مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن2%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149752 / تحميل: 5728
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

١. حاجة المجتمع إلى القانون.

٢. شرائط المشرّع.

٣. لا تتوفر هذه الشروط إلّا في الله.

إنّ اتساع الحياة الاجتماعية للبشر على وجه الأرض من جانب، وغياب العيش الفردي في الكهوف والغابات والبراري شيئاً فشيئاً من جانب آخر، يكشف عن أنّ الإنسان ميّال بطبعه إلى النمط الاجتماعي من الحياة، ليتمكن بالتعاون مع أبناء نوعه من التفوّق على المشكلات والمصاعب.

ومن جهة أُخرى لما كان الإنسان أنانياً بطبعه مشدوداً إلى « حب الذات » وهو من الغرائز الأصيلة فيه، فهو يريد ـ بمقتضى هذه الغريزة ـ حصر كل ّشيء لنفسه، وإذا يخضع للقوانين والنظم فلأنّه يرى في خضوعه للنظام ضماناً لمصالحه الشخصيه، ولأجل هذاإذا وجد فرصة للتمرّد عليه ولم يجده مخالفاً لمصالحه يتمرّد عليه بحرص وولع.

ولذلك اتفق العقلاء على لزوم وجود ما ينظم العلاقات البشرية، حتى يتسنّى تكوين مجتمع إنساني صحيح يستطيع في ظله جميع البشر من استيفاء حقوقهم، ومعرفة واجباتهم وفي الحياة الاجتماعية ليقوموا بها دونما تجاوز أو عدوان، غير أنّه يجب علينا أن نعرف من هو الذي يقوم بهذا الواجب الأساسي.

فنقول: بما أنّ المقنّن يريد أن يقود المجتمع البشري نحو الكمال المنشود ،

٦٠١

ويعيّن في ضوء ذلك واجبات الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ويضمن حقوقهم، ويقيّض لهم سعادتهم المادية والمعنوية، يجب أن يتوفر فيه أمران أساسيان :

١. أن يعرف الإنسان بعامّة خصوصياته، ويكون واقفاً على أسرار الكائن البشري وعارفاً بأُموره الروحية والجسمية بنحو دقيق، كالطبيب الذي لا يمكن أن يقوم بواجبه إلّا بعد أن يتعرف على أحوال المريض وأوضاعه معرفة جيدة دقيقة ليتسنّى له معالجة المريض بنحو صحيح.

وبعبارة أُخرى: أنّ المقنّن يجب أن يكون ملمّاً جيداً بعلم النفس الإنسانية، وعلم الاجتماع محيطاً بهما، واقفاً على حقائقهما، لتوقف غرض التشريع على ذلك، وبالجملة يجب أن يكون واقفاً على الأحوال الفردية والاجتماعية.

٢. يجب أن يكون منزّهاً عن الهوى وعن أي نوع من حب الذات والنفعيّة، لأنّ حب الذات حجاب غليظ يحول دون رؤية المشرع للواقع، ويغطي على بصره وبصيرته.

لأنّ المرء مهما كان عادلاً ومنصفاً ربما يقع بصورة لا شعورية في شباك « الهوى » ويتأثر بغريزة « حب الذات » وينحرف تحت ضغط « النفعيّة » عن صراط العدل المستقيم.

ويجب أن نرى الآن فيمن يتوفر هذان الشرطان بنحو كامل ؟

لا ريب إذا كان يتعين على المقنن أن يكون ذا معرفة كاملة بالإنسان، فلا ريب أنّه لا يوجد هناك من يعرف حقيقة النفس الإنسانية واحتياجاتها بكاملها سوى الله خالق الإنسان.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة إذ قال :

٦٠٢

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (١) .

فالله الذي خلق جميع ذرات هذا العالم وركّب أجزاءه ولاءم بين مختلفاته، هو الذي يعلم ـ علماً تاماً ـ أسرار ما خلق، وهو الذي يعلم ما يصلح النفس الإنسانية وما يفسدها، أحسن من غيره.

وهو بعلمه المطلق وإحاطته الواسعة أدرى من غيره بعلاقات الأفراد، وأبعادها وآثارها، ويعرف العناصر الصالحة لإقامة مجتمع صالح سعيد، فهو أدرى من غيره بالقوانين التي تليق بالمجتمع الإنساني وتسعده، هذا بالنسبة إلى الشرط الأوّل.

