مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149909 / تحميل: 5730
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.

غير أنّ التدبر في هذه الآية والآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي: أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.

وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.

وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلّا احتراماً، وتكريماً وليس عبادة.

وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء الله.

وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو ـ في الحقيقة ـ الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق، وهو قوله سبحانه :

( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) (١) .

فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي ( ملك الحبشة ) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.

__________________

(١) النساء: ١٧١.

٣٠١

أقول: جعل النجاشي يعمد ـ بعد سماعه الآية ـ إلى عود من الأرض، ويقول :

« ما عدا [ أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود »(١) .

إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :

١.( إِنَّما المَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح: المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو :

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) (٢) .

٢.( عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً، أو ابناً لله ؟

٣.( رَسُولُ اللهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.

٤.( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول: إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة لله وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة ( أعني: المسيح ) خلق دون توسط أسباب وعلل، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات الله الأُخرى.

٥.( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب الله.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ٢ / ٥٥.

(٢) آل عمران: ٤٥.

٣٠٢

التثليث في نظر العقل

بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.

تحكي كلمات المسيحيين ـ في كتبهم الكلامية ـ عن أنّ الاعتقاد بالتثليث ـ عندهم ـ من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقته ـ حسب زعمهم ـ فوق القياسات المادية.

ثمّ يقولون: حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود، فإذا قال الله بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص، لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » !! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية !!!(١) .

فالأب مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.

والابن كذلك مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.

__________________

(١) انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

٣٠٣

وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده ـ لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.

ولهذا ينبغي ـ قبل أي شيء ـ أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.

وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.

ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير، بل لكل مقياسه الخاص، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة ( امتناع اجتماع النقيضين ).

إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.

وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه، ونذعن بأنّها ليست من كلام الله ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.

إذا عرفت هذا، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.

٣٠٤

هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد ؟

يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب‍ « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :

إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.

والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، والابن هو الفادي، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة، وعمل واحد(١) .

والأقنوم ـ لغة ـ يعني: الأصل، والشخص، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة، وعمل واحد وإرادة واحدة، بموجب هذا النقل.

ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة ؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :

١. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم، أصل مستقل، وشخصية خاصة، متميزة عما سواها.

غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس.

٣٠٥

صورة تعدد الآلهة، وقد تجلّى في النصرانية في صورة التثليث !

ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.

وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن، والعجيب ـ حقاً ـ أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون ـ بشدة ـ على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة، واحد، وفي كونه واحداً ثلاثة، وهل هذا إلّا تناقض فاضح ؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ ـ هم لما واجهوا ـ من جانب ـ أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية الله تعالى.

ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة ( أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها، والتملص من حبائلها، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد وألتثليث وقالوا: إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد !!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟!

هناك تفسير آخر للتثليث وهو: أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.

٣٠٦

ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون الله « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته ( أي هذه الأقانيم الثلاثة ) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود الله.

وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :

ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير ( وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل ) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.

بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة لله سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.

ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب ( أعني: الكل ) إلى الأجزاء الممكنة، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود، وهو محض الشرك، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.

ج. انّ القول: بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون: إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.

وبتعبير آخر، إنّ بين هذين الكلامين، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة، تناقضاً صريحاً.

٣٠٧

د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً ( أي أحد الآلهة ) فلماذا كان يعبد الابن أباه ؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له، وأن يمد إليه يد الحاجة، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية ؟!

هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال: أؤمن بالتثليث لأنّه محال(١) .

__________________

(١) راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

٣٠٨

الفصل السادس

الله وبساطة ذاته تعالى

« وعينية صفاته لذاته »

٣٠٩

بساطة ذاته تعالى

١. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.

٢. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي.

٣. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.

٤. صفات الله عين ذاته.

٥. الدليل على وحدة الصفات والذات.

٦. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

٣١٠

بساطة ذاته تعالى

ويقع البحث في هذا الفصل في مقامين :

١. ذات الله منزّهة عن التركيب.

٢. صفات الله عين ذاته.

