مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150031 / تحميل: 5732
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

التذلّل، بل هي من خصائص من بيده شؤون الإنسان كلها، أو شأناً من شؤونه مما به قوام حياته عاجلاً أو آجلاً من الموت والحياة، والخلق والرزق، والسعادة والشقاء، والمغفرة والشفاعة، فيدير شؤونه ويخطط مصيره حسب ما يليق به.

غير أنّ هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في « مفهوم » العبادة. ولكنّه يشار إلى تلك الخصوصية الكامنة والضيق الموجود فيها، بهذه الجمل والتفاصيل، وحاشا أن تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.

وعلى ذلك فيصح أن يقال: العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظياً أو عملياً، ( يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بإلوهيته )، وما وقع بين الهلالين وإن كان خارجاً عن مفهوم العبادة، إلّا أنّه يبيّن ماهو المقصود من القسم الخاص من الخضوع في أوّل العبارة.

ولذلك نظائر في العرف والعادة، مثلاً :

١. يعرف القوس بأنّه قطعة من الدائرة، ولا شك أنّه من باب زيادة الحد على المحدود، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة، بل هو يصدق وإن لم يكن قطعة منها ( أي من الدائرة )، إذ هو ( أي القوس ) عبارة عن سطح يحيط به خيط مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين، من غير اعتبار كونه بعضاً من الدائرة.

إلاّ أنّ أخذ هذا القيد، ( أعني: كونه بعض الدائرة، من باب بيان الخصوصية الموجودة فيه بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.

٢. إنّ اللغويين يفسرون الصهيل بأنّه صوت الفرس، والزقزقة بأنّها صوت العصفور، فليس الفرس والعصفور داخلين في مفهومهما البسيطين، وإنّما جيء

٤٦١

بقيد الفرس والعصفور، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.

* * *

إلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال: العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بإلوهية المعبود، وإلى ذلك يشير آية الله الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي، في تفسيره المسمّى ب‍ « آلاء الرحمن » في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة: العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلوهية(١) .

لقد صب العلاّمة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ والبيان. والآيات المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف واستقامته.

التعريف الثاني

العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وآجله وعاجله.

وتوضيح ذلك: انّ العبودية من شؤون المملوكية ومن مقتضياتها، فعندما يحس العابد في نفسه بنوع من المملوكية، ويحس في الطرف الآخر بالمالكية، يفرغ إحساسه هذا ـ في الخارج ـ في ألفاظ وأعمال خاصة، وتصير الألفاظ والأعمال تجسيداً لهذا الإحساس، ويكون كل عمل أو لفظ مظهراً لهذا الإحساس العميق عبادة، ولا شك أنّ المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية، فالاعتقاد بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون ـ أبداً ـ موجباً لصيرورة الخضوع عبادة، إذ أنّ البشر

__________________

(١) آلاء الرحمن: ٥٧ طبعة صيدا، وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

٤٦٢

في عصور: « العبوديات الفردية » بالأمس، وكذا في عصر: « العبودية الجماعية » الحاضر لا يعد امتثاله لأوامر أسياده عبادة، فلابد أن يكون المقصود من المملوكية ـ هنا ـ هي القائمة على أساس الخلق والتكوين وأنّ شأناً من شؤون حياته في قبضته.

وإليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية :

١. قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً، ولذلك يكون الله سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر، لأنّه خالقه، وموجده من العدم، ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة ـ مثلاً ـ عبيداً لله، ويصفه تعالى بأنّه مالكها الحقيقي وذلك لأنّه خلقها إذ يقول :

( إِن كُلُّ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ) (١) .

ولأجل ذلك أيضاً نجده يأمرهم بعبادة نفسه معلّلاً بأنّه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه، إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (٢) .

( ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (٣) .

٢. وقد يوصف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً، ولذلك يحس كل بشر سليم الفطرة بمملوكيته لله تعالى، لأنّه مالك حياته ومماته ورزقه، ولهذا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية الله لرزق الإنسان وانّه تعالى هو الذي يميته، وهو

__________________

(١) مريم: ٩٣.