* * *

وأمّا الشرط الثاني، أعني: تجرّد المشرّع عن أيّ نوع من أنواع الهوى والنفعية، فلابد من الاعتراف بأنّه لا أحد هناك يتصف بهذه الصفة غيره سبحانه، فهو الموجود الوحيد الذي لا نفع له في المجتمع الإنساني ليخشى عليه ويحرص على حفظه وصيانته عند سن القوانين.

فهو الذي تنزّه عن الغرائز، في حين يتصف جميع أبناء البشر بحب الذات ـ التي تعتبر من أخطر آفات التشريع الصحيح ـ فهم مشدودون إليها رغم سعيهم للتخلّص من مخالبها، ومتأثرون بها مهما حاولوا عدم الخضوع لسلطانها.

وقد أشار جان جاك روسو إلى هذه الحقيقة بقوله :

لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لابد من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية، ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها، عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا

__________________

(١) الملك: ١٤.

٦٠٣

يخضع لضغوطها، ولكنه يعرفها تمام المعرفة، عقل لا ترتبط سعادته بنا، ولكنه مستعد لأن يعيننا في سعادتنا(١) .

على هذا الأساس لا توجد في الإسلام أيّة سلطة تشريعية، لا فردية ولا جماعية، ولا يكون هناك مشرِّع إلّا الله وحده.

وأمّا المجتهدون والفقهاء فهم في الحقيقة ليسوا إلّا متخصصين في معرفة القانون، وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها، وبالتالي تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها في بعض المجالات.

فمن مراجعة الآيات القرآنية يثبت أنّ حق التشريع خاص بالله فقط، ولا يحق لأحد ـ في النظام التوحيدي ـ أن يفرض رأيه على الآخرين فرداً كان أو مجتمعاً، وأن يدعوا الناس إلى الخضوع لها والأخذ بها.

فالناس جميعاً ـ في النظام التوحيدي ـ متساوون كأسنان المشط، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« الناس كأسنان المشط »(٢) .

فلا فضل لأحد على أحد، ولا امتياز.

إنّ الإسلام كما لم يسمح لأحد بأن يختص بوضع القوانين دون سواه وحارب تلك الفكرة، كذلك حارب كل الطبقيات السائدة في الأنظمة الطاغوتية التي تضع بعض الطبقات فوق القوانين، فالجميع سواسية أمام القانون، كما عبّر عن ذلك الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

__________________

(١) العقد الاجتماعي.

(٢) حديث مشهور.

٦٠٤

« الناس أمام الحق سواء »(١) .

ففي الأنظمة الطاغوتية نجد الأُمراء والحكام والملوك وحواشيهم ومن يدور في فلكهم، يعفون أنفسهم من الضرائب والرسوم، وكأنّهم بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعونة ـ رغم امتلاكهم لأضخم الثروات ـ في حين يتحتم على أفراد الشعب حتى الضعفاء أن يتحملوا تلك الرسوم الثقيلة والضرائب الباهظة، لا على الحاجات المهمة فقط، بل حتى على الإبرة والخيط التي يستوردونها من الخارج ليكسوا عريهم، ويقوا أبدانهم برد الشتاء، وحر الصيف.

هذه هي خصائص النظم الطاغوتية، وهي تماماً على العكس من النظام الإسلامي التوحيدي الذي لا يقرّ أيَّ امتياز لأحد على آخر، أو لطبقة على أُخرى، ولا يعمل إلّا بميزان العدل والمساواة.

ومن الطبيعي أنّ هذه العدالة والمساواة في النظام الإسلامي ليستا ناشئتين إلّا من تنزّه المشرّع ( أي الله )عن الهوى والنفعية وحب الذات التي يخضع لها مشرّعو القوانين والنظم البشرية.

الآيات الدالّة على التوحيد في التقنين

إنّ الآيات التي تعتبر حق التقنين خاصّاً بالله تعالى، والتي لا تأذن لأحد بأن يتعرّض لهذا المقام، كائناً من كان، تقع على أصناف، إليك بيانها :

الصنف الأوّل

تدل الآيتان التاليتان على أنّه لا يحق لأحد غير الله أن يسن القوانين، معلّلة

__________________

(١) حديث مشهور.

