مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149952 / تحميل: 5731
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

١. حاجة المجتمع إلى القانون.

٢. شرائط المشرّع.

٣. لا تتوفر هذه الشروط إلّا في الله.

إنّ اتساع الحياة الاجتماعية للبشر على وجه الأرض من جانب، وغياب العيش الفردي في الكهوف والغابات والبراري شيئاً فشيئاً من جانب آخر، يكشف عن أنّ الإنسان ميّال بطبعه إلى النمط الاجتماعي من الحياة، ليتمكن بالتعاون مع أبناء نوعه من التفوّق على المشكلات والمصاعب.

ومن جهة أُخرى لما كان الإنسان أنانياً بطبعه مشدوداً إلى « حب الذات » وهو من الغرائز الأصيلة فيه، فهو يريد ـ بمقتضى هذه الغريزة ـ حصر كل ّشيء لنفسه، وإذا يخضع للقوانين والنظم فلأنّه يرى في خضوعه للنظام ضماناً لمصالحه الشخصيه، ولأجل هذاإذا وجد فرصة للتمرّد عليه ولم يجده مخالفاً لمصالحه يتمرّد عليه بحرص وولع.

ولذلك اتفق العقلاء على لزوم وجود ما ينظم العلاقات البشرية، حتى يتسنّى تكوين مجتمع إنساني صحيح يستطيع في ظله جميع البشر من استيفاء حقوقهم، ومعرفة واجباتهم وفي الحياة الاجتماعية ليقوموا بها دونما تجاوز أو عدوان، غير أنّه يجب علينا أن نعرف من هو الذي يقوم بهذا الواجب الأساسي.

فنقول: بما أنّ المقنّن يريد أن يقود المجتمع البشري نحو الكمال المنشود ،

٦٠١

ويعيّن في ضوء ذلك واجبات الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ويضمن حقوقهم، ويقيّض لهم سعادتهم المادية والمعنوية، يجب أن يتوفر فيه أمران أساسيان :

١. أن يعرف الإنسان بعامّة خصوصياته، ويكون واقفاً على أسرار الكائن البشري وعارفاً بأُموره الروحية والجسمية بنحو دقيق، كالطبيب الذي لا يمكن أن يقوم بواجبه إلّا بعد أن يتعرف على أحوال المريض وأوضاعه معرفة جيدة دقيقة ليتسنّى له معالجة المريض بنحو صحيح.

وبعبارة أُخرى: أنّ المقنّن يجب أن يكون ملمّاً جيداً بعلم النفس الإنسانية، وعلم الاجتماع محيطاً بهما، واقفاً على حقائقهما، لتوقف غرض التشريع على ذلك، وبالجملة يجب أن يكون واقفاً على الأحوال الفردية والاجتماعية.

٢. يجب أن يكون منزّهاً عن الهوى وعن أي نوع من حب الذات والنفعيّة، لأنّ حب الذات حجاب غليظ يحول دون رؤية المشرع للواقع، ويغطي على بصره وبصيرته.

لأنّ المرء مهما كان عادلاً ومنصفاً ربما يقع بصورة لا شعورية في شباك « الهوى » ويتأثر بغريزة « حب الذات » وينحرف تحت ضغط « النفعيّة » عن صراط العدل المستقيم.

ويجب أن نرى الآن فيمن يتوفر هذان الشرطان بنحو كامل ؟

لا ريب إذا كان يتعين على المقنن أن يكون ذا معرفة كاملة بالإنسان، فلا ريب أنّه لا يوجد هناك من يعرف حقيقة النفس الإنسانية واحتياجاتها بكاملها سوى الله خالق الإنسان.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة إذ قال :

٦٠٢

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (١) .

فالله الذي خلق جميع ذرات هذا العالم وركّب أجزاءه ولاءم بين مختلفاته، هو الذي يعلم ـ علماً تاماً ـ أسرار ما خلق، وهو الذي يعلم ما يصلح النفس الإنسانية وما يفسدها، أحسن من غيره.

وهو بعلمه المطلق وإحاطته الواسعة أدرى من غيره بعلاقات الأفراد، وأبعادها وآثارها، ويعرف العناصر الصالحة لإقامة مجتمع صالح سعيد، فهو أدرى من غيره بالقوانين التي تليق بالمجتمع الإنساني وتسعده، هذا بالنسبة إلى الشرط الأوّل.

