مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 126400
تحميل: 3835


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126400 / تحميل: 3835
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكأنّ أوراق الكتاب التكويني ـ على غرار الكتاب التدويني ـ شد بعضها إلى بعض بيد واحدة، وأُخرجت في صورة واحدة.

إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كلية وشاملة بحيث لو أُتيح لأحد أن يكتشف بالتجربة سنة في نقطة خاصة من نقاط الكون أمكنه أن يكتشف قانوناً كلياً وشاملاً، ويهتدي إلى سنة كونية عمومية وهذا هو أفضل دليل على وحدة النظام الحاكم على العالم الطبيعي.

إنّ وحدة النظام الكوني « وعمومية » السنن والقوانين الطبيعية تقودنا إلى موضوعين :

١. أنّه ليس للعالم إلّا خالق واحد، وتوضيح ذلك هو ما قرأته في الفصل السابق.

٢. انّه ليس للعالم إلّا مدبِّر واحد.

وبعبارة أُخرى، فإنّ وحدة النظام والسنن الكونية لدليل واضح على صحة ما قاله القرآن الكريم.

( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

إنّ جملة:( لَهُ الخَلْقُ ) إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

وجملة:( وَالأمْرُ ) إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية على عالم الوجود.

وهنا ينطرح سؤال هو: كيف تدل « وحدة القوانين » وعموميتها على « وحدة المدبِّر »؟

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

٤٠١

وجواب ذلك واضح: إذ عندما يحكم على الكون نوعان من الرأي والحاكمية يكون من الطبيعي والحتمي عدم وجود أي أثر لهذا النظام الواحد، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تكون إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد، ولو خضع الكون لإدارة حاكمين ومنظمين ومدبِّرين لما كان للنظام الموحد أي أثر.

لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو بعض الجهات منها ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة، ويستلزم تعدّد التدبير ـ بالضرورة ـ فناء النظام الموحد، وغيابه.

وبعبارة أُخرى: انّ المدبِّرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم تصدق هناك اثنينية قهراً، وإن تعدّد المدبِّر يعني ـ بالضرورة ـ اختلاف المدبِّرين من جهة أو جهات، ومعلوم أنّ اختلافاً ـ كهذا ـ يؤثر لا محالة في تدبير المدبِّر.

* * *

ويمكن بيان هذا البرهان بصورتين :

١. أن نلتفت ـ في بيان البرهان ـ إلى الجوانب الإيجابية فيه ونقول: إنّ ترابط أجزاء الكون، وتأثيرها في بعضها يدلّ على خضوعها لحاكمية حاكم واحد على جميع العالم يقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.

وقد أكد في أحاديث أئمّة أهل البيت: على هذه النقطة أحياناً، إذ يقول أحدهم وهو :

« فلما رأيت الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر

٤٠٢

واحد »(١) .

٢. وربما أُشير إلى الجوانب السلبية في هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبير يوجب فساد النظام الكوني.

وقد استند القرآن الكريم على هذا الجانب، إذ قال:

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وربما ورد في بعض نصوص أهل بيت الرسالة الإشارة إلى كلا الجانبين في هذا البرهان، إذ يقول أحدهم: في جواب هشام الذي سأل عن دليل وحدانية الرب :

« اتصال التدبير وتمام الصنع، كما قال الله عزّ وجل:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) .

النتيجة

١. انّ وحدة النظام ووحدة الكون وشمول السنن لجميع أجزاء هذا العالم وعمومية القوانين الطبيعية كل ذلك يمكن أن يكون أفضل دليل على وحدة الخالق، وكذا وحدة المدبِّر.

٢. أنّ هذا البرهان يمكن أن يبين في صورتين، وكلا الصورتين اللّتين هما ـ في الحقيقة ـ برهان واحد وردا في القرآن الكريم.

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٤٤.

(٢) الأنبياء: ٢٢.

(٣) توحيد الصدوق: ٢٥٠ وسيوافيك الاستدلال بهذه الآية بشكل آخر.

