئذ قيامه بالواجب القيوم واحتياجه إليه: ( حدوثاً وبقاءً ).

١٣٨

التوحيد الاستدلالي: البرهان الثاني

الأُفول والغروب

يدلّ على وجود مسخّر

( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَباً قالَ هٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأَىٰ القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هٰذَا رَبّي هٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمٰوَاتِ والأرضِ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ *وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَاني وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ *وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ باللهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (١) .

__________________

(١) الأنعام: ٧٥ ـ ٨٣.

١٣٩

قبل أن نبيّن هدف هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط تساعد على فهم مفاد هذه الآيات :

١. « الملكوت » و « الملك » تهدفان إلى معنى واحد غير انّه أُضيف إلى الأوّل « الواو والتاء » لأجل المبالغة والتوكيد على غرار « جبروت » و « طاغوت » الذي يرجع أصلهما إلى جبر وطغيان.

وحيث إنّ معنى الملك هو المالكية والحاكمية لذلك فمن الطبيعي أن يكون معنى الملكوت هو ذلك المعنى نفسه مع المبالغة والتأكيد.

وسوف نوضح عند شرح استدلال إبراهيمعليه‌السلام كيف أبطل الخليل: حكومة الكواكب والشمس والقمر ومشاركتها في تدبير نظام الكون والحياة الإنسانية. وبالتالي أعلن عن اعتقاده بأنّه ليس للكون سوى « مدبّر » واقعي واحد تجري أُمور العالم تحت إرادته خاصّة.

٢. استفاد بعض المفسّرين من العبارات التالية: « رأى كوكباً، فلما رأى القمر » وما يماثلهما أنّ إبراهيمعليه‌السلام قال هذه العبارات عندما وقع نظره ـ لأوّل مرّة ـ على تلك الكواكب إذ أنّه لم يكن قد رآها قبل ذلك.

وتؤيد بعض الروايات هذا الرأي حيث تقول: إنّ أُم إبراهيمعليه‌السلام أخفته منذ بدء طفولته في الغار، خوفاً عليه من بطش طاغية زمانه « نمرود »، وكان هذا أول خروجه من الغار، والتحاقه بمجتمعه، وقومه، وأوّل خطوة له في مطالعة ما حوله والتحقيق فيما يراه.

غير أنّ هاهنا احتمالاً آخر هو أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان قد رأى الشمس والقمر والكواكب من قبل، ولكنَّه لم ينظر إليها بنظرة الباحث المدقّق، وكان هذا أوّل

١٤٠

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672