مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149732 / تحميل: 5728
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

معنى الدور البديهي البطلان.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كسابقيه في التهافت والبطلان، إذ ليس هنا من يدّعي أنّ السماوات والأرض مخلوقة لأُولئك البشر وأنّ البشر هم خالقوها وموجدوها فيتعين أن يكون لها خالق وهو الذي يسمّى ب‍ « الله ».

وأخيراً يمكن أن نستنتج من بطلان الاحتمالات الثلاثة أنّ البشر حيث لا يمكن أن يوجد بدون علّة تعطيه الوجود، كما لا يمكن أن يكون علة لوجود نفسه، ولا يمكن أن يكون هو خالق السماوات والأرض، لذلك لابد أن يكون للبشر والسماوات والأرض من خالق وهو من يشار إليه بلفظة « الله »، وهو خالق الجميع بلا استثناء.

لقد طرح في المقطع الأوّل هذا السؤال:( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) .

أي هل خلق منكرو وجود الله من تلقاء أنفسهم، وعلى نحو المصادفة دون علة ؟

والجواب هو النفي طبعاً، لأنّ تلك الموجودات ( أعني: المنكرين ) أشياء ممكنة الوجود، وكل ممكن مرتبط في وجوده بعلّة ومحتاج إليها فيه.

وهذا المقطع من الآية ناظر ـ على ما يبدو ـ إلى « برهان الإمكان ».

وفي المقطع الثاني من تلك الآية، ( أعني قوله:( أَمْ هُمُ الخالِقُون ) ) والذي جرى الحديث فيه عن خلق الشيء لنفسه، يؤلّف « بطلان الدور » أساس البرهان فيه.

لأنّ منكري الله ـ بحكم أنّهم علّة لوجود أنفسهم ـ يجب أن يكونوا

١٦١

موجودين متحقّقين قبل أنفسهم، وهذا هو تقدّم الشيء على نفسه، وهو محال، لأنّه دور.

وأمّا في الآية الثانية ( أعني قوله:( أَمْ خَلَقُوا السَّمٰوَاتِ والأرض ) ) فقد استدل فيها على وجود الله ببرهان « النظم » أو ببرهان آخر يقرب منه كدلالة « المصنوع على صانعه »، و « الأثر على مؤثره ».

فإذا كان أساس البرهان هو نظام السماوات والأرض فالآية حينئذ تكون ناظرة إلى « برهان النظم ».

وإذا كان أساسه هو « دلالة الآثر على المؤثر »، فالآية حينئذ ناظرة إلى برهان آخر ولعلّها ناظرة إلى « برهان الإمكان » أو « برهان الحدوث ».

وأمّا دلالة « المصنوع على الصانع » التي وردت الإشارة إليها في عنوان هذا البحث فليست ببرهان مستقل، بل تعود إلى أحد هذه البراهين ونحن لم نذكرها بصورة مستقلة إلّا للتنوّع.

وها هنا ينطرح سؤالان هما

الأوّل: انّ إبطال هذه الاحتمالات الثلاثة لا يفيد أكثر من إثبات احتياج البشر والسماوات والأرض إلى موجد وخالق.

وأمّا أنّ موجد الجميع هو الله « الواحد » فلا يستفاد من إبطال هذه الاحتمالات أبداً، ولا يثبت من خلال ذلك بل وربما يمكن التصوّر بأنّ خالق البشر غير خالق السماوات والأرض أو يمكن أن يكون خالق العالم والبشر غير مدبّر أُمورهما فما هو وجه دلالة إبطال الاحتمالات المذكورة على وحدانية الخالق والمدبّر ؟

١٦٢

الجواب

لقد ذكر القرآن الكريم لإبطال هذا التصوّر وهذا الاحتمال جملة رابعة حيث قال في الآية الثالثة من الآيات المذكورة في مطلع البحث :

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

إنّ التوحيد في الخالقية والمدبّرية قد أبطل هذا التصوّر وهذا الاحتمال ( ونعني احتمال تعدّد خالق البشر والكون ومدبّرهما ). لأنّ الخالق والمدبّر ـ بحكم التوحيد في الخالقية والمدبّرية ـ ليسا أكثر من واحد.

من هذا البيان يتضح أنّ المقصود من « الإله » في الآية السالفة ليس هو مطلق المعبود المتخذ بعنوان الشفيع والمقرب بل أمر أعلى من ذلك، وهو من يقدر على الخلق والإيجاد والتدبير.

فيكون معنى قوله تعالى:( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ ) أي هل لهم خالق ومدبّر غير الله ؟

وبهذا لم يبق القرآن مجالاً لتصور تعدد خالق البشر والكون ومدبّرهما.

السؤال الثاني: أنّ المخاطبين في هذه الآيات ـ المطروحة هنا على بساط البحث ـ لا ريب هم « مشركو مكة » وهم لم يكونوا معتقدين بوجود الله حسب، بل كانوا ـ فوق ذلك ـ يعتبرونه الخالق الوحيد للكون والإنسان جميعاً.

وفي هذه الصورة ما هو الداعي لطرح هذه الاحتمالات ثم إبطالها والقوم مؤمنون بالله أساساً، وجوداً، ووحدانية في الخالقية والمدبّرية ؟

١٦٣

وهل ذنب هؤلاء ليس سوى إعراضهم عن عبادة الله وحده، وعبادة الأصنام التي ظنوا أنَّها شفعاء لا أكثر.

أفليس مقتضى البلاغة في المقام هو صب الحديث على معتقداتهم التي هم عليها، لا النقاش فيما لم يكن عندهم بموضع نزاع بل كان موضع اتفاق ( أعني: وجود الله الواحد ).

انّ الجواب على هذا السؤال هو ما قلناه، وبينّاه في قوله تعالى:( أَفِي اللهِ شَكٌّ ) .

فهناك قلنا: بأنّ القرآن الكريم يحاول بطرح هذه التساؤلات أخذ الاعتراف من ضمائرهم وتحريك ما هو كامن في فطرتهم لأجل إيقاظها وتنبيهها، كمقدمة لأخذ نتيجة أُخرى.

إنّ القرآن يسعى من خلال الاستفادة من المقدمة المسلم بها التي تنطوي عليها ضمائر القوم وهي « اعترافهم بوجود الله الواحد » أن يمهد لدعوتهم إلى عبادة الله الواحد، وهدايتهم إلى توحيد العبادة.

فبأخذ هذا الاعتراف منهم ( نعني الاعتراف بأنّه لا خالق ولا مدبّر لهم إلّا الله، وأنّه الخالق المدبّر الوحيد الذي منه وجود وتدبير كل الكائنات على الإطلاق ).

أقول: بأخذ هذا الاعتراف يوجه القرآن ضربة قاضية إلى مسلكهم المنحرف في العبادة، لأنّه إذا كان الخالق والمدبّر واحداً لا أكثر وإذا كان هذا الخالق والمدبّر هو الوحيد الذي استمدت منه كل الموجودات ( من إنسان وغيره ) وجودها وتدبيرها، فإذن لابد من عبادته وحده، والكف عن عبادة غيره من الموجودات

١٦٤

الحقيرة الذليلة المحتاجة هي إلى ذلك الخالق المدبّر العظيم(١) .

__________________

(١) وبهذا يكون القرآن الكريم قد هدم بنيان الشرك العبادي ونسف قواعده وأركانه مع الاستفادة من قضية وجدانية مفيدة عندهم.

وفي الحقيقة فأنّ القرآن الكريم يكون ـ في الوقت الذي عرّف العالم فيه على منطق التوحيد ـ قد أثبت ضرورة التوحيد العبادي، الذي كان مشكلة مخاطبي القرآن في ذلك العصر أيضاً.

ومع ملاحظة هذا النوع من الاستدلال الموضوعي الرصين نكتشف مدى تمشي القرآن مع جميع العصور وجميع الأجيال رغم أنّه نزل ليعالج مشاكل موجودة في عصر نزوله ضمناً.

