مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

مفاهيم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672
المشاهدات: 124871
تحميل: 3716


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124871 / تحميل: 3716
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-249-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١. حاجة المجتمع إلى القانون.

٢. شرائط المشرّع.

٣. لا تتوفر هذه الشروط إلّا في الله.

إنّ اتساع الحياة الاجتماعية للبشر على وجه الأرض من جانب، وغياب العيش الفردي في الكهوف والغابات والبراري شيئاً فشيئاً من جانب آخر، يكشف عن أنّ الإنسان ميّال بطبعه إلى النمط الاجتماعي من الحياة، ليتمكن بالتعاون مع أبناء نوعه من التفوّق على المشكلات والمصاعب.

ومن جهة أُخرى لما كان الإنسان أنانياً بطبعه مشدوداً إلى « حب الذات » وهو من الغرائز الأصيلة فيه، فهو يريد ـ بمقتضى هذه الغريزة ـ حصر كل ّشيء لنفسه، وإذا يخضع للقوانين والنظم فلأنّه يرى في خضوعه للنظام ضماناً لمصالحه الشخصيه، ولأجل هذاإذا وجد فرصة للتمرّد عليه ولم يجده مخالفاً لمصالحه يتمرّد عليه بحرص وولع.

ولذلك اتفق العقلاء على لزوم وجود ما ينظم العلاقات البشرية، حتى يتسنّى تكوين مجتمع إنساني صحيح يستطيع في ظله جميع البشر من استيفاء حقوقهم، ومعرفة واجباتهم وفي الحياة الاجتماعية ليقوموا بها دونما تجاوز أو عدوان، غير أنّه يجب علينا أن نعرف من هو الذي يقوم بهذا الواجب الأساسي.

فنقول: بما أنّ المقنّن يريد أن يقود المجتمع البشري نحو الكمال المنشود ،

٦٠١

ويعيّن في ضوء ذلك واجبات الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ويضمن حقوقهم، ويقيّض لهم سعادتهم المادية والمعنوية، يجب أن يتوفر فيه أمران أساسيان :

١. أن يعرف الإنسان بعامّة خصوصياته، ويكون واقفاً على أسرار الكائن البشري وعارفاً بأُموره الروحية والجسمية بنحو دقيق، كالطبيب الذي لا يمكن أن يقوم بواجبه إلّا بعد أن يتعرف على أحوال المريض وأوضاعه معرفة جيدة دقيقة ليتسنّى له معالجة المريض بنحو صحيح.

وبعبارة أُخرى: أنّ المقنّن يجب أن يكون ملمّاً جيداً بعلم النفس الإنسانية، وعلم الاجتماع محيطاً بهما، واقفاً على حقائقهما، لتوقف غرض التشريع على ذلك، وبالجملة يجب أن يكون واقفاً على الأحوال الفردية والاجتماعية.

٢. يجب أن يكون منزّهاً عن الهوى وعن أي نوع من حب الذات والنفعيّة، لأنّ حب الذات حجاب غليظ يحول دون رؤية المشرع للواقع، ويغطي على بصره وبصيرته.

لأنّ المرء مهما كان عادلاً ومنصفاً ربما يقع بصورة لا شعورية في شباك « الهوى » ويتأثر بغريزة « حب الذات » وينحرف تحت ضغط « النفعيّة » عن صراط العدل المستقيم.

ويجب أن نرى الآن فيمن يتوفر هذان الشرطان بنحو كامل ؟

لا ريب إذا كان يتعين على المقنن أن يكون ذا معرفة كاملة بالإنسان، فلا ريب أنّه لا يوجد هناك من يعرف حقيقة النفس الإنسانية واحتياجاتها بكاملها سوى الله خالق الإنسان.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة إذ قال :

٦٠٢

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (١) .

فالله الذي خلق جميع ذرات هذا العالم وركّب أجزاءه ولاءم بين مختلفاته، هو الذي يعلم ـ علماً تاماً ـ أسرار ما خلق، وهو الذي يعلم ما يصلح النفس الإنسانية وما يفسدها، أحسن من غيره.