(٢) البقرة: ٢١.

(٣) الأنعام: ١٠٢.

٤٦٣

الذي يحييه، ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ الله هو الذي يستحق العبادة فحسب، إذ يقول :

( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (١) .

( هَل لَكُمْ مِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِن شُرَكَاءُ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (٢) .

( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) .

٣. وقد يوصف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده، وحيث إنّ الله تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة:( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٤) ، ولمغفرة الذنوب( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللهُ ) (٥) ، بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلّا بإذنه، لذلك يشعر الإنسان العادي في قرارة ضميره بأنّ الله سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية، وإذا أحس إنسان بمملوكية كهذه ومالكية مثل تلك ثم جسد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل فإنّه يكون بذلك عابداً له دون ريب.

وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسّر العبادة بأنّها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته، فمن كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان بذلك عابداً له.

قال آية الله السيد الخوئي في تفسير العبادة بأنّه: إنّما تتحقّق العبادة

__________________

(١) الروم: ٤٠.

(٢) الروم: ٢٨.

(٣) يونس: ٥٦.

(٤) الزمر: ٤٤.

(٥) آل عمران: ١٣٥.

٤٦٤

بالخضوع لشيء على أنّه ربٌّ يعبد(١) .

فالمقصود من لفظة « الرب » في التعريف هو المالك لشؤون الشيء المتكفّل لتدبيره وتربيته، وقد أوضحنا معنى الرب في الفصل الثامن.

وعلى ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل لفظة الربوبية، أي مالكية تربية الشيء وتدبيره، ومصيره عاجلاً وآجلاً.

ويدل على ذلك أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في الله وحده بأنّه الرب لا غير، وإليك بعض هذه الآيات :

( وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) (٢) .

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (٣) .

( إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٤) .

وقد ورد مضمون هذه الآيات، أعني: جعل العبادة دائرة مدار الربوبية، في آيات أُخرى هي :

يونس: ٣، الحجر: ٩٩، مريم: ٣٦، ٦٥، الزخرف: ٦٤.

ولأجل ما ذكرناه فسّر آية الله الخوئي العبادة على النحو الذي مرّ عليك.

وعلى كل حال فإنّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.

__________________

(١) البيان: ٥٠٣ طبعة عام ١٣٩٤ ه‍.

(٢) المائدة: ٧٢.

(٣) الأنبياء: ٩٢.

(٤) آل عمران: ٥١.

٤٦٥

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو: لا شك أنّ « العبادة » مفهوم بسيط وجداني، فكيف يفسّر هذا المفهوم البسيط بهذا التعريف المفصّل ؟ وبعبارة أُخرى: لو قلنا بدخول مفهوم « الرب » في مفهوم العبادة، يلزم تتابع إدراج مفاهيم متعددة في مفهوم بسيط وجداني، فيدخل في مفهومها مفهوم الرب، والمالكية، والقسم الخاص من المالكية مما يليق بشأنه تعالى وهذا مما لا يقبله الوجدان السليم.

أمّا الجواب: فقد تقدم توضيحه في التعريف الأوّل، أي تعريف العبادة بالخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية، وقلنا: ليس المراد من التعريف أخذ هذه المفاهيم الكثيرة في مفهوم العبادة التي لها مفهوم بسيط، بل المراد هو إيضاح القسم الخاص من الخضوع الذي يتبادر من لفظ العبادة، إذ لا شك أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع بل القسم الخاص منها، ولتوضيح هذه الخصوصية نتشبث بهذه الجملة وأشباهها.

التعريف الثالث

ويمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث، فنقول :

إنّ العبادة هي الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله، أمام من يكون مستقلاً، وقد وصف الله سبحانه نفسه ـ في غير موضع من كتابه ـ بالقيوم، فقال عزّ وجل :

( اللهُ لاَ إِلهَ إلّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (١) .

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥ وأل عمران: ٢.

٤٦٦

وقال سبحانه:( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) (١) .