بعد ما عرفنا « التوحيد الذاتي » بمعنى نفي الشبيه والنظير والمثيل لله سبحانه ببراهينه، يتعين علينا الآن أن نستعرض « التوحيد الذاتي » من زاوية أُخرى، وهي بساطة الذات الإلهية، ونفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والعقلي فيها.

ولما كانت لمسألة بساطة الذات عن التركيب الخارجي والعقلي، ومسألة التوحيد في الصفات ( بمعنى اتحاد الذات مع صفاتها وجوداً وخارجاً ) دلائل مشتركة جعلناهما في فصل واحد وهو الفصل الحاضر، مع الاعتراف بأنّ المسألتين من بابين مختلفين، فمسألة « بساطة الذات » من فروع التوحيد الذاتي، ومسألة اتحاد الذات والصفات من شعب التوحيد في الصفات، ونركز بحثنا أوّلاً على بساطة الذات.

التوحيد الذاتي وبساطة الذات

للتوحيد الذاتي معنيان :

٣١١

١. أنّ الله واحد لا يتصور له نظير ولا مثيل.

٢. أنّ ذاته تعالى بسيطة ومنزهة عن أي نوع من أنواع التركيب، والكثرة العقلية، والخارجية.

وقد اصطلح بعض العلماء على التوحيد الذاتي بالمعنى الأوّل بالواحدية، وبالمعنى الثاني بالأحدية، ولعل هذين الاصطلاحين مبتنيان على أنّ لفظة « واحد » تعني في لغة العرب ما يقابل الاثنين فإذا قلنا: « الله واحد »، يعني: لا ثاني له ولا نظير ولا مثيل ولا عديل، ولكن لفظة « أحد »، تعني الوحدة في مقابل التركيب، وإذا وجدنا القرآن يصف الله بلفظة الأحد ويقول:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فهو يقصد مقابلة « التثليث التركيبي » الذي كانت النصارى تدعيه فتزعم بأنّ المقام الالوهي « مركب » من ثلاثة أقانيم.

ويدل على ذلك أنّه لو كان المقصود من « أحد » في هذه الآية هو أنّ الله واحد، ولا نظير له لما كان ثمة داع لتكرار هذا المضمون في ذيل السورة إذ يقول:( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، ويتضح ما قلناه إذا وقفنا على أنّ هذه السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وعلى كل حال سواء أطابق هذا الاصطلاح المعنى اللغوي ل‍: « الواحد » أو « الأحد » أم لا(١) ، فإنّ مثل هذا الاصطلاح سبب للتفكيك بين نوعين من « التوحيد الذاتي ».

* * *

__________________

(١) سنثبت في البحث القرآني لهذا الفصل أنّ المعنى اللغوي للواحد والأحد هو الذي جاء في هذا الاصطلاح.

٣١٢

قد يتصور الإنسان ـ في النظرة البدائية ـ أنّه لا توجد في القرآن أية آية أو آيات ناظرة إلى هذا القسم من التوحيد ( أي بساطة الذات )، وكأنّ القرآن أو كل أمثال هذه البحوث إلى عقل البشر، ولكننا عندما نعيد النظر في القرآن بعد الاطلاع على التحقيقات الفلسفية التي من شأنها إعطاء الإنسان نظرة أعمق وأوسع نجد أنّ القرآن يصف الله سبحانه بطائفة من الصفات التي لا تنسجم مع أي نوع من أنواع التركيب في الذات أبداً، وهو يدل ضمنياً على نفي التركيب وإثبات البساطة لذاته تعالى، وقد ذكرنا في السابق أنّ القرآن ذو أبعاد متعددة من حيث الأهداف والمعاني وإنّه يمكن أن يدرك بعد من أبعاد الآية في النظرة الأُولى بينما ينكشف بعد آخر لنفس الآية في النظرة الثانية في حين يكون اكتشاف بعد ثالث ورابع لنفس الآية محتاجاً إلى مزيد تعمّق وإمعان.

ويؤيد هذا الأمر ما قاله الإمام السجاد حول آيات من سورة الحديد :

« إنّ الله عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله عز وجل( قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ما هنالك هلك(١) .