٤٠٣

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟

فإذا كانت الظواهر الطبيعية وليدة عللها التي هي الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء، فكيف ينسجم هذا مع حصر المدبّرية المطلقة في الله تعالى ؟

فإنّ التدبير الطبيعي عبارة عن تكفّل شيء لشيء آخر، فإنّ كل علة في هذا النظام الكوني متكفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه، وبمقتضى ذلك تكون كل علة مدبّراً، وعند ذلك فكيف ينحصر التدبير في الله سبحانه ؟

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يعترف بسلسلة من المدبِّرات ويقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (١) .

( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (٢) .

ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة لو كانوا يراقبون البشر ويحفظونه من الشرور والأخطار، فإنّ من الحتمي أن يعدوا مدبِّرين له بنحو ما ؟

الجواب

قد سبق منّا ـ عند البحث عن التوحيد في الخالقية ـ أنّ التوحيد في الأفعال ليس بمعنى تعطيل فاعلية الأسباب والعلل وإحلال الله تعالى محلها للتأثير في الظواهر مباشرة، لأنّ هذا عين ما اختارته الأشاعرة، الذي أبطلناه.

بل التوحيد في الأفعال ـ سواء أكان في الخالقية أم في التدبير ـ إنّما هو

__________________

(١) النازعات: ٥.

(٢) الأنعام: ٦١.

٤٠٤

بمعنى أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه، ومن ليس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهيم القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات، إذ كيف يمكن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال كالشفاعة، والمالكية، والرازقية والعلم بالغيب والإحياء في بعض الآيات بالله سبحانه بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير الله من عباده، فكيف ينسجم ذلك الانحصار مع هذه النسبة ؟

وإليك نماذج من هاتين الطائفتين من الآيات :

١. يعد القرآن ـ في بعض آياته ـ قبض الأرواح فعلاً لله تعالى، ويصرح بأنّ الله هو الذي يتوفّي الأنفس حين موتها إذ يقول ـ مثلاً ـ :

( اللهُ يَتَوفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) .

بينما نجده يقول في موضع آخر، ناسباً التوفّي إلى غيره :

( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (٢) .

* * *

٢. يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة بالله وحده إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول :

__________________

(١) الزمر: ٤٢.

(٢) الأنعام: ٦١.

٤٠٥

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (١) .

* * *

٣. يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً بالله وحده، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) .

بينما يخبرنا ـ في آية أُخرى ـ عن وجود شفعاء غير الله كالملائكة :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللهُ ) (٣) .

٤. يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب والعلم به منحصراً في الله، حيث يقول :

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ الغَيْبَ إلّا اللهُ ) (٤) .

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ الله يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَىٰ الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (٥) .

__________________

(١) البقرة: ٤٥.

(٢) الزمر: ٤٤.

(٣) النجم: ٢٦.

(٤) النمل: ٦٥.

(٥) آل عمران: ١٧٩.

٤٠٦

٥. ينقل القرآن عن إبراهيمعليه‌السلام قوله بأنّ الله يشفيه إذا مرض حيث يقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (١) .

وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في الله سبحانه، في حين أنّ الله يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً، حيث يقول :

( فِيهِ [ العسل ]شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (٢) .

( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) (٣) .

٦. إنّ الله تعالى ـ في نظر القرآن ـ هو الرازق الوحيد حيث يقول :

( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ) (٤) .

بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) (٥) .

٧. الزارع الحقيقي ـ حسب نظر القرآن ـ هو الله كما يقول :

__________________

(١) الشعراء: ٨٠.

(٢) النحل: ٦٩.

(٣) الإسراء: ٨٢.

(٤) الذاريات: ٥٨.

(٥) النساء: ٥.

٤٠٧

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ *ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) (١) .

في حين أنّ القرآن الكريم ـ في آية أُخرى ـ يطلق صفة الزارع على الحارثين إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) (٢) .

* * *

٨. إنّ الله هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول :

( واللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (٣) .

في حين يعتبر القرآن الملائكة ـ في آية أُخرى ـ بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد، إذ يقول :

( بَلَىٰ وَرُّسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٤) .

* * *

٩. وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) (٥) .

