مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149946 / تحميل: 5730
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد أنّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدّة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدّة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظنّاً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردّد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد أنّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

_____________________

١ - الأنبياء: ٨٧.

٨١

ممثّلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسّماً وممثّلاً لهذا الظن في كل مَن رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولمّا خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) .

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنّون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فإنّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أنّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوّته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيّدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأنّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكنّ بالمعنى الذي عرفت: أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

_____________________

١ - الحشر: ٢.

٨٢

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألدّاء، وكان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضرّاء، مظنّة لأن يتخيّل كل مَن وقف عليها من نبي وغيره، أنّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول:( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ) (١) .

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢) .

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضرّاء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّ-ها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجّر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة( متى نصر الله ) مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنّة تصوّر استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس ممّا ذكرناه.

_____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - البقرة: ٢١٤.

٨٣

الآية الثانية:

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٣) .

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، وقد استغلّها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسّر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخّل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يُلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلّمين على المصونية في هذا المجال.

وربّما يؤيّد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصّه وما فيه من الإشكال.

_____________________

١ - الحج: ٥٢.

٢ - الحج: ٥٣.

٣ - الحج: ٥٤.

٨٤

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن أنّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدلّ، فنقول: يجب توضيح نقاطٍ في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه:( إذا تمنّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه:( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله:( ثمّ يحكم الله آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته والمنيّة: الموت؛ لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدّره، ومنى مكّة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله(١) .

_____________________

١ - المقاييس: ٥/٢٧٦.

٨٥

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك مَن سبر الذكر الحكيم أنّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخطّطون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطّة بعد الخطّة، ويمهّدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم:( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين َ) (١) .

ويقول أيضاً:( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (٢) .

ويقول أيضاً:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ) (٣) .

ويقول سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٤) .

ويقول سبحانه:( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ ) (٥) .

هذا كلّه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته:( وَإِنّي كُلَّما

_____________________

١ - يوسف: ١٠٣.

٢ - فاطر: ٨.

٣ - النحل: ٣٧.

٤ - القصص: ٥٦.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٨٦

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) (١) .

ويقول سبحانه بعد عدّةٍ من الآيات:( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ) (٢) .

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم، وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وإن منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع؛ فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلمّ معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح، فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

١ - أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وأنّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

_____________________

١ - نوح: ٧ - ٩.

٢ - نوح: ٢١ - ٢٤.

٨٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنصّ القرآن الكريم؛ لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلّل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفيّ بنص الآيات.

٢ - أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياءعليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخطّطاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحضّ أقوام الأنبياءعليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه:( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (٣) .

_____________________

١ - الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥.

٢ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٣ - النساء: ١٢٠.

٨٨

وقال سبحانه:( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدّة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنّى ) أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدّمات( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) (بحضّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدّمات عقيمة غير منتجة ).

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه:( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) ، وقال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٤) .

_____________________

١ - إبراهيم: ٢٢.

٢ - غافر: ٥١.

٣ - المجادلة: ٢١.

٤ - الأنبياء: ١٨.

٨٩

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) (١) .

وقال في حق النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُونَ ) (٣) .

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبيّن معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبيّن المراد من قوله سبحانه:( ثمّ يحكم الله آياته ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق أضف إليه أنّه ليس كل نبيٍّ ذا كتاب وآيات ،

_____________________

١ - الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

٢ - التوبة: ٣٣.

٣ - الأنبياء: ١٠٥.

٩٠

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: إنّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني، فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه:( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (١) .

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

١ - الذين في قلوبهم مرض.

٢ - ذات القلوب القاسية.

٣ - الذين أُوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

_____________________

١ - الإسراء: ٨١.

٩١

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصموداً.

وهذه النتيجة حاكمة في عامّة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ ) (١) ، وإنّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : ( ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب)(٣) .

وقد وقفت بعد ما حرّرت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدّس الله سرّه - وهو قريب ممّا ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي، ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

_____________________

١ - الملك: ١٤.

٢ - الأنفال: ٢٨.

٣ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم: ٩٣.

٩٢

الصالح ما يشوّشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه، وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويؤيّد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم(١) .

وما ذكره - قدّس الله سرّه - كلام لا غبار عليه، وقد شيّدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسّك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومَن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو أنّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخّل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها ) واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (٢) فقرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ:( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين: ( تلك

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٤.

٢ - النجم: ١ - ٢.

٣ - النجم: ١٩ - ٢٠.

٩٣

الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) فتكلّم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:

( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان(٢) .

