مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 127463
تحميل: 3885


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127463 / تحميل: 3885
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى الله سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد، وليس هذا إلّا تصرّف لولي الله في الكون بإذنه سبحانه.

٢. موسىعليه‌السلام والسلطة على الكون

ونظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسىعليه‌السلام ، إذ قيل له:( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ) (١) فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته، تأثير في تفجّر الماء من الصخر لما أمر به الله سبحانه.

وربما يتصور أنّ موسى يضرب بعصاه، ولكن الله هو الذي يفجّر الأنهار، فهذا لا يدل على سلطة غيبية لموسى، إذ غاية الأمر أنّ الله تعالى يفعل تفجير الأنهار عند ضربه، لكنه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا، فإنّ الضرب بالعصا ليس من قبيل الدعاء، حتى يقال إنّه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه.

وعلى الجملة لا يمكن أن تنكر مشاركة ضربه بالعصا وإرادته ذاك العمل في تفجر العيون، وإن كان اذنه سبحانه ومشيئته فوقه، ولا تدل الآية على أزيد من هذا.

ومثله قوله سبحانه :

( فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ) (٢) .

ودلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.

__________________

(١) البقرة: ٦٠.

(٢) الشعراء: ٦٣.

٥٠١

٣. أصحاب سليمانعليه‌السلام والسلطة الغيبية

كما أنّ مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا، بل يثبتها القرآن الكريم لأصحاب سليمان وحاشيته، فها هو أحد حاشيته يضمن لهعليه‌السلام احضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه، وقبل أن ينفض مجلسه، إذ قال سبحانه :

( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ *قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) (١) .

بل ويضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين، إذ قال :

( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) (٢) .

ولم يتبيَّن ـ إلى الآن ـ ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول به:( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٣) .

وسواء أكان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة وكيفية معالجتها واحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين، أم كان المراد منه غيره.

وعلى أيِّ تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب وتنال بالتعلّم، وهذا يكفي في عد عمله خارقاً للنواميس العادية والسنن الطبيعية المكشوفة الرائجة.

__________________

(١) النمل: ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) النمل: ٤٠.

(٣) ذكر المفسرون هناك أقوالاً واحتمالات فراجع الميزان: ١٥ / ٣٦٣.

٥٠٢

وربما يحتمل أنّه إذا كان عمله مستنداً إلى علمه بغرائب خواص الأشياء المستورة على الناس لا يخرج عن كونه عملاً طبيعياً، وإن كان يعد غريباً، ولعله كان له علم بغرائب الخواص، وفيه ـ مع أنّه احتمال غير مدعم بدليل ـ لا يخرج عمل العامل عن كونه قرين المعجزات وعديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلّا أولياء الله سبحانه.

وقد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها، مستنداً إلى علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس، فيتصرف في الطبيعة لإحاطته بتلك القوانين غير المعروفة، وليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلّم، وهذا يكفي في عدّه معجزة أو كرامة.

٤. سليمان والسلطة الكونية

ويصرح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمانعليه‌السلام في سور مختلفة :

١. انّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير حتى أصبحت من جنوده :

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الّجِنِّ وَالأِنسِ وَالطَّيْرِ ) (١) .

٢. انّه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى أنّه كان يخاطبهم ويتهددهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره :

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَىٰ الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائِبِينَ *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِينٍ ) (٢) .

٣. وانّه سُلِّط على الجن فكانوا يعملون بأمره وإرادته :

__________________

(١) النمل: ١٧.

(٢) النمل: ٢٠ ـ ٢١.

٥٠٣

( وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءَ ) (١) .

٤. وانّه سُلِّط على الريح أيما تسليط :

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) (٢) .

وعلى أي تقدير فأية سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي كانت لسليمان، والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرّحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقّق له بأمره.

٥. المسيحعليه‌السلام والسلطة الغيبية

ومثله ما صدر عن عيسى المسيحعليه‌السلام من تصرّف يكشف عن وجود سلطة خارقة للعادة، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه فيكون طيراً يتحرك ويطير، أو يعالج ما استعصي من الأمراض والعلل دونما آلة أو دواء، كما يحدّثنا القرآن الكريم، حيث يقول :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) (٣) .

والجدير بالذكر أنّ الله يصرح في آية أُخرى بأنّ هذه التصرفات كانت نتيجة فعل عيسى نفسه، الكاشف عن سلطته نفسه ( وإن كانت مستندة إلى الله مآلاً )، إذ يقول تعالى :

__________________

(١) سبأ: ١٢.