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

__________________

(١) الواقعة: ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) الفتح: ٢٩.

(٣) النساء: ٨.

(٤) الزخرف: ٨١.

(٥) النمل: ٤.

٤٠٨

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ ) (١) .

وفي آية أُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ ) (٢) .

* * *

١٠. مر في هذا البحث حصر التدبير في الله حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا: هو الله، ، إذ يقول في الآية ٣١ من سورة يونس :

( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبّرية غير الله حيث يقول :

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (٣) .

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً، غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور أعني: الرازقية، والإشفاء و و، قائمة بالله على نحو لا يكون لله فيها أي شريك، فهو تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعية » وفي ظل القدرة الإلهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، وأنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه

__________________

(١) الأنفال: ٤٨.

(٢) فصلت: ٢٥.

(٣) النازعات: ٥.

٤٠٩

الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية الله من ذلك، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات غاية ما في الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري »، فيما يكون نسبتها إلى « الله » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) (١) .

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي، إذ يقول بصراحة( إذْ رَمَيْتَ ) نجده يصف الله بأنّه هو الرامي الحقيقي، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له، فيكون فعله فعلاً لله أيضاً، بل يمكن أن يقال: إنّ انتساب الفعل إلى الله ( الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير، ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون الله مسؤولاً عن أفعال عباده، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة بالله وناشئة منه إلّا أنّه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحقّقت الظاهرة يعد هو مسؤولاً عن الفعل.

وحدة المدبِّر في العالم

إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر في العالم ببرهان ذي شقوق، وقد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان، وإليك الآيتين :

__________________

(١) الأنفال: ١٧.

٤١٠

( لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (١) .

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْض سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وإليك مجموع شقوق البرهان :

إنّ تصوّر تعدّد المدبِّر لهذا العالم يكون على وجوه :

قدس‌سره . أن يتفرد كل واحد من الآلهة المدبِّرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدد التدبير لأنّ المدبِّر متعدّد ومختلف في الذات، فيلزم تعدد التدبير، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانهعليهم‌السلام

(قُلْ لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

٢. وأمّا أن يدبِّر كل واحد قسماً من الكون الذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلّا نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانب الكون من الذرة إلى المجرة.

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

٤١١

وإلى هذا الشق أشار بقوله: في الآية الثانية:( إذَنْ لَذَهَبْ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

٣. أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكماً عليهم ويوحّد جهودهم، وأعمالهم ويسبغ عليها الانسجام والاتحاد، وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون الباقي.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه:( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) فتلخّص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما بيان شق خاص.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي اعتبر في تفسيره القيم ـ الميزان ـ الآية الثانية برهاناً مستقلاً عن الآية الأُولى وجعل كل جملة منها مشيرة إلى برهان خاص، وإليك توضيح ما أفاده في كتابه :

توضيح البرهان الأوّل

إذا افترضنا أنّ للكون خالقين وأنّ العالم مخلوق لإلهين، فإنّه لا بد أن نقول ـ وبحكم كونهما اثنين ـ أنّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات، وإلاّ لما صحت الاثنينية والتعدد أي لما صح ـ حينئذ ـ أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.

ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.

فإذا كان تدبير العالم العلوي ـ مثلاً ـ من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي

٤١٢

العالمين ويزول الارتباط بينهما، لأنّه من المستحيل أن يكون ارتباط ووحدة بين أجزاء عالم واحد يدار بتدبيرين متنافيين متضادين.

وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما.

لأنّنا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني ـ حسب التحقيقات العلميّة ـ ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير ـ مثل أن تختل قوتا الجذب والدفع ـ لتعرض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان بالعبارة التي يقول فيها :

( إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

أي أنّ كل إله ـ في صورة التعدّد ـ يدبِّر مخلوقه حسب طريقته الخاصة، وعلى أثر تعدّد التدبير يزول الارتباط والترابط الحاكم على أجزاء الكون، ذلك الترابط الذي هو علّة بقاء النظام الكوني وعلّة استمراره واستقامته، وثباته على النمط الذي هو عليه.