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحّة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله ( تمنّى ) بمعنى تلا، وأنّ لفظة ( أُمنيته ) بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث، ولو صحّ فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

_____________________

١ - الإسراء: ٧٣، ٧٥.

٢ - تفسير الطبري: ١٧/١٣١، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٩٤

نعم استدلّ بعضهم بقول حسّان على ذاك الاستعمال:

تمنّى كتاب الله أوّل ليلةٍ

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صحّ إسنادهما إلى عربي صميم كحسّان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذّة.

أضف إلى ذلك أنّ البيت غير موجود في ديوان حسّان، وإنّما نقله عنه المفسّرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج٦ ص٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج٥ ص٢٧٧).

ولو صحّ الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصّة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة، وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ(١) .

وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها؛ لأنّها تتضمّن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقيّة السورة إلى آخرها

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٩٥

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكنّ الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه:( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندّد بآلهتهم بشدّة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصّة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصّة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاًّ لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيّه الأكرم بقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيّه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيّه ما ينافي هذا التوصيف أشدّ المنافاة، وفي وسعه سبحانه صون نبيّه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذّبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_____________________

١ - النجم: ٢٢ - ٢٣.

٢ - النجم: ٣ - ٤.

٣ - الجن: ٢٧.

٩٦

وقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل * لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها(٢) .

وقال النسفي: إنّ القول بها غير مَرْضيّ وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٣) .

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصّة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصّة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا ( فروغ أبديت )(٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

_____________________

١ - الحاقة: ٤٤ - ٤٦.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٩.

٣ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٤ - كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طُبع في جزأين.

٩٧

الطائفة الثانية

ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمسّ بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

- ١ -

عصمة آدمعليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفي العصمة عن عدّة معيّنة من الأنبياء، وراعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدّم البحث عن عصمة آدمعليه‌السلام على البحث عن عصمة نوحعليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهيّ عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم ( كبيت القصيد ) في ذلك المجال، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

٩٨

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

ويقول سبحانه:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٢) .

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصّة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكّيّة وسورة البقرة مدنية، ولمّا توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

____________________

١ - البقرة: ٣٥ - ٣٧.

٢ - الأعراف: ١٩ - ٢٤.

٩٩

ويقول سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (١) .

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمّات هذه القصّة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

١ - ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:( لا تقربا ) ؟

٢ - ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

٣ - ماذا يراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

٤ - ماذا يراد من قوله:( فعصى آدم ربّه فغوى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

٥ - ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله:( ربّنا ظلمنا أنفسنا ) ؟

____________________

١ - طه: ١١٥ - ١٢٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

معنى الدور البديهي البطلان.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كسابقيه في التهافت والبطلان، إذ ليس هنا من يدّعي أنّ السماوات والأرض مخلوقة لأُولئك البشر وأنّ البشر هم خالقوها وموجدوها فيتعين أن يكون لها خالق وهو الذي يسمّى ب‍ « الله ».

وأخيراً يمكن أن نستنتج من بطلان الاحتمالات الثلاثة أنّ البشر حيث لا يمكن أن يوجد بدون علّة تعطيه الوجود، كما لا يمكن أن يكون علة لوجود نفسه، ولا يمكن أن يكون هو خالق السماوات والأرض، لذلك لابد أن يكون للبشر والسماوات والأرض من خالق وهو من يشار إليه بلفظة « الله »، وهو خالق الجميع بلا استثناء.

لقد طرح في المقطع الأوّل هذا السؤال:( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) .

أي هل خلق منكرو وجود الله من تلقاء أنفسهم، وعلى نحو المصادفة دون علة ؟

والجواب هو النفي طبعاً، لأنّ تلك الموجودات ( أعني: المنكرين ) أشياء ممكنة الوجود، وكل ممكن مرتبط في وجوده بعلّة ومحتاج إليها فيه.

وهذا المقطع من الآية ناظر ـ على ما يبدو ـ إلى « برهان الإمكان ».

وفي المقطع الثاني من تلك الآية، ( أعني قوله:( أَمْ هُمُ الخالِقُون ) ) والذي جرى الحديث فيه عن خلق الشيء لنفسه، يؤلّف « بطلان الدور » أساس البرهان فيه.

لأنّ منكري الله ـ بحكم أنّهم علّة لوجود أنفسهم ـ يجب أن يكونوا

١٦١

موجودين متحقّقين قبل أنفسهم، وهذا هو تقدّم الشيء على نفسه، وهو محال، لأنّه دور.

وأمّا في الآية الثانية ( أعني قوله:( أَمْ خَلَقُوا السَّمٰوَاتِ والأرض ) ) فقد استدل فيها على وجود الله ببرهان « النظم » أو ببرهان آخر يقرب منه كدلالة « المصنوع على صانعه »، و « الأثر على مؤثره ».