ولا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه، وليست فيه أيّة شائبة من الفقر والحاجة إلى الغير، بل كل ما سواه قائم به.

وعلى ذلك فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة، بل لو طلب فعل الله سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً، فإنّ الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل الله سبحانه، ونميّزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول :

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل الله من غيره، والمعلوم أنّ فعل الله ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن الله، لأنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغيره فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلم، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيحعليه‌السلام (٢) ، مثلاً، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيحه: انّ الله سبحانه غني في فعله، كما أنّه غني في ذاته عما سواه فهو

__________________

(١) طه: ١١١.

(٢) كما في الآية ٤٩ من آل عمران:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَىٰ بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) .

٤٦٧

يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد(١) ، أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له، بل الله سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشيء، فهو يخلق المادة ويصورها كيف شاء، فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن في فعله العادي، وغير العادي عمّن سواه، وإنّه يقوم بما يريد من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى الله سبحانه، فقد أشركناه مع الله واتخذناه نداً له تعالى.

وصفوة القول هي: إنّ ملاك البحث في هذا التعريف هو: « استقلال الفاعل » في فعله وعدم استقلاله، والتوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم والجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود وعدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز مما يدركه غيره أيضاً بفطرته التي خلق عليها، وعقليته التي نما عليها، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة ( أي المتألهين البصيرين ) حرمان العرب الجاهليين من فهم معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية، فالعبادة بهذا المعنى ( أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً ) يشترك فيه العالم والجاهل، والكامل وغير الكامل، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم والدرك كما قال سبحانه:( فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (٢) .

غير أنّ الدارج في ألسن المتكلّمين هو « التفويض » فلنشرح مقاصدهم.

__________________

(١) نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أنّ كون الله سبحانه لا يستعين ـ في فعله بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأُمور، وبأن تكون ذاته مصدراً للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبب في كل ذلك بالأسباب، بل معناه أن يكون في فعله ـ سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية ـ مستغنياً عن غيره، وإن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب والعلل.

(٢) الرعد: ١٧.

٤٦٨

٤

ماذا يراد من التفويض ؟

اتّفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك، وأنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له، والتفويض يتصور في أمرين :

١. تفويض الله تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء، ويسمّى بالتفويض التكويني.

٢. تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع، والمغفرة والشفاعة ممّا يعد من شؤونه سبحانه، ويسمّى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأوّل

فلا شك أنّه موجب للشرك، فلو اعتقد أحد بأنّ الله فوض أُمور العالم وتدبيرها من الخلق والرزق والإماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه، إذ لا يعني من التفويض، إلّا كونهم مستقلين في أفعالهم، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما

٤٦٩

يريدون.

وبالجملة: فتفويض التدبير إلى العباد قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمّن سواه، سواء أكان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلّمه، أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه، غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال الإنسان العادية بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية، لذلك خصوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.

وإن أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث ونقاش في العهود الإسلامية الأُولى، بحيث قسّم الباحثين إلى جبري وتفويضي.

والخلاصة: أنّ الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن الله سبحانه، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته، وليس التفويض أمراً ثالثاً، بل هو داخل في القسم الأوّل.

وأمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من الملائكة والجن، أو النبي والولي مدبّرون للعالم بإذنه ومشيئته، وأمره وقدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً للشرك، بل أمره دائر ـ حينئذ ـ بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة، أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي والولي، فإنّ الأنبياء والأولياء غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النظم، ومعلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.

٤٧٠

هذا ومن الجدير بالذكر أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من الاستقلال في الفعل، وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس، وقد مرّ أنّ عمرو بن لحي عندما سافر من مكة إلى الشام ورأى أُناساً يعبدون الأصنام فسألهم عن سبب عبادتهم لها فقالوا له :

هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا(١) .