* * *

وأمّا الشرط الثاني، أعني: تجرّد المشرّع عن أيّ نوع من أنواع الهوى والنفعية، فلابد من الاعتراف بأنّه لا أحد هناك يتصف بهذه الصفة غيره سبحانه، فهو الموجود الوحيد الذي لا نفع له في المجتمع الإنساني ليخشى عليه ويحرص على حفظه وصيانته عند سن القوانين.

فهو الذي تنزّه عن الغرائز، في حين يتصف جميع أبناء البشر بحب الذات ـ التي تعتبر من أخطر آفات التشريع الصحيح ـ فهم مشدودون إليها رغم سعيهم للتخلّص من مخالبها، ومتأثرون بها مهما حاولوا عدم الخضوع لسلطانها.

وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه الحقيقة بقوله :

لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لابد من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية، ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها، عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا

__________________

(١) الملك: ١٤.

٦٠٣

يخضع لضغوطها، ولكنه يعرفها تمام المعرفة، عقل لا ترتبط سعادته بنا، ولكنه مستعد لأن يعيننا في سعادتنا(١) .

على هذا الأساس لا توجد في الإسلام أيّة سلطة تشريعية، لا فردية ولا جماعية، ولا يكون هناك مشرِّع إلّا الله وحده.

وأمّا المجتهدون والفقهاء فهم في الحقيقة ليسوا إلّا متخصصين في معرفة القانون، وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها، وبالتالي تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها في بعض المجالات.

فمن مراجعة الآيات القرآنية يثبت أنّ حق التشريع خاص بالله فقط، ولا يحق لأحد ـ في النظام التوحيدي ـ أن يفرض رأيه على الآخرين فرداً كان أو مجتمعاً، وأن يدعوا الناس إلى الخضوع لها والأخذ بها.

فالناس جميعاً ـ في النظام التوحيدي ـ متساوون كأسنان المشط، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« الناس كأسنان المشط »(٢) .

فلا فضل لأحد على أحد، ولا امتياز.

إنّ الإسلام كما لم يسمح لأحد بأن يختص بوضع القوانين دون سواه وحارب تلك الفكرة، كذلك حارب كل الطبقيات السائدة في الأنظمة الطاغوتية التي تضع بعض الطبقات فوق القوانين، فالجميع سواسية أمام القانون، كما عبّر عن ذلك الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

__________________

(١) العقد الاجتماعي.

(٢) حديث مشهور.

٦٠٤

« الناس أمام الحق سواء »(١) .

ففي الأنظمة الطاغوتية نجد الأُمراء والحكام والملوك وحواشيهم ومن يدور في فلكهم، يعفون أنفسهم من الضرائب والرسوم، وكأنّهم بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعونة ـ رغم امتلاكهم لأضخم الثروات ـ في حين يتحتم على أفراد الشعب حتى الضعفاء أن يتحملوا تلك الرسوم الثقيلة والضرائب الباهظة، لا على الحاجات المهمة فقط، بل حتى على الإبرة والخيط التي يستوردونها من الخارج ليكسوا عريهم، ويقوا أبدانهم برد الشتاء، وحر الصيف.

هذه هي خصائص النظم الطاغوتية، وهي تماماً على العكس من النظام الإسلامي التوحيدي الذي لا يقرّ أيَّ امتياز لأحد على آخر، أو لطبقة على أُخرى، ولا يعمل إلّا بميزان العدل والمساواة.

ومن الطبيعي أنّ هذه العدالة والمساواة في النظام الإسلامي ليستا ناشئتين إلّا من تنزّه المشرّع ( أي الله )عن الهوى والنفعية وحب الذات التي يخضع لها مشرّعو القوانين والنظم البشرية.

الآيات الدالّة على التوحيد في التقنين

إنّ الآيات التي تعتبر حق التقنين خاصّاً بالله تعالى، والتي لا تأذن لأحد بأن يتعرّض لهذا المقام، كائناً من كان، تقع على أصناف، إليك بيانها :

الصنف الأوّل

تدل الآيتان التاليتان على أنّه لا يحق لأحد غير الله أن يسن القوانين، معلّلة

__________________

(١) حديث مشهور.