(٢) الأنبياء: ٨١.

(٣) آل عمران: ٤٩.

٥٠٤

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (١) .

ولما كان صدور هذه الآيات منه مستنداً إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى بشيء منها كرر جملة « بإذن الله » في كل مورد، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته، لصدور تلك الآيات منه، ولأجل ذلك قيّد المسيح كلَّ آية يخبر بها عن نفسه كالخلق وإحياء الموتى ب‍( إِذن الله ) ثم ختم الكلام في آية أُخرى بقوله :

( إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

وظاهر قوله:( إِنَّي أَخْلُقُ لَكُمْ ) صدور هذه الآيات منه في الخارج، ولم يكن الهدف منه مجرّد الاحتجاج والتحدّي، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله: إن سألتم أو أردتم.

على أنّ ما يحكيه الله سبحانه عنه ويخاطبه به يوم القيامة، يدل على وقوع هذه الآيات أتم دلالة، حيث قال :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْر بِإِذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ ) .

وها هنا يبرز سؤال، وهو: إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة، فلماذا لم يقيّده ب‍ « إذن الله » كما قيد الآيات الأُخر بهذا القيد، مع أنّ الإتيان بكلِّ آية من آيات الرسل مقيّد بإذن الله سبحانه حيث يقول :

__________________

(١) المائدة: ١١٠.

(٢) آل عمران: ٥١.

٥٠٥

( وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إلّا بِإِذْنِ الله ) (١) ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة: فإنّ الإخبار عن ما يأكله الناس ويدّخرونه في بيوتهم ليس كالخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص، فإنّ القلوب الساذجة تقبل وتتوهم الوهية خالق الطير ومحيي الموتى ومبرئ الأكمه والأبرص بأدنى وسوسة ومغالطة، بخلاف الوهية من يخبر عن المغيّبات فإنّها لا تذعن لاختصاص الغيب بالله سبحانه، بل تعتقده أمراً يناله كلّ مرتاض أو كاهن، ولأجل ذلك لم ير حاجة إلى تقييده ب‍ « إذن الله »(٢) .

سؤال آخر هو: انّ قوله سبحانه:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ) مشتمل على أُمور :

١. خلق هيئة الطير من الطين.

٢. النفخ في تلك الهيئة.

٣. صيرورتها طيراً بإذن الله.

وما هو فعل عيسىعليه‌السلام إنّما هو الأوّلان، والثالث خارج عن فعله، بل هو فعل الله بقرينة تقييد الثالث بإذن الله دون الأوّل والثاني، وعلى الجملة: للخلق معنيان :

أ. الإيجاد من العدم.

ب. التقدير.

والمتعيّن في المقام هو المعنى الثاني، والإيجاد من العدم إنّما يتصوّر فيما لم تكن

__________________

(١) غافر: ٧٨.

(٢) ـ الميزان: ٣ / ٢١٨.

٥٠٦

هنا مادة متحولة، والمفروض وجود « الطين » في المقام، وما صدر عن عيسى هو « التقدير »، أعني: تقدير الطين كهيئة الطير، وبقي الثالث وهو صيرورته طيراً حقيقياً، فهو فعل الله يتحقق بإذنه سبحانه، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى المسيحعليه‌السلام .

أمّا الجواب، فنقول :

أوّلاً: أنّا لا نسلم بأنّ قوله تعالى:( بِإِذْنِ اللهِ ) راجع إلى الأمر الثالث، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة، والشاهد عليه أنّه قيّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) (١) .

وعلى ذلك فلا يدل تقييد الأمر الثالث بإذن الله على أنّ الأمرين الأوّلين فعل عيسيعليه‌السلام والأمر الثالث فعل الله سبحانه، بل الكلّ فعلهعليه‌السلام من جهة، وفعل الله من جهة أُخرى.

وثانياً: لو سلمنا بذلك التكلّف في خلق الطير، فماذا يمكن أن يقال في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، التي هي من أفعال الله، كصيرورة الطين طيراً، فقد نسبه الله إلى نفسه، وقال:( وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ ) (٢) حتى أنّ الله سبحانه نسبها إلى المسيح وخاطبه بها وقال:( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (٣) .

__________________

(١) المائدة: ١١٠.

(٢) آل عمران: ٤٩.

(٣) المائدة: ١١٠.

٥٠٧

على أنّ الله يصف طائفة من ملائكته أيضاً بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنّه:( شَدِيدُ القُوَىٰ ) (١) .