١٦٥

التوحيد الاستدلالي: البرهان السابع والثامن

١. برهان الإمكان

٢. برهان النظم

تركيب الخلايا البشرية العجيبة

ونمو النباتات وتساقط المطر

وخلقة الأشجار تشهد بوجود خالقها

( هٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ *نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) (١) .

( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) (٢) .

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ *لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُون *أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُون ) (٣) .

__________________

(١) الواقعة: ٥٦ ـ ٥٩.

(٢) الواقعة: ٦٣ ـ ٦٥.

(٣) الواقعة: ٦٨ ـ ٧٢.

١٦٦

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) (١) .

الآيات كلّها من سورة الواقعة(٢) .

قبل أن نشرع في بيان مفاد هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط :

١. أنّ الهدف الأصلي للآيات القرآنية هو: الدعوة إلى الإيمان بالمعاد، وبعث الإنسان في يوم القيامة، وضرورة عبادة الله وحده.

وأمّا مسألة إثبات وجود الله، فلها جانب ضمني في هذه الآيات، كما سنبين ذلك.

بل انّ مراجعة آيات هذه السورة [ أي سورة الواقعة ] تفيد أنّ الهدف الأصلي لهذه السورة التي تبدأ بآية( إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ ) والآيات المبحوثة هنا التي تبدأ بقوله:( هٰذَانُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) .

إنّ الهدف هو ـ في الحقيقة ـ إثبات إمكان المعاد، حتى أنّ مسألة لزوم عبادة الله وحده تقع في الدرجة الثانية من اهتمام وهدف هذه السورة.

وقد أُشير إلى هذا الهدف الثانوي في قوله سبحانه:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) .

ولكن على الرغم من ذلك يمكننا أن نجد في الآيات المذكورة إشارات واضحة إلى وجود الصانع حتى لأوّل نظرة.

وحيث إنّ آيات هذه السورة تشبه ـ من جهة طرح التساؤلات ـ سورة

__________________

(١) الواقعة: ٧٤.

(٢) لقد اكتفينا هنا بنقل الآيات المرتبطة بهذا البحث التوحيدي وللمزيد من الاطلاع والتوضيح ينبغي مراجعة مجموع الآيات من ٥٦ ـ ٧٤ في السورة نفسها.

١٦٧

الطور، لذلك رأينا أن نجعل كلا القسمين إلى جانب بعض، وسيتضح بالتأمل والإمعان في آيات هذه السورة، وآيات سورة الطور أنّ القرآن الكريم جعل الإنسان أمام حزمة من التساؤلات، تماماً على النمط السقراطي، لأجل إيقاظ وجدان البشر، ليتسنّى له في ظل هذه اليقظة أن يميّز الحق عن الباطل، وليخضع ـ بالتالي ـ لمنطق الحق ولا يكون له سبيل إلى غير ذلك.

٢. لقد طرح القرآن الكريم في هذه الآيات أربعة مواضيع :

١. تركيب الخلية البشرية وخلقتها العجيبة.

٢. نمو النباتات وحفظها وصيانتها عن الآفات.

٣. نزول الغيث وصيانته عن التلوث والتأسن والاجوج.

٤. استخراج ونشأة النار من الشجر.

وفي الحقيقة فإنّ موضوع البحث في هذه الآيات هو: الإنسان والنعم الثلاث الكبرى، وهي: المواد الغذائية، والماء، والنار التي لا يمكن أن يحيا البشر بدونها(١) .

٣. انّ طريقة الاستدلال في هذه الآيات هي من باب الاستدلال بوجود المصنوع ( وهو هنا النطفة البشرية، وتربية النباتات، ونزول المطر، وخلق الأشجار ) على وجود الصانع.

صحيح أنّ للإنسان مشاركة جزئية في تكون ونشوء هذه الظواهر الطبيعية كاللقاح والجماع في تكون الإنسان، والبذر، إلّا أنّ هذه المشاركة الجزئية والتأثير الجزئي لا يكفي في تكون وظهور هذه الظواهر والموجودات، وما لم تكن ثمة قدرة

__________________

(١) تفسير الرازي: ٢٩ / ١٨٠.

١٦٨

عليا مطلقة تساعد على تأثير هذه المقدمات لما أمكن لها أن تتواجد وتتكون وتأتي إلى منصة الظهور وساحة الوجود.

وإليك توضيح المطلب

في الآيات:( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ *ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ) يتحدث القرآن الكريم عن مبدأ وجود وتكون الإنسان وهو ما أسماه بالنطفة.

وقد اعترف القرآن بسهم الوالدين في نشوء الإنسان وتكوّنه، ولكنه اعتبر إسهامهما هذا في مستوى عملية النقل والانتقال فقط.

وتلك العملية تتمثّل في أنّ الأب ينقل جزءاً منه، من موضع معين في جسمه إلى رحم الأُم لا أكثر.

أمّا من خلق النطفة ومن أوجدها ؟ فلا يمكن أن نعتبر الأب هو الخالق لها، لبداهة جهله بحقيقتها.

ولذلك فلا مناص من أن يكون لها خالق معين.

خالق أعطى ـ بقدرته وعلمه ـ للنطفة، القدرة على النمو في رحم الأُم، ومكّنها من الرشد في ذلك الجو، حتى يتكون الموجود البشري.

من المسلم أنّ تكوين هذه الذرة العجيبة يحكي عن موجود أعلى من الإنسان، هو الذي خلق هذه البداية العجيبة للبشر.

وقد تحدث القرآن الكريم ـ في هذه الآية ـ على نمط الاستدلال بالمصنوع على الصانع، والنظام على المنظم.

وفي الآيات:( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ )

١٦٩

طرحت مسألة الزراعة، ونرى فيها أنّ القرآن الكريم يسهم الزّراع في ظهور النباتات وتواجدها، ولكنّه يعتبر اسهامهم محدوداً لا يتعدّى عملية بذر البذور، ولهذا يسمح بأن يطلق عليهم صفة الزارع(١) .

ولكن عمل الزارع لا يتجاوز هذا الأمر، أعني: البذر.

غير أنّ هذا العمل وحده غير كاف في مسألة الزراعة ونشوء النباتات والثمار لأنّه :

يسأل أوّلاً: من الذي خلق البذرة ؟ وعلى قدرة من اعتمدت هذه الحبة بحيث استطاعت أن تتسبب في ظهور مئات الحبات ونشوئها في شكل سنابل ؟

لا مناص من أن يكون لهذه الحبة خالقاً غير البشر.

ثم يسأل ثانياً: هل يكفي لتربية النباتات وخروجها مجرد الحرث وبذر البذور، أم أنّ مئات العوامل والعلل الخارجية الأُخرى، يجب أن تتضافر وتتفاعل وتتعاضد فيما بينها لتمنع من جفاف النبتة والسنبلة، وهذا شيء خارج عن قدرة البشر.

ترى هل هذا كلّه من صنع الله أم من فعل العوامل المخلوقة لله ؟

وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن بقوله :

( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٢) *إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) (٣) .

__________________

(١) إلّا أنّه لا يخلو من العناية والمجاز كقوله سبحانه:( يَعْجَبُ الزُّرَاّعَ ) (الفتح: ٢٩).

(٢) تتفكهون أي تتحدثون، وأصله من التفكّه: أخذ الشيء فاكهة واستعير للحديث الذي يتحدثون به تفرجاً بتناوله.

(٣) الواقعة: ٦٥ ـ ٦٧.

١٧٠

وفي هذا الاستدلال استدلّ القرآن بوجود المصنوع ( كالمزارع الخضراء وحفظها وصيانتها من الجفاف ) على وجود الصانع.

وقد جاء عين هذا الاستدلال في القسم الثالث والرابع أيضاً، فنزول المطر من السحاب ـ وهو أمر حادث ـ لا بد له من محدث

وإذا ساعدت بعض العوامل على ذلك، كتبخر مياه البحار بسبب الشمس، فإنّه لا محيص ـ في المآل ـ من أن يعتمد الموضوع على إرادة قادر متعال، هو الذي أوجد تلك العوامل، وهو الذي نسّقها، ونظّمها، وساعدها على التأثير وصانها من أي تلوث وأجوج كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ *لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (١) .