توضيح البرهان الثاني

إنّ في عالم الكون سلسلة من النظم والسنن الكونية الكلية والعامة التي يوجد بينها سلسلة من النظم الجزئية، التي تدار في خلالها وأثنائها.

فالإنسان والحيوان والنبات وما يعيش على الأرض ذوات أنظمة صغيرة محدودة خاصة بها، وهي جزء من النظام الكلي للكرة الأرضية.

٤١٣

ولكن النظام الكلي للكرة الأرضية هو بدوره يعد جزءاً من النظام الكلي للعالم، وبهذه النسبة يكون وضع نظام المجموعة الشمسية إذا ما قورن إلى نظام المجرة.

فإذا كان النظام العالي الكلّي للكون مرتبطاً بأحد الإلهين ومحكوماً لتدبيره دون الآخر، ففي هذه الصورة سيتعالى مدبّر النظام الكلي على مدبِّر النظام الذي يندرج فيه بحيث إذا ذهب وانتفى النظام الكلي لم يبق للنظام الجزئي المندرج فيه أي أثر.

فمثلاً إذا بطل نظام الكرة الأرضية، فإنّه يبطل ـ بالضرورة ـ نظام الإنسان والحيوان وبقية الأحياء ويتعرض أمرهم للزوال والفناء والخطر، بحكم التبعية والارتباط بينهما.

وإذا تعرض النظام الكلي للمنظومة الشمسية للخلل فإنّ من القطعي أن يختل كذلك النظام الجزئي للمنظومة مثل نظام الكرة الأرضية على أثر ذلك، ولا يصح العكس طبعاً(١) .

وفي هذه الحالة يصح ( بحكم تفوق النظام العالي الكلي على النظام الجزئي السفلي ) أن يقال أنّ مدبِّر النظام العلوي يتفضّل ويستعلي ويتفوّق على مدبِّر النظام السفلي الجزئي، وتكون نتيجة هذا الفرض أن يستغني مدبِّر النظام العلوي الكلي عن مدبِّر النظام السفلي الجزئي، بينما يستلزم أن يكون مدبّر النظام السفلي الجزئي محتاجاً في إرادته وتدبيره لمخلوقه للمدبِّر الأعلى.

لأنّ الفرض أنّ النظام السفلي مرتبط ـ كمال الارتباط ـ بالنظام العلوي

__________________

(١) لأنّ فساد الكل يستتبع فساد الجزء.

٤١٤

ويستمد من الأخير دائماً، ومعلوم أنّ نتيجة هذا الاستمداد هو أن لا يكون موجد النظام السفلي، مستقلاً في تأثيره وتدبيره، بل يكون معتمداً على غيره دائماً وأبداً.

ومن البديهي أنّ الموجود المحتاج إلى غيره في التدبير والإيجاد لا يمكنه أن يكون « الإله الغني ».

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا النحو من الاستدلال بالجملة التالية :

( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) .

وعلّة هذا العلو والاستعلاء هو اعتماد تدبير أحدهما على تدبير الآخر بحيث لو اختل أو انتفى التدبير الكلي العلوي لانتفى التدبير السفلي الجزئي ولم يعد له أثر ولا خبر، ولا ريب أنّ تفوق التدبير مستلزم لتفوق المدبِّر وعلوه(١) .

سؤال وجواب

نرى في قوله سبحانه :

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً *مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰٰ باللهِ شَهِيداً ) (٢) .

إنّ الآية الأُولى تنسب كلاّ من الحسنة والسيئة إلى الله، وفي الوقت نفسه

__________________

(١) قد تقدم في صفحة ٤٠٣ الاستدلال بمضمون الآية الأُولى على « وحدة المدبر » غير أنّ الاستدلال هنا يكون بنفس هذه الآية منضمة إلى آية أُخرى، وجعل الآيتين بمنزلة برهان واحد ذي شقوق تتكفل الآيتان بيان شقوق البرهان.

(٢) النساء: ٧٨ ـ ٧٩.

