مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن2%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149993 / تحميل: 5731
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

وبصيغة علمية لابد أن نقول: ليس الخلاف في الكلي وإنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

ولأجل حل هذه المشكلة لابد ـ أوّلاً ـ من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك: العبادة عن غيرها.

وهكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسّل بأولياء الله، وطلب الحاجة منهم، في حين يخالفهم المسلمون في ذلك، فيجوّزون هذه التوسّلات، ويعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسك بالأسباب، الذي ورد في الشرع الشريف.

٤٤١

٢

هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم ؟

لأئمّة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة، فهم يفسرون العبادة بأنّها « الخضوع والتذلّل » وإليك فيما يلي نصَّ أقوالهم :

١. يقول ابن منظور في « لسان العرب »: أصل العبودية: الخضوع والتذلّل.

٢. ويقول الراغب في « المفردات »: العبودية إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحق إلّا من له غاية الأفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال:( إلّاتَعْبُدُوا إلّا إِيّاه ) (١) ».

٣. وفي « القاموس المحيط » للفيروز آبادي: العبادة: الطاعة.

٤. وقال ابن فارس في المقاييس: العبد له أصلان كأنّهما متضادان، والأوّل من ذينك الأصلين يدل على لين وذل، والآخر على شدة وغلظ.

ثمّ أتى بموارد المعنى الأوّل وقال :

من الباب الأوّل: البعير المعبد أي المهنوء بالقطران، وهذا أيضاً يدل على ما

__________________

(١) يوسف: ٤٠، الإسراء: ٢٣.

٤٤٢

قلناه، لأنّ ذلك يذلّه ويخفض منه. والمعبد: الذلول، يوصف به البعير أيضاً.

ومن الباب: الطريق المعبد، وهو المسلوك المذلّل.

بيد أنّ العبادة وإن فسروها بالطاعة والخضوع والتذلل، أو إظهار نهاية التذلّل، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلّا نوع من التعريف بالمعنى الأعم، لأنّ الطاعة والخضوع وإظهار التذلّل ليست ـ على وجه الإطلاق ـ عبادة، لأنّ خضوع الولد أمام والده، والتلميذ أمام أُستاذه، والجندي أمام قائده، لا يعد عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل، وتدل الآيات ـ بوضوح ـ على أنّ غاية الخضوع والتذلّل، فضلاً عن كون مطلق الخضوع، ليست عبادة، ودونك تلك الآيات :

سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (١) .

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة، ولم يحسب سجودهم شركاً وعبادة لغير الله، ولم تصر الملائكة بذلك العمل مشركة، ولم يجعلوا بعملهم نداً لله وشريكاً في المعبودية، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه.

وهذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير الله عبادة له، وأنّ جملة:( اسْجُدُوا لآدَمَ ) وإن كانت متحدة مع جملة:( اسْجُدُوا للهِ ) إلّا أنّ الأوّل لا يعد أمراً بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمراً بعبادة الله(٢) .

ويمكن أن يتصور ـ في هذا المقام ـ أنَّ معنى السجود لآدم ـ في هذه الآية ـ

__________________

(١) البقرة: ٣٤.

(٢) وهذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.

٤٤٣

هو الخضوع له، لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف، ومعلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة، بل « غاية الخضوع » التي هي السجود، هي التي تكون عبادة.

أو يمكن أن يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله « قبلة » لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر، والمتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة ـ في اللغة والعرف ـ هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل، لأنّه تأويل بلا مصدر ولا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدمعليه‌السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان، إذ قال :

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (١) .

لأنّه لا يلزم ـ أبداً ـ أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه، بل اللازم هو: كون المسجود له أفضل من الساجد، في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان منه، وهذا ممّا يدلّ على أنّ الهدف هو السجود لآدم.

يقول الجصاص: ومن الناس من يقول إنّ السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم، وليس هذا بشيء، لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً، ويدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدمعليه‌السلام وتفضيله، قول إبليس فيما حكى الله عنه :

__________________

(١) الإسراء: ٦١.