٦٠٥

بأنّ مثل هذا الحق إنّما هو لمن يملك أزمّة الحياة البشرية برمّتها، الذي هو نوع من السلطة عليهم، وليس هو إلّا الله تعالى دون سواه، قال سبحانه :

( مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

لقد وردت جملة( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) في آيتين من سورة يوسف، إحداهما الآية السابقة، والأُخرى في قوله تعالى :

( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الحُكْمُ إلّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) (٢) .

غير أنّ المقصود من حصر الحاكمية بالله سبحانه في الآية الأُولى هو الحاكمية التشريعية، كما أنّ المراد من حصرها به في الآية الثانية هو الحاكمية التكوينية.

والدليل على ذلك هو مضامين الآيتين، فالآية الأُولى تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرّم ويحل سوى الله سبحانه، ولأجل ذلك قال ـ بعد قوله ـ( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) :( أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) ، فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الحكم مختصاً به سبحانه والتشريع خاصّاً به، فماذا أمر الله في مورد العبادة ؟ فأجاب على الفور( أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) .

__________________

(١) يوسف: ٤٠.

(٢) يوسف: ٦٧.

٦٠٦

وأمّا الآية الثانية، فهي تهدف إلى أنّ يعقوب لا يملك لأبنائه أمراً ولا يضمن لهم في صفحة الوجود شيئاً، فأُمور الكون كلّها بيده، ولابد من التوكّل عليه رغم معرفة أسباب الظفر بالمطلوب، ولأجل ذلك بعد ما عرفهم أسباب الظفر بقوله:( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) عاد يذكّرهم بأنّه لا يضمن ـ مع ذلك ـ لهم شيئاً بقوله:( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إن الحُكْمُ إلّا للهِ ) .

وأوضح دليل على كون المراد من الحكم هو الحكم التكويني أمره بإيكال الأُمور إليه في مجاري الحياة بقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) .

وعلى الجملة فالآية الأُولى من الآيتين صريحة في اختصاص التشريع بالله سبحانه، لا يتردد في مضمونها من له إلمام بمعارف القرآن.

ويقرب من هذه الآية قوله سبحانه:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

فإنّ المفسّرين فسّروا الأمر هنا بالأمر التشريعي، قال الطبرسي: إنّما فصل بين الخلق والأمر، لأنّ فائدتهما مختلفة لأنّه يريد بالخلق أنّ له الاختراع، وبالأمر أنّ له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ويفعل بهم بما شاء(٢) .

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

(٢) مجمع البيان: ٤ / ٤٢٨ وهذه الآيات كما دلت على حصر التشريع بالله سبحانه كذلك تدلّ على حصر الحاكمية بالله سبحانه وسيوافيك بيان دلالة الآية على حصر الحاكمية بالله سبحانه ولفظ « الحكم » والأمر في الآيتين أعم من التشريع والحاكمية.

٦٠٧

ويمكن أن يقال إنّ المراد منه هو الأعم من الأمر التكويني والتشريعي بقرينة( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) فإنّ المراد من لفظة بأمره بقرينة التسخير هو الأمر التكويني، وعلى ذلك يمكن أن يراد من قوله:( لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعم من تدبير العالم بالأوامر التكوينية وتدبير المجتمع بالأوامر التشريعية.

الصنف الثاني

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤمِنْ قُلُوبهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤتوهُ فَاحْذَرُوا وَمن يرد الله فِتْنَته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَم يَرِد الله أَنْ يطهر قُلوبهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَة عَذابٌ عَظِيم ) .

( سَمّاعُونَ لِلكذب أَكّالُونَ للسُّحتِ فَإِنْ جاؤوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَو أَعْرِض عَنْهُمْ وَإِنْ تعرض عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطين ) .

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوراةُ فِيها حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنين ) .