لهذا يجب أن لا نكتفي ـ في استخراج المعارف المتعلّقة بالمبدأ أو المعاد من الآيات القرآنية ـ بالنظرة الأُولى بل لابد من الغوص في بحار القرآن، معتمدين على النظر الأعمق، والجهد الفكري الأكثر، فحينئذ سنرى أيّة جواهر ثمينة سنصيب في هذا الغوص المبارك.

لهذا السبب ولكي نقوي من نظرتنا فإنّنا سنعالج مسألة « بساطة أو تركيب

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٨٣ ـ ٢٨٤ طبع الغفاري.

٣١٣

الذات » وكذا التوحيد في الصفات من نظر العقل أوّلاً، ثم نطرح بعد ذلك هذه المسألة على القرآن وصحاح الأحاديث.

١. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي

والمراد من « التركيب الخارجي » هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية، التي تتألف من الأجزاء المختلفة.

ولكن مثل هذا « التركيب » يستحيل في شأن الله سبحانه، لأنّ الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون « محتاجاً » في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة، والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للإلوهية حينئذ.

هذا مضافاً إلى أنّ الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إمّا أن تكون « واجبة الوجود » فحينئذ سنقع في مشكلة « تعدد الآلهة » التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء.

وإمّا أن تكون « ممكنة الوجود » وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه « إلهاً » يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً.

٢. ذاته منزّهة عن الأجزاء العقلية

ولتوضيح هذا النوع من البساطة نذكر الأُمور التالية :

أ. انّ الشيء، يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية وليس للماهية أي دور، إلّا تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.

٣١٤

ب. انّ كل موجود ممكن مركب من شيئين: ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزءين الخارجيين كالعناصر المتركبة، بل المراد هو أنّ الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد ـ في مختبر العقل ـ مكوناً من جزءين :

أحدهما يحكي عن مرتبته الوجودية وانّه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود، من الجماد والنبات والحيوان، وغيرها، والثاني يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية.

ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية، لأنّها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية، انطرح هذا السؤال :

إنّ الماهية كانت في حد ذاتها فاقدة للوجود والعينية، فبماذا طرد هذا العدم وأُقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج ـ تبعاً لقانون العلية العام ـ إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ؟ ومن المعلوم أنّ الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الالوهية ؟!

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وانّها منزّهة عن الماهية، وهو عين الوجود وصرفه.

٣. صفات الله عين ذاته

لا شك في أنّ لله سبحانه صفات، كالعلم والقدرة والحياة، غير أنّه يجب أن نقف على أنّها هل هي أزلية أم حادثة، وعلى الأوّل فهل هي « زائدة » على الذات، وبعبارة أُخرى هل الصفات « عين » الذات أو « غيرها » ؟

إنّ هناك فرقة واحدة أعني الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ذهبت

٣١٥

إلى حدوث الصفات، وقالوا بخلو الذات الإلهية عنها ـ في البداية ـ ثم اتصفت بها فيما بعد(١) .

ولو تجاوزنا هذه الفرقة لوجدنا جميع الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين متفقين على « أزلية » هذه الصفات.

ومما لا يخفى أنّ الكرامية وغيرها مذاهب ابتدعتها السياسة العباسية آنذاك لإشغال المفكّرين الإسلاميين بالبحوث والمناقشات الجانبية، لكي تسهل لهم السيطرة على الأُمّة الإسلامية، ولأجل هذا لا نجد لهذه المذاهب المفتعلة بأيدي السياسات الزمنية المنحرفة أي أثر إلّا في طيات كتب الملل والنحل فقط.

ولو كانت « الذات الإلهية » فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك حتماً أن تكون الصفات « ممكنة » وحادثة، وحيث إنّ كل ممكن مرتبط بعلة، ومحتاج إلى محدث لزم أن نقف على محدثها.

فهل وجدت من قبل نفسها، أو من قبل الله سبحانه، أو من جانب علة أُخرى ؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل فلا يحتاج إلى مزيد بيان إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه، وأمّا الثاني فكسابقه فإنّ فاقد الشيء لا يكون معطيه، إذ كيف يمكن أن يكون فاقد العلم معطياً له ؟ وأمّا الاحتمال الثالث فكسابقيه أيضاً، إذ ليس هناك عامل خارجي محدث أخذاً بحكم التوحيد في الذات، ولأجل ذلك اختار الجمهور من الإسلاميين، أزلية الصفات.