في هذا المورد استدل الكتاب الكريم بوجود ظاهرة هطول المطر، وظاهرة السحاب وصيانتها عن الأُجوج والتلوث، على وجود الصانع.

وعلى هذا النمط والغرار يكون أمر تواجد النار تلك الظاهرة العجيبة جداً.

فالإنسان لا يقوم في مسألة النار إلّا بدور الناقل فحسب.

فهو ـ كما نلاحظ ـ لا يفعل إلّا إيصال شعلة الكبريت إلى الحطب في المطبخ لا أكثر.

لهذا فلا يكون للإنسان أي دور في نشأة هذه الظاهرة ( النار ) وتكوّنها، أللّهم إلّا عملية الإشعال والوري.

__________________

(١) الواقعة: ٦٨ ـ ٧٠.

١٧١

ولذلك نسب القرآن الكريم عملية « الوري » إلى البشر، إذ قال :

( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ) .

ولكن الوري والإيقاد وحده لا يكفي في تكوّن هذه الظاهرة، أعني: النار، بل لابد من قادر أوجد بقدرته هذه المواد الاحتراقية في الشجر يابسه ورطبه حتى يتأتّى ـ ضمن شروط وفي ظروف خاصة معينة ـ أن تشتعل.

ترى هل يمكن لأحد أن ينكر تأثير قدرة عليا في ظهور هذه الأشجار التي تختزن المواد الاحتراقية ؟

بالطبع لا.

ولذلك يقول الكتاب العزيز :

( ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) .

وفي هذه الأقسام الأربعة استدلّ بوجود المصنوع على وجود الصانع القادر العالم.

وفي الختام نعترف ـ ثانية ـ بأنّه مع أنّ هذه الآيات تستدل على وجود الله بطريق الإن، غير انّ مقصودها الأصلي ليس إثبات أصل وجود الله، بل المقصود والهدف هو الاستدلال على إمكان وقوع المعاد وبعث الإنسان بعد موته، ونشور الكون بعد انعدامه، وإنّما ذكرت البراهين الدالة على وجود الله وخالقيته كمقدمة لإثبات إمكان إعادة الخلق بعد الموت.

لأنّنا حيث نعلم أنّ الفاعل والمدبّر لهذه الظواهر الكونية هو الله القادر فلماذا ننكر إمكانية المعاد الإنساني ؟!

١٧٢

وبتعبير القرآن :

( وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

فالآية تقول :

الآن وأنتم ترون آثار تلك القدرة الإلهية ظاهرة في عالم الخلق ساطعة في دنيا الطبيعة، فلم تستبعدون قدرته على إحياء الموتى وإعادة الكون والإنسان يوم القيامة ولماذا تنكرون المعاد ؟

وعلى كل حال لو كان مبدأ البرهان في هذه الآيات أنّ هذه الأشياء كانت فاقدة الوجود من ذي قبل، ولذلك فهي محتاجة في اتصافها بالوجود إلى علة فالآيات حينئذ، ناظرة إلى « برهان الإمكان ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التنبيه إلى النظام السائد في هذه الأشياء، فإنّ البرهان المشار إليه هنا هو « برهان النظم ».

وإن كان مبدأ البرهان هو التركيز على سبق العدم على وجود الأشياء، فهو يعتمد على الاستدلال بالحدوث على وجود المحدث.

__________________

(١) الواقعة: ٦٢.

١٧٣

التوحيد الاستدلالي: البرهان التاسع

بطلان المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات

اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود

يبطل نظرية المصادفة

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ *وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ *وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) .

في هذه الآية يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة، وعشرات بل مئات وآلاف العوامل الخفيّة والبارزة التي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب الترابي، وكأنّها تقول: هل يمكن اجتماع كل هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة، ودون وجود خالق هو الذي أوجدها ورتّبها ونظمها، فحدثت ظاهرة الحياة على الصورة الموجودة ؟

وبهذا كما يمكن أن تكون هذه الآية دليلاً على وجود الصانع الخالق من

__________________

(١) البقرة: ١٦٤.

١٧٤

باب دلالة النظام على المنظم، كذلك يمكن أن تكون دلالتها على ذلك من باب بطلان نظرية المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات.

ويجدر بالذكر أنّ برهان محاسبة الاحتمالات وبطلان فرضية المصادفة من الأدلة الحديثة التي توصّل إليها العلماء الغربيون المعاصرون، وبلورهما العالم المعروف كريسي موريسون صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي كتبه خصيصاً لإبطال نظرية المصادفة، تلك النظرية التي تمسّك بها بعض الملحدين لإنكار وجود الخالق.

ولأجل أن نعرف معنى المصادفة، وكيفية بطلانها علميّاً وحسابيّاً لابد أن نعطي شرحاً لذلك ثم نشير إلى بعض الأدلة التي أشار إليها العلامة السالف الذكر، وغيره من العلماء في هذا المجال.

ما هو المقصود من المصادفة ؟

ليس المقصود من المصادفة هو بروز حادثة وظاهرة معينة دون علّة خارجية، لأنّ هذا التفسير للتصادف يتنافى مع قانون العلية الذي يقرّ به ويعترف كل العلماء في العالم، فليس بين العلماء والفلاسفة من ينكر قانون العلية هذا، أللّهم إلّا « هيوم » الفيلسوف الانجليزي المعروف، على أنّه إنّما أنكر هذا القانون الكلّي لأجل أنّه أراد أن يثبته عن طريق التجربة، وكان يرى التجربة أعجز من أن تثبت أصالة لهذا القانون.

أمّا لماذا كان يرى أنّ التجربة أعجز من أن تثبت ذلك فلسنا بصدده الآن. ولو كان هيوم مطّلعاً على القوانين والمقدمات الفلسفية لهذا الأصل، لما كان يحدث له أي شك في ذلك.

١٧٥

إنّما المقصود من المصادفة ـ عند الماديين وفي منطقهم ـ هو أن تتسبب سلسلة من التفاعلات الطويلة والحركات المتتالية في ظهور ظاهرة أو ظواهر منظمة، دون أن يكون وراء ذلك أيُّ تخطيط وأيّة محاسبة، ودون أن يكون وراء ذلك أيُّ موجد منظم ومخطط، كأن يلعب طفل بآلة كاتبة ـ طويلاً ـ حتى تظهر قصيدة منظمة، أو تنحدر صخرة وتسقط عدة مرّات من فوق جبل، وتتحول فجأة ـ وبعد اصطدامها المكرر بالصخور ـ إلى تمثال إنسان معين، وهكذا.

هذا هو رأي الماديين حول وجود الكون وظهور النظام الكوني، ولكن برهان محاسبة الاحتمالات الذي سندرسه في هذا الفصل يبطل وجود الكون المنظم عن طريق المصادفة، وإليك توضيح ذلك.

ظاهرة الحياة

سواء اعتبرنا الحياة ظاهرة مادية مائة بالمائة وأثراً كيمياوياً لتفاعلات المادة، أم اعتبرناها ظاهرة مجرّدة، فإنّه لابد من الإذعان ـ حتماً ـ بأن تحقّق الحياة في هذه الكرة أو في غيرها من الكرات يحتاج إلى عوامل وشرائط كثيرة، حتى يتسنّى أنّ تتحقق الحياة على الأرض بسببها، ومن المعلوم أنّ اجتماع هذه الشرائط والعوامل الكثيرة، بمحض المصادفة بعيد إلى درجة أنّه لا يمكن عدّه في عداد الاحتمالات المعقولة، والعقلائية.

وعندما يلزم، لتحقق ظاهرة مادية من الظواهر، توفر عوامل متعددة فإنّ كل عامل من هذه العوامل سيكون جزءاً من العلة، يستوجب وجوده وجود الظاهرة، وفقدانه فقدانها، قطعاً.