( إِنّا أَنْزَلْنا التَّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم ُبِها النبِيُّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذينَ هادُوا والرَّبّانيُّون والأَحبارُ بِما استُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوا النّاسَ وَاخْشَونِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

٦٠٨

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعينَ بِالعينِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذنَ بِالأُذنِ وَالسنَّ بالسنِّ وَالجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعَيسى ابن مَرْيَم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مَنَ التَّوراةِ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ فيهِ هدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ وَهُدىً وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين ) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانْجِيل بِما أَنْزل الله فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (١) .

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُون *وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ الله حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

ولو تأمل القارئ الكريم في مضامين هذه الآيات لتبيّن له بوضوح أنّ الله تعالى منذ أن بعث الرسل والأنبياء لم يأذن لأحد في أن يشرّع لنفسه ولا لغيره قانوناً لقصور علم البشر، وض آلة معلوماته، ولذلك أنزل في كل عصر أفضل ما يناسبه

__________________

(١) المائدة: ٤١ ـ ٤٧.

(٢) المائدة: ٤٨ ـ ٥٠.

٦٠٩

من الأحكام والقوانين.

فقوله:( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) إشارة إلى أنّهم يخالفون ما قرر الله لهم من الأحكام.

وقوله:( أَكّالُونَ لِلْسُّحْتِ ) يُراد منه أنَّهم كانوا يحرمون حلال الله ويحلّون ما حرمه.

وأبلغ من كل ذلك قوله:( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ) .

وقوله:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

وقوله:( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها انَّ النَّفْسَ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

وقوله:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِما أَنْزَل الله فِيهِ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) .

فهذه المقاطع توضح لنا أنّ ممنوعية التقنين على البشر لم تكن في الإسلام فحسب، بل كانت في كل الشرائع السماوية والماضية، وإن حق التقنين حق منحصر بالله فقط، فهو من شأنه وفعله تعالى خاصة، ولم يفوّض هذا الحق إلى أحد أبداً، أليس هذا القرآن يصف كل من يستبدل النظام الإلهي بغيره، بالكفر تارة، وبالظلم أُخرى، وبالفسق ثالثة.

فهم كافرون، لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود.

وهم ظالمون، لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص بالله إلى غيره.

٦١٠

وهم فاسقون، لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة الله.

ثم هل هناك عبارة أصرح في انحصار حق التقنين في الله وانتفائه عن غيره، من قوله تعالى :

أ.( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ) .

ب.( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) .

وهذا المنهاج والشرعة هو نظام الحياة لكل الأُمم، لكل أُمّة حسب استعدادها وحسب حاجتها.

وحيث لا يمكن للنظام الإلهي أن يكون ناقصاً وعاجزاً ليكمل عن طريق النظام البشري، لذلك ليست هناك حاجة مطلقاً إلى النظام البشري مع وجود النظام الإلهي والقانون الربّاني.

ج. ثم يعود القرآن مرة أُخرى يؤكد بقاطعية، أنّ أي اتباع لغير أحكام الله ما هو إلّا اتباع للهوى، والهوس إذ يقول :

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

د. وبالتالي يعتبر القرآن كلَّ حكم وتشريع لا ينبع عن الوحي ( حكماً جاهلياً ) فيقول بصراحة متناهية :

( أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

إجابة عن سؤال

يمكن أن يقال إنّ الرجوع إلى غير الحكم الإلهي إنّما لا يجوز إذا كان هناك حكم إلهي، أمّا إذا لم يكن هناك حكم لله في مورد من الموارد، فلم لا يجوز حينئذ

٦١١

لفرد أو لشورى أن يسن قانوناً، ويجعل حكماً لكيلا تقف حركة الأُمّة، ولا يتعرقل تقدمها ؟

إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا وجد مورد مثلما قاله، غير أنّ كون المنهاج إلهياً يوجب كونه في غاية الكمال والجامعية ولذلك لا مجال لتدخّل أيِّ أحد في أمر التشريع وبعبارة أُخرى: انّ القرآن يقسم القوانين الحاكمة على البشر على قسمين: إلهي وجاهلي، وبما أنّ كل ما كان من صنع الفكر البشري لم يكن إلهياً، فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة الهامة الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، إذ قال :

« الحكم حكمان: حكم الله، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم أهل الجاهلية »(١) .

* * *

إنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه مبيّناً لكل ما يحتاج إليه البشر في تنظيم حياته ومعيشته، إذ يقول :

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (٢) .