٤١٥

تنسب الآية الثانية الحسنة إليه سبحانه والسيئة إلى نفس الإنسان، فكيف تجتمع هاتان النسبتان ؟

والخطاب في الآية الثانية وإن كان للنبي إلّا أنّ الغاية منه أعم، فهو وإن كان قد خوطب بالكلام، ولكن المقصود الناس جميعاً، وعندئذ ينطرح هذا السؤال: إذا كان المؤثر الحقيقي في العالم هو الله سبحانه وكان تأثير غيره منوطاً بإذنه ومشيئته وقدرته وأقداره، كما يفيده قوله سبحانه:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللهِ ) ، لأجل أنّ للحسنة والسيئة عوامل وعللاً تنتهي إلى الله سبحانه وتقوم به، فيكون الكلّ مستنداً إليه، ومعه كيف يستدرك في الآية الثانية ويقرن بين الحسنة والسيئة فينسب الأُولى إلى الله والثانية إلى نفس النبي وبالنتيجة إلى مطلق الإنسان ويقول:( ومَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ؟ فهل هذا إلا تفكيك في الحوادث وجعل بعضها منتهياً إلى الله دون البعض الآخر.

الجواب

إنّ المقصود من الحسنة في الآية، الأُمور التي تلائم وتنطبق مع المزاج والمصالح البشرية بينما تكون السيئة عكس ذلك، كما في قوله سبحانه :

( إِنْ تَمسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ) (١) .

وليس المراد منها الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب بل الحوادث التي تعد خيراً أو شراً للإنسان طيلة حياته.

إنّ بعض المنضمين إلى صفوف المؤمنين كانت ألسنتهم طويلة وعملهم

__________________

(١) آل عمران: ١٢٠.

٤١٦

قليلاً، فكانوا يتفلسفون، فإنْ حصل نصر قالوا: هو من عند الله، وإن كانت هزيمة قالوا إنّ سوء القيادة هو سبب الهزيمة.

وبعبارة أُخرى قد كان المنافقون ـ لجهلهم بمعارف الكتاب العزيز ـ يعدون الظفر والغلبة في الحروب كحرب بدر ـ مثلاً ـ من الله، والانكسار والهزيمة كحرب أُحد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن هذا النوع من التفسير بجديد، فقد سبقهم في ذلك أعداء موسى، فقد كان منطقهم، على شكل آخر، فكانوا ينسبون الحسنة إلى أنفسهم والسيئة إلى موسى ومن معه.

فإذا واجهوا نعمة كانوا يرون أنّ ذلك نتيجة صلاحيتهم، وإذا واجهوا نقمة أو بلاء تشاءموا بموسيعليه‌السلام وتطيّروا به، واعتبروا وجوده ووجود جماعته المؤمنين سبباً لنزول ذلك البلاء، كما يقول سبحانه :

( فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وِإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَعَهُ ) (١) .

ولكنَّ القرآن الكريم يواجه هذا الزعم الأعوج الذي تنسب فيه « الحسنات » تارة إلى الله و « السيئات » إلى النبي وأُخرى تنسب الحسنات إلى أنفسهم، والسيئات إلى موسىعليه‌السلام ، فكأنّ هناك مؤثرين مستقلين في عالم الكون، لكل واحد منهما خالق خاص ينافي الآخر ويقول في قبال هذا المنطق:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

لأنّه ليس للعالم ـ بحكم التوحيد في الخالقية ـ إلّا خالق واحد لا أكثر ،

__________________

(١) الأعراف: ١٣١.

٤١٧

وكل ما يحدث في هذا العالم من انتصارات أو هزائم وانكسارات ونزول نعم أو نقم ـ من حيث وجودها في الخارج ـ تكون من الله، وليس من الصحيح أبداً أن نعتبر بعضها من جانب الله، والبعض الآخر من جانب النبي أو غيره، ولأجل هذا يقول القرآن( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

إلى هنا اتضح مفاد الآية الأُولى، وبقي الكلام في الآية الثانية وإنّه كيف تعود فتنسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي، والمراد منه مطلق الإنسان ؟