وقد كان ثمة فريق من الحكماء يعتقدون بأنّ لكل نوع من الأنواع « رب نوع » فوض إليه تدبير نوعه، وسلمت إليه إدارة الكون التي هي من شأن الله ومن فعله تعالى، كما أنّ عرب الجاهلية الذين عبدوا الملائكة والكواكب ـ سياراتها وثوابتها ـ إنّما كانوا يعبدونها، لأنّ أمر الكون وأمر تدبيره قد فوّض إليها ـ كما في زعمهم ـ وإنّ الله عزل عن مقام التدبير عزلاً تامّاً، فهي مالكة التدبير دون الله، وبيدها هي دونه ناصية التصرّف، ولهذا كان يعتبر أيُّ خضوع يجسد هذا الإحساس عبادة، وسيوافيك عقائد العرب الجاهليين حول معبوداتهم.

القسم الثاني من التفويض

إذا اعتقدنا بأنّ الله سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقيه بعض شؤونه كالتقنين والتشريع، والشفاعة والمغفرة فقد أشركناه مع الله، وجعلناه نداً له سبحانه، كما يقول القرآن الكريم :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ) (٢) .

ولا ريب أنّ الموجود لا يقدر أن يكون نداً لله سبحانه، إلّا إذا كان قائماً

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ١ / ٧٩. وقد مر مفصل هذه القصة في الفصل الثامن: ٣٨٢ من هذا الكتاب.

(٢) البقرة: ١٦٥.

٤٧١

بفعل أو شأن من أفعال الله وشؤونه سبحانه « مستقلاً » لا ما إذا قام به بإذن الله وأمره، إذ لا يكون عند ذاك نداً لله، بل يكون عبداً مطيعاً له، مؤتمراً بأمره، منفذاً لمشيئته تعالى، هذا وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى والعرب الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنّ الله فوّض حق التقنين والتشريع إلى الرهبان والأحبار كما يقول القرآن الكريم :

( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) .

وانّ الله فوّض حق الشفاعة والمغفرة التي هي حقوق مختصة بالله إلى أصنامهم ومعبوداتهم، وأنّ هذه الأصنام والمعبودات مستقلّة في التصرّف في هذه الشؤون ولأجل ذلك كانوا يعبدونها، لأجل أنّها شفعاؤهم عند الله، وبأيديها أمر الشفاعة كما يقول سبحانه :

( وَيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ) (٢) .

ولذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلّا بإذن الله، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن الله لما كان لهذا الإصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين، أيُّ مبرر، على أنّ ذلك الفريق من عرب الجاهلية الذين كانوا يعبدون الأصنام، إنّما كانوا يعبدونها لكونها تملك شفاعتهم، لا أنَّها خالقة لهم أو مدبّرة للكون، وعلى أساس هذا التصوّر الباطل كانوا يعبدونها وكانوا يظنون أنّ عبادتهم لها توجب التقرّب إلى الله، إذ قالوا :

( مَا نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَىٰ اللهِ زُلْفَىٰ ) (٣) .

__________________

(١) التوبة: ٣١.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) الزمر: ٣.

٤٧٢

الشيعة الإمامية وفكرة التفويض

لقد شدد علماء الشيعة الإمامية ـ اقتداءً بأئمتهم ـ النكير على كل من يقول بالتفويض، وعدّوا قائله مشركاً وخارجاً عن ربقة الموحّدين المسلمين.

فها هو العلاّمة المجلسي قد عقد ـ في موسوعته المسمّاة ب‍ « بحار الأنوار » ـ باباً خاصاً أسماه « باب نفي الغلو في النبي والأئمّة وبيان معاني التفويض » سرد فيه مجموعة كبيرة من أحاديث أهل البيت: التي استنكروا فيها قول من يعتقد بالتفويض في شأنهم، أو في شأن أحد من عباد الله، كما سرد بعض أقوال علماء الشيعة كالصدوق والمفيد رحمهما الله.

وإليك بعض الأحاديث أوّلاً :

١. في عيون أخبار الرضا، قال الراوي: سألت الرضا ( الإمام علي بن موسى )عليه‌السلام عن التفويض ؟ فقال :

« الغلاة كفّار، والمفوّضة مشركون، من جالسهم، أو واكلهم، أو شاربهم، أو واصلهم، أو زوّجهم، أو تزوّج منهم، أو أمنهم، أو ائتمنهم على شيء، أو صدّق حديثهم، أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية الله عزّ وجل وولاية الرسول، وولايتنا أهل البيت »(١) .