٦٠٥

بأنّ مثل هذا الحق إنّما هو لمن يملك أزمّة الحياة البشرية برمّتها، الذي هو نوع من السلطة عليهم، وليس هو إلّا الله تعالى دون سواه، قال سبحانه :

( مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

لقد وردت جملة( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) في آيتين من سورة يوسف، إحداهما الآية السابقة، والأُخرى في قوله تعالى :

( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الحُكْمُ إلّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) (٢) .

غير أنّ المقصود من حصر الحاكمية بالله سبحانه في الآية الأُولى هو الحاكمية التشريعية، كما أنّ المراد من حصرها به في الآية الثانية هو الحاكمية التكوينية.

والدليل على ذلك هو مضامين الآيتين، فالآية الأُولى تهدف إلى أنّه لا يحق لأحد أن يأمر وينهى ويحرّم ويحل سوى الله سبحانه، ولأجل ذلك قال ـ بعد قوله ـ( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) :( أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) ، فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الحكم مختصاً به سبحانه والتشريع خاصّاً به، فماذا أمر الله في مورد العبادة ؟ فأجاب على الفور( أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) .

__________________

(١) يوسف: ٤٠.

(٢) يوسف: ٦٧.

٦٠٦

وأمّا الآية الثانية، فهي تهدف إلى أنّ يعقوب لا يملك لأبنائه أمراً ولا يضمن لهم في صفحة الوجود شيئاً، فأُمور الكون كلّها بيده، ولابد من التوكّل عليه رغم معرفة أسباب الظفر بالمطلوب، ولأجل ذلك بعد ما عرفهم أسباب الظفر بقوله:( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) عاد يذكّرهم بأنّه لا يضمن ـ مع ذلك ـ لهم شيئاً بقوله:( وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إن الحُكْمُ إلّا للهِ ) .

وأوضح دليل على كون المراد من الحكم هو الحكم التكويني أمره بإيكال الأُمور إليه في مجاري الحياة بقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ) .

وعلى الجملة فالآية الأُولى من الآيتين صريحة في اختصاص التشريع بالله سبحانه، لا يتردد في مضمونها من له إلمام بمعارف القرآن.

ويقرب من هذه الآية قوله سبحانه:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

فإنّ المفسّرين فسّروا الأمر هنا بالأمر التشريعي، قال الطبرسي: إنّما فصل بين الخلق والأمر، لأنّ فائدتهما مختلفة لأنّه يريد بالخلق أنّ له الاختراع، وبالأمر أنّ له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ويفعل بهم بما شاء(٢) .

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

(٢) مجمع البيان: ٤ / ٤٢٨ وهذه الآيات كما دلت على حصر التشريع بالله سبحانه كذلك تدلّ على حصر الحاكمية بالله سبحانه وسيوافيك بيان دلالة الآية على حصر الحاكمية بالله سبحانه ولفظ « الحكم » والأمر في الآيتين أعم من التشريع والحاكمية.

٦٠٧

ويمكن أن يقال إنّ المراد منه هو الأعم من الأمر التكويني والتشريعي بقرينة( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) فإنّ المراد من لفظة بأمره بقرينة التسخير هو الأمر التكويني، وعلى ذلك يمكن أن يراد من قوله:( لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الأعم من تدبير العالم بالأوامر التكوينية وتدبير المجتمع بالأوامر التشريعية.

الصنف الثاني

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤمِنْ قُلُوبهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤتوهُ فَاحْذَرُوا وَمن يرد الله فِتْنَته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَم يَرِد الله أَنْ يطهر قُلوبهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَة عَذابٌ عَظِيم ) .

( سَمّاعُونَ لِلكذب أَكّالُونَ للسُّحتِ فَإِنْ جاؤوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَو أَعْرِض عَنْهُمْ وَإِنْ تعرض عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطين ) .

( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوراةُ فِيها حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنين ) .