فإذا كان أساس البرهان هو نظام السماوات والأرض فالآية حينئذ تكون ناظرة إلى « برهان النظم ».

وإذا كان أساسه هو « دلالة الآثر على المؤثر »، فالآية حينئذ ناظرة إلى برهان آخر ولعلّها ناظرة إلى « برهان الإمكان » أو « برهان الحدوث ».

وأمّا دلالة « المصنوع على الصانع » التي وردت الإشارة إليها في عنوان هذا البحث فليست ببرهان مستقل، بل تعود إلى أحد هذه البراهين ونحن لم نذكرها بصورة مستقلة إلّا للتنوّع.

وها هنا ينطرح سؤالان هما

الأوّل: انّ إبطال هذه الاحتمالات الثلاثة لا يفيد أكثر من إثبات احتياج البشر والسماوات والأرض إلى موجد وخالق.

وأمّا أنّ موجد الجميع هو الله « الواحد » فلا يستفاد من إبطال هذه الاحتمالات أبداً، ولا يثبت من خلال ذلك بل وربما يمكن التصوّر بأنّ خالق البشر غير خالق السماوات والأرض أو يمكن أن يكون خالق العالم والبشر غير مدبّر أُمورهما فما هو وجه دلالة إبطال الاحتمالات المذكورة على وحدانية الخالق والمدبّر ؟

١٦٢

الجواب

لقد ذكر القرآن الكريم لإبطال هذا التصوّر وهذا الاحتمال جملة رابعة حيث قال في الآية الثالثة من الآيات المذكورة في مطلع البحث :

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

إنّ التوحيد في الخالقية والمدبّرية قد أبطل هذا التصوّر وهذا الاحتمال ( ونعني احتمال تعدّد خالق البشر والكون ومدبّرهما ). لأنّ الخالق والمدبّر ـ بحكم التوحيد في الخالقية والمدبّرية ـ ليسا أكثر من واحد.

من هذا البيان يتضح أنّ المقصود من « الإله » في الآية السالفة ليس هو مطلق المعبود المتخذ بعنوان الشفيع والمقرب بل أمر أعلى من ذلك، وهو من يقدر على الخلق والإيجاد والتدبير.

فيكون معنى قوله تعالى:( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ ) أي هل لهم خالق ومدبّر غير الله ؟

وبهذا لم يبق القرآن مجالاً لتصور تعدد خالق البشر والكون ومدبّرهما.

السؤال الثاني: أنّ المخاطبين في هذه الآيات ـ المطروحة هنا على بساط البحث ـ لا ريب هم « مشركو مكة » وهم لم يكونوا معتقدين بوجود الله حسب، بل كانوا ـ فوق ذلك ـ يعتبرونه الخالق الوحيد للكون والإنسان جميعاً.

وفي هذه الصورة ما هو الداعي لطرح هذه الاحتمالات ثم إبطالها والقوم مؤمنون بالله أساساً، وجوداً، ووحدانية في الخالقية والمدبّرية ؟

١٦٣

وهل ذنب هؤلاء ليس سوى إعراضهم عن عبادة الله وحده، وعبادة الأصنام التي ظنوا أنَّها شفعاء لا أكثر.

أفليس مقتضى البلاغة في المقام هو صب الحديث على معتقداتهم التي هم عليها، لا النقاش فيما لم يكن عندهم بموضع نزاع بل كان موضع اتفاق ( أعني: وجود الله الواحد ).

انّ الجواب على هذا السؤال هو ما قلناه، وبينّاه في قوله تعالى:( أَفِي اللهِ شَكٌّ ) .

فهناك قلنا: بأنّ القرآن الكريم يحاول بطرح هذه التساؤلات أخذ الاعتراف من ضمائرهم وتحريك ما هو كامن في فطرتهم لأجل إيقاظها وتنبيهها، كمقدمة لأخذ نتيجة أُخرى.

إنّ القرآن يسعى من خلال الاستفادة من المقدمة المسلم بها التي تنطوي عليها ضمائر القوم وهي « اعترافهم بوجود الله الواحد » أن يمهد لدعوتهم إلى عبادة الله الواحد، وهدايتهم إلى توحيد العبادة.

فبأخذ هذا الاعتراف منهم ( نعني الاعتراف بأنّه لا خالق ولا مدبّر لهم إلّا الله، وأنّه الخالق المدبّر الوحيد الذي منه وجود وتدبير كل الكائنات على الإطلاق ).