وهو بعلمه المطلق وإحاطته الواسعة أدرى من غيره بعلاقات الأفراد، وأبعادها وآثارها، ويعرف العناصر الصالحة لإقامة مجتمع صالح سعيد، فهو أدرى من غيره بالقوانين التي تليق بالمجتمع الإنساني وتسعده، هذا بالنسبة إلى الشرط الأوّل.

* * *

وأمّا الشرط الثاني، أعني: تجرّد المشرّع عن أيّ نوع من أنواع الهوى والنفعية، فلابد من الاعتراف بأنّه لا أحد هناك يتصف بهذه الصفة غيره سبحانه، فهو الموجود الوحيد الذي لا نفع له في المجتمع الإنساني ليخشى عليه ويحرص على حفظه وصيانته عند سن القوانين.

فهو الذي تنزّه عن الغرائز، في حين يتصف جميع أبناء البشر بحب الذات ـ التي تعتبر من أخطر آفات التشريع الصحيح ـ فهم مشدودون إليها رغم سعيهم للتخلّص من مخالبها، ومتأثرون بها مهما حاولوا عدم الخضوع لسلطانها.

وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه الحقيقة بقوله :

لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لابد من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية، ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها، عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا

__________________

(١) الملك: ١٤.

٦٠٣

يخضع لضغوطها، ولكنه يعرفها تمام المعرفة، عقل لا ترتبط سعادته بنا، ولكنه مستعد لأن يعيننا في سعادتنا(١) .

على هذا الأساس لا توجد في الإسلام أيّة سلطة تشريعية، لا فردية ولا جماعية، ولا يكون هناك مشرِّع إلّا الله وحده.

وأمّا المجتهدون والفقهاء فهم في الحقيقة ليسوا إلّا متخصصين في معرفة القانون، وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها، وبالتالي تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها في بعض المجالات.

فمن مراجعة الآيات القرآنية يثبت أنّ حق التشريع خاص بالله فقط، ولا يحق لأحد ـ في النظام التوحيدي ـ أن يفرض رأيه على الآخرين فرداً كان أو مجتمعاً، وأن يدعوا الناس إلى الخضوع لها والأخذ بها.

فالناس جميعاً ـ في النظام التوحيدي ـ متساوون كأسنان المشط، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« الناس كأسنان المشط »(٢) .

فلا فضل لأحد على أحد، ولا امتياز.

إنّ الإسلام كما لم يسمح لأحد بأن يختص بوضع القوانين دون سواه وحارب تلك الفكرة، كذلك حارب كل الطبقيات السائدة في الأنظمة الطاغوتية التي تضع بعض الطبقات فوق القوانين، فالجميع سواسية أمام القانون، كما عبّر عن ذلك الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

__________________

(١) العقد الاجتماعي.

(٢) حديث مشهور.

٦٠٤

« الناس أمام الحق سواء »(١) .

ففي الأنظمة الطاغوتية نجد الأُمراء والحكام والملوك وحواشيهم ومن يدور في فلكهم، يعفون أنفسهم من الضرائب والرسوم، وكأنّهم بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعونة ـ رغم امتلاكهم لأضخم الثروات ـ في حين يتحتم على أفراد الشعب حتى الضعفاء أن يتحملوا تلك الرسوم الثقيلة والضرائب الباهظة، لا على الحاجات المهمة فقط، بل حتى على الإبرة والخيط التي يستوردونها من الخارج ليكسوا عريهم، ويقوا أبدانهم برد الشتاء، وحر الصيف.

هذه هي خصائص النظم الطاغوتية، وهي تماماً على العكس من النظام الإسلامي التوحيدي الذي لا يقرّ أيَّ امتياز لأحد على آخر، أو لطبقة على أُخرى، ولا يعمل إلّا بميزان العدل والمساواة.

ومن الطبيعي أنّ هذه العدالة والمساواة في النظام الإسلامي ليستا ناشئتين إلّا من تنزّه المشرّع ( أي الله )عن الهوى والنفعية وحب الذات التي يخضع لها مشرّعو القوانين والنظم البشرية.

الآيات الدالّة على التوحيد في التقنين

إنّ الآيات التي تعتبر حق التقنين خاصّاً بالله تعالى، والتي لا تأذن لأحد بأن يتعرّض لهذا المقام، كائناً من كان، تقع على أصناف، إليك بيانها :

الصنف الأوّل

تدل الآيتان التاليتان على أنّه لا يحق لأحد غير الله أن يسن القوانين، معلّلة

__________________

(١) حديث مشهور.