وبالنسبة إلى ظاهرة الحياة فإنّ عدد العوامل والظروف الموجبة لتحققها على

١٧٦

الأرض من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحيط بها فكر البشر، وبحيث إنّ احتمال اجتماعها عن طريق التصادف ما هو إلّا احتمال واحد من بين مليارد من الاحتمالات، ومن غير الممكن لعاقل أن يعتمد في تفسير وجود الظاهرة على مثل هذا الاحتمال من بين ذلك الركام الهائل من الاحتمالات، والفروض.

ولهذا يقول العالم الكندي المتخصص في الطبيعة البيولوجية حول نظرية المصادفة :

« إنّ ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة »(١) .

كما لهذا السبب أيضاً قال العالم الجليل: « كريسي موريسون » في كتابه: « العلم يدعو للإيمان » :

« إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة »(٢) .

وقال في موضع آخر من نفس الكتاب :

« إنّ للحياة فوق أرضنا هذه شروطاً جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابياً أن تتوافر كلّها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت »(٣) .

ثمّ يضرب العالم المذكور مثلاً لذلك بالغازات التي نستنشقها ونتنفسها

__________________

(١) راجع « الله يتجلّى في عصر العلم »: ٥، مقال: هل العالم مصادفة ؟

(٢) العلم يدعو للإيمان: ١٩٥.

(٣) المصدر السابق: ٢٤.

١٧٧

قائلاً :

« إنّ الاوكسجين والهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون والكاربون سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة ـ بعضها مع بعض ـ هي العناصر البيولوجية الرئيسية وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة. غير أنّه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين، تقضي بأن تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد، بتلك النسب الصحيحة اللازمة للحياة ! وليس لدى العلم إيضاح لهذه الحقائق.

أمّا القول بأنّ ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدّى العلوم الرياضية »(١) .

ولكي يتضح هذا البحث نشير إلى بعض هذه الظروف والشرائط التي يكون لكل واحد منها دور مهمّ ومؤثر في نشأة الحياة واستمرارها على هذا الكوكب الترابي، بحيث لو فقد لانتفت هذه الحياة، ولامتنع وجودها بالمرة.

١. يحيط بالكرة الأرضية غلاف جوّي غليظ من الغازات يقدر العلماء ضخامته ب‍ « ٨٠٠ » كيلومتر، وهو بمثابة ترس واق يحفظ سكان هذه الكرة من خطر عشرين مليوناً من الشهب القاتلة والصخور الفضائية المتناثرة كل يوم في الفضاء والتي يبلغ سرعة الواحد منها ٥٠ كيلومتراً في الثانية، حيث يحول هذا الغلاف دون وصول تلك الصخور إلى الأرض.

ولو كان هذا الغلاف الواقي أرق وألطف مما هو عليه لاخترقت النيازك ـ كل يوم ـ غلاف الأرض الجوي الخارجي، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها.

__________________

(١) المصدر السابق: ٧٣.

١٧٨

فهذه النيازك والصخور الفضائية الطائرة في الجو تواصل رحلتها بسرعة ٦ إلى ٤٠ ميلاً في الثانية، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنّها ستحرق كل شيء تصطدم به وتحدث فيه انفجاراً هائلاً.

ولو كان سرعتها أقل من ذلك، أي كان بسرعة رصاصة، وكانت تصل كلّها إلى الأرض، لأحدثت فيها خراباً لا يتحمل، وحولتها إلى غربال.

إنّ للغلاف الهوائي للأرض ـ مضافاً إلى الخاصية المذكورة ـ دوراً آخر وهو حفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة.

٢. انّ الماء لهو من عوامل الحياة على وجه الأرض، فلكي تستمر الحياة في المحيطات والبحار والأنهر، خلال فصول الشتاء الطويلة فقد خلق هذا العنصر الحياتي وهذه المادة الحيوية بشكل خاص بحيث ينجمد إذا بلغت درجة الحرارة ما يقارب الصفر، وبذلك يحدث ويوجد غطاء يمنع من خروج الحرارة من داخل المياه، ونتيجة لذلك تبقى المياه في أعماق البحار والأنهر وما شابه على حالة السيولة والميعان، إذ في غير هذه الصورة لا يعني إلّا أن تنجمد مياه المحيطات والبحار والأنهر ويستحيل على أثر ذلك بقاء الحياة والأحياء.

ولا يخفى أنّ وزن الثلج، الخاص به يساعد على ذلك، إذ من البيّن أنّ وزن الثلج أخف من الماء السائل، ولذلك يطفو الماء المنجمد على السطح ولا ينزل إلى الأعماق.

٣. انّ الأرض هي أيضاً من عناصر الحياة ومقوّماتها كالماء تماماً، فهي تحتوي على مواد معدنية خاصة، تجذبها وتمتصها النباتات وتصنع منها الأغذية التي تحتاج إليها الحيوانات.

١٧٩

إنّ وجود المعادن والفلزات في باطن الأرض وعلى مسافة قريبة من متناول أيدي البشر هو سبب ظهور وجوه متنوعة من الحضارات الإنسانية والتي من أبرزها الحضارة التكنولوجية التي نعاصرها.

٤. لقد خلقت الأرض بجاذبية خاصة وعلى قطر خاص بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو مركزها وتحافظ عليها.

فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعلي لعجزت جاذبيتها عن الاحتفاظ بالماء والهواء على سطحها ولارتفعت درجة الحرارة إلى حد الموت.

ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن لانخفضت درجة حرارتها ( أي حرارة الأرض ) إلى ربع حرارتها الحالية، ولتضاعف طول مدة الشتاء فيها، ولانجمدت كل الأحياء فيها.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.

فهل يمكن ـ ترى ـ أن تكون كل هذه الشرائط والعوامل قد اجتمعت واتفقت وجعلت الحياة ممكنة، عن طريق التصادف في حين أنّ الاجتماع التصادفي لها كان من الممكن أن يؤول إلى آلاف الصور الأُخرى وتجعل الحياة في المآل غير ممكنة.

محاسبة أُخرى

تدور الأرض حول نفسها في كل ٢٤ ساعة دورة واحدة، وهي في دورتها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وإن أراد البيع ولا حاكم هناك ، استقلّ به ، فإن كان فوجهان لهم ، أحدهما : جواز الاستقلال ؛ لأنّه نائب عن المالك في الحفظ ، فكذا في البيع(١) .

مسألة ٣٩٤ : لو وجد بعيراً في أيّام منى في الصحراء مقلَّداً كما يُقلَّد الهدي ، لم يجز أخذه ؛ لأنّه لا يجوز مع عدم التقليد فمعه أولى.

وقال الشافعي : يأخذه ويُعرّفه أيّام منى ، فإن خاف أن يفوته وقت النحر نحره ، والأولى عنده أن يرفع إلى الحاكم حتى يأمره بنحره(٢) .

ونقل بعضهم قولاً آخَر : إنّه لا يجوز أخذه(٣) ، كما ذهبنا إليه.

ثمّ بنوا القولين على القولين فيما إذا وجد بدنة منحورة غمس ما قُلّدت به في دمها وضرب صفحة سنامها ، هل يجوز الأكل منها؟ فإن منعنا الأكل ، منعنا الأخذ هنا ، وإن جوّزنا الأكل اعتماداً على العلامة ، فكذا التقليد علامة كون البعير هدياً ، والظاهر أنّ تخلّفه كان لضعفه عن المسير ، والأُضحية المعيّنة إذا ذُبحت في وقت النحر وقع في موقعه وإن لم يأذن صاحبها(٤) .

قال الجويني : لكن ذبح الضحيّة وإن وقع في موقعه لا يجوز الإقدام عليه من غير إذنٍ(٥) .

وجوّز بعض الشافعيّة الأخذ والنحر(٦) .

ولهذا الإشكال ذهب القفّال تفريعاً على هذا القول أنّه يجب رفع

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٦.

(٢) البيان ٧ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦.

٣٠١

الأمر إلى الحاكم لينحره(١) .

وهذا ليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ الأخذ الممنوع منه إنّما هو الأخذ للتملّك ، ولا شكّ أنّ هذا البعير لا يؤخذ للتملّك.