٢. في عيون أخبار الرضا، قال الإمامعليه‌السلام :

« من زعم أنّ الله فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، والقائل بالتفويض مشرك ».

وهناك أحاديث أُخرى صريحة وقاطعة ذكرها، ونقلها المجلسي في البحار ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٣٢٥.

٤٧٣

فمن شاء التوسع فليراجع الجزء ٢٥ من الصفحة ٢٦١ إلى الصفحة ٣٥٠.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي ذكر ما قاله عالمان كبيران من قدامى علماء الإمامية وأعلامهم حول التفويض، وها نحن نذكر ما قالاه ـ هنا ـ :

قال الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتابه: الاعتقادات :

اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنّهم كفار بالله ـ جل جلاله ـ وانّهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس، والقدرية والحرورية، ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلّة، وانّه ما صغَّر الله جلّ جلاله تصغيرهم شيء، وقال الله تعالى:( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (١) وقال عزّ وجل:( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إلّا الحَقَّ ) (٢) .

ثمّ أضاف الشيخ الصدوق قائلاً :

« وكان الرضا ( عليّ بن موسى )عليه‌السلام يقول في دعائه :

« أللّهمّ إنّي أبرأ إليك من الحول والقوّة، فلا حول ولا قوّة إلّا بك. أللّهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحق. أللّهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا. أللّهمّ لك الخلق ومنك الأمر وإيّاك نعبد وإياك نستعين أللّهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين أللّهمّ لا تليق الربوبية إلاّ

__________________

(١) آل عمران: ٧٩ و ٨٠.

(٢) النساء: ١٧١.

٤٧٤

بك، ولا تصلح الإلهية إلّا لك، فالعن النصارى الذين صغّروا عظمتك، والعن المضاهئين لقولهم من بريتك، أللّهمّ انّا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، أللّهمّ من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أنَّ إلينا الخلق وعلينا [ أو إلينا ] الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى بن مريمعليه‌السلام من النصارى، أللّهمّ انّا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدّعون ولا تدع منهم على الأرض دياراً، إنّك إن تذرهم يضلُّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجراً كفارا ».

وروي عن زرارة إنّه قال: قلت للصادق [ جعفر بن محمّد ]عليه‌السلام : إنّ رجلاً يقول بالتفويض، قال: « وما التفويض ؟ » قلت: يقول: إنّ الله تبارك وتعالى خلق محمّداً وعليّاً صلوات الله عليهما ففوّض [ ثمّ فوّض ] الأمر إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا !! فقالعليه‌السلام : « كذب عدو الله، إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد:( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القهار ) (١) .

يقول زرارة: فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بكل شيء فكأنّه أُلقم حجراً(٢) .

وقال الشيخ المفيدرحمه‌الله في كتابه « تصحيح الاعتقاد » في شرح كلام الصدوق المتقدّم :

الغلو في اللغة هو تجاوز الحد والخروج عن القصد، قال الله تعالى:( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إلّا الحَقَّ ) (٣) ، فمنع عن تجاوز

__________________

(١) الرعد: ١٦.

(٢) اعتقادات الصدوق: ١٠٩ ـ ١١٠.

(٣) النساء: ١٧١.

٤٧٥

الحد في المسيح وحذر من الخروج من القصد في القول، وجعل ما ادّعته النصارى غلواً لتعدّيه الحق على ما بيّنّاه، والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين [ عليّاً ] والأئمّة من ذريته إلى الإلهية والنبوة ووصفوهم بالفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا من القصد، وهم ضلاّل كفّار، حكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمّة عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام.

والمفوّضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة: اعترافهم بحدوث الأئمّة، وخلقهم، ونفي القدم عنهم، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم ودعواهم أنّ الله تعالى تفرّد بخلقهم خاصة، وانّه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال ».