٦٠٥

بأنّ مثل هذا الحق إنّما هو لمن يملك أزمّة الحياة البشرية برمّتها، الذي هو نوع من السلطة عليهم، وليس هو إلّا الله تعالى دون سواه، قال سبحانه :

( مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

لقد وردت جملة( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) في آيتين من سورة يوسف، إحداهما الآية السابقة، والأُخرى في قوله تعالى :

( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الحُكْمُ إلّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) (٢) .

غير أنّ المقصود من حصر الحاكمية بالله سبحانه في الآية الأُولى هو الحاكمية التشريعية، كما أنّ المراد من حصرها به في الآية الثانية هو الحاكمية التكوينية.

والدليل على ذلك هو مضامين الآيتين، فالآية الأُولى تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرّم ويحل سوى الله سبحانه، ولأجل ذلك قال ـ بعد قوله ـ( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) :( أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) ، فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الحكم مختصاً به سبحانه والتشريع خاصّاً به، فماذا أمر الله في مورد العبادة ؟ فأجاب على الفور( أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) .

__________________

(١) يوسف: ٤٠.

(٢) يوسف: ٦٧.

٦٠٦

وأمّا الآية الثانية، فهي تهدف إلى أنّ يعقوب لا يملك لأبنائه أمراً ولا يضمن لهم في صفحة الوجود شيئاً، فأُمور الكون كلّها بيده، ولابد من التوكّل عليه رغم معرفة أسباب الظفر بالمطلوب، ولأجل ذلك بعد ما عرفهم أسباب الظفر بقوله:( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) عاد يذكّرهم بأنّه لا يضمن ـ مع ذلك ـ لهم شيئاً بقوله:( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إن الحُكْمُ إلّا للهِ ) .

وأوضح دليل على كون المراد من الحكم هو الحكم التكويني أمره بإيكال الأُمور إليه في مجاري الحياة بقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) .

وعلى الجملة فالآية الأُولى من الآيتين صريحة في اختصاص التشريع بالله سبحانه، لا يتردد في مضمونها من له إلمام بمعارف القرآن.

ويقرب من هذه الآية قوله سبحانه:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

فإنّ المفسّرين فسّروا الأمر هنا بالأمر التشريعي، قال الطبرسي: إنّما فصل بين الخلق والأمر، لأنّ فائدتهما مختلفة لأنّه يريد بالخلق أنّ له الاختراع، وبالأمر أنّ له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ويفعل بهم بما شاء(٢) .

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

(٢) مجمع البيان: ٤ / ٤٢٨ وهذه الآيات كما دلت على حصر التشريع بالله سبحانه كذلك تدلّ على حصر الحاكمية بالله سبحانه وسيوافيك بيان دلالة الآية على حصر الحاكمية بالله سبحانه ولفظ « الحكم » والأمر في الآيتين أعم من التشريع والحاكمية.

٦٠٧

ويمكن أن يقال إنّ المراد منه هو الأعم من الأمر التكويني والتشريعي بقرينة( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) فإنّ المراد من لفظة بأمره بقرينة التسخير هو الأمر التكويني، وعلى ذلك يمكن أن يراد من قوله:( لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعم من تدبير العالم بالأوامر التكوينية وتدبير المجتمع بالأوامر التشريعية.

الصنف الثاني

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤمِنْ قُلُوبهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤتوهُ فَاحْذَرُوا وَمن يرد الله فِتْنَته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَم يَرِد الله أَنْ يطهر قُلوبهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَة عَذابٌ عَظِيم ) .

( سَمّاعُونَ لِلكذب أَكّالُونَ للسُّحتِ فَإِنْ جاؤوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَو أَعْرِض عَنْهُمْ وَإِنْ تعرض عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطين ) .

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوراةُ فِيها حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنين ) .