أقول: بأخذ هذا الاعتراف يوجه القرآن ضربة قاضية إلى مسلكهم المنحرف في العبادة، لأنّه إذا كان الخالق والمدبّر واحداً لا أكثر وإذا كان هذا الخالق والمدبّر هو الوحيد الذي استمدت منه كل الموجودات ( من إنسان وغيره ) وجودها وتدبيرها، فإذن لابد من عبادته وحده، والكف عن عبادة غيره من الموجودات

١٦٤

الحقيرة الذليلة المحتاجة هي إلى ذلك الخالق المدبّر العظيم(١) .

__________________

(١) وبهذا يكون القرآن الكريم قد هدم بنيان الشرك العبادي ونسف قواعده وأركانه مع الاستفادة من قضية وجدانية مفيدة عندهم.

وفي الحقيقة فأنّ القرآن الكريم يكون ـ في الوقت الذي عرّف العالم فيه على منطق التوحيد ـ قد أثبت ضرورة التوحيد العبادي، الذي كان مشكلة مخاطبي القرآن في ذلك العصر أيضاً.

ومع ملاحظة هذا النوع من الاستدلال الموضوعي الرصين نكتشف مدى تمشي القرآن مع جميع العصور وجميع الأجيال رغم أنّه نزل ليعالج مشاكل موجودة في عصر نزوله ضمناً.

١٦٥

التوحيد الاستدلالي: البرهان السابع والثامن

١. برهان الإمكان

٢. برهان النظم

تركيب الخلايا البشرية العجيبة

ونمو النباتات وتساقط المطر

وخلقة الأشجار تشهد بوجود خالقها

( هٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ *نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) (١) .

( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) (٢) .

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ *لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُون *أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُون ) (٣) .

__________________

(١) الواقعة: ٥٦ ـ ٥٩.

(٢) الواقعة: ٦٣ ـ ٦٥.

(٣) الواقعة: ٦٨ ـ ٧٢.

١٦٦

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) (١) .

الآيات كلّها من سورة الواقعة(٢) .

قبل أن نشرع في بيان مفاد هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط :

١. أنّ الهدف الأصلي للآيات القرآنية هو: الدعوة إلى الإيمان بالمعاد، وبعث الإنسان في يوم القيامة، وضرورة عبادة الله وحده.

وأمّا مسألة إثبات وجود الله، فلها جانب ضمني في هذه الآيات، كما سنبين ذلك.

بل انّ مراجعة آيات هذه السورة [ أي سورة الواقعة ] تفيد أنّ الهدف الأصلي لهذه السورة التي تبدأ بآية( إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ ) والآيات المبحوثة هنا التي تبدأ بقوله:( هٰذَانُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) .

إنّ الهدف هو ـ في الحقيقة ـ إثبات إمكان المعاد، حتى أنّ مسألة لزوم عبادة الله وحده تقع في الدرجة الثانية من اهتمام وهدف هذه السورة.

وقد أُشير إلى هذا الهدف الثانوي في قوله سبحانه:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) .

ولكن على الرغم من ذلك يمكننا أن نجد في الآيات المذكورة إشارات واضحة إلى وجود الصانع حتى لأوّل نظرة.

وحيث إنّ آيات هذه السورة تشبه ـ من جهة طرح التساؤلات ـ سورة

__________________

(١) الواقعة: ٧٤.

(٢) لقد اكتفينا هنا بنقل الآيات المرتبطة بهذا البحث التوحيدي وللمزيد من الاطلاع والتوضيح ينبغي مراجعة مجموع الآيات من ٥٦ ـ ٧٤ في السورة نفسها.

١٦٧

الطور، لذلك رأينا أن نجعل كلا القسمين إلى جانب بعض، وسيتضح بالتأمل والإمعان في آيات هذه السورة، وآيات سورة الطور أنّ القرآن الكريم جعل الإنسان أمام حزمة من التساؤلات، تماماً على النمط السقراطي، لأجل إيقاظ وجدان البشر، ليتسنّى له في ظل هذه اليقظة أن يميّز الحق عن الباطل، وليخضع ـ بالتالي ـ لمنطق الحق ولا يكون له سبيل إلى غير ذلك.

٢. لقد طرح القرآن الكريم في هذه الآيات أربعة مواضيع :

١. تركيب الخلية البشرية وخلقتها العجيبة.

٢. نمو النباتات وحفظها وصيانتها عن الآفات.

٣. نزول الغيث وصيانته عن التلوث والتأسن والاجوج.

٤. استخراج ونشأة النار من الشجر.

وفي الحقيقة فإنّ موضوع البحث في هذه الآيات هو: الإنسان والنعم الثلاث الكبرى، وهي: المواد الغذائية، والماء، والنار التي لا يمكن أن يحيا البشر بدونها(١) .