ثمّ قال الشيخ المفيدرحمه‌الله : ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمّة: سمات الحدوث، وحكمه لهم بالإلهية والقدم، إذ قالوا بما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر(١) .

ثمّ إنّ المجلسيرحمه‌الله نفسه قال في شرح معاني التفويض ما نصه: وأمّا التفويض فيطلق على معان بعضها منفي وبعضها مثبت :

فالأوّل: التفويض في الخلق والرزق والتربية، والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا: إنّ الله تعالى خلقهم [ أي الأئمّة ] وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون.

وهذا الكلام يحتمل وجهين :

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد للمفيد: ٦٣ ـ ٦٦.

٤٧٦

أحدهما: أن يقال: أنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم، وهم الفاعلون حقيقة، وهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما: انّ الله يفعل ذلك [ الخلق والرزق إلى آخره ] مقارناً لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات، فإنّ جميع ذلك إنّما يحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور [ أي لأجل إثبات وإظهار ] صدقهم، فلا يأبى العقل عن أن يكون الله خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثمّ خلق كلّ شيء مقارناً لإرادتهم ومشيئتهم.

ثمّ قال: وهذا الوجه وإن كان العقل لا يعارضه كفاحاً، لكن الأخبار السالفة تمنع من القول به في ما عدا المعجزات ظاهراً، بل صراحة، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم، إذ لم يرو ذلك في الأخبار المعتبرة في ما نعلم(١) .

ثمّ قال في معرض تفسيره لقول الله( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢) : يدل هذا على عدم جواز نسبة الخلق إلى الأنبياء والأئمّة، وكذا قوله:( هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ) (٣) فإنّه يدل على عدم جواز نسبة الخلق، والرزق والإماتة والإحياء إلى غيره سبحانه وإنّه شرك.

ثمّ قال ودلالة تلك الآيات على نفي الغلو والتفويض بالمعاني المذكورة

__________________

(١) فما أبعد بين ما ذكره ذلك الوحيد الغواص في بحار علوم أهل البيت، والغلو المزعوم الذي ربما ينسب إلى مشايخنا وحفّاظ علوم أئمتنا رضوان الله عليهم.

نعم يمكن تفسير المعجزات والكرامات بوجهين آخرين غير ما ذكره قدس سره، وسيوافيك بيانهما في المستقبل.

(٢) الرعد: ١٦.

(٣) الروم: ٤٠.

٤٧٧

ظاهرة، والآيات الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى، إذ جميع آيات الخلق ودلائل التوحيد والآيات الواردة في كفر النصارى وبطلان مذهبهم دالة عليهم ( أي على المفوضة ).(١)

لا ملازمة بين التوزيع ونفي الإله الأعلى

إنّ توزيع الإلوهية على صغار الآلهة المتخيّلة أمر باطل عقلاً ونقلاً، ولا نطيل الكلام بسوق براهينه العقلية وما تدل عليه من الآيات.

ثمّ إنّ توزيع شؤون الإلوهية ـ كما في زعم عرب الجاهلية ـ ما كان يلازم نفي الإله الأعلى القاهر، بل كان الجاهليون يعتقدون بالإله الأعلى رغم عبادتهم للأصنام واعتقاد توزيع الإلوهية عليها.

لكن الأُستاذ المودودي أبطل فكرة توزيع الإلوهية معللاً بأنّ: هذا التوزيع لا يجتمع مع الاعتقاد بإله أعلى، حيث قال :

إنّ أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أنّ الإلوهية قد توزعت فيما بينهم، فليس فوقهم إله قاهر، بل كان لديهم تصوّر واضح لإله كانوا يعبّرون عنه بكلمة الله في لغتهم(٢) .

وفي هذا الكلام نظر، فإنّ الجمع بين قوله: « إنّ الإلوهية توزعت فيما بينهم » وقوله: « فليس فوقهم إله قاهر » يوهم بأنّ القول بتوزيع الإلوهية يلازم القول بنفي الإله القاهر الذي هو فوق الكل، ولكنّه ليس كذلك، فإنّ الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن أثبتوا للشمس: الإلوهية والتدبير مع القول بوجود إله قاهر ،

__________________

(١) راجع بحار الأنوار: ٢٥ / ٣٢٠ ـ ٣٥٠.