( إِنّا أَنْزَلْنا التَّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم ُبِها النبِيُّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذينَ هادُوا والرَّبّانيُّون والأَحبارُ بِما استُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوا النّاسَ وَاخْشَونِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

٦٠٨

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعينَ بِالعينِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذنَ بِالأُذنِ وَالسنَّ بالسنِّ وَالجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعَيسى ابن مَرْيَم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مَنَ التَّوراةِ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ فيهِ هدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ وَهُدىً وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين ) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانْجِيل بِما أَنْزل الله فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (١) .

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُون *وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ الله حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

ولو تأمل القارئ الكريم في مضامين هذه الآيات لتبيّن له بوضوح أنّ الله تعالى منذ أن بعث الرسل والأنبياء لم يأذن لأحد في أن يشرّع لنفسه ولا لغيره قانوناً لقصور علم البشر، وض آلة معلوماته، ولذلك أنزل في كل عصر أفضل ما يناسبه

__________________

(١) المائدة: ٤١ ـ ٤٧.

(٢) المائدة: ٤٨ ـ ٥٠.

٦٠٩

من الأحكام والقوانين.

فقوله:( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) إشارة إلى أنّهم يخالفون ما قرر الله لهم من الأحكام.

وقوله:( أَكّالُونَ لِلْسُّحْتِ ) يُراد منه أنَّهم كانوا يحرمون حلال الله ويحلّون ما حرمه.

وأبلغ من كل ذلك قوله:( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ) .

وقوله:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

وقوله:( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها انَّ النَّفْسَ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

وقوله:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِما أَنْزَل الله فِيهِ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) .

فهذه المقاطع توضح لنا أنّ ممنوعية التقنين على البشر لم تكن في الإسلام فحسب، بل كانت في كل الشرائع السماوية والماضية، وإن حق التقنين حق منحصر بالله فقط، فهو من شأنه وفعله تعالى خاصة، ولم يفوّض هذا الحق إلى أحد أبداً، أليس هذا القرآن يصف كل من يستبدل النظام الإلهي بغيره، بالكفر تارة، وبالظلم أُخرى، وبالفسق ثالثة.

فهم كافرون، لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود.

وهم ظالمون، لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص بالله إلى غيره.

٦١٠

وهم فاسقون، لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة الله.

ثم هل هناك عبارة أصرح في انحصار حق التقنين في الله وانتفائه عن غيره، من قوله تعالى :

أ.( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ) .

ب.( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) .

وهذا المنهاج والشرعة هو نظام الحياة لكل الأُمم، لكل أُمّة حسب استعدادها وحسب حاجتها.

وحيث لا يمكن للنظام الإلهي أن يكون ناقصاً وعاجزاً ليكمل عن طريق النظام البشري، لذلك ليست هناك حاجة مطلقاً إلى النظام البشري مع وجود النظام الإلهي والقانون الربّاني.

ج. ثم يعود القرآن مرة أُخرى يؤكد بقاطعية، أنّ أي اتباع لغير أحكام الله ما هو إلّا اتباع للهوى، والهوس إذ يقول :

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

د. وبالتالي يعتبر القرآن كلَّ حكم وتشريع لا ينبع عن الوحي ( حكماً جاهلياً ) فيقول بصراحة متناهية :

( أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

إجابة عن سؤال

يمكن أن يقال إنّ الرجوع إلى غير الحكم الإلهي إنّما لا يجوز إذا كان هناك حكم إلهي، أمّا إذا لم يكن هناك حكم لله في مورد من الموارد، فلم لا يجوز حينئذ

٦١١

لفرد أو لشورى أن يسن قانوناً، ويجعل حكماً لكيلا تقف حركة الأُمّة، ولا يتعرقل تقدمها ؟

إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا وجد مورد مثلما قاله، غير أنّ كون المنهاج إلهياً يوجب كونه في غاية الكمال والجامعية ولذلك لا مجال لتدخّل أيِّ أحد في أمر التشريع وبعبارة أُخرى: انّ القرآن يقسم القوانين الحاكمة على البشر على قسمين: إلهي وجاهلي، وبما أنّ كل ما كان من صنع الفكر البشري لم يكن إلهياً، فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة الهامة الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، إذ قال :

« الحكم حكمان: حكم الله، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم أهل الجاهلية »(١) .

* * *

إنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه مبيّناً لكل ما يحتاج إليه البشر في تنظيم حياته ومعيشته، إذ يقول :

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (٢) .