٣. انّ طريقة الاستدلال في هذه الآيات هي من باب الاستدلال بوجود المصنوع ( وهو هنا النطفة البشرية، وتربية النباتات، ونزول المطر، وخلق الأشجار ) على وجود الصانع.

صحيح أنّ للإنسان مشاركة جزئية في تكون ونشوء هذه الظواهر الطبيعية كاللقاح والجماع في تكون الإنسان، والبذر، إلّا أنّ هذه المشاركة الجزئية والتأثير الجزئي لا يكفي في تكون وظهور هذه الظواهر والموجودات، وما لم تكن ثمة قدرة

__________________

(١) تفسير الرازي: ٢٩ / ١٨٠.

١٦٨

عليا مطلقة تساعد على تأثير هذه المقدمات لما أمكن لها أن تتواجد وتتكون وتأتي إلى منصة الظهور وساحة الوجود.

وإليك توضيح المطلب

في الآيات:( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ *ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) يتحدث القرآن الكريم عن مبدأ وجود وتكون الإنسان وهو ما أسماه بالنطفة.

وقد اعترف القرآن بسهم الوالدين في نشوء الإنسان وتكوّنه، ولكنه اعتبر إسهامهما هذا في مستوى عملية النقل والانتقال فقط.

وتلك العملية تتمثّل في أنّ الأب ينقل جزءاً منه، من موضع معين في جسمه إلى رحم الأُم لا أكثر.

أمّا من خلق النطفة ومن أوجدها ؟ فلا يمكن أن نعتبر الأب هو الخالق لها، لبداهة جهله بحقيقتها.

ولذلك فلا مناص من أن يكون لها خالق معين.

خالق أعطى ـ بقدرته وعلمه ـ للنطفة، القدرة على النمو في رحم الأُم، ومكّنها من الرشد في ذلك الجو، حتى يتكون الموجود البشري.

من المسلم أنّ تكوين هذه الذرة العجيبة يحكي عن موجود أعلى من الإنسان، هو الذي خلق هذه البداية العجيبة للبشر.

وقد تحدث القرآن الكريم ـ في هذه الآية ـ على نمط الاستدلال بالمصنوع على الصانع، والنظام على المنظم.

وفي الآيات:( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ )

١٦٩

طرحت مسألة الزراعة، ونرى فيها أنّ القرآن الكريم يسهم الزّراع في ظهور النباتات وتواجدها، ولكنّه يعتبر اسهامهم محدوداً لا يتعدّى عملية بذر البذور، ولهذا يسمح بأن يطلق عليهم صفة الزارع(١) .

ولكن عمل الزارع لا يتجاوز هذا الأمر، أعني: البذر.

غير أنّ هذا العمل وحده غير كاف في مسألة الزراعة ونشوء النباتات والثمار لأنّه :

يسأل أوّلاً: من الذي خلق البذرة ؟ وعلى قدرة من اعتمدت هذه الحبة بحيث استطاعت أن تتسبب في ظهور مئات الحبات ونشوئها في شكل سنابل ؟

لا مناص من أن يكون لهذه الحبة خالقاً غير البشر.

ثم يسأل ثانياً: هل يكفي لتربية النباتات وخروجها مجرد الحرث وبذر البذور، أم أنّ مئات العوامل والعلل الخارجية الأُخرى، يجب أن تتضافر وتتفاعل وتتعاضد فيما بينها لتمنع من جفاف النبتة والسنبلة، وهذا شيء خارج عن قدرة البشر.

ترى هل هذا كلّه من صنع الله أم من فعل العوامل المخلوقة لله ؟

وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن بقوله :

( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٢) *إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) (٣) .

__________________

(١) إلّا أنّه لا يخلو من العناية والمجاز كقوله سبحانه:( يَعْجَبُ الزُّرَاّعَ ) (الفتح: ٢٩).

(٢) تتفكهون أي تتحدثون، وأصله من التفكّه: أخذ الشيء فاكهة واستعير للحديث الذي يتحدثون به تفرجاً بتناوله.

(٣) الواقعة: ٦٥ ـ ٦٧.

١٧٠

وفي هذا الاستدلال استدلّ القرآن بوجود المصنوع ( كالمزارع الخضراء وحفظها وصيانتها من الجفاف ) على وجود الصانع.

وقد جاء عين هذا الاستدلال في القسم الثالث والرابع أيضاً، فنزول المطر من السحاب ـ وهو أمر حادث ـ لا بد له من محدث

وإذا ساعدت بعض العوامل على ذلك، كتبخر مياه البحار بسبب الشمس، فإنّه لا محيص ـ في المآل ـ من أن يعتمد الموضوع على إرادة قادر متعال، هو الذي أوجد تلك العوامل، وهو الذي نسّقها، ونظّمها، وساعدها على التأثير وصانها من أي تلوث وأجوج كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ *لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (١) .