(٢) كتاب المصطلحات الأربعة: ١٩.

٤٧٨

حيث قالوا :

« إنّ الشمس ملك من الملائك ولها نفس وعقل ومنها نور الكواكب وضياء العالم، وتكون الموجودات السفلية فتستحق التعظيم والسجود والتبخير والدعاء »(١) .

وأيّ الوهية أكبر من تكوين الموجودات السفلية التي ينسبها الله سبحانه في القرآن إلى ذاته.

ومن الصابئة من يقول :

« إنّ القمر ملك من الملائك، يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأُمور الجزئية، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة وإيصالها إلى كمالها »(٢) .

وليس لأحد أن يفسّر قولهم بأنّ الشمس والقمر كانا ـ في عقيدتهم ـ يحتلان محل العلل الطبيعية، وانّهما كانا يقومان بنفس الدور لا أكثر، فإنّ المفروض إنّهم جعلوهما من الملائك وأثبتوا لهما العقل والنفس والتدبير القائم على التفكير، وهذا يناسب الإلوهية، وكونهما إلهين، لا كونهما عللاً طبيعية، إذ لو كانا عللاً طبيعية لما عبدوهما بتلك العبادة، فإذن لا مانع من أن يعتقد المشرك ـ في حين اعتقاده بتوزيع شؤون الإلوهية بين صغار الآلهة ـ بوجود إله قاهر، وهو الذي وزّع الإلوهية، فالعربي الجاهلي كان يعتقد بتفويض المغفرة والشفاعة إلى أصحاب الأصنام والأوثان، مع اعتقاده بوجود إله آخر قاهر وأعلى. والمغفرة والشفاعة من شؤون الإلوهية، والدليل على أنّهم كانوا يعتقدون بالتفويض، هو إصرار القرآن على القول بأنّه لا شفاعة إلّا بإذن الله سبحانه:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني: ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني: ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٤٧٩

بِإِذْنِهِ ) (١) ، وإنّ الله هو الذي يغفر الذنوب:( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللهُ ) (٢) .

وأظن ـ ولعلّه ظن مصيب ـ أنّ للأُستاذ وراء هذا الكلام ( توزيع الإلوهية ينافي الاعتقاد بإله آخر ) قصداً وهدفاً آخر، وهو إثبات أنّ الإله في القرآن إنّما هو بمعنى المعبود تبعاً لشيخ منهجه « ابن تيمية » فتوصيف الأصنام بالإلوهية إنّما هو بملاك المعبودية، لا بملاك انّهم صغار الآلهة، والله سبحانه كبيرها.

والأُستاذ وتلاميذ مدرسته نزّهوا المشركين عن قولهم بالوهية الأصنام، وإنّما كانوا يعبدونها من دون أن يتخذوها آلهة صغاراً في مقابل إله قاهر.

أضف إلى ذلك إنّهم شوّهوا بذلك سمعة جمهرة من المسلمين حيث فسروا الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة، بالنهي عن عبادتها، لأنّ الإله عندهم بمعنى المعبود، ثم طبقوا هذه الآيات على توسل المسلمين وزيارتهم لقبور أوليائهم.

فتفسير الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة، باتخاذ المعبود خبط، وعلى فرض الصحة فإنّ تطبيقها على توسّلات المسلمين وزيارتهم قبور أوليائهم خبط آخر.

خلاصة القول

خلاصة القول في المقام أنّ أيَّ عمل ينبع من هذا الاعتقاد ( أي الاعتقاد بأنّه إله العالم، أو ربّه، أو غني في فعله وانّه مصدر للأفعال الإلهية ) ويكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم المطلق يعد عبادة، ويعتبر صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير الله.

ويقابل ذلك: القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد ،

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) آل عمران: ١٣٥.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672