( إِنّا أَنْزَلْنا التَّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم ُبِها النبِيُّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذينَ هادُوا والرَّبّانيُّون والأَحبارُ بِما استُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوا النّاسَ وَاخْشَونِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

٦٠٨

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعينَ بِالعينِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذنَ بِالأُذنِ وَالسنَّ بالسنِّ وَالجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

( وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعَيسى ابن مَرْيَم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مَنَ التَّوراةِ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ فيهِ هدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ وَهُدىً وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقين ) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانْجِيل بِما أَنْزل الله فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (١) .

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ منَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُون *وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ الله حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

ولو تأمل القارئ الكريم في مضامين هذه الآيات لتبيّن له بوضوح أنّ الله تعالى منذ أن بعث الرسل والأنبياء لم يأذن لأحد في أن يشرّع لنفسه ولا لغيره قانوناً لقصور علم البشر، وض آلة معلوماته، ولذلك أنزل في كل عصر أفضل ما يناسبه

__________________

(١) المائدة: ٤١ ـ ٤٧.

(٢) المائدة: ٤٨ ـ ٥٠.

٦٠٩

من الأحكام والقوانين.

فقوله:( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) إشارة إلى أنّهم يخالفون ما قرر الله لهم من الأحكام.

وقوله:( أَكّالُونَ لِلْسُّحْتِ ) يُراد منه أنَّهم كانوا يحرمون حلال الله ويحلّون ما حرمه.

وأبلغ من كل ذلك قوله:( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ) .

وقوله:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون ) .

وقوله:( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها انَّ النَّفْسَ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل الله فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) .

وقوله:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِما أَنْزَل الله فِيهِ ) .

وقوله:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) .

فهذه المقاطع توضح لنا أنّ ممنوعية التقنين على البشر لم تكن في الإسلام فحسب، بل كانت في كل الشرائع السماوية والماضية، وإن حق التقنين حق منحصر بالله فقط، فهو من شأنه وفعله تعالى خاصة، ولم يفوّض هذا الحق إلى أحد أبداً، أليس هذا القرآن يصف كل من يستبدل النظام الإلهي بغيره، بالكفر تارة، وبالظلم أُخرى، وبالفسق ثالثة.

فهم كافرون، لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد والإنكار والجحود.

وهم ظالمون، لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص بالله إلى غيره.

٦١٠

وهم فاسقون، لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة الله.

ثم هل هناك عبارة أصرح في انحصار حق التقنين في الله وانتفائه عن غيره، من قوله تعالى :

أ.( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ) .

ب.( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) .

وهذا المنهاج والشرعة هو نظام الحياة لكل الأُمم، لكل أُمّة حسب استعدادها وحسب حاجتها.

وحيث لا يمكن للنظام الإلهي أن يكون ناقصاً وعاجزاً ليكمل عن طريق النظام البشري، لذلك ليست هناك حاجة مطلقاً إلى النظام البشري مع وجود النظام الإلهي والقانون الربّاني.

ج. ثم يعود القرآن مرة أُخرى يؤكد بقاطعية، أنّ أي اتباع لغير أحكام الله ما هو إلّا اتباع للهوى، والهوس إذ يقول :

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) .

د. وبالتالي يعتبر القرآن كلَّ حكم وتشريع لا ينبع عن الوحي ( حكماً جاهلياً ) فيقول بصراحة متناهية :

( أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) .

إجابة عن سؤال

يمكن أن يقال إنّ الرجوع إلى غير الحكم الإلهي إنّما لا يجوز إذا كان هناك حكم إلهي، أمّا إذا لم يكن هناك حكم لله في مورد من الموارد، فلم لا يجوز حينئذ

٦١١

لفرد أو لشورى أن يسن قانوناً، ويجعل حكماً لكيلا تقف حركة الأُمّة، ولا يتعرقل تقدمها ؟

إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا وجد مورد مثلما قاله، غير أنّ كون المنهاج إلهياً يوجب كونه في غاية الكمال والجامعية ولذلك لا مجال لتدخّل أيِّ أحد في أمر التشريع وبعبارة أُخرى: انّ القرآن يقسم القوانين الحاكمة على البشر على قسمين: إلهي وجاهلي، وبما أنّ كل ما كان من صنع الفكر البشري لم يكن إلهياً، فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة الهامة الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، إذ قال :

« الحكم حكمان: حكم الله، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم أهل الجاهلية »(١) .

