مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149706 / تحميل: 5726
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١
٢

٣

٤

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن

كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء، والصّلاة والسّلام على عبده ورسوله الذي نُزّل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بُعداً من أبعاده، وحقيقةً من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية، وإليها يشير ابن عباس بقوله: إنّ القرآن يفسّره الزمان(١) .

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

__________________

(١) راجع النواة في حقل الحياة، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

٥

والحقّ يقال: انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامّة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية، بل وأتاح للمفسّرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامّة لم تكن معروفة من ذي قبل، وذلك بفضل تطور المناهج العلميّة المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً، وإلى ذلك يشير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جالٍ بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلّص من نشب، فانّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور »(١) .

كما أشار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية، وقال في معرض كلامه عن القرآن: « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحراً لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون »(٢) .

__________________

(١) الكافي: ٢ / ٥٩٩، كتاب فضل القرآن.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة رقم ١٩٨.

٦

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفيّاً على بلغاء العرب في صدر الرسالة، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

والله لقد سمعت من محمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو وما يعلى عليه(١) .

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة، وما هذا إلّا لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوّضهم الله سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام حين سأله السائل، وقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلّا غضاضة ؟ فقال الإمام: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة »(٢) .

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين، إحداهما: الكتاب، والأُخرى: العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ٣٨٧، طبع صيدا، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله: « وما يعلى ».

(٢) البرهان في تفسير القرآن، للسيد البحراني: ١ / ٢٨.

٧

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه، وردّ متشابهه إلى محكماته، وتمييز ناسخه عن منسوخه، وتفسير آيات أحكامه، وإيضاح قصصه وحكاياته، وأمثاله وأقسامه، واحتجاجاته ومناظراته، إضافة إلى بيان أسباب نزوله، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسّر آيات القرآن برمتها، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلّا بتفسير بعض السور، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد أنّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفرديّة والاجتماعيّة فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد، فيفسّرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد، كما

٨

يفسّرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص، وهكذا سائر الآيات، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام ٨٢٠ ه‍ )، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلّي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٦ )، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السّنة في تفسير آيات الأحكام كالجصّاص وغيره، فانّهم فسّروا آيات الأحكام حسب السور، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن »: يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربي مثلاً، بل طريقته في تفسيره: أنّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد، فمثلاً يقول: باب الطهارة، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها على حدّه، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة(١) .

ثمّ إنّ أوّل من توسّع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة، لكنّها جليلة في عالم التفسير، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد، لذا

__________________

(١) التفسير والمفسّرون: ٢ / ٤٦٥.

٩

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلاميّة، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماويّة.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح أنّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي والربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أيّة مسألة أُخرى من المسائل العقائديّة والمعارف العقليّة. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمّة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأيّ دين أنْ يتجلى في صورة « عقيدة سماويّة » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها، كما لا يمكن لذلك المنهج أنْ ينفذ إلى الأعماق والأفئدة بدونها.

ويجدر بالذكر أنّ عناية القرآن تركزت أساساً على إبلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (٢٠٠٠) آية، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (٢٨٨) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة، وما يمتُّ لهما بصلة.

١٠

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنيّة المبتكرة في موضوعها، وهي نعمة منَّ الله سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلّا أنْ أقدّم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه الله) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلّة القشيبة، وهو ( حفظه الله ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من الله سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

١٤ ذي الحجة الحرام من شهور عام ١٤٢٠ ه‍

١١
١٢

مراتب التوحيد

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

١. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ الله واحدٌ أحدٌ لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل إنّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

٢. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ الله تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة، إلّا أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم الله ـ مثلاً ـ هو « عين » ذاته، فذاته كلّها علم، في حين تكون ذاته كلها

١٣

« عين » القدرة، لا أنّ حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء، وحقيقة القدرة شيء آخر، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى، وكلتاهما « عين » الذات المقدّسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلوميّة » غير مفهوم « المخلوقيّة » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتّصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلّا « عين » الأُخرى، وهما « عين » ذاتنا، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آنٍ واحد.

٣. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك‍ :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

١٤

والتوحيد الأفعالي هو أنْ نعتقد بأنّ هذه « الآثار » المخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ الله الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمسَ وأعطاها خاصيّة الإشراق، وخلقَ النار وأعطاها خاصية الإحراق، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى: إنّ « التوحيد الافعالي » هو أنْ نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسببات، ما هو إلّا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته، وأنّ كل سبب وفاعل ـ بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما ـ قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلّا به.