٤٤٤

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً *أَرَأَيْتَكَ هٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (١) ، فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إيّاه بالسجود له، ولو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة المنصوبة للقبلة(٢) .

وعلى هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجوداً واقعياً، وانّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر الله، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم، ولكنهم ـ مع ذلك ـ لم يكونوا ليعبدوه.

وما ربما يتصور من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

انّ القرآن يصرح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له، حيث قال :

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَىٰ العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يَا أَبَتِ هٰذَا تَأْويلُ رُؤيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً ) (٣) .

ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة :

( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٤) .

وقد تحققت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود أخوة يوسف وأبويه

__________________

(١) الإسراء: ٦١ ـ ٦٢.

(٢) أحكام القرآن: ١ / ٣٠٢.

(٣) يوسف: ١٠٠.

(٤) يوسف: ٤.

٤٤٥

له، وعبَّر القرآن ـ في كل هذه الموارد ـ بلفظ السجود ليوسف.

ومن هذا البيان يستفاد ـ جلياً ـ أنّ مجرد السجود لأحد بما هو هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليس عبادة، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل.

٣. يأمر الله تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد، إذ يقول :

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (١) .

ومع ذلك لا يكون هذا الخفض: عبادة.

٤. إنّ جميع المسلمين يطوفون ـ في مناسك الحج ـ بالبيت الذي لا يكون إلّا حجراً وطيناً، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك، حيث قال :

( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ) (٢) .

( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (٣) .

فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل(٤) عبادة لهذه الأشياء ؟

__________________

(١) الإسراء: ٢٤.

(٢) الحج: ٢٩.

(٣) البقرة: ١٥٨.

(٤) المسلمون كلهم يستلمون الحجر الأسود ـ في الحج ـ واستلام الحجر الأسود من مستحبات الحج، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة ( لا من حيث الواقعية ) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين انّ هذا العمل يعد في صورة شركاً، وفي أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين، وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلاّ فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

٤٤٦

ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

٥. انّ القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عندما يقول:( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلّىً ) (١) .

ولا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي لله، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً(٢) .

٦. إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر كما يقول سبحانه :

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَىٰ المُؤْمِنينَ أَعِزةٍ عَلَىٰ الكَافِرينَ ) (٣) .

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل، أو التكريم والاحترام ليس عبادة، وإذا ما رأينا أئمّة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع والتذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع، أي أنّهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم، في حين أنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عما قريب.

__________________

(١) البقرة: ١٢٥.

(٢) ثم إنّ بعض من يفسّر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف حيث كان بأمر الله سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً.

وسنرجع إلى هذا البحث تحت عنوان « هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك » ؟ فلاحظ.

(٣) المائدة: ٥٤.

٤٤٧

ومن هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد واحترامه ليست ـ بالمرة ـ عبادة، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( وهو أوّل من أدرك ـ في عصره ـ عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل ) أشار إلى ما ذكرنا، إذ قال :

لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلّا لله، ومن أتى بها لغير الله فقد كفر، مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلاّ لزم كفر العبيد والأُجراء وجميع الخدّام للأُمراء، بل كفر الأنبياء في خضوعم للآباء(١) .

تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة، ولكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلاً على كونه مصداقاً حقيقياً لمعنى اللفظ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما، وإليك هذه الموارد :

١. العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته، ويفقد تجاه طلباتها عنان الصبر، ومع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع عبادة، وإن قيل في حقّه مجازاً انّه يعبد المرأة.

٢. الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم ـ تحت نداءات

__________________

(١) راجع منهج الرشاد: ٢٤، طبع ١٣٤٣ ه‍ تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( المتوفّى عام ١٢٢٨ ه‍ ). وقد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

٤٤٨

النفس الأمّارة ـ زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى، ولا عدهم مشركين، كمن يعبد الوثن، ولو قيل في شأنه أنّه يعبد هواه، فإنّ ذلك نوع من التشبيه وضرب من التجوّز.