* * *

إنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه مبيّناً لكل ما يحتاج إليه البشر في تنظيم حياته ومعيشته، إذ يقول :

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (٢) .

وفي آية أُخرى يجعل بيانه وتوضيح مقاصده على عاتق الوحي، قال سبحانه:( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبْعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) .(٣)

وفي آية أُخرى يعتبر القرآن، النبي الأكرم مبيّناً له، لا مقتصراً على القراءة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة: ١٨ / ١٨، كتاب القضاء.

(٢) النحل: ٨٩.

(٣) القيامة: ١٨ ـ ١٩.

٦١٢

كما يقول :

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

إنّ للنبي ـ بحكم هذه الآية والآيات الأُخر ـ وظيفتين :

الأُولى: تلاوة القرآن وقراءته على الناس حسبما نزل به الروح الأمين على قلبه، قال سبحانه:( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَىٰ النَّاسِ عَلَىٰ مُكْث ) (٢) ، وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٣) .

الثانية: بيان أهدافه ومقاصده، ويشير إليه قوله تعالى:( لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) ، ولا منافاة بين أن يكون بيان القرآن على عاتق الوحي، كما يفيده قوله:( ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) وبين أن يكون بيانه من وظيفة النبي، لأنّ ما يبينّه الرسول مستند إلى الوحي والتعليم الإلهي.

كما أنّه لا منافاة بين أن يكون النبي مبيّناً لمقاصد القرآن، وأن تكون طائفة من الآيات معلومة عند أهل اللسان، مع قطع النظر عن بيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف لا، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، قال سبحانه:( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (٤) ، وقال سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٥) ، وقال سبحانه:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ) (٦) .

نعم لا منافاة بينهما لأنّ القرآن مشتمل بالضرورة على المجملات في كثير من

__________________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) الإسراء: ١٠٦.

(٣) القيامة: ١٦ ـ ١٩.

(٤) النحل: ١٠٣.

(٥) الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٦) القمر: ١٧.

٦١٣

آيات الأحكام، فما هو المبين راجع إلى غير هذه المجملات كالصلاة والصوم وغيرهما ممّا بيّنها الرسول بأعماله وأقواله، وقال: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي ـ مثلاً ـ كما أنّه لا منافاة بين أن يكون بعد من أبعاد آية واحدة واضحاً جليّاً في حين يكون البعد الآخر منه خفيّاً محتاجاً إلى بيان الرسول وخلفائه ـ صلوات الله عليهم ـ.

وبذلك يظهر أنّه لا منافاة بين هذه الطوائف من الآيات التي نقلنا نماذج منها.

إذا وقفت على ذلك تعرف أنّ ما ورد عن النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة ملزمة واجبة الاتّباع بحكم كونه مبيّناً للقرآن، لأنّه يرجع إلى بيان الأحكام التي وردت أُصولها وكليّاتها في القرآن كالآيات المرتبطة بالعبادات والمعاملات والسياسات.

يبقى أن نعرف أنّ أقوال الأئمّة المعصومين مأخوذة ـ بحكم حديث الثقلين(١) وحديث سفينة نوح(٢) ـ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنتهية إليه.

وبملاحظة هذه الأُمور كلّها يتضح موضع القرآن وأقوال الرسول وأهل بيته المعصومين، ويتجلّى لنا موقعهم في النظام الإسلامي.

هذا مضافاً إلى أنّ ما يدل على حجية قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينحصر في ما ذكرنا، بل هناك آيات أُخرى تشهد بحجية قول النبي وفعله، كقوله تعالى :

( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣) .

( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٤) .

وغيرها من الآيات التي تدارسها المحققون في مبحث العصمة.

__________________

(١) حديث الثقلين هو: « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » وهو مشهور.

(٢) حديث السفينة هو: « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » وهو مشهور أيضاً.

(٣) النجم: ٣ و ٤.

(٤) الحشر: ٧.

٦١٤

الصنف الثالث

إنّ الآيات في هذا الصنف تدل ـ بجلاء تام ـ على أنّ الأنبياء عامة ورسول الإسلام خاصة بعثوا مع نظام إلهي.

وإليك فيما يلي الآيات المرتبطة بهذا الصنف :

( إِنَّ هٰذَا القُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (١) .