ويندرج في ذلك « الإنسان »، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية، وعلّية بالنسبة لأفعاله، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً(١) إليه ذلك، بل هو بحول الله وقوّته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

__________________

(١) المراد من التفويض هو أنّ الله أعطاه الفاعليّة ثمّ هو يفعل ما يريد دون مشيئة الله وعلى نحو الاستقلال، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

١٥

إنّ « التوحيد الأفعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعيّة أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول: يعني مع الاعتراف بهذا، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلّا « الله » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة الله، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل، وأنّ هذه العلل ما هي إلّا وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها: وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول: إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات ـ في هذا الوجود ـ إلّا « الله »، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل »، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

١٦

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع، بل إنّ عادة الله هي التي جرت على أنْ يوجد الله النور بعد طلوع الشمس، والحرارة عند حضور النار، والقطع عند حضور السيف، وإنْ لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شكّ أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن(١) .

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلّا « الله »(٢) ولكن مع الاعتراف ـ إلى جانب ذلك ـ بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار »، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد، ونعني « الله » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى الله في أصل وجوده، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا ـ في الحقيقة ـ بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

__________________

(١) فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول:( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل: ١١ ) فإنّ قوله( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.

(٢) الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

١٧

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنويّة في الفاعلية والتأثير(١) .

٤. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده، وأنّه لا يستحق أحدٌ أنْ يُتّخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلّا لأحد سببين، لا يتوفران إلّا في « الله » جل جلاله :

١. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

__________________

(١) ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة.

فإنّ الفاعل عند هاتين الطائفتين ( الأشاعرة والمجبرة ) لا مشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنّها تستند إلى الله سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة ومشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً » !!

وأمّا الذي نقوله نحن فهو أنّ كل فاعل إنّما يعتمد ـ في فعله وأثره ـ على الله من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره. وأنّ للفاعل ـ مريداً كان أو غير مريد ـ دوراً في حدوث الأثر وبروزه وأنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلّا عن طريق هذا الفاعل.

وكم فرق بين أنْ ننسب أفعال الفاعل كلّها إلى الله مع نفي مشاركته فيها، وبين أنْ نعزي إمكانية التأثير إلى الله مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله.

وسوف يظهر لك الفرق بين المدرستين ـ بنحو أكثر تفصيلاً ـ في البحوث الآتية.

١٨

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى ـ مثلاً ـ بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

٢. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير الله ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلّا ل‍ ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا الله سبحانه لـِما وجودوا فيه من الجمال المطلق، والكمال اللامحدود، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدّسوه وخضعوا له وعظّموه.

أجلْ لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه، وأعطوه بلاءهم وولاءهم، حتى

١٩

أنّهم كانوا سيعبدونه ـ حتماً ـ حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « الله » لكونه خالقهم، ومصدر وجودهم وسابغ النعم عليهم، وواهب القدرة والطول لهم، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود(١) .

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة بالله وليس معه في ذلك شريك، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير الله أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إنْ شاء الله.

غير أنّنا مع تقديرنا لـِما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول: إنّ مراتب التوحيد ـ حسب نظر القرآن ـ لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن، من الصعب، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

__________________

(١) هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لمخالفته(١) النذر.

ولو فاته الجميع لغير عذر ، وجب عليه القضاء متتابعاً - وهو أصحّ وجهي الشافعية(٢) - لأنّه صرّح في نذره بالتتابع ، فيكون مقصوداً له بالذات.

والثاني للشافعية : أنّه لا يلزمه الاستئناف لو أفسد آخره ، ولا تتابع القضاء لو أهمل الجميع ؛ لأنّ التتابع واقع من ضروراته ، فلا أثر للفظه وتصريحه(٣) . وهو ممنوع.

وإن لم يقيّد بالتتابع ، لم يجب الاستئناف لو أفسد آخره ولا تتابع القضاء لو أهمله ، بل يجب القضاء مطلقاً ؛ لأنّ التتابع فيه كان من حقّ الوقت وضروراته ، لا أنّه وقع مقصوداً ، فأشبه التتابع في صوم رمضان.