المطلب الثاني : في الملتقط.

مسألة ٣٩٥ : يصحّ أخذ الضالّة في موضع الجواز لكلّ بالغٍ عاقلٍ.

ولو أخذه في موضع المنع ، لم يجز ، وضمنه ، إماماً كان أو غيره ؛ لأنّه أخذ ملك غيره بغير إذنه ، ولا أذن الشارع له ، فهو كالغاصب.

وهذا الفرض في الإمام عندنا باطل ؛ لأنّه معصوم.

أمّا عند العامّة الذين لم يوجبوا عصمة إمامهم فإنّه قد يُفرض.

وكذا يُفرض عندنا في نائب الإمام.

وكذا يجوز للصبي والمجنون أخذ الضوالّ ؛ لأنّه اكتساب ، وينتزع الوليّ ذلك من يدهما ، ويتولّى التعريف عنهما سنةً ، فإن لم يأت له مالك تملّكاه وضمناه بتمليك الوليّ لهما وتضمينهما إيّاه إن رأى الغبطة في ذلك ، وإن لم يكن في تمليكهما غبطة ، أبقاها أمانةً.

مسألة ٣٩٦ : الأقرب : عدم اشتراط الحُرّيّة ، فيجوز للعبد القِنّ والمدبَّر والمكاتَب وأُمّ الولد والمعتق بعضه التقاطُ الضوالّ في موضع الجواز ؛ لأنّه اكتساب وهؤلاء من أهله وهُمْ أهلٌ للحفظ.

والأقرب : إنّه لا يشترط الإسلام ولا العدالة ، فيجوز للكافر أخذ الضالّة ، وكذا للفاسق ؛ لأنّه اكتساب وهُما من أهله.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

٣٠٢

وقال الشافعي : لا يجوز لغير الإمام وغير نائبه أخذ الضوالّ للحفظ لصاحبها ، فإن أخذها غير الامام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لزمه الضمان ؛ لأنّه لا ولاية له على صاحبها(١) .

ولأصحابه وجهٌ آخَر : إنّه يجوز أخذها لحفظها قياساً على الإمام(٢) .

واحتجّ بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنَع من أخذها من غير أن يفرّق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ، والقياس على الإمام باطل ؛ لأنّ له ولايةً ، وهذا لا ولاية له(٣) .

ونحن نقول بموجبه في موضع المنع من أخذها.

أمّا لو وجدها في موضعٍ يخاف عليها فيه ، مثل أن يجدها في أرض مسبعة يغلب على الظنّ افتراس الأسد لها إن تركها فيه ، أو وجدها قريبةً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها ، أو في موضعٍ يستحلّ أهله أخذ أموال المسلمين ، أو في برّيّة لا ماء بها ولا مرعى ، فالأولى جواز الأخذ للحفظ ، ولا ضمان على آخذها ؛ لما فيه من إنقاذها من الهلاك ، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حرقٍ ، وإذا حصلت في يده سلّمها إلى بيت المال ، وبرئ من ضمانها ، وله التملّك مع الضمان ؛ لأنّ الشارع نبّه على علّة عدم التملّك لها بأنّها محفوظة ، فإذا كانت في المهلكة انتفت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٥ - ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦٠ - ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٣ و ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٣) راجع : المغني ٦ : ٣٩٩ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

٣٠٣

العلّة.

مسألة ٣٩٧ : لو ترك دابّة بمهلكةٍ فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلّصها ، تملّكها - وبه قال الليث والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق(١) - إلّا أن يكون تركها بنيّة العود إليها فأخذها ، أو كانت قد ضلّت منه ؛ لما رواه العامّة عن الشعبي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له »(٢) .

وفي لفظٍ آخَر عن الشعبي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مَنْ ترك دابّةً بمهلكةٍ فأحياها رجل فهي لمَنْ أحياها »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها لـمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال ومن الموت فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنّما هي مثل الشي‌ء المباح »(٤) .

ولأنّ القول بملكها يتضمّن إحياءها وإنقاذها من الهلاك ، وحفظاً للمال عن الضياع ، ومحافظةً على حرمة الحيوان ، وفي القول بعدم الملك‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٠ - ١٦١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٧ / ٣٥٢٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٦٨ / ٢٥٩ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٨ / ٣٥٢٥ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٤)

٣٠٤

تضييع ذلك كلّه من غير مصلحةٍ تحصل ، ولأنّ مالكه نبذه رغبةً عنه وعجزاً عن أخذه ، فمَلَكه آخذه ، كالمتساقط من السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبةً عنه وزهداً فيه.

المطلب الثالث : في الأحكام.

مسألة ٣٩٨ : يجوز للإمام ونائبه أخذ الضالّة على وجه الحفظ لصاحبه ، ثمّ يرسله في الحمى الذي حماه الإمام لخيل المجاهدين والضوالّ ؛ لأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب ، وفي أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك ، ثمّ يُعرّفها حولاً ، فإن جاء صاحبها ، وإلّا بقيت في الحمى.

وقال أحمد : لا يلزمه تعريفها ؛ لأنّ عمر لم يكن يُعرّف الضوالّ(١) .

وفعل عمر ليس حجّةً.

وإذا عرف إنسان دابّته ، أقام البيّنة عليها وأخذها ، ولا يكفي وصفها ؛ لأنّها ظاهرة بين الناس يعرف صفاتها غير أهلها ، فلا تكون الصفة(٢) لها دليلاً على ملكه لها ، ولأنّ الضالّة قد كانت ظاهرةً للناس حين كانت في يد مالكها ، فلا يختصّ هو بمعرفة صفاتها دون غيره ، ويمكنه إقامة البيّنة عليها ؛ لظهورها للناس ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إيّاها.

مسألة ٣٩٩ : الأقرب عندي : إنّه يجوز لكلّ أحدٍ أخذ الضالّة ، صغيرةً كانت أو كبيرةً ، ممتنعةً عن السباع أو غير ممتنعةٍ ، بقصد الحفظ لمالكها ، والأحاديث(٣) الواردة في النهي عن ذلك محمولة على ما إذا نوى بالالتقاط‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٩٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) في « ث ، خ ، ر » : « الصفات ».

(٣) منها : ما تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦٦.

٣٠٥

التملّك إمّا قبل التعريف أو بعده ، أمّا مع نيّة الاحتفاظ فالأولى الجواز ، كما أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه أخذ ما لا يجوز أخذه على وجه التملّك.

مسألة ٤٠٠ : ما يحصل عند الإمام من الضوالّ فإنّه يُشهد عليها ويَسِمها بوَسْم أنّها ضالّة.

ثمّ إن كان له حمى ، تركها فيه إن رأى المصلحة في ذلك ، وإن رأى المصلحة في بيعها أو لم يكن له حمى ، باعها بعد أن يصفها ويحفظ صفاتها ، ويحفظ ثمنها لصاحبها ، فإنّ ذلك أحفظ لها ؛ لأنّ في تركها ضرراً على مالكها ؛ لإفضائه إلى أن تأكل جميع ثمنها.

وأمّا غير الإمام ونائبه إذا التقط الضالّة ولم يجد سلطاناً يُنفق عليها ، أنفق من نفسه ، ويرجع مع نيّة الرجوع.

وقيل : لا يرجع ؛ لأنّ عليه الحفظَ ، ولا يتمّ إلّا بالإنفاق(١) .

والأوّل أقرب ؛ دفعاً لتوجّه الضرر بالالتقاط.

ولا يبعد من الصواب التفصيلُ ، فإن كان قد نوى التملّك قبل التعريف أو بعده ، أنفق من ماله ، ولا رجوع ؛ لأنّه فَعَل ذلك لنفعه ، وإن نوى الحفظ دائماً ، رجع مع الإشهاد إن تمكّن ، وإلّا فمع نيّته.

ولو كان للّقطة نفعٌ كالظهر للركوب ، أو الحمل أو اللبن أو الخدمة ، قال الشيخرحمه‌الله : يكون ذلك بإزاء ما أنفق(٢) .