إنّ المقصود ب‍( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) هو شريعة الإسلام التي ذكرت في آية أُخرى بلفظة « الشريعة »، إذ قال الله سبحانه :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ) (٢) .

كما أنّ لفظة « أقوم » التي هي صيغة التفضيل من « القائم » كناية عن صحة أحكام القرآن واستقامتها قاطبة، بحيث تنطبق مع الطبيعة، وتكون معها على وفاق كامل.

إنّ أحكام الإسلام توفّر للإنسان السعادة والحياة الكريمة، وتسوقه إلى الكمال في حين لا يصدق مثل هذا بالنسبة إلى النظم البشرية.

فهي رغم كونها مفيدة للبشر من بعض النواحي، إلّا أنّها مضرة به وبحياته من جهات أُخرى هامة، وعديدة.

وتؤكد هذه الحقيقة آيات أُخرى مثل قوله تعالى :

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (٣) .

__________________

(١) الإسراء: ٩.

(٢) الجاثية: ١٨.

(٣) الأنعام: ١٦١.

٦١٥

في هذه الآية ذكر الإسلام أُصولاً وفروعاً بقوله :

١. ديناً قيماً.

٢. ملّة إبراهيم.

وفي آية أُخرى عبّر عن أحكام الإسلام بلفظة الشريعة، إذ يقول :

( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

في هذه الآية يتراءى للقارئ أمران :

١. أنّ النبي الأكرم أُرسل مع شريعة لتربية الناس وهدايتهم، وإيصالهم إلى ذرى الكمال.

وحيث إنّ الشريعة تعني الطريقة، فلابد للطريقة، من هدف يقصد، ومقصود يراد، وغاية تطلب، وما ذاك إلّا الكمال الإنساني المنشود، اللائق بالإنسان أكرم المخلوقات.

٢. أنّ اتّباع الأحكام غير الإلهية وغير المستمدة من الوحي الإلهي ـ مهما كانت الأدمغة التي صنعتها ـ ليس إلّا اتباع للهوى.

ومن ذلك يتضح لنا موضوع ( التوحيد في التقنين والتشريع ) فإنّ حق التقنين مختص بالله سبحانه ومسلوب من المجتمع البشري، وعلى ذلك فلو أشركنا في هذا الحق أحداً غير الله لعدلنا عن جادة التوحيد.

ثمّ إنّ الآية التالية تؤكد مضمون هذا الصنّف وتؤيده، إذ تقول :

( لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ

__________________

(١) الجاثية: ١٨.

٦١٦

إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدىً مُّسْتَقِيمٍ ) (١) .

والمنسك الوارد في الآية ليس إلّا الشريعة الإلهية التي أنزلها الله تعالى على كل أُمّة حسب احتياجاتها وظروفها، ثم كان يحدث فيها التغيير مع مرور الزمن وتقدّم الأُمم وتوسع نطاق حاجاتها وتكاملها، حتى أكملها الله وأتّمها في نهاية المطاف، وإن كان كل شريعة منها كاملة بالنسبة إلى الظروف والأُمم التي أُرسلت إليها.

ما هي معاني: الدين، الشريعة، الملّة ؟

حيث وردت في الآية ١٦١ من سورة الأنعام لفظة الدين والملّة ـ كما لاحظنا ـ يجدره بنا أن نوضح الفرق بين هاتين اللفظتين ولفظة الشريعة.

إنّ الدين حسب اصطلاح القرآن هو الطريقة الإلهية العامّة التي تشمل كل أبناء البشر في كل زمان ومكان ولا تقبل أيَّ تغيير وتحويل مع مرور الزمن وتطور الأجيال، ويجب على كل أبناء البشر اتباعها، وهي تعرض على البشرية في كل أدوار التاريخ بنحو واحد دونما تناقض وتباين.

ولأجل ذلك نجد القرآن لا يستعمل لفظة الدين بصيغة الجمع مطلقاً، فلا يقول: « الأديان » وإنّما يذكره بصيغة المفرد، كما يقول :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ ) (٢) .

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (٣) .

__________________

(١) الحج: ٦٧.

(٢) آل عمران: ١٩.

(٣) آل عمران: ٨٥.