في هذا المورد استدل الكتاب الكريم بوجود ظاهرة هطول المطر، وظاهرة السحاب وصيانتها عن الأُجوج والتلوث، على وجود الصانع.

وعلى هذا النمط والغرار يكون أمر تواجد النار تلك الظاهرة العجيبة جداً.

فالإنسان لا يقوم في مسألة النار إلّا بدور الناقل فحسب.

فهو ـ كما نلاحظ ـ لا يفعل إلّا إيصال شعلة الكبريت إلى الحطب في المطبخ لا أكثر.

لهذا فلا يكون للإنسان أي دور في نشأة هذه الظاهرة ( النار ) وتكوّنها، أللّهم إلّا عملية الإشعال والوري.

__________________

(١) الواقعة: ٦٨ ـ ٧٠.

١٧١

ولذلك نسب القرآن الكريم عملية « الوري » إلى البشر، إذ قال :

( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ) .

ولكن الوري والإيقاد وحده لا يكفي في تكوّن هذه الظاهرة، أعني: النار، بل لابد من قادر أوجد بقدرته هذه المواد الاحتراقية في الشجر يابسه ورطبه حتى يتأتّى ـ ضمن شروط وفي ظروف خاصة معينة ـ أن تشتعل.

ترى هل يمكن لأحد أن ينكر تأثير قدرة عليا في ظهور هذه الأشجار التي تختزن المواد الاحتراقية ؟

بالطبع لا.

ولذلك يقول الكتاب العزيز :

( ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) .

وفي هذه الأقسام الأربعة استدلّ بوجود المصنوع على وجود الصانع القادر العالم.

وفي الختام نعترف ـ ثانية ـ بأنّه مع أنّ هذه الآيات تستدل على وجود الله بطريق الإن، غير انّ مقصودها الأصلي ليس إثبات أصل وجود الله، بل المقصود والهدف هو الاستدلال على إمكان وقوع المعاد وبعث الإنسان بعد موته، ونشور الكون بعد انعدامه، وإنّما ذكرت البراهين الدالة على وجود الله وخالقيته كمقدمة لإثبات إمكان إعادة الخلق بعد الموت.

لأنّنا حيث نعلم أنّ الفاعل والمدبّر لهذه الظواهر الكونية هو الله القادر فلماذا ننكر إمكانية المعاد الإنساني ؟!

١٧٢

وبتعبير القرآن :

( وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

فالآية تقول :

الآن وأنتم ترون آثار تلك القدرة الإلهية ظاهرة في عالم الخلق ساطعة في دنيا الطبيعة، فلم تستبعدون قدرته على إحياء الموتى وإعادة الكون والإنسان يوم القيامة ولماذا تنكرون المعاد ؟

وعلى كل حال لو كان مبدأ البرهان في هذه الآيات أنّ هذه الأشياء كانت فاقدة الوجود من ذي قبل، ولذلك فهي محتاجة في اتصافها بالوجود إلى علة فالآيات حينئذ، ناظرة إلى « برهان الإمكان ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التنبيه إلى النظام السائد في هذه الأشياء، فإنّ البرهان المشار إليه هنا هو « برهان النظم ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التركيز على سبق العدم على وجود الأشياء، فهو يعتمد على الاستدلال بالحدوث على وجود المحدث.

__________________

(١) الواقعة: ٦٢.

١٧٣

التوحيد الاستدلالي: البرهان التاسع

بطلان المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات

اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود

يبطل نظرية المصادفة

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ *وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ *وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) .

في هذه الآية يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة، وعشرات بل مئات وآلاف العوامل الخفيّة والبارزة التي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب الترابي، وكأنّها تقول: هل يمكن اجتماع كل هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة، ودون وجود خالق هو الذي أوجدها ورتّبها ونظمها، فحدثت ظاهرة الحياة على الصورة الموجودة ؟

وبهذا كما يمكن أن تكون هذه الآية دليلاً على وجود الصانع الخالق من

__________________

(١) البقرة: ١٦٤.

١٧٤

باب دلالة النظام على المنظم، كذلك يمكن أن تكون دلالتها على ذلك من باب بطلان نظرية المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات.

ويجدر بالذكر أنّ برهان محاسبة الاحتمالات وبطلان فرضية المصادفة من الأدلة الحديثة التي توصّل إليها العلماء الغربيون المعاصرون، وبلورهما العالم المعروف كريسي موريسون صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي كتبه خصيصاً لإبطال نظرية المصادفة، تلك النظرية التي تمسّك بها بعض الملحدين لإنكار وجود الخالق.