والأقرب : أن ينظر في قدر النفقة وقيمة المنفعة ، ويتقاصّان.

مسألة ٤٠١ : لا يضمن الضالّة بعد الحول إلّا مع قصد التملّك.

ولو قصد حفظها دائماً ، لم يضمن ، كما في لقطة الأموال ، إلّا مع‌

____________________

(١) كما في شرائع الإسلام ٣ : ٢٩٠.

(٢) النهاية : ٣٢٤.

٣٠٦

التفريط أو التعدّي.

ولو قصد التملّك ، ضمن ، فإن نوى الحفظ بعد ذلك ، لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّه قد تعلّق الضمان بذمّته ، كما لو تعدّى في الوديعة ثمّ نوى الحفظ.

ولو قصد الحفظ ثمّ نوى التملّك ، لزمه الضمان من حين نيّة التملّك.

مسألة ٤٠٢ : لو وجد مملوكاً بالغاً أو مراهقاً ، لم يجز له أخذه ؛ لأنّه كالضالّة الممتنعة يتمكّن من دفع المؤذيات عنه.

ولو كان صغيراً ، كان له أخذه ؛ لأنّه في معرض التلف ، والمال إذا كان بهذه الحال جاز أخذه ، وهو نوع منه.

وإذا أخذ عبداً صغيراً للحفظ ، لم يدفع إلى مدّعيه إلّا بالبيّنة ، ولا تكفي الشهادة على شهود الأصل بالوصف ؛ لاحتمال الشركة في الأوصاف ، بل يجب إحضار شهود الأصل ليشهدوا بالعين ، فإن تعذّر إحضارهم لم يجب نقل العبد إلى بلدهم ولا بيعه على مَنْ يحمله ، ولو رأى الحاكم ذلك صلاحاً جاز ، ولو تلف قبل الوصول أو بعده ولم يثبت دعواه ، ضمن المدّعي قيمة العبد وأجره.

مسألة ٤٠٣ : لو ترك متاعاً في مهلكةٍ فخلّصه إنسان ، لم يملكه ؛ لأنّه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف كالخشية على الحيوان ، فإنّ الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع ، والمتاع يبقى إلى أن يعود مالكه إليه.

ولو كان المتروك عبداً ، لم يملكه آخذه ؛ لأنّ العبد في العادة يمكنه التخلّص إلى الأماكن التي يعيش فيها ، بخلاف البهيمة.

وله أخذ العبد والمتاع ليخلّصه لصاحبه.

وهل يستحقّ الأُجرة عن تخليص العبد أو المتاع؟ الوجه : إنّه لا يستحقّ إلّا مع الجُعْل ؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير جُعْلٍ ، فلم يستحق شيئاً ، كالملتقط.

٣٠٧

وقال أحمد : يستحقّ الجُعْل(١) . وليس بجيّدٍ.

مسألة ٤٠٤ : ما يلقيه رُكْبان البحر فيه من السفينة خوفاً من الغرق إذا أخرجه غير مالكه ، فالأقرب : إنّه للمُخرج ، وبه قال الليث بن سعد والحسن البصري [ قال : ](٢) وما نضب عنه الماء فهو لأهله(٣) .

وقال ابن المنذر : يردّه على أربابه ، ولا جُعْل له(٤) ، وهو مقتضى قول الشافعي(٥) .

ويتخرّج على قول أحمد : إنّ لمن أنقذه أُجرة مثله(٦) .

والأقرب : ما قدّمناه ؛ لأنّه مال ألقاه أربابه فيما يتلف بتركه فيه اختياراً منهم ، فمَلَكه مَنْ أخرجه ، كالمنبوذ بنيّة الإعراض عن تملّكه.

ولو انكسرت السفينة في البحر فأُخرج بعض المتاع الذي فيها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، روى الشعيري فيه أنّ الصادقعليه‌السلام سئل عن ذلك ، فقال : « أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم وهُمْ أحقّ به »(٧) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني والشرح الكبير ، وهو مقتضى ما في الإشراف على مذاهب أهل العلم.

(٣ و ٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦١ ، المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٥) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٦) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٧ ، الهامش (٣)

٣٠٨

وقال الشافعي وابن المنذر : إذا انكسرت السفينة فأخرجه قوم ، يأخذ أصحاب المتاع متاعهم ، ولا شي‌ء للّذين أصابوه(١) .

وعلى قياس قول أحمد يكون لمستخرجه أُجرة المثل ؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى تحصيله(٢) وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق ، فإنّ الغوّاص إذا علم أنّه يُدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص ، وإن علم أنّه يؤخذ منه بغير شي‌ءٍ لم يخاطر بنفسه في استخراجه(٣) .

مسألة ٤٠٥ : قد بيّنّا أنّه يجوز للإنسان أن يلتقط العبد الصغير وكذا الجارية الصغيرة ، ويُملك كلٌّ منهما بعد التعريف.

وقياس مذهب أحمد : إنّه لا يُملكان بالتعريف(٤) .

وقال الشافعي : يملك العبد دون الجارية ؛ لأنّ التملّك بالتعريف - عنده - كالقرض ، والجارية - عنده - لا تُملك بالقرض(٥) .

واستشكل بعض العامّة ذلك ؛ فإنّ الملقوط محكوم بحُرّيّته ، وإن كان ممّن يعبّر عن نفسه فأقرّ بأنّه مملوك لم يُقبل إقراره ؛ لأنّ الطفل لا قول له ، ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريف سيّده(٦) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦ - ٣٥٧.

(٢) الظاهر : « تخليصه ».

(٣) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٠٢ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، البيان ٧ : ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٧ ، المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

٣٠٩

الفصل الثالث : في اللقيط‌

وفيه مطالب :

الأوّل : الأركان.

اللقيط كلّ صبي ضائع لا كافل له ، ويُسمّى منبوذاً باعتبار أنّه يُنبذ ، أي يرمى ، ويُسمّى لقيطاً ، أي ملقوطاً ، واللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كما يقال : دهين وخضيب وجريح وطريح ، وإنّما هو مدهون ومخضوب ومجروح ومطروح ، ويُسمّى ملقوطاً باعتبار أنّه يُلقط.

إذا عرفت هذا ، فالأركان ثلاثة :

الأوّل : الالتقاط.

وهو واجب على الكفاية ؛ لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك ، وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، وقد قال الله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١) .

ولأنّ فيه إحياء النفس فكان واجباً ، كإطعام المضطرّ وإنجائه من الغرق ، وقد قال الله تعالى :( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٢) وقال تعالى :( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٣) .

ووجد سُنَين أبو جميلة منبوذاً فجاء به إلى عمر بن الخطّاب ، فقال :

____________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة المائدة : ٣٢.

(٣) سورة الحجّ : ٧٧.

٣١٠

ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال : وجدتُها ضائعةً فأخذتُها ، فقال عريفه : إنّه رجل صالح ، فقال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : اذهب فهو حُرٌّ ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته(١) .

وهذا الخبر عندنا لا يُعوّل عليه ، والولاء عندنا لمن يتولّاه الملتقط ، فإن لم يتوال أحداً ، كان ميراثه للإمام.

وليس أخذ اللقيط واجباً على الأعيان بالإجماع وأصالة البراءة ، ولئلّا تتضادّ الأحكام ، ولأنّ الغرض الحفظ والتربية ، وذلك يحصل بأيّ واحدٍ اتّفق ، بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولو تركه الجماعة بأسرهم أثموا بأجمعهم إذا علموا به وتركوه مع إمكان أخذه.

مسألة ٤٠٦ : ويستحبّ الإشهاد على أخذه ؛ لأنّه أصون وأحفظ ، لأنّه يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ، ولا تعريف في اللقيط.

وللشافعيّة طريقان ، أحدهما : إنّه على وجهين أو قولين كما قدّمنا في اللّقطة ، والأصح : القطع بالوجوب ، بخلاف اللّقطة ، فإنّ الأصحّ فيها الاستحباب ؛ لأنّ اللقيط يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، فجاز أن يجب الإشهاد عليه كما في النكاح(٢) .