أي قواه العلميّة كلّها شديدة فيعلم ويعمل(٢) وكيف لا يكون ذا قوة وقد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثمّ قلّبها، ومن شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى هلكوا(٣) ولو كان المراد من شديد القوى هو جبرئيل، فقد وصفه الله في موضع آخر بقوله:( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرشِ مَكِينٍ ) (٤) ، ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذنه سبحانه على الكون.

وهل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد الله وأوليائه، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بالوهيته لزم أن يكون جميع هؤلاء: آلهة من وجهة نظر القرآن، بل لا بد من القول بأنّ تحصيل مثل هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين ـ حتى غير الأنبياء ـ عن طريق العبادة.

فالعبادة التي يتصور أغلبية الناس أنّ آثارها تنحصر في جلب رضاء الله، ودفع غضبه فقط، تمنح الروح قدرة عظيمة، وبعداً أعمق من ذلك.

فالعبادة ذات تأثير جد عظيم في الباطن، والروح.

إذ الانتهاء عن المحرمات، والمكروهات، والتزام الواجبات والمستحبات، والإخلاص فيها ذات أثر عظيم، وعميق، في تقوية الروح، وتجهيزها بقدرة خاصة

__________________

(١) النجم: ٥.

(٢) مجمع البيان: ٥ / ١٧٣.

(٣) مفاتيح الغيب للرازي: ٧ / ٧٠٢.

(٤) التكوير: ٢٠.

٥٠٨

خارقة للقوانين والسنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.

وهذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها: ما روي في الحديث القدسي عن قوله تعالى :

« ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وانّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها ».(١) .

فالحق: أنّ السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرفوا في الكون بإذنه ومشيئته، ويخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بالإلوهية، ولا يكون صاحبها نداً وشريكاً لله تعالى.

نعم، الاعتقاد بالسلطة الغيبية « المستقلّة » من دون أن تكون مستندة إليه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالإلوهية، وقد قال سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِي بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) .(٢) .

__________________

(١) أُصول الكافي: ١ / ٣٥٢. روى هذا الحديث بإسناد صحيح، وظهور الرواية في أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة مما لا ينكر واحتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد يكون محفوفاً برضا الله سبحانه، وانّه لا يفعل ولا يترك إلّا ما فيه رضاه، احتمال مرجوح جداً، فإنّ الحركة على طبق رضاه طيلة الحياة، ليست أثر خصوص فعل الصلوات فرائضها ونوافلها، بل هي قبل كل شيء إثر الإيمان بالله وثوابه وعقابه، لا الإقبال على الفرائض والنوافل، ولو كان لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم والحج والجهاد، تأثير أيضاً فلماذا لم يذكرها.

فعلم أنّ للصلاة فريضتها ونافلتها، تأثيراً في تقوية النفس والروح ورفعها إلى حد يقدر معه الإنسان، على أن يكون مظهراً لله سبحانه في بصره وسمعه، وبطشه وتكلمه، فيبصر ببصره، ويسمع بسمعه، ما لا يبصر ولا يسمع بغيره.

(٢) الرعد: ٣٨.

٥٠٩

كلام آخر للمودودي

يصف المودودي عقائد الجاهليين، ويقول :

كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية ذلك الإله الأعلى، وانّ كلمتهم تتلقّى بالقبول، وإنّه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم، ونستدر النفع، ونتجنب المضار باستشفاعهم.(١) .

ويرد عليه أنّ ما صور به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة « بأنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية الإله الأعلى » يحتاج إلى التوضيح، فإنّ تدخل الغير في شؤونه سبحانه على قسمين :

الأوّل: بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم وأعمالهم، وهذا يوجب الشرك، وكون المتدخل إلهاً، والتوجّه إليه عبادة.

الثاني: التدخل والنفوذ بإذنه سبحانه، وأمره، فلا نسلم بطلانه، وليس الاعتقاد به شركاً، والطلب عبادة، كيف والقرآن يصرّح بأنّ الملائكة تدبّر الأُمور الكونية، إذ يقول:( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) .(٢) .

وانّهم هم الذين يقبضون الأرواح ويهلكون الأُمم العاصية، إذ يقول عن لسان الملائكة :

( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ *فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا ) .(٣) .

__________________

(١) المصطلحات الأربعة: ١٩.

(٢) النازعات: ٦.

(٣) هود: ٧٠ و ٨٢.