ولأجل أن نعرف معنى المصادفة، وكيفية بطلانها علميّاً وحسابيّاً لابد أن نعطي شرحاً لذلك ثم نشير إلى بعض الأدلة التي أشار إليها العلامة السالف الذكر، وغيره من العلماء في هذا المجال.

ما هو المقصود من المصادفة ؟

ليس المقصود من المصادفة هو بروز حادثة وظاهرة معينة دون علّة خارجية، لأنّ هذا التفسير للتصادف يتنافى مع قانون العلية الذي يقرّ به ويعترف كل العلماء في العالم، فليس بين العلماء والفلاسفة من ينكر قانون العلية هذا، أللّهم إلّا « هيوم » الفيلسوف الانجليزي المعروف، على أنّه إنّما أنكر هذا القانون الكلّي لأجل أنّه أراد أن يثبته عن طريق التجربة، وكان يرى التجربة أعجز من أن تثبت أصالة لهذا القانون.

أمّا لماذا كان يرى أنّ التجربة أعجز من أن تثبت ذلك فلسنا بصدده الآن. ولو كان هيوم مطّلعاً على القوانين والمقدمات الفلسفية لهذا الأصل، لما كان يحدث له أي شك في ذلك.

١٧٥

إنّما المقصود من المصادفة ـ عند الماديين وفي منطقهم ـ هو أن تتسبب سلسلة من التفاعلات الطويلة والحركات المتتالية في ظهور ظاهرة أو ظواهر منظمة، دون أن يكون وراء ذلك أيُّ تخطيط وأيّة محاسبة، ودون أن يكون وراء ذلك أيُّ موجد منظم ومخطط، كأن يلعب طفل بآلة كاتبة ـ طويلاً ـ حتى تظهر قصيدة منظمة، أو تنحدر صخرة وتسقط عدة مرّات من فوق جبل، وتتحول فجأة ـ وبعد اصطدامها المكرر بالصخور ـ إلى تمثال إنسان معين، وهكذا.

هذا هو رأي الماديين حول وجود الكون وظهور النظام الكوني، ولكن برهان محاسبة الاحتمالات الذي سندرسه في هذا الفصل يبطل وجود الكون المنظم عن طريق المصادفة، وإليك توضيح ذلك.

ظاهرة الحياة

سواء اعتبرنا الحياة ظاهرة مادية مائة بالمائة وأثراً كيمياوياً لتفاعلات المادة، أم اعتبرناها ظاهرة مجرّدة، فإنّه لابد من الإذعان ـ حتماً ـ بأن تحقّق الحياة في هذه الكرة أو في غيرها من الكرات يحتاج إلى عوامل وشرائط كثيرة، حتى يتسنّى أنّ تتحقق الحياة على الأرض بسببها، ومن المعلوم أنّ اجتماع هذه الشرائط والعوامل الكثيرة، بمحض المصادفة بعيد إلى درجة أنّه لا يمكن عدّه في عداد الاحتمالات المعقولة، والعقلائية.

وعندما يلزم، لتحقق ظاهرة مادية من الظواهر، توفر عوامل متعددة فإنّ كل عامل من هذه العوامل سيكون جزءاً من العلة، يستوجب وجوده وجود الظاهرة، وفقدانه فقدانها، قطعاً.

وبالنسبة إلى ظاهرة الحياة فإنّ عدد العوامل والظروف الموجبة لتحققها على

١٧٦

الأرض من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحيط بها فكر البشر، وبحيث إنّ احتمال اجتماعها عن طريق التصادف ما هو إلّا احتمال واحد من بين مليارد من الاحتمالات، ومن غير الممكن لعاقل أن يعتمد في تفسير وجود الظاهرة على مثل هذا الاحتمال من بين ذلك الركام الهائل من الاحتمالات، والفروض.

ولهذا يقول العالم الكندي المتخصص في الطبيعة البيولوجية حول نظرية المصادفة :

« إنّ ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة »(١) .

كما لهذا السبب أيضاً قال العالم الجليل: « كريسي موريسون » في كتابه: « العلم يدعو للإيمان » :

« إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة »(٢) .

وقال في موضع آخر من نفس الكتاب :

« إنّ للحياة فوق أرضنا هذه شروطاً جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابياً أن تتوافر كلّها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت »(٣) .

ثمّ يضرب العالم المذكور مثلاً لذلك بالغازات التي نستنشقها ونتنفسها

__________________

(١) راجع « الله يتجلّى في عصر العلم »: ٥، مقال: هل العالم مصادفة ؟

(٢) العلم يدعو للإيمان: ١٩٥.

(٣) المصدر السابق: ٢٤.