مسألة ٢٠٢ : لو نذر اعتكاف شهر ، لزمه شهر بالأهلّة أو ثلاثون يوماً‌. وهل يلزمه التتابع؟ الأقرب : العدم ، بل له أن يفرّقه ثلاثة ثلاثة ، أو يوماً ويضيف إليه آخرَيْن مندوبين على الإِشكال السابق.

وقال الشافعي : لا يلزمه التتابع ؛ لأنّه معنى يصحّ فيه التفريق ، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية : يلزمه التتابع. وبه قال أبو حنيفة ومالك(٤) .

فإن اعتكف شهراً بين هلالين ، أجزأه وإن كان ناقصاً. وإن اعتكف ثلاثين يوماً من شهرين ، جاز.

ويدخل فيه الليالي ؛ لأنّ الشهر عبارة عنهما ، ولا يجزئه أقلّ من ذلك - وبه قال الشافعي(٥) - إلاّ أن يقول : أيّام شهر أو نهار هذا الشهر ؛ فلا يلزمه‌

____________________

(١) في « ط ، ن » لمخالفة.

(٢و٣) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٢ ، المجموع ٦ : ٤٩٣.

(٤) حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، المغني ٣ : ١٥٧ - ١٥٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٨ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٣٤ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١١.

(٥) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ =

٢٨١

الليالي.

ولو قال : ليالي هذا الشهر ؛ لم ينعقد عندنا ؛ لأنّ من شرط الاعتكاف الصوم ، والليل ليس محلاً للصوم.

وقال الشافعي : ينعقد ويلزم الاعتكاف ليلاً ، ولا يلزمه الأيّام(١) .

ولو نذر اعتكاف يوم ، قال الشافعي : لا يلزم ضمّ الليلة إلّا أن ينوي ، فحينئذٍ يلزم ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به اليوم بليلته(٢) .

وللشافعي قول آخر : إنّه تدخل الليلة إلّا أن ينوي يوماً بلا ليلة(٣) .

ولو نذر اعتكاف يومين ، وجب عليه ضمّ ثالث إليهما عندنا ، وعند العامّة لا يلزم.

فعلى قولهم هل تلزمه الليلة بينهما؟ للشافعية ثلاثة أوجه :

أحدها : لا تلزم إلّا إذا نواها ؛ لما سبق من أنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الفجر وغروب الشمس.

والثاني : تلزم إلّا أن يريد بياض النهار ؛ لأنّها ليلة تتخلّل نهار الاعتكاف ، فأشبه ما لو نذر اعتكاف العشر.

والثالث : إن نوى التتابع أو قيّد به لفظاً ، لزمت ليحصل التواصل ، وإلّا فلا(٤) .

ولو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلّل بينهما هذا الخلاف.

ولو نذر ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو ثلاثين يوماً ، ففي لزوم الليالي المتخلّلة ، الوجوه الثلاثة(٥) .

____________________

= ٤٩٣.

(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨.

(٢و٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٤ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦ - ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٤.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٧.

٢٨٢

وقال بعض الشافعية : إن نذر اليومين لا يستتبع شيئاً من الليالي ، والخلاف في الثلاثة فصاعداً ؛ لأنّ العرب إذا أطلقت اليومين عنت مجرّد النهار ، وإذا أطلقت الأيّام عنت بلياليها(١) .

مسألة ٢٠٣ : لا خلاف بين الشافعية في أنّ الليالي لا تلزم بعدد الأيّام‌ ، فإذا نذر يومين لم تلزم(٢) ليلتان بحال ، وبه قال مالك وأحمد(٣) .

وقال أبو حنيفة : تلزم(٤) ليلتان(٥) .

ولو نذر اعتكاف يوم ، لم يجز تفريقه ، ويلزمه أن يدخل معتكفة قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس.

وقال مالك : يدخل معتكفة قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم ، كما لو نذر اعتكاف شهر ؛ لأنّ الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعاً(٦) .

والوجه : ما قلناه من أنّ الليلة ليست من اليوم ، وهي من الشهر.

ولو نذر اعتكاف ليلة ، لزمه دخول معتكفة قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر عند العامة(٧) . وليس له تفريق الاعتكاف عند أحمد(٨) .

وقال الشافعي : له التفريق(٩) .