وفي آية أُخرى يجعل بيانه وتوضيح مقاصده على عاتق الوحي، قال سبحانه:( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبْعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) .(٣)

وفي آية أُخرى يعتبر القرآن، النبي الأكرم مبيّناً له، لا مقتصراً على القراءة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة: ١٨ / ١٨، كتاب القضاء.

(٢) النحل: ٨٩.

(٣) القيامة: ١٨ ـ ١٩.

٦١٢

كما يقول :

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

إنّ للنبي ـ بحكم هذه الآية والآيات الأُخر ـ وظيفتين :

الأُولى: تلاوة القرآن وقراءته على الناس حسبما نزل به الروح الأمين على قلبه، قال سبحانه:( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَىٰ النَّاسِ عَلَىٰ مُكْث ) (٢) ، وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٣) .

الثانية: بيان أهدافه ومقاصده، ويشير إليه قوله تعالى:( لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) ، ولا منافاة بين أن يكون بيان القرآن على عاتق الوحي، كما يفيده قوله:( ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) وبين أن يكون بيانه من وظيفة النبي، لأنّ ما يبينّه الرسول مستند إلى الوحي والتعليم الإلهي.

كما أنّه لا منافاة بين أن يكون النبي مبيّناً لمقاصد القرآن، وأن تكون طائفة من الآيات معلومة عند أهل اللسان، مع قطع النظر عن بيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف لا، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، قال سبحانه:( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (٤) ، وقال سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٥) ، وقال سبحانه:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ) (٦) .

نعم لا منافاة بينهما لأنّ القرآن مشتمل بالضرورة على المجملات في كثير من

__________________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) الإسراء: ١٠٦.

(٣) القيامة: ١٦ ـ ١٩.

(٤) النحل: ١٠٣.

(٥) الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٦) القمر: ١٧.

٦١٣

آيات الأحكام، فما هو المبين راجع إلى غير هذه المجملات كالصلاة والصوم وغيرهما ممّا بيّنها الرسول بأعماله وأقواله، وقال: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي ـ مثلاً ـ كما أنّه لا منافاة بين أن يكون بعد من أبعاد آية واحدة واضحاً جليّاً في حين يكون البعد الآخر منه خفيّاً محتاجاً إلى بيان الرسول وخلفائه ـ صلوات الله عليهم ـ.

وبذلك يظهر أنّه لا منافاة بين هذه الطوائف من الآيات التي نقلنا نماذج منها.

إذا وقفت على ذلك تعرف أنّ ما ورد عن النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة ملزمة واجبة الاتّباع بحكم كونه مبيّناً للقرآن، لأنّه يرجع إلى بيان الأحكام التي وردت أُصولها وكليّاتها في القرآن كالآيات المرتبطة بالعبادات والمعاملات والسياسات.

يبقى أن نعرف أنّ أقوال الأئمّة المعصومين مأخوذة ـ بحكم حديث الثقلين(١) وحديث سفينة نوح(٢) ـ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنتهية إليه.

وبملاحظة هذه الأُمور كلّها يتضح موضع القرآن وأقوال الرسول وأهل بيته المعصومين، ويتجلّى لنا موقعهم في النظام الإسلامي.

هذا مضافاً إلى أنّ ما يدل على حجية قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينحصر في ما ذكرنا، بل هناك آيات أُخرى تشهد بحجية قول النبي وفعله، كقوله تعالى :

( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣) .

( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٤) .

وغيرها من الآيات التي تدارسها المحققون في مبحث العصمة.

__________________

(١) حديث الثقلين هو: « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » وهو مشهور.

(٢) حديث السفينة هو: « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » وهو مشهور أيضاً.

(٣) النجم: ٣ و ٤.

(٤) الحشر: ٧.

٦١٤

الصنف الثالث

إنّ الآيات في هذا الصنف تدل ـ بجلاء تام ـ على أنّ الأنبياء عامة ورسول الإسلام خاصة بعثوا مع نظام إلهي.

وإليك فيما يلي الآيات المرتبطة بهذا الصنف :

( إِنَّ هٰذَا القُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (١) .