٥١٠

فإنّنا نلاحظ ـ بجلاء ـ أنّ الله هو الجاعل، ولكن المباشر للإهلاك هم: الملائكة، إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخل والنفوذ في كلامه بكلمة « التفويض » وغيرها ممّا ينطوي على التصرّف في معزل عن أمر الله وإذنه وإرادته.

وأمّا ما نقل عنهم من أنّهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم « بأنّه يمكن أن تتحقق أمانيهم بواسطتها، ويستدر النفع، ويتجنب المضار باستشفاعهم » لا يخلو من قصور.(١) .

فإن أراد أنّ النفع الأُخروي والتجنب عن الضرر الأُخروي لا يجوز سؤاله من غير الله سبحانه، ويكون عند ذاك مثل الوثنيين الجاهليين فقد صرح القرآن بخلافه، إذ لا شك أنّ دعاء الرسول لمؤدّي الزكاة موجب للسكن لهم، ورافع للاضطراب عنهم، إذ قال سبحانه :

( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) .(٢) .

كما أنّ استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب، لقوله سبحانه :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) .(٣) .

__________________

(١) أضف إلى ذلك: أنّ العربي الجاهلي وإن كان يتجنب المضار باستشفاعهم، إلّا أنّ عملهم هذا كان مبنياً على القول بالوهيتهم، ولأجل ذلك عد عملهم شركاً، وكم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أنّ الشفيع عبد مكرم يشفع بإذنه سبحانه، أو أنّه إله يعبد ويستقل في فعله وعلى ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي، في جوازه على الأوّل، وعدمه على الثاني مطلقاً وكان على الأُستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حق من يطلب منه جلب النفع ودفع الضرر في أنّه هل يعتقد بالوهية المسؤول واستقلاله في الجلب والدفع أو يعتقد بعبوديته وانّه لا يجلب ولا يدفع إلّا بإذنه ؟ يجب أن يركز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي.

(٢) التوبة: ١٠٣.

(٣) النساء: ٦٤.

٥١١

كما كان دعاء يعقوب موجباً لغفران ذنوب أبنائه لقولهم:( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) (١) ، فأجابهم يعقوبعليه‌السلام إذ قال:( سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (٢) .

وهو كاشف عن جدوى استغفاره، إذ لولا ذلك لما وعدهم به، وعندئذ يجوز أن يطلب من الرسول الدعاء والاستغفار وهو طلب النفع الأُخروي.

وأي نفع ـ ترى ـ أولى من النفع الأُخروي، وأي دفع ضرر أهم من دفع عذاب الله بدعاء النبي ؟ ولو طلب أحد من الرسول دعاءه واستغفاره لجلب هذا النفع لا يكون مشركاً ولا عابداً للنبي.

فهل ـ بعد هذه النماذج الواضحة ـ يتصور أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي والولي في دفع الضرر وجلب النفع الأُخرويين وطلبهما منه موجباً للشرك، والقرآن يصرح به بأعلى صوته وعلى رؤوس الأشهاد.

وإن أراد من النفع والضرر ـ في كلامه ـ النفع والضرر الدنيويين وإنّ طلبهما موجب للشرك، فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلاً عن إمكانه أيضاً.

فقوم موسىعليه‌السلام استسقوه وهم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي، فلم يردعهم موسىعليه‌السلام ، بل استسقى لهم من الله وسقاهم في المآل.

ويشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول :

( وَإِذْ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ) (٣) .

كما أنّهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية، فلم يزجرهم عن هذا الطلب، بل

__________________

(١) يوسف: ٩٧.

(٢) يوسف: ٩٨.

(٣) البقرة: ٦٠.

٥١٢

دعا لهم.

وقد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز ( أي العذاب الدنيوي المذكور قبل الآية ) وقالوا :

( ولـمّاوَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَىٰ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدََكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ ) (١) .

فكل ذلك يدل على أنّ استدرار النفع وطلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن الله جائز هو أيضاً، إذ لولا ذلك لكان على النبي أن يردعهم ويزجرهم في كل هذه الموارد، وللزم أن يلفت نظرهم إلى الله، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه ويطلبوا منه ذلك، وهو خلق من خلق الله، وعبد من عبيده.

ولا شك أنّ لموسى مشاركة في جلب النفع الدنيوي وكذا في دفع الضرر أيضاً.

فيجب على الأُستاذ أن يقيد كلامه في منع استدرار النفع ودفع الضرر بقولنا: بالاستقلال ونحوه، بحيث يكون المسؤول مستقلاً في ذلك.