والأصل عندنا ممنوع.

وحكى الجويني وجهاً ثالثاً هو : الفرق ، فإن كان الملتقط على ظاهر العدالة لم يكلّف الإشهاد ، وإن كان مستور العدالة كُلّف ليصير الإشهاد قرينةً‌

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٣٨ / ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٧.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، البيان ٨ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

٣١١

تغلب على الظنّ الثقة(١) .

وإذا أوجبنا الإشهاد فلو تركه لم تسقط ولاية الحضانة.

وقال الشافعي : تسقط ولاية الحضانة ، ويجوز الانتزاع(٢) .

وإذا أشهد فليشهد على الملتقط وما معه من ثيابٍ وغيرها إن كان معه شي‌ء.

الركن الثاني : اللقيط.

وقد ذكرنا أنّه كلّ صبي ضائع لا كافل له ، والتقاطه من فروض الكفايات ، فيخرج بقيد الصبي البالغ ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة والتعهّد ، فلا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وقع في معرض هلاكٍ ، أُعين ليتخلّص.

أمّا الصبي الذي بلغ سنّ التمييز فالأقرب : جواز التقاطه ؛ لحاجته إلى التعهّد والتربية ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّه لا يلتقط ؛ لأنّه مستقلٌّ ممتنع ، كضالّة الإبل ، فلا يتولّى أمره إلّا الحاكم(٣) .

وقولنا : « ضائع » نريد به المنبوذ ؛ لأنّ غير المنبوذ يحفظه أبوه أو جدّه لأبيه أو الوصي لأحدهما ، فإن لم يكن أحد هؤلاء ، نصب القاضي له مَنْ يراعيه ويحفظه ويتسلّمه ؛ لأنّه كان له كافل معلوم ، وهو أبوه أو جدّه أو وصيّهما ، فإذا فقد قام القاضي مقامه ، كما أنّه يقوم لحفظ مال الغائبين والمفقودين ، أمّا المنبوذ فإنّه يشبه اللّقطة ولهذا يُسمّى لقيطاً فلم يختصّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩.

(٢) الوسيط ٤ : ٣٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٤.

٣١٢

حفظه بالقاضي.

وقولنا : « لا كافل له » نريد به مَنْ لا أب له ولا جدّ للأب ومَنْ يقوم مقامهما ، والملتَقَط ممّن هو في حضانة أحد هؤلاء لا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وُجد في مضيعةٍ أُخذ ليُردّ إلى حاضنه.

الركن الثالث : الملتقِط.

مسألة ٤٠٧ : يعتبر في الملتقِط التكليف والحُرّيّة والإسلام والعدالة ، فلا يصحّ التقاط الصبي ولا المجنون.

ولو كان الجنون يعتوره أدواراً ، أخذه الحاكم من عنده ، كما يأخذه لو التقطه المجنون المطبق أو الصبي.

وأمّا العبد فليس له الالتقاط ؛ لأنّ منافعه ملك سيّده ، فليس له صَرفها إلى غيره إلّا بإذنه ، ولأنّ الالتقاط تبرّعٌ والعبد ليس من أهله ؛ إذ أوقاته مشغولة بخدمة مولاه.

ولو أذن له السيّد أو علم به فأقرّه في يده ، جاز ، وكان السيّد في الحقيقة هو الملتقِط ، والعبد نائبه قد استعان به عليه في الأخذ والتربية والحضانة ، فصار كما لو التقطه سيّده وسلّمه إليه.

وإذا أذن له السيّد ، لم يكن له الرجوع في ذلك.

أمّا لو كان الطفل في موضعٍ لا ملتِقط له سوى العبد ، فإنّه يجوز له التقاطه ؛ لأنّه تخليصٌ له من الهلاك ، فجاز ، كما لو أراد التخليص من الغرق.

ولو التقط العبد مع وجود ملتقطٍ غيره ، لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّه المنصوب للمصالح ، إلّا أن يرضى مولاه ويأذن بتقريره في‌

٣١٣

يده ، فيقدَّم على الحاكم.

ولا فرق بين القِنّ والمدبَّر وأُمّ الولد والمكاتَب والمحرَّر بعضه في ذلك كلّه ؛ لأنّه ليس لأحد هؤلاء التبرّعُ بماله ولا بمنافعه إلّا بإذن السيّد.

وقال الشافعي : المكاتَب إذا التقط بغير إذن السيّد انتُزع من يده ، كالقِنّ ، وإن التقط بإذن السيّد جاء فيه الخلاف في تبرّعاته بالإذن ، لكنّ الظاهر عندهم المنع ؛ لأنّ حقّ الحضانة ولاية ، وليس المكاتَب أهلاً لها(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما.

وللشافعيّة وجهان في الـمُعتَق نصفه إذا التقط في يوم نفسه هل يستحقّ الكفالة؟(٢) .

مسألة ٤٠٨ : لا يجوز للكافر أن يلتقط الصبي المسلم ، سواء كان الكافر ذمّيّاً أو معاهداً أو حربيّاً ؛ لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم ، قال الله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه ويُعلّمه الكفر ، بل الظاهر أنّه يُربّيه على دينه وينشأ على ذلك كولده ، فإن التقطه لم يُقرّ في يده.

أمّا لو كان الطفل محكوماً بكفره ، فإنّه يجوز للكافر التقاطه ؛ لقوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٤) .

وللمسلم التقاط الطفل الكافر.

مسألة ٤٠٩ : الأقرب : اعتبار العدالة في الملتقِط ، فلو التقطه الفاسق‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٣) سورة النساء : ١٤١.

(٤) سورة الأنفال : ٧٣.

٣١٤

لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّ الفاسق غير مؤتمنٍ شرعاً ، وهو ظالم ، فلا يجوز الركون إليه ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ) (١) ولا يؤمن أن يبيع الطفل أو يسترقّه ويدّعيه مملوكاً له بعد مدّةٍ ، ولا يؤمن سوء تربيته له ولا يوثق عليه ويخشى الفساد به ، وهو قول الشافعي(٢) أيضاً.

ويفارق اللّقطة - حيث أُقرّت في يد الفاسق عندنا وفي أحد قولَي الشافعي(٣) - من ثلاثة أوجُه :

الأوّل : إنّ في اللّقطة معنى التكسّب ، والفاسق من أهل التكسّب ، وهاهنا لا كسب ، بل هو مجرّد الولاية.

الثاني : إنّ في اللّقطة وجوب ردّها إليه لو انتزعناها منه بعد التعريف حولاً ونيّة التملّك ليتملّكها ، فلم ننتزعها منه واستظهرنا عليه في حفظها وإن كان الانتزاع أحوط ، وهنا لا يردّ اللقيط إليه ، فكان الانتزاع أحوط وأسهل.

الثالث : المقصود في اللّقطة حفظ المال ، ويمكن الاحتياط عليه بالاستظهار في التعريف ، أو بنصب الحاكم مَنْ يُعرّفها ، فيزول خوف الخيانة ، ولا يحتاج إلى أن ينتزعها الحاكم ، وهنا المقصود حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولا سبيل إلى الاستظهار عليه ؛ لأنّه قد يدّعي رقّه في بعض البلدان وبعض الأحوال.

____________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٢ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥ ، المغني ٦ : ٤١٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢ و ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

٣١٥

وقيل : لا يشترط العدالة ، ولا ينتزع اللقيط من يد الفاسق ؛ لإمكان حفظه في يده بالإشهاد عليه ، ويأمر الحاكم أميناً يشارفه عليه كلّ وقتٍ ويتعهّده في كلّ زمانٍ ، ويشيع أمره فيعرف أنّه [ لقيط ](١) فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته ؛ جمعاً بين الحقّين ، كما في اللّقطة(٢) .

مسألة ٤١٠ : مَنْ ظاهر حاله الأمانة إلّا أنّه لم يختبر حاله ، لا ينتزع من يده ؛ لأنّ ظاهر المسلم العدالة ، ولم يوجد ما يعارض هذا الظاهر ، ولأنّ حكمه حكم العَدْل في لقطة المال والولاية في النكاح وأكثر الأحكام ، لكن يوكل الإمام مَنْ يراقبه من حيث لا يدري لئلّا يتأذّى ، فإذا حصلت للحاكم الثقة به صار كمعلوم العدالة.