إنّ المقصود ب‍( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) هو شريعة الإسلام التي ذكرت في آية أُخرى بلفظة « الشريعة »، إذ قال الله سبحانه :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ) (٢) .

كما أنّ لفظة « أقوم » التي هي صيغة التفضيل من « القائم » كناية عن صحة أحكام القرآن واستقامتها قاطبة، بحيث تنطبق مع الطبيعة، وتكون معها على وفاق كامل.

إنّ أحكام الإسلام توفّر للإنسان السعادة والحياة الكريمة، وتسوقه إلى الكمال في حين لا يصدق مثل هذا بالنسبة إلى النظم البشرية.

فهي رغم كونها مفيدة للبشر من بعض النواحي، إلّا أنّها مضرة به وبحياته من جهات أُخرى هامة، وعديدة.

وتؤكد هذه الحقيقة آيات أُخرى مثل قوله تعالى :

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (٣) .

__________________

(١) الإسراء: ٩.

(٢) الجاثية: ١٨.

(٣) الأنعام: ١٦١.

٦١٥

في هذه الآية ذكر الإسلام أُصولاً وفروعاً بقوله :

١. ديناً قيماً.

٢. ملّة إبراهيم.

وفي آية أُخرى عبّر عن أحكام الإسلام بلفظة الشريعة، إذ يقول :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

في هذه الآية يتراءى للقارئ أمران :

١. أنّ النبي الأكرم أُرسل مع شريعة لتربية الناس وهدايتهم، وإيصالهم إلى ذرى الكمال.

وحيث إنّ الشريعة تعني الطريقة، فلابد للطريقة، من هدف يقصد، ومقصود يراد، وغاية تطلب، وما ذاك إلّا الكمال الإنساني المنشود، اللائق بالإنسان أكرم المخلوقات.

٢. أنّ اتّباع الأحكام غير الإلهية وغير المستمدة من الوحي الإلهي ـ مهما كانت الأدمغة التي صنعتها ـ ليس إلّا اتباع للهوى.

ومن ذلك يتضح لنا موضوع ( التوحيد في التقنين والتشريع ) فإنّ حق التقنين مختص بالله سبحانه ومسلوب من المجتمع البشري، وعلى ذلك فلو أشركنا في هذا الحق أحداً غير الله لعدلنا عن جادة التوحيد.

ثمّ إنّ الآية التالية تؤكد مضمون هذا الصنّف وتؤيده، إذ تقول :

( لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ

__________________

(١) الجاثية: ١٨.

٦١٦

إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدىً مُّسْتَقِيمٍ ) (١) .

والمنسك الوارد في الآية ليس إلّا الشريعة الإلهية التي أنزلها الله تعالى على كل أُمّة حسب احتياجاتها وظروفها، ثم كان يحدث فيها التغيير مع مرور الزمن وتقدّم الأُمم وتوسع نطاق حاجاتها وتكاملها، حتى أكملها الله وأتّمها في نهاية المطاف، وإن كان كل شريعة منها كاملة بالنسبة إلى الظروف والأُمم التي أُرسلت إليها.

ما هي معاني: الدين، الشريعة، الملّة ؟

حيث وردت في الآية ١٦١ من سورة الأنعام لفظة الدين والملّة ـ كما لاحظنا ـ يجدره بنا أن نوضح الفرق بين هاتين اللفظتين ولفظة الشريعة.

إنّ الدين حسب اصطلاح القرآن هو الطريقة الإلهية العامّة التي تشمل كل أبناء البشر في كل زمان ومكان ولا تقبل أيَّ تغيير وتحويل مع مرور الزمن وتطور الأجيال، ويجب على كل أبناء البشر اتباعها، وهي تعرض على البشرية في كل أدوار التاريخ بنحو واحد دونما تناقض وتباين.

ولأجل ذلك نجد القرآن لا يستعمل لفظة الدين بصيغة الجمع مطلقاً، فلا يقول: « الأديان » وإنّما يذكره بصيغة المفرد، كما يقول :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ ) (٢) .

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (٣) .

__________________

(١) الحج: ٦٧.

(٢) آل عمران: ١٩.

(٣) آل عمران: ٨٥.