وصفوة القول هي أنّ الحل في هذه المسألة هو أن نفرّق بين السلطة المستندة إلى إرادة الله وإذنه ومشيئته، والسلطة المستقلة ولا نخلط بينهما.

تكملة

إنّ النظريات في صدور المعجزات عن عباد الله الصالحين لا تخرج عن أربع نظريات :

__________________

(١) الأعراف: ١٣٤.

٥١٣

الأُولى: ما عليه الغلاة والمفوّضة من كونهم مستقلين في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة.

الثانية: انّ الله يوجد تلك الأُمور مقارناً لإرادتهم، وقد مرت النظريتان عند البحث عن التفويض فراجع ص ٤٧٧.

الثالثة: ما استظهرنا من الآيات من أنّ الفعل مستند إليهم: بإذن الله سبحانه وأقداره.

الرابعة: النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه، ولا تعارض بين الثلاث الأخيرة، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.

والنظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور والإدراك في جميع الموجودات، وقد أوضحنا برهانه في الفصل الثالث.

وعليه فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشيء، وينقاد لطلبه ويؤيده قوله سبحانه:( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) (١) .

__________________

(١) ص: ٣٦.

٥١٤

٧

هل التوسل بالأسباب شرك ؟

ذهب المتصوّفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد الشرك، كما هو ظاهر، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا معاييرهما، ويبدو هذا الأمر ـ بجلاء ـ من الأبيات التي مجّد بها القوم مشايخهم حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلاً عن الخفي، تلك الأبيات التي لا تنسجم مع أُسس التوحيد القرآني بحال، وإن كان بعضهم يحاول أن يجد لتلك الأبيات والكلمات محامل بمنأى عن الشرك، ولكن الحق هو أنّ الموحد لا ينبغي له، بل ولا يجوز، أن يجري على لسانه كلاماً غير منسجم مع التوحيد الإسلامي القرآني الجلي الملامح، الواضح الطريق.

ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذة جداً بحيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنّه عين التوحيد !! وبذلك ضيقوا دائرة الشرك أيّما تضييق !!

في مقابل هذه الفرقة ـ تماماً ـ وقف الوهابيون، فهم توسّعوا في فهم حقيقة الشرك وإطلاقه، توسّعاً يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء الله بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين

٥١٥

الشرك، والحيدة عن جادة التوحيد !! وسمّوا فاعله مشركاً، حتى أنّه اتفق لي أن التقيت ذات يوم بواحد من « هيئة الأمر بالمعروف » في المسجد الحرام، فاتفق أن صدر مني تكريم بانحناء رأسي ـ أثناء ذلك اللقاء ـ وإذا بذلك الشخص يقول ـ في جدية وانزعاج ـ :

لا تفعل هذا انّه شرك محرّم لا تحني رأسك أنّه شرك !!

والحق أنّه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما يراه الوهابيون ويقولون به، إذن لما أمكن أن نمنح لأي أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض هوية الموحّد ولما استحق أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.

لقد نقل لي صديق ثقة أنّ إمام المسجد النبوي وخطيبه: الشيخ عبد العزيز كان يقول في تحديد الشرك :

« إنّ كل تعلّق بغير الله شرك » !

أقول: لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لابد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين، بلا استثناء، حتى الوهابيين أنفسهم، لأنّهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق والتوسل بالأسباب مع أنّه لا يمكن أن يقال أنّ الأسباب والعلل هي الله، بل هي غير الله، فينتج عن هذا أن يكون تعلّقهم بالأسباب وتوسّلهم بالعلل توسّلاً بغير الله، وتعلّقاً بسواه.

في حين أنّ هذا النوع من التعلّقات والتشبثات ليست فقط لا تعد شركاً، بل هي عين التوحيد وصميمه، لأنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب والعلل.

غاية الأمر أنّ عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أي استقلال وانقطاع

٥١٦

عن الإرادة الإلهية العليا، بل لابد أن يعتقد بتأثيرها تبعاً لمشيئته سبحانه، نعم انّ التعلّق بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون عين التوحيد من جهة، وعين الشرك من جهة أُخرى، فعندما لا نعتقد بأي استقلال لهذه الأسباب ـ عند تشبثنا بها ـ ولا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية وفي عرضها، بل نعتقد بأنّها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي ـ بالمآل ـ إلى الله، فلا نخرج عن إطار التوحيد.

وليس في الفكر التوحيدي من مناص إلّا الاعتقاد بمثل هذا الأمر وعلى هذا النمط.