فها هو القرآن يسمي الهوى إلهاً، ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى: عبادة له، لكن مجازاً، إذ يقول :

( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (١) .

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز، فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

٣. هناك فريق من الناس يضحّون بكل شيء في سبيل الحصول على جاه ومنصب، حتى ليقول الناس في حقّهم: إنّهم يعبدون الجاه والمنصب، ولكنّهم في نفس الوقت لا يعدّون عبدة حقيقيّين للجاه، ولا يصيرون بذلك مشركين.

٤. انّ المتوغّلين في العنصرية ـ كبني إسرائيل ـ وفي الأنانية، الذين لا يهمّهم إلّا المأكل والمشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر والنفس والشيطان، ولكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة، وأنّ اتباع الشيطان شيء وعبادته شيء آخر.

وإذا ما رأينا القرآن الكريم يسمّي طاعة الشيطان « عبادة »، فذلك ضرب من التشبيه، والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدّة الاستنكار لهذا العمل، إذ يقول :

( ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *وَأَنْ اعْبُدُونِي هٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

__________________

(١) الفرقان: ٤٣.

(٢) يس: ٦٠ ـ ٦١.

٤٤٩

ومثل هذه الآية الآيتان التاليتان :

١.( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (١) .

٢.( أَنُؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (٢) .

لا شك في أنّ بني إسرائيل ما كانت تعبد فرعون وملأه، غير أنّ استذلالهم لـمّا بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة، لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين، فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام « عبادة »، وعند ذاك يستكشف أن استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة، وعلاقة مجازية.

وبعبارة أُخرى: أنّ عبّاد الهوى والنفس والجاه و وإن كانوا يعتبرون مذنبين، تنتظرهم أشدُّ العقوبات إلّا أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

كيف لا، ونحن نقرأ في الحديث الشريف :

« من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله »(٣) .

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدّثين والمذيعين من الراديو والتلفزيون، وأكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير الله، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنّهم عبدة لأُولئك

__________________

(١) مريم: ٤٤.

(٢) المؤمنون: ٤٧.

(٣) سفينة البحار: ج ٢ مادة عبد.

٤٥٠

المتحدّثين ؟

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

فلطالما يتردد في لسان العرف بأنّ فلاناً عبد البطن أو عبد الشهوة فهل يكون هؤلاء ـ حقاً ـ عبدة البطن والشهوة، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحّدون أمام خالق الكون، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

ربما يقال أنّ سجود الملائكة لآدم، واستلام الحجر الأسود، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر الله، لا يكون شركاً، ولا يعد فاعلهاً مشركاً(١) .

وبعبارة أُخرى: أنّ حقيقة العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام، ولكن لما كانت تلك الأعمال مأتياً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً، وهي :

إنّ تعلق الحكم بموضوع لا يغيّر ـ بتاتاً ـ حقيقة ذلك الموضوع، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأنّ سب أحد وشتمه إهانة له ـ طبعاً ـ وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم، فإذا أوجب الله سب أحد وشتمه ـ فرضاً ـ فإنّ أمر الله لا يغيرّ ماهية السب والشتم ـ أبداً ـ.

__________________

(١) القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

٤٥١

كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد، واحترام للضيف، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل، أعني: الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً، لتصير إهانة في صورة تحريمها، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم، فإذا عُدّت أعمال ـ كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما ـ عبادة ذاتاً، فإنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهيتها، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعة، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز، وهو قول لا يقبله أي إنسان.

والخلاصة: أنّ المسألة تدور مدار أمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة ـ بطبيعتها ـ عن مفهوم الشرك، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة، ولكنّها شرك أذن الله به وأجازه !!

والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيماً وتواضعاً، وباعتبار آخر شركاً، فلو كانت الملائكة ـ مثلاً ـ تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً، وإن أمر الله به ـ على وجه الافتراض ـ، وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه.