__________________

(١) الأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٦

فإذا ثبتت أزلية صفاته سبحانه كذاته يبقى بحث آخر وهو :

هل هذه الصفات القديمة الأزلية زائدة عليها لازمة لها، كما ذهب إلى ذلك فريق من المتكلمين الإسلاميين كالأشاعرة(١) ، أم هي « عين » الذات، وأنّه ليس للذات والصفات سوى مصداق واحد لا أكثر، وهنا يتعين علينا أن نتوقف قليلاً لنرى التفاوت بين القولين ثم بمعونة العقل نميز الصحيح عن غير الصحيح منها.

ولوضوح المطلب نقدم أُموراً لها صلة بالموضوع :

١. انّ قولنا: الله سبحانه عالم، مركب من كلمتين: الله وعالم، وكل واحدة تحكي عن أمر، فالمبتدأ يحكي عن الذات، والخبر يحكي عن صفته.

والقائل باتحاد صفاته مع ذاته لا يقول باتحاد مفاهيمها مع ذاته أي اتحاد مفهوم العالم وما وضع عليه ذلك اللفظ مع مفهوم لفظ الجلالة الذي وضع عليه ذلك اللفظ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته وانّ وجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج غير مصداق لفظ العالم.

ثم يبقى هنا سؤال وهو أنّ ذاك الاتحاد لا يختص بذاته سبحانه بل هو حال عامة الموجودات مع صفاتها، فلماذا اختص هذا البحث بالله سبحانه ؟ وهذا ما نرجع إليه في الكلام التالي.

٢. إذا قلنا أنّ زيداً عالم نرى أنّ علمه ليس بمنفصل عن ذاته ووجوده، بحيث لا يمكننا أن نشير إلى علمه على حدة وعلى ذاته إلى انفرادها، فنقول هذا

__________________

(١) كشف المراد: ١٨١، والأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٧

ذاته وهذا علمه، بل الذات والعلم متحدان على الصعيد الخارجي.

وعند ذلك يتوجه السؤال الآتي: ما هو مقصود القائلين باتحاد صفاته سبحانه مع ذاته ؟ فإنّ الاتحاد حسب ما أوضحناه ليس منحصراً به سبحانه بل جار في جميع الموجودات الممكنة، فإنّ كل موجود ممكن يختلف عن صفاته مفهوماً ويتحد معها خارجاً.

عندما نقول: الصدف أبيض، أو العسل حلو، فإنّ البياض متحد بالصدف، والحلاوة متحدة بالعسل بحيث لا يمكن الإشارة إلى الحلاوة بمعزل عن العسل، وهكذا بالنسبة إلى بياض الصدف، فما الفرق بين النوعين من الاتحاد ؟ ويجاب على ذلك، بأنّ المقصود من اتحاد الذات الإلهية مع صفاته تعالى ليس من قبيل اتحاد الصدف مع بياضه، وعلم زيد مع ذاته بل هو نوع خاص من الاتحاد والعينية لا يوجد في غير الله. وتوضيح ذلك هو ما تقرؤه في البيان التالي :

٣. انّ « الصفات والذات » في الممكنات وان كانت تتمتع بنوع من الاتحاد في كل الموارد ولكن كيفية الاتحاد في مورد « الصفات والذات الإلهية » تختلف عن الاتحاد في الممكنات.

فإنّ علم زيد وان كان متحداً مع ذاته بنوع من الاتحاد ولكن علمه لا يتحد مع ذاته في جميع مراحلها، بل يتحد معها في بعض مراحل الذات، بدليل أنّ زيداً كان في مجتمعه ـ ذات يوم ـ ولم يكن معه ذلك العلم ـ فكانت الذات متحققة ولم يكن العلم معها، وهذا يشعر بأنّ ذاته أي ما به يكون زيد، زيداً غير علمه، وهذا يشعر بأنّ ذاك الاتحاد ليس بمنزلة يجعل الصفات في مرتبة حقيقته وذاته.