وفي آية أُخرى يجعل بيانه وتوضيح مقاصده على عاتق الوحي، قال سبحانه:( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبْعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) .(٣)

وفي آية أُخرى يعتبر القرآن، النبي الأكرم مبيّناً له، لا مقتصراً على القراءة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة: ١٨ / ١٨، كتاب القضاء.

(٢) النحل: ٨٩.

(٣) القيامة: ١٨ ـ ١٩.

٦١٢

كما يقول :

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

إنّ للنبي ـ بحكم هذه الآية والآيات الأُخر ـ وظيفتين :

الأُولى: تلاوة القرآن وقراءته على الناس حسبما نزل به الروح الأمين على قلبه، قال سبحانه:( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَىٰ النَّاسِ عَلَىٰ مُكْث ) (٢) ، وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٣) .

الثانية: بيان أهدافه ومقاصده، ويشير إليه قوله تعالى:( لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) ، ولا منافاة بين أن يكون بيان القرآن على عاتق الوحي، كما يفيده قوله:( ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) وبين أن يكون بيانه من وظيفة النبي، لأنّ ما يبينّه الرسول مستند إلى الوحي والتعليم الإلهي.

كما أنّه لا منافاة بين أن يكون النبي مبيّناً لمقاصد القرآن، وأن تكون طائفة من الآيات معلومة عند أهل اللسان، مع قطع النظر عن بيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف لا، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، قال سبحانه:( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (٤) ، وقال سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٥) ، وقال سبحانه:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ) (٦) .

نعم لا منافاة بينهما لأنّ القرآن مشتمل بالضرورة على المجملات في كثير من

__________________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) الإسراء: ١٠٦.

(٣) القيامة: ١٦ ـ ١٩.

(٤) النحل: ١٠٣.

(٥) الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٦) القمر: ١٧.

٦١٣

آيات الأحكام، فما هو المبين راجع إلى غير هذه المجملات كالصلاة والصوم وغيرهما ممّا بيّنها الرسول بأعماله وأقواله، وقال: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي ـ مثلاً ـ كما أنّه لا منافاة بين أن يكون بعد من أبعاد آية واحدة واضحاً جليّاً في حين يكون البعد الآخر منه خفيّاً محتاجاً إلى بيان الرسول وخلفائه ـ صلوات الله عليهم ـ.

وبذلك يظهر أنّه لا منافاة بين هذه الطوائف من الآيات التي نقلنا نماذج منها.

إذا وقفت على ذلك تعرف أنّ ما ورد عن النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة ملزمة واجبة الاتّباع بحكم كونه مبيّناً للقرآن، لأنّه يرجع إلى بيان الأحكام التي وردت أُصولها وكليّاتها في القرآن كالآيات المرتبطة بالعبادات والمعاملات والسياسات.

يبقى أن نعرف أنّ أقوال الأئمّة المعصومين مأخوذة ـ بحكم حديث الثقلين(١) وحديث سفينة نوح(٢) ـ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنتهية إليه.

وبملاحظة هذه الأُمور كلّها يتضح موضع القرآن وأقوال الرسول وأهل بيته المعصومين، ويتجلّى لنا موقعهم في النظام الإسلامي.

هذا مضافاً إلى أنّ ما يدل على حجية قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينحصر في ما ذكرنا، بل هناك آيات أُخرى تشهد بحجية قول النبي وفعله، كقوله تعالى :

( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣) .

( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٤) .

وغيرها من الآيات التي تدارسها المحققون في مبحث العصمة.

__________________

(١) حديث الثقلين هو: « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » وهو مشهور.

(٢) حديث السفينة هو: « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » وهو مشهور أيضاً.

(٣) النجم: ٣ و ٤.

(٤) الحشر: ٧.

٦١٤

الصنف الثالث

إنّ الآيات في هذا الصنف تدل ـ بجلاء تام ـ على أنّ الأنبياء عامة ورسول الإسلام خاصة بعثوا مع نظام إلهي.

وإليك فيما يلي الآيات المرتبطة بهذا الصنف :

( إِنَّ هٰذَا القُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (١) .