١٧٧

قائلاً :

« إنّ الاوكسجين والهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون والكاربون سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة ـ بعضها مع بعض ـ هي العناصر البيولوجية الرئيسية وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة. غير أنّه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين، تقضي بأن تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد، بتلك النسب الصحيحة اللازمة للحياة ! وليس لدى العلم إيضاح لهذه الحقائق.

أمّا القول بأنّ ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدّى العلوم الرياضية »(١) .

ولكي يتضح هذا البحث نشير إلى بعض هذه الظروف والشرائط التي يكون لكل واحد منها دور مهمّ ومؤثر في نشأة الحياة واستمرارها على هذا الكوكب الترابي، بحيث لو فقد لانتفت هذه الحياة، ولامتنع وجودها بالمرة.

١. يحيط بالكرة الأرضية غلاف جوّي غليظ من الغازات يقدر العلماء ضخامته ب‍ « ٨٠٠ » كيلومتر، وهو بمثابة ترس واق يحفظ سكان هذه الكرة من خطر عشرين مليوناً من الشهب القاتلة والصخور الفضائية المتناثرة كل يوم في الفضاء والتي يبلغ سرعة الواحد منها ٥٠ كيلومتراً في الثانية، حيث يحول هذا الغلاف دون وصول تلك الصخور إلى الأرض.

ولو كان هذا الغلاف الواقي أرق وألطف مما هو عليه لاخترقت النيازك ـ كل يوم ـ غلاف الأرض الجوي الخارجي، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها.

__________________

(١) المصدر السابق: ٧٣.

١٧٨

فهذه النيازك والصخور الفضائية الطائرة في الجو تواصل رحلتها بسرعة ٦ إلى ٤٠ ميلاً في الثانية، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنّها ستحرق كل شيء تصطدم به وتحدث فيه انفجاراً هائلاً.

ولو كان سرعتها أقل من ذلك، أي كان بسرعة رصاصة، وكانت تصل كلّها إلى الأرض، لأحدثت فيها خراباً لا يتحمل، وحولتها إلى غربال.

إنّ للغلاف الهوائي للأرض ـ مضافاً إلى الخاصية المذكورة ـ دوراً آخر وهو حفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة.

٢. انّ الماء لهو من عوامل الحياة على وجه الأرض، فلكي تستمر الحياة في المحيطات والبحار والأنهر، خلال فصول الشتاء الطويلة فقد خلق هذا العنصر الحياتي وهذه المادة الحيوية بشكل خاص بحيث ينجمد إذا بلغت درجة الحرارة ما يقارب الصفر، وبذلك يحدث ويوجد غطاء يمنع من خروج الحرارة من داخل المياه، ونتيجة لذلك تبقى المياه في أعماق البحار والأنهر وما شابه على حالة السيولة والميعان، إذ في غير هذه الصورة لا يعني إلّا أن تنجمد مياه المحيطات والبحار والأنهر ويستحيل على أثر ذلك بقاء الحياة والأحياء.

ولا يخفى أنّ وزن الثلج، الخاص به يساعد على ذلك، إذ من البيّن أنّ وزن الثلج أخف من الماء السائل، ولذلك يطفو الماء المنجمد على السطح ولا ينزل إلى الأعماق.

٣. انّ الأرض هي أيضاً من عناصر الحياة ومقوّماتها كالماء تماماً، فهي تحتوي على مواد معدنية خاصة، تجذبها وتمتصها النباتات وتصنع منها الأغذية التي تحتاج إليها الحيوانات.

١٧٩

إنّ وجود المعادن والفلزات في باطن الأرض وعلى مسافة قريبة من متناول أيدي البشر هو سبب ظهور وجوه متنوعة من الحضارات الإنسانية والتي من أبرزها الحضارة التكنولوجية التي نعاصرها.

٤. لقد خلقت الأرض بجاذبية خاصة وعلى قطر خاص بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو مركزها وتحافظ عليها.

فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعلي لعجزت جاذبيتها عن الاحتفاظ بالماء والهواء على سطحها ولارتفعت درجة الحرارة إلى حد الموت.

ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن لانخفضت درجة حرارتها ( أي حرارة الأرض ) إلى ربع حرارتها الحالية، ولتضاعف طول مدة الشتاء فيها، ولانجمدت كل الأحياء فيها.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.

فهل يمكن ـ ترى ـ أن تكون كل هذه الشرائط والعوامل قد اجتمعت واتفقت وجعلت الحياة ممكنة، عن طريق التصادف في حين أنّ الاجتماع التصادفي لها كان من الممكن أن يؤول إلى آلاف الصور الأُخرى وتجعل الحياة في المآل غير ممكنة.

محاسبة أُخرى

تدور الأرض حول نفسها في كل ٢٤ ساعة دورة واحدة، وهي في دورتها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672