٦١٧

في حين أنّ « الشريعة » تعني مجموعة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن ينالها التغيير مع مرور الزمن وتطور المجتمعات وتكامل الأُمم، ولذلك لا يضير استعمال هذه اللفظة في صورة الجمع فيقال « شرائع » وقد صرح القرآن بتعدّد الشريعة.

فهو رغم تصريحه بوحدة الدين ـ كما مر في الآية السابقة ـ يخبر عن وجود شريعة لكل أُمّة ويكشف بذلك عن تعدد الشريعة، إذ يقول :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) (١) .

وعلى هذا فإنّ البشرية دُعيت في الحقيقة إلى دين واحد وهو الإسلام الذي كان متحد الأُصول في كل الأدوار والأزمنة، وكانت الشرائع في كل زمن وظرف طريقاً للوصول إلى الدين الواحد ولم تكن الشرائع إلّا طرقاً للأُمم والأقوام، لكل قوم حسب مقتضيات عصره ومدى احتياجه.

وأمّا الملّة، فهي بمعنى السنن التي بها تتقوّم الحياة البشرية وتستقيم، تلك السنن التي أودع في مفهومها « الأخذ والاقتباس من الغير ».

ولذلك يضيف القرآن الكريم هذه العبارة ـ لدى استعمالها ـ إلى الرسول والأقوام، إذ يقول ـ مثلاً ـ:( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (٢) .

( إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللهِ ) (٣) .

وعلى هذا تكون الملّة والشريعة متحدتين معنى ومفاداً، مع فارق واحد، هو

__________________

(١) المائدة: ٤٨.

(٢) البقرة: ١٣٥.

(٣) يوسف: ٣٧.

٦١٨

أنّ الملّة تضاف إلى غير الله، فيقال « ملّة محمّد » و « ملّة إبراهيم »، ولا تضاف إلى الله تعالى فلا يقال ملّة الله.

الصنف الرابع

في هذا الصنف نجد الآيات تحذر من التحاكم إلى الطغاة والأخذ بقوانينهم، كما يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً *أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَىٰ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعْيداً ) .(١)

بل انّ القرآن يحذر المجتمع الإسلامي أساساً من أيِّ ركون إلى النظم الطاغوتية والابتعاد عن سنن الله وشرائعه، إذ يقول :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَىٰ لا انْفِصَامَ لهَا واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلىٰ النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَىٰ الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٢) .

( أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

__________________

(١) النساء: ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) البقرة: ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٦١٩

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَء أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَئِكَ لَعَنَهُمُ الله وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (١) .

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٢) .

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَىٰ اللهِ لَهُمُ البُشْرَىٰ ) (٣) .

أجل انّ القرآن ـ كما رأيت ـ يحذر من الركون إلى الطاغوت والميل إليه، فضلاً عن طاعته وتسليم المقدّرات إليه.

إنّ هذه الحقيقة تتجلّى من ملاحظة الآيتين الأُوليين، المذكورتين في مطلع هذا الصنف، فالآية الأُولى تأمر باتّباع الله ورسوله وأُولي الأمر في المجتمع الإسلامي، وأنّه إذا حدث حادث يجب ردّه إلى الله والرسول لا إلى غيرهم، ثم يندد بالذين يتحاكمون إلى الطاغوت رغم ادّعائهم الإيمان بالكتب السماوية.

ويا للأسف هل سلك مجتمعنا الإسلامي ـ في القرن الأخير ـ غير هذا الطريق اللوبي ؟ وهل اتبع غير الأنظمة البشرية، وحل مشكلاته ومنازعاته إلّا وفق القوانين الطاغوتية التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟

ويمكن أن يسأل: أنّ القوانين الإسلامية بين ثابت وأبدي لا يقبل التغيير مع تطوّر الظروف وبين متغير ومتطوّر، فما هو موقف السلطة التشريعية تجاه القسم الثاني ؟

أمّا الجواب: فنقول: إنّ التغيّر والتطوّر ليس في جوهر القانون وصلبه، وإنّما هو في شكله وصورته، والذي يجب صيانته وحفظه إنّما هو جوهره وصلبه، لا

__________________

(١) النساء: ٥١ ـ ٥٢.

(٢) النحل: ٣٦.

(٣) الزمر: ١٧.

٦٢٠