نعم ورد في بعض الروايات ـ وإن لم يتحقق سنده ـ عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه لما سئل أيصلح السجود لغير الله ؟

فقال: « لا ».

قيل: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؟

٤٥٢

فقال: « إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله إذ كان عن أمر الله تعالى »(١) .

فإنّ المقصود من هذه الرواية ـ على فرض صحتها سنداً ـ هو أنّ السجود كان تعظيماً لآدم وتكريماً له، وهو في الحقيقة عبادة لله لكونه بأمره.

وتوضيحه أنّ نفس العمل ( أعني: السجود ) كان تعظيماً لآدم غير أنّ الإتيان بهذا العمل حيث كان لامتثال أمر الله كان عبادة له سبحانه، بحيث لولا أمره تعالى لكان العمل ـ في حد نفسه ـ جائزاً لكونه تعظيماً، ونظيره تعظيم العالم واحترامه، فإنّه لا بداعي أمره سبحانه تعظيم للعالم فقط، وبداعي الأمر تعظيم له وطاعة لله سبحانه، وهذا غير القول بأنّ ذات العمل كان شركاً، ولكن أمر الله استلزم تغيره فلم يعد شركاً.

ويؤيد ما قلناه ما عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه: أنّ يهودياً سأل أمير المؤمنين ( علياًعليه‌السلام ) عن سجود الملائكة لآدم، فقال الإمام في جوابه :

« إنّ سجودهم [ أي الملائكة ] لم يكن سجود طاعة [ بمعنى ] أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّ وجلّ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة »(٢) .

وأيضاً ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين ( عليّ ): قال :

« قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان سجودهم لله عز وجلّ ولآدم إكراماً »(٣) .

وبهذا تبيّن انّ السجود كان ـ بطبيعته ـ تعظيماً لآدم وتكرمة له، وهو في

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي: ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الاحتجاج للطبرسي: ١١١.

(٣) عيون الأخبار: ٤٥.

نعم لا يوافق مضمون هذا الحديث مضمون ما تقدم من الحديثين حيث إنّ ما تقدمه جعل السجود لآدم، وهذا جعله لله سبحانه، نعم ما يشتركان فيه هو أنّ السجود كان إكراماً وتعظيماً لآدم، ولأجل ذلك ذكرنا الأحاديث في مقام واحد.

٤٥٣

الحقيقة عبادة لله تعالى لكونه بأمره وهو مختار جماعة من المفسّرين.

وتبيّن من ذلك أنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهية هذا العمل، بل ما يقترن به من الاعتقاد هو الدخيل في كونه شركاً أو لا.

ومن هذا البيان أيضاً علم مفاد الرواية المروية عن الإمام الصادقعليه‌السلام التي نقلناها عما قريب.

نعم أنّ للأمر الإلهي فائدة هي: أنّه لو نسب أحد أفعاله إلى الأمر الإلهي وأتى بها على أنّها فريضة أو سنّة مندوبة شرعاً، وجعلها جزءاً من شريعته وكان الواقع يؤيد تلك النسبة، خرج عمله عن موضوع البدعة، وخرج هو عن كونه مبتدعاً في الدين، لأنّ « البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين ».

لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود، إذ قال ـ ما مضمونه ـ: إني أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنّي رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك لما قبّلتك(١) .

وقد قيل للشيخ: إنّ مفاد كلامكم هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز إذن ؟

ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَىٰ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٢) .

فلو كانت ماهية السجود لآدمعليه‌السلام واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً لما كان الله سبحانه يأمر بها ـ أبداً ـ.

__________________

(١) صحيح البخاري: ٣ / ١٤٩، كتاب الحج، طبعة عثمان خليفة.

(٢) الأعراف: ٣٨.