إنّ المقصود ب‍( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) هو شريعة الإسلام التي ذكرت في آية أُخرى بلفظة « الشريعة »، إذ قال الله سبحانه :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ) (٢) .

كما أنّ لفظة « أقوم » التي هي صيغة التفضيل من « القائم » كناية عن صحة أحكام القرآن واستقامتها قاطبة، بحيث تنطبق مع الطبيعة، وتكون معها على وفاق كامل.

إنّ أحكام الإسلام توفّر للإنسان السعادة والحياة الكريمة، وتسوقه إلى الكمال في حين لا يصدق مثل هذا بالنسبة إلى النظم البشرية.

فهي رغم كونها مفيدة للبشر من بعض النواحي، إلّا أنّها مضرة به وبحياته من جهات أُخرى هامة، وعديدة.

وتؤكد هذه الحقيقة آيات أُخرى مثل قوله تعالى :

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (٣) .

__________________

(١) الإسراء: ٩.

(٢) الجاثية: ١٨.

(٣) الأنعام: ١٦١.

٦١٥

في هذه الآية ذكر الإسلام أُصولاً وفروعاً بقوله :

١. ديناً قيماً.

٢. ملّة إبراهيم.

وفي آية أُخرى عبّر عن أحكام الإسلام بلفظة الشريعة، إذ يقول :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

في هذه الآية يتراءى للقارئ أمران :

١. أنّ النبي الأكرم أُرسل مع شريعة لتربية الناس وهدايتهم، وإيصالهم إلى ذرى الكمال.

وحيث إنّ الشريعة تعني الطريقة، فلابد للطريقة، من هدف يقصد، ومقصود يراد، وغاية تطلب، وما ذاك إلّا الكمال الإنساني المنشود، اللائق بالإنسان أكرم المخلوقات.

٢. أنّ اتّباع الأحكام غير الإلهية وغير المستمدة من الوحي الإلهي ـ مهما كانت الأدمغة التي صنعتها ـ ليس إلّا اتباع للهوى.

ومن ذلك يتضح لنا موضوع ( التوحيد في التقنين والتشريع ) فإنّ حق التقنين مختص بالله سبحانه ومسلوب من المجتمع البشري، وعلى ذلك فلو أشركنا في هذا الحق أحداً غير الله لعدلنا عن جادة التوحيد.

ثمّ إنّ الآية التالية تؤكد مضمون هذا الصنّف وتؤيده، إذ تقول :

( لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ

__________________

(١) الجاثية: ١٨.

٦١٦

إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدىً مُّسْتَقِيمٍ ) (١) .

والمنسك الوارد في الآية ليس إلّا الشريعة الإلهية التي أنزلها الله تعالى على كل أُمّة حسب احتياجاتها وظروفها، ثم كان يحدث فيها التغيير مع مرور الزمن وتقدّم الأُمم وتوسع نطاق حاجاتها وتكاملها، حتى أكملها الله وأتّمها في نهاية المطاف، وإن كان كل شريعة منها كاملة بالنسبة إلى الظروف والأُمم التي أُرسلت إليها.

ما هي معاني: الدين، الشريعة، الملّة ؟

حيث وردت في الآية ١٦١ من سورة الأنعام لفظة الدين والملّة ـ كما لاحظنا ـ يجدره بنا أن نوضح الفرق بين هاتين اللفظتين ولفظة الشريعة.

إنّ الدين حسب اصطلاح القرآن هو الطريقة الإلهية العامّة التي تشمل كل أبناء البشر في كل زمان ومكان ولا تقبل أيَّ تغيير وتحويل مع مرور الزمن وتطور الأجيال، ويجب على كل أبناء البشر اتباعها، وهي تعرض على البشرية في كل أدوار التاريخ بنحو واحد دونما تناقض وتباين.

ولأجل ذلك نجد القرآن لا يستعمل لفظة الدين بصيغة الجمع مطلقاً، فلا يقول: « الأديان » وإنّما يذكره بصيغة المفرد، كما يقول :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ ) (٢) .

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (٣) .

__________________

(١) الحج: ٦٧.

(٢) آل عمران: ١٩.

(٣) آل عمران: ٨٥.