وبعبارة أُخرى فإنّ ملاك إنسانية زيد والعناصر المكونة لذاته هي ما يوجد

٣١٨

في الآخرين سواء بسواء فإنّ ملاك الإنسانية، والعناصر المكونة لحقيقة الأفراد الآخرين هي « الحيوانية والناطقية » التي تتكون منهما ذات زيد، أما « علمه » فما هو إلّا « حلية » توجت إنسانيته، وزينتها، وفضلتها على الآخرين، ولتوضيح الحقيقة نفترض « بناء » قد تم وبقي طلاؤه الذي يطلى به ظواهر البناء وخارجه وأبوابه وجدرانه.

وفي هذه الصورة، فإنّ كل ما ينقش على جدران هذا البناء، يضيف إلى جمال البناء جمالاً إضافياً، لكن هذا الطلاء رغم أنّه ليس منفصلاً عن البناء وجدرانه وأبوابه، إلّا أنّه لا يشكل حقيقة البناء، لأنّ العناصر والمواد المنشئة لذلك البناء هي الحديد والاسمنت والجص والآجر، وليست الأصباغ والطلاء.

وعلى هذا فإنّ اتحاد الأبواب والجدران مع الطلاء ( عندما نقول الجدار أزرق ) لا يعني أنّ اللون جزء من واقعيته وذاته، بل غاية ما في الأمر أنّ الألوان قد اتحدت بظاهر الجدار لا أنّها اتحدت بذاته وحقيقته، وعلى هذا النمط يكون بياض الصدف وحمرة التفاح وصفرة الليمون، كما أنّ على غرار هذا يكون اتحاد علم زيد بذاته.

وخلاصة القول: إنّ الاتحاد في هذه الموارد ليس بمعنى أنّ « العارض » قد أصبح جزءاً من ذات « المعروض » بل اتحد مع بعض مراحله ومعنى هذا أنّ العارض والمعروض شيء واحد ولكن دون أن يكون العارض داخلاً في ذات المعروض وجزءاً من حقيقته، وعلى هذا فالمقصود من « وحدة صفات الله مع ذاته » ليس على هذا النمط من الاتحاد بل وحدة آكد وأشد بمعنى أنّ « صفات الله تؤلِّف ذاته » سبحانه فهي « عين » ذاته وليست عارضة عليها، وبالتالي ليس يعني، أنّ ذاته شيء وصفاته شيء آخر، بل صفاته هي ذاته وحقيقته، فعلم الإنسان بشيء

٣١٩

إنّما هو بعلم زائد على ذاته فهو بالعلم الزائد يطّلع على ما هو خارج عن ذاته فيدرك المرئيات والمسموعات عن طريق « الصور الذهنية » التي تدخل إلى الذهن بواسطة الحواس الخمس، وإذا أخذت منه هذه « الصور الذهنية » لم يعد قادراً على درك ما هو خارج عن ذاته ولكنه يحتفظ بذاته مع فقد علمه، وبما أنّ ذات الله عين علمه، وليس العلم بزائد على ذاته، فهو تعالى يدرك جميع المبصرات والمسموعات بنفس ذاته بحيث يكون فرض سلب العلم والقدرة عنه تعالى مساوياً لفرض نفي ذاته.

وعلى هذا فالمقصود من « اتحاد صفات الله مع ذاته » هو عينية الصفات للذات في عامة مراحلها، وكون العلم الإلهي عين الذات الإلهية، وكذا القدرة والحياة، وغيرها من صفات الذات فهي عين ذاته سبحانه، لا أنّ الذات شيء وحقيقة مستقلة، والصفات حقائق طارئة على الذات وعارضة لها.

نظرية الأشاعرة في الصفات

إنّ القول بزيادة الصفات على الذات لا يخلو من مفاسد عقلية أظهرها أنّه يستلزم وجود قدماء ثمانية حسب تعدد صفاته تعالى، وليس هذا إلّا الفرار من خرافة التثليث المسيحي، والوقوع في ورطة القول بالقدماء الثمانية بدل الثلاثة في حين أنّ براهين « التوحيد الذاتي » قاضية بانحصار القديم في الله سبحانه وعدم وجود « واجب آخر سواه ».

الدليل على وحدة الصفات والذات

١. انّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته وعينية أحدهما للآخر يوجب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672