٤٥٤

٣

العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية

المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان، والعبادة كما هي واضحة مفهوماً، فهي واضحة ـ كذلك ـ مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم، فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته، واحتضان ثيابها شوقاً، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة ـ أبداً ـ وإن كانت هذه الأفعال تبلغ ـ في بعض الأحايين ـ من حيث شدّة الخضوع إلى درجة كبيرة، إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل ـ في مثل هذا البحث ـ لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة، دون حاجة إلى تكلّف، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن

٤٥٥

نعرّفها بثلاثة تعاريف :

التعريف الأوّل

العبادة: هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب‍ « إلوهية » المخضوع له ; وسيوافيك معنى « الإلوهية ».

وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران :

الأوّل: انّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بالوهية معبوداتهم.

الثاني: أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.

فهنا دعويان :

الأُولى: انّ العرب الجاهليين بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن، كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم « الإله الكبير » الذي نسمّيه « الله » سبحانه.

الثانية: انّ الظاهر من الآيات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية، إلوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى، فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :

٤٥٦

يقول سبحانه :

( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ ) (٢) .

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (٣) .

( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخرى ) (٤) .

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ) (٥) .

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم، وقد فسر الشرك في بعض الآيات باتخاذ الإله مع الله، وذلك عندما يقول سبحانه:( وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (٦) .

ولذلك يفسّر القرآن حقيقة الشرك ب‍ « اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم »، إذ قال سبحانه:( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٧) .

__________________

(١) الحجر: ٩٦.

(٢) الفرقان: ٦٨.

(٣) مريم: ٨١.

(٤) الأنعام: ١٩.

(٥) الأنعام: ٧٤.

(٦) الحجر: ٩٤ ـ ٩٦.

(٧) الطور: ٤٢.

٤٥٧

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير الله هو الملاك للشرك، والمراد هنا « الشرك في العبادة ».

وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة ـ بوضوح تام ـ أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهيتها، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية، وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه :

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

أي يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل أنّها آلهة ـ حسب تصوّرهم ـ.

ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي الله وحده كفروا به لأنّهم لا يحصرون الإلوهية به وإذا أشرك به آمنوا، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه :

( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (٢) .

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.

وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة الله، وتنهى عن عبادة غيره، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلّا الله، إذ يقول :

( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَالَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرَهُ ) (٣) .

__________________

(١) الصافات: ٣٥.

(٢) غافر: ١٢.

(٣) الأعراف: ٥٩.

٤٥٨

ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله ؟! وكيف تتركون عبادة الله وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه ؟!

وقد ورد مضمون هذه الآية في(١٠) موارد أو أكثر في القرآن الكريم، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع ـ لذلك ـ الآيات التالية :

الأعراف: ٦٥، ٧٣، ٨٥، هود: ٥٠، ٦١، ٨٤، الأنبياء: ٢٥، المؤمنون: ٢٣، ٣٢، طه: ١٤.

فهذه التعابير ( التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ كيف أنّ القرآن استنكر على المشركين عبادة غير الله بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهية، فإذا وجد هذا الوصف ( أي وصف الإلوهية ) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً، وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه لذلك يجب عبادته دون سواه.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة، فالمشركون كانوا معتقدين بإلوهية الأوثان، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بالوهيتها، وهذا لا يدل على دخول مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة كما هو المدّعى، أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد، في مفهومها.

٤٥٩

وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية، بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

وأمّا الجواب فنقول: إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ « الاعتقاد بالإلوهية » داخل في « مفهوم العبادة » وضعاً، حتى يقال انّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شؤون الإلوهية، وهذا غير القول باندراج مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة، إنّما المراد أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع والتذلّل، بل أضيق وأخص منهما وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية » كما سيوافيك في التعريف الثاني، لا أنّ هذه الجملة ( ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية ) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة، ومعناها.

وبعبارة أُخرى: إنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقليّاً لا خدشة فيه، ولكنّه يجد في نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين، والأمر فيما نحن فيه كذلك، إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها، ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها: « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية » ويضعها مكان الفصل.

وبعبارة ثالثة: انّ الإنسان يجد أنّ « العبادة » ليست مطلق التعظيم ونهاية

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672