وقبل ذلك لو أراد السفر به ، مُنع وانتُزع منه ؛ لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه وأن يكون إظهاره العدالة لمثل هذا الغرض الفاسد ، وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني له : إنّه يُقرّ في يده ويسافر به ؛ لأنّه يُقرّ في يده في الحضر من غير مشرفٍ يُضمّ إليه ، فكذا في السفر ، كالعَدْل ، ولأنّ الظاهر الستر والصيانة(٣) .

فأمّا مَنْ عُرفت عدالته وظهرت أمانته فيُقرّ اللقيط في يده في سفرٍ وحضرٍ ؛ لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة ، ولها وجهان.

مسألة ٤١١ : يعتبر في الملتقِط الرشد ، فلا يصحّ التقاط المبذِّر‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « لقطة ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) المغني ٦ : ٤١٣ - ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠.

(٣) الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦ ، المغني ٦ : ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١١ ، وفيها القول الأوّل فقط.

٣١٦

المحجور عليه ، فلو التقط لم يُقر في يده وانتُزع منه ؛ لأنّه ليس مؤتمناً عليه شرعاً وإن كان عَدْلاً.

ولا يشترط في الملتقِط الذكورة ، فإنّ الحضانة أليق بالإناث.

ولا يشترط كونه غنيّاً ؛ إذ ليست النفقة على الملتقط.

والفقير يساوي الغني في الحضانة.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر ، وهو : إنّه لا يُقرّ في يد الفقير ؛ لأنّه لا يتفرّغ للحضانة ؛ لاشتغاله بطلب القوت(١) .

مسألة ٤١٢ : لو ازدحم على لقيطٍ اثنان ، فإن كان ازدحامهما عليه قبل أخذه وقال كلّ واحدٍ منهما : أنا آخذه وأحضنه ، جعله الحاكم في يد مَنْ رآه منهما أو من غيرهما ؛ لأنّه لا حقّ لهما قبل الأخذ.

وإن ازدحما بعد الأخذ بأن تناولاه تناولاً واحداً دفعةً واحدة ، فإن لم يكن أحدهما أهلاً للالتقاط مُنع منه ، وسلّم اللقيط إلى الآخَر ، كما لو كان أحدهما مسلماً حُرّاً عَدْلاً والآخَر يكون كافراً أو فاسقاً أو عبداً لم يأذن له مولاه ، أو مكاتَباً كذلك ، فإنّ المسلم العَدْل الحُرّ يُقرّ في يده ، ولا يشاركه الآخَر ، ولا اعتبار بمشاركته إيّاه في الالتقاط ؛ لأنّه لو التقطه وحده لم يُقرّ في يده ، فإذا شاركه مَنْ هو من أهل الالتقاط كان أولى.

وأمّا إن كان كلّ واحدٍ منهما أهلاً للالتقاط ، فإن سبق أحدهما إلى الالتقاط ، مُنع الآخَر من مزاحمته.

ولا يثبت السبق بالوقوف على رأسه من غير أخذٍ ، وهو أظهر وجهي‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣١٧

الشافعيّة ، والثاني : إنّه يثبت(١) .

وإن لم يسبق أحدهما ، فإن اختصّ أحدهما بوصفٍ يوجب تقدّمه قُدّم ، وكان أولى من الآخَر.

وإن تساويا من كلّ وجهٍ ، فإن سلّم أحدهما لصاحبه ورضي بإسقاط حقّه جاز ؛ لأنّ الحقّ له ، فلا يُمنع من الإيثار به ، وإن تشاحّا أُقرع بينهما - وبه قال الشافعي(٢) - لقوله تعالى :( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (٣) .

ولأنّه أمر مشكل ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم أولويّة أحدهما ، وكلّ مشكلٍ ففيه القرعة بالنصّ عن أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

ولأنّه لا يمكن أن يُخرج عن أيديهما ؛ لاشتماله على إبطال حقّهما الثابت لهما بالالتقاط ، أو يُترك في أيديهما إمّا جمعاً ، والاجتماع على الحضانة مشقٌّ أو متعذّر ، ولا يمكن أن يكون عندهما في حالةٍ واحدة ، وإمّا بالمهايأة ، وهو يشتمل على الإضرار باللقيط ؛ لما في تبدّل الأيدي من قطع الأُلفة واختلاف الأغذية والأخلاق ، أو يختصّ به أحدهما لا بالقرعة ، ولا سبيل إليه ؛ لتساويهما ، فلم يبق مخلص إلّا القرعة ، كالزوج يسافر بإحدى زوجاته بالقرعة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ - ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) سورة آل عمران : ٤٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣.

٣١٨

وقال بعض الشافعيّة : يرجّح أحدهما باجتهاد القاضي ، فمَن رآه خيراً للّقيط أقرّه في يده(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يستوي الشخصان في اجتهاد القاضي ولا سبيل إلى التوقّف ، فلا بدّ من مرجوعٍ إليه ، وليس سوى القرعة.

وقال بعض الشافعيّة : يخيّر الصبي في الانضمام إلى مَنْ شاء منهما(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد لا يكون مميّزاً بحيث يفوّض إليه التخيير ، ولو كان مميّزاً فإنّه لا يخيّر ، كما يخيّر الصبي بين الأبوين عند بلوغه سنّ التمييز - عندهم(٣) - لأنّه هناك يعوّل على الميل الناشئ من الولادة ، وهذا المعنى معدوم في اللقيط.

مسألة ٤١٣ : هذا إذا تساويا في الصفات ، فإن ترجّح أحد الملتقطين بوصفٍ يوجب تخصيصه به دون الآخَر وكانا معاً ممّن يثبت لهما جواز الالتقاط ، أُقرّ في يده ، وانتُزع من يد الآخَر.

والصفات المرجّحة أربعة :

أ : الغنى ، فلو كان أحدهما غنيّاً والآخَر فقيراً ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّهما يتساويان - وهو قول بعض علمائنا(٤) - لأنّ الفقير أهل للالتقاط ، كالغني.

وأظهرهما عند الشافعيّة : أولويّة الغني ؛ لأنّه ربما يواسيه بمالٍ وينفعه في كثيرٍ من الأوقات ويؤاكله أحياناً ، ولأنّ الفقير قد يشتغل بطلب القوت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٤٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٦ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤.

(٤) لم نتحقّقه.

٣١٩

عن الحضانة(١) .

فإن رجّحنا الغني على الفقير وكانا معاً غنيّين إلّا أنّ أحدهما أكثر غنىً من الآخَر ، فللشافعيّة وجهان في تقديم أكثرهما مالاً(٢) .

ب : أن يكون أحدهما بلديّاً والآخَر قرويّاً ، أو كان أحدهما بلديّاً أو قرويّاً والآخَر بدويّاً ، تساويا عند بعض علمائنا(٣) ، ورجّح البلديّ على القرويّ ، والقرويّ على البدويّ ؛ لما فيه من حفظ نسبه وإمكان وصول قريبه إليه.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ج : مَنْ ظهرت عدالته بالاختبار يُقدّم على المستور على خلافٍ بين علمائنا.

وللشافعيّة وجهان :

أحسنهما : إنّه يقدّم احتياطاً للصبي.

والثاني : يستويان ؛ لأنّ المستور لا يسلّم ثبوت المزيّة للآخَر ويقول : لا أترك حقّي بجهلكم بحالي(٥) .

د : الحُرّ أولى من العبد والمكاتَب وإن كان التقاطه بإذن السيّد ؛ لأنّه في نفسه ناقص ، وليست يدُ المكاتَب يدَ السيّد.

مسألة ٤١٤ : لا تُقدّم المرأة على الرجل ؛ لأنّ المرأة وإن كانت

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٣) لم نتحقّقه.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧ - ٤٨٨.

(٥) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672