٦١٧

في حين أنّ « الشريعة » تعني مجموعة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن ينالها التغيير مع مرور الزمن وتطور المجتمعات وتكامل الأُمم، ولذلك لا يضير استعمال هذه اللفظة في صورة الجمع فيقال « شرائع » وقد صرح القرآن بتعدّد الشريعة.

فهو رغم تصريحه بوحدة الدين ـ كما مر في الآية السابقة ـ يخبر عن وجود شريعة لكل أُمّة ويكشف بذلك عن تعدد الشريعة، إذ يقول :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) (١) .

وعلى هذا فإنّ البشرية دُعيت في الحقيقة إلى دين واحد وهو الإسلام الذي كان متحد الأُصول في كل الأدوار والأزمنة، وكانت الشرائع في كل زمن وظرف طريقاً للوصول إلى الدين الواحد ولم تكن الشرائع إلّا طرقاً للأُمم والأقوام، لكل قوم حسب مقتضيات عصره ومدى احتياجه.

وأمّا الملّة، فهي بمعنى السنن التي بها تتقوّم الحياة البشرية وتستقيم، تلك السنن التي أودع في مفهومها « الأخذ والاقتباس من الغير ».

ولذلك يضيف القرآن الكريم هذه العبارة ـ لدى استعمالها ـ إلى الرسول والأقوام، إذ يقول ـ مثلاً ـ:( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (٢) .

( إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللهِ ) (٣) .

وعلى هذا تكون الملّة والشريعة متحدتين معنى ومفاداً، مع فارق واحد، هو

__________________

(١) المائدة: ٤٨.

(٢) البقرة: ١٣٥.

(٣) يوسف: ٣٧.

٦١٨

أنّ الملّة تضاف إلى غير الله، فيقال « ملّة محمّد » و « ملّة إبراهيم »، ولا تضاف إلى الله تعالى فلا يقال ملّة الله.

الصنف الرابع

في هذا الصنف نجد الآيات تحذر من التحاكم إلى الطغاة والأخذ بقوانينهم، كما يقول :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً *أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَىٰ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعْيداً ) .(١)

بل انّ القرآن يحذر المجتمع الإسلامي أساساً من أيِّ ركون إلى النظم الطاغوتية والابتعاد عن سنن الله وشرائعه، إذ يقول :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَىٰ لا انْفِصَامَ لهَا واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلىٰ النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَىٰ الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٢) .

( أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

__________________

(١) النساء: ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) البقرة: ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٦١٩

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَء أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَئِكَ لَعَنَهُمُ الله وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (١) .

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٢) .

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَىٰ اللهِ لَهُمُ البُشْرَىٰ ) (٣) .

أجل انّ القرآن ـ كما رأيت ـ يحذر من الركون إلى الطاغوت والميل إليه، فضلاً عن طاعته وتسليم المقدّرات إليه.

إنّ هذه الحقيقة تتجلّى من ملاحظة الآيتين الأُوليين، المذكورتين في مطلع هذا الصنف، فالآية الأُولى تأمر باتّباع الله ورسوله وأُولي الأمر في المجتمع الإسلامي، وأنّه إذا حدث حادث يجب ردّه إلى الله والرسول لا إلى غيرهم، ثم يندد بالذين يتحاكمون إلى الطاغوت رغم ادّعائهم الإيمان بالكتب السماوية.

ويا للأسف هل سلك مجتمعنا الإسلامي ـ في القرن الأخير ـ غير هذا الطريق اللوبي ؟ وهل اتبع غير الأنظمة البشرية، وحل مشكلاته ومنازعاته إلّا وفق القوانين الطاغوتية التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟

ويمكن أن يسأل: أنّ القوانين الإسلامية بين ثابت وأبدي لا يقبل التغيير مع تطوّر الظروف وبين متغير ومتطوّر، فما هو موقف السلطة التشريعية تجاه القسم الثاني ؟

أمّا الجواب: فنقول: إنّ التغيّر والتطوّر ليس في جوهر القانون وصلبه، وإنّما هو في شكله وصورته، والذي يجب صيانته وحفظه إنّما هو جوهره وصلبه، لا

__________________

(١) النساء: ٥١ ـ ٥٢.

(٢) النحل: ٣٦.

(٣) الزمر: ١٧.

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672