غير انّ الإجابة عنه واضحة، بعد الوقوف على موضوع البحث فيهما فإنّ الآية الأُولى تركز على أنّ وجود الحسنة والسيئة من الله سبحانه، ولا خالق ولا مؤثر في الوجود إلّا هو، وأمّا الآية الثانية فهي تركز على مناشئ الحسنة والسيئة ومنابعهما، فتفرّق بين مناشئ الحسنة ومنابع السيئة بأنّ منشأ الأُولى هو الله سبحانه، إذ هو مبدأ لكل خير وإليه يرجع كل فضل ومنه يفاض إلى الغير، كما أنّ منابع السيئة هي الإنسان وأفعاله وخصاله التي يمشي عليها في حياته. إذا عرفت ذلك فنقول :

السيئة ـ كالزلازل والبلايا والمصائب ـ بما أنّها ظاهرة طبيعية فوجودها من جانب الله سبحانه، ولأجل ذلك نسبها القرآن إلى الله فقال:( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) وبما أنّ أعمالنا مؤثرة في نشوء تلك الظاهرة، وكل إنسان مأخوذ بفعله فأعمالنا مبادئ لهذه الظواهر والطوارئ فنسب السيئة إلى نفس الإنسان فقال:( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

ويؤيد ذلك قوله سبحانه :

( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَيَّ رَبِّي

٤١٨

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) (١) .

إنّه تعالى يأمر نبيه بأن يعترف بأنّ ضلالته من جانب نفسه وهدايته من جانب وحيه سبحانه، وليس ذلك إلّا لأنّ الضلالة مما ينشأ من موقف الإنسان نفسه في حياته، فلأجل ذلك هي أولى بأن تنتسب إلى نفس الإنسان، وأمّا الهداية فهي كالحسنة أولى بأن تنتسب إلى الله سبحانه.

وليس هذا مخصوصاً بالحوادث الطارئة في عالم الطبيعة، المذكورة، بل كل إنسان رهين بآثار عمله، فإنّ الشاب المدمن على الخمر ـ مثلاً ـ يجب بالبداهة أن ينتظر سلسلة من البلايا والمصائب والمحن، والمدينة التي لا تبني السدود في وجه السيول يجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب، والبيوت التي لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل يجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل.

إنّ مثل هذه المجتمعات التي تقصر في هذه الأُمور لابد أن تكون في معرض المصائب والمحن والمآسي.

ولهذا قال تعالى في الآية الثانية:( مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) وهو بذلك يشير إلى ما قلناه.

لقد كان الأنبياء: يذمّون من يتطيّر بهم ويتشاءم من وجودهم ويقولون:( قَالُوا ( أي الأنبياء )طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم ) (٢) .

وهم بذلك يشيرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب كامنة في نفس العصاة والمنكوبين، وهو أمر ناشئ منهم ونابع من أعمالهم هم، وأنّ داءهم فيهم ومنهم إن

__________________

(١) سبأ: ٥٠.

(٢) يس: ١٩.

٤١٩

كانوا يبصرون ويتذكرون.

ولأجل أن نعرف أنّ أعمال الإنسان هي صانعة مصيره يكفي أن نجد القرآن يخبرنا في آيات أُخرى بأنّ أعمال البشر وحالاته وسوابقه هي التي تكون علّة للمصائب والمحن والتحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على حياته، إذ يقول :

( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (١) .

ويقول في آية أُخرى :

( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِمْ ) (٢) .

ويقول أيضاً :

( ذِلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣) .

وقد أُشير إلى هذا الجمع الذي ذكرناه في روايات أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، فعن الإمام الرضاعليه‌السلام ناقلاً عن الحديث القدسي :

« ابن آدم ! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني »(٤) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام :. « فما أصابك من حسنة فمن عندي وبتوفيقي وقوتي، وما أصابك من سيئة فمن سوء اختيارك وغواية نفسك »(٥) .

__________________

(١) الشورى: ٣٠.

(٢) الرعد: ١١.

(٣) الأنفال: ٥٣.

(٤) بحار الأنوار: ٥ / ٥٦ و ٥ وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

(٥) بحار الأنوار: ٥ / ٥٦ و ٥ وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

٤٢٠