أمّا عندما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالاً، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين، ومؤثرين !!

إنّ على الموحّد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون ( العلية والسببية ) الحاكم في الظواهر الطبيعية، وإنّ هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى الله في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.

إنّ الموحّد رغم أنّه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس أنّها خاضعة لنظام العلية، إلّا أنّه ينظر إلى هذه العلل على أساس أنّ وجودها وبقاءها وتأثيرها من الله.

فالسبب الأوّل هو الله سبحانه، وأمّا الأسباب الأُخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.

إنّ الفارق الأساسي بين الموحّد والمادي يكمن في هذا الأمر.

فالثاني يعتقد ب‍ « أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير » في حين يسندها

٥١٧

الموحد إلى الله خالق كل شيء، مع أنّه يعترف بقانون العلية الحاكم في هذا الكون.

شهادة القرآن الكريم

إنّ قضية استقلال وعدم استقلال العلل الطبيعية المادية هو الفاصل بين التوحيد والشرك، وبه يعرف الموحّد عن المشرك ـ بوضوح ـ وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في آيات عديدة، فهناك فريق من الناس عندما يواجهون المشاكل المستعصية وتنسد في وجوهههم جميع الأبواب والسبل ويقابلون المهالك وجهاً لوجه، يتوجهون إلى الله ويلوذون به ولا يرون سواه ملجأً ومخلصاً فإذا ما نجوا عادوا إلى شركهم مرة أُخرى، وهذه حالة فريق من الناس، وإلى هذه الحالة تشير طائفة من آيات القرآن، وها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أنّ المهم لنا هو أن نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات ؟

وإليك فيما يلي نص الآيات :

( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (١) .

( فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَىٰ البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (٢) .

( قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُون ) (٣) .

__________________

(١) الروم: ٣٣.

(٢) العنكبوت: ٦٥.

(٣) الأنعام: ٦٤.

٥١٨

( ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (١) .

هذه بعض الآيات في هذا المجال، والواجب هو الإمعان في عبارة « إذا هم يشركون ».

إنّ المقصود من الشرك ـ في هذه الآيات ـ ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البر أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان، بل المراد ما هو أوسع من ذلك، فإنّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة، والتجأوا إلى الأسباب المادية متصوّرين أنّها أسباب مستقلة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من الله سبحانه وناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على الله، ولا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة الاستقلال هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه، وهي نقطة الافتراق بين المدرسية الإلهية والمدرسة المادية، ولو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك والتوحيد بروح علمية، لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصر على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية، ولا إرادة في عرض تلك الإرادة.

ويرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البر والبحر، وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث، ويقول :

( أَمن يَهْدِيِكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَىٰ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ءَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَىٰ اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

مع أنّ البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية

__________________

(١) النحل: ٥٤.

(٢) النمل: ٦٣.

٥١٩

والبحرية، وليس هذا إلّا لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من الله سبحانه.

كما أنّ الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشآن نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح، أو الأمطار، ولكن القرآن مع ذلك يقول :

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) (١) .

( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوْا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) (٢) .

وليس ذلك إلّا لأنّ الله وراء تلك الأسباب، وهي تفعل بأمره واقداره.

وبكلام آخر أنّ هذه العلل والأسباب حيث إنّها غير مستقلة، لا في وجودها ولا في تأثيرها، بل هي مخلوقة بأسرها وبتمام وجودها، وتأثيرها لله، لذا يصرح القرآن الكريم بأنّه سبحانه الهادي في ظلمات البر والبحر ومرسل الرياح ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا.

وهذه الحقيقة ـ بعينها ـ مبينة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.

إنّ هذا لا يعني أنّ القرآن الكريم يتنكر للعلل والأسباب الطبيعية، وينكر وجودها ومشاركتها، ويلغي دورها، بل حيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها استقلالاً وتقوم بالله سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الإسمي بحيث لو قطعت عنها عنايته تعالى آناً ما، انهارت وتهافتت جملة واحدة، وانقلب عالم الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام وعدم، لذلك تفنن في تفسير الظواهر الطبيعية تارة بنسبتها إلى الله سبحانه وأُخرى إلى سائر العلل وثالثة إليهما معاً، قال:( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) (٣) .(٤)

__________________

(١) الأعراف: ٥٧.

(٢) الشورى: ٢٨.

(٣) الأنفال: ١٧.

(٤) ولقد بحثنا حول تلك الآيات في صفحة ٤٠٥.

٥٢٠