٦١٧

في حين أنّ « الشريعة » تعني مجموعة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن ينالها التغيير مع مرور الزمن وتطور المجتمعات وتكامل الأُمم، ولذلك لا يضير استعمال هذه اللفظة في صورة الجمع فيقال « شرائع » وقد صرح القرآن بتعدّد الشريعة.

فهو رغم تصريحه بوحدة الدين ـ كما مر في الآية السابقة ـ يخبر عن وجود شريعة لكل أُمّة ويكشف بذلك عن تعدد الشريعة، إذ يقول :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) (١) .

وعلى هذا فإنّ البشرية دُعيت في الحقيقة إلى دين واحد وهو الإسلام الذي كان متحد الأُصول في كل الأدوار والأزمنة، وكانت الشرائع في كل زمن وظرف طريقاً للوصول إلى الدين الواحد ولم تكن الشرائع إلّا طرقاً للأُمم والأقوام، لكل قوم حسب مقتضيات عصره ومدى احتياجه.

وأمّا الملّة، فهي بمعنى السنن التي بها تتقوّم الحياة البشرية وتستقيم، تلك السنن التي أودع في مفهومها « الأخذ والاقتباس من الغير ».

ولذلك يضيف القرآن الكريم هذه العبارة ـ لدى استعمالها ـ إلى الرسول والأقوام، إذ يقول ـ مثلاً ـ:( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (٢) .

( إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللهِ ) (٣) .

وعلى هذا تكون الملّة والشريعة متحدتين معنى ومفاداً، مع فارق واحد، هو

__________________

(١) المائدة: ٤٨.

(٢) البقرة: ١٣٥.

(٣) يوسف: ٣٧.

٦١٨

أنّ الملّة تضاف إلى غير الله، فيقال « ملّة محمّد » و « ملّة إبراهيم »، ولا تضاف إلى الله تعالى فلا يقال ملّة الله.

الصنف الرابع

في هذا الصنف نجد الآيات تحذر من التحاكم إلى الطغاة والأخذ بقوانينهم، كما يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً *أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَىٰ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعْيداً ) .(١)

بل انّ القرآن يحذر المجتمع الإسلامي أساساً من أيِّ ركون إلى النظم الطاغوتية والابتعاد عن سنن الله وشرائعه، إذ يقول :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَىٰ لا انْفِصَامَ لهَا واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلىٰ النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَىٰ الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٢) .

( أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

__________________

(١) النساء: ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) البقرة: ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٦١٩

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَء أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَئِكَ لَعَنَهُمُ الله وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (١) .

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٢) .

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَىٰ اللهِ لَهُمُ البُشْرَىٰ ) (٣) .

أجل انّ القرآن ـ كما رأيت ـ يحذر من الركون إلى الطاغوت والميل إليه، فضلاً عن طاعته وتسليم المقدّرات إليه.

إنّ هذه الحقيقة تتجلّى من ملاحظة الآيتين الأُوليين، المذكورتين في مطلع هذا الصنف، فالآية الأُولى تأمر باتّباع الله ورسوله وأُولي الأمر في المجتمع الإسلامي، وأنّه إذا حدث حادث يجب ردّه إلى الله والرسول لا إلى غيرهم، ثم يندد بالذين يتحاكمون إلى الطاغوت رغم ادّعائهم الإيمان بالكتب السماوية.

ويا للأسف هل سلك مجتمعنا الإسلامي ـ في القرن الأخير ـ غير هذا الطريق اللوبي ؟ وهل اتبع غير الأنظمة البشرية، وحل مشكلاته ومنازعاته إلّا وفق القوانين الطاغوتية التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟

ويمكن أن يسأل: أنّ القوانين الإسلامية بين ثابت وأبدي لا يقبل التغيير مع تطوّر الظروف وبين متغير ومتطوّر، فما هو موقف السلطة التشريعية تجاه القسم الثاني ؟

أمّا الجواب: فنقول: إنّ التغيّر والتطوّر ليس في جوهر القانون وصلبه، وإنّما هو في شكله وصورته، والذي يجب صيانته وحفظه إنّما هو جوهره وصلبه، لا

__________________

(١) النساء: ٥١ ـ ٥٢.

(٢) النحل: ٣٦.

(٣) الزمر: ١٧.

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672