مسألة ٢٠٤ : لو نذر العشر الأخير من بعض الشهور ، دخل فيه الأيّام والليالي‌ ، وتكون الليالي هنا بعدد الأيّام ، كما في نذر الشهر ، وقد تقدّم.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ - ٥١٦.

(٢) في « ط ، ف ، ن » لم تلزمه.

(٣) المجموع ٦ : ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩.

(٤) في « ف ، ن » : تلزمه.

(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٢ - ١٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩.

(٦) المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٤ - ٣١٥.

(٧ - ٩ ) المغني ٣ : ١٥٩ - ١٦٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠.

٢٨٣

ويخرج عن العهدة إذا استهلّ الهلال ، كان الشهر كاملاً أو ناقصاً ؛ لأنّ الاسم يقع على ما بين العشرين إلى آخر الشهر.

ولو نذر أن يعتكف عشرة أيّام من آخر الشهر ودخل المسجد اليوم العشرين ، أو قُبَيْل الحادي والعشرين فنقص الشهر ، لزمه قضاء يوم ؛ لأنّه حدّد القصد إلى العشرة.

تذنيب : إذا نذر أن يعتكف يوم قدوم زيد فيه ، لم ينعقد‌ ؛ لأنّه إن قدم ليلاً ، لم يلزمه شي‌ء ، وإن قدم نهاراً ، لم ينعقد ؛ لمضيّ بعض اليوم غير صائم للاعتكاف.

ومَنْ لا شَرَط(١) الصوم أوجب عليه اعتكاف بقية النهار(٢) .

وللشافعي في قضاء ما مضى من النهار قولان :

أصحّهما عندهم : العدم ؛ لأنّ الوجوب ثبت من حين القدوم.

والثاني : الوجوب ؛ لأنّا نتبيّن بقدومه أنّ ذلك يوم القدوم ، فيجب أن يعتكف بقية اليوم ، ويقضي بقدر ما مضى من يوم آخر(٣) .

وقال بعضهم : يستأنف اعتكاف يوم ليكون اعتكافه موصولاً(٤) .

ولو كان الناذر وقت القدوم ممنوعاً من الاعتكاف بمرض أو حبس ، قضاه عند زوال العذر.

وقال بعضهم : لا شي‌ء عليه ؛ لعجزه وقت الوجوب ، كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه(٥) .

____________________

(١) أي : لم يشترط ، والدليل عليه قوله تعالى :( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى ) [ القيامة : ٣١ ]. والمغني : لم يصدّق ولم يصلّ.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ ، المجموع ٦ : ٥٤٠.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ - ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤٠ - ٥٤١.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤١ ، مختصر المزني : ٦١.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٨.

٢٨٤

المطلب الخامس :

في الرجوع من الاعتكاف ، وأحكام الخروج من المسجد‌

مسألة ٢٠٥ : قد بيّنّا أنّ الاعتكاف في أصله مندوب إليه غير واجب بدون النذر وشبهه‌ ، فإذا تبرّع به كان ندباً إجماعاً ، فإذا شرع في الاعتكاف ، فلعلمائنا في صيرورته واجباً حينئذٍ أقوال ثلاثة :

أحدها : قال الشيخ -رحمه‌الله - في بعض مصنّفاته : إنّه يصير واجباً بالنيّة والدخول فيه(١) - وبه قال أبو الصلاح(٢) من علمائنا ، وهو قول مالك وأبي حنيفة(٣) - لأنّ الأخبار دلّت على وجوب الكفّارة بإفساد الاعتكاف بجماع وغيره على الإِطلاق ، ولو لم ينقلب واجباً لم تجب الكفّارة ، وبالقياس على الحج والعمرة.

والأخبار محمولة على الاعتكاف الواجب. وأيضاً لا استبعاد في وجوب الكفّارة في هتك الاعتكاف المستحب. والفرق : احتياج الحجّ والعمرة إلى إنفاق مال كثير ففي إبطلاهما تضييع للمال وهو منهي عنه.

الثاني : أنّه إن اعتكف يومين وجب الثالث ، وإن اعتكف أقلّ لم يجب الإِكمال - وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية(٤) ومذهب ابن الجنيد(٥) وابن البرّاج(٦) - لقول الباقرعليه‌السلام : « إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٨٩.

(٢) الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٣) المدونّة الكبرى ١ : ٢٣٢ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٨٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣.

(٤) النهاية : ١٧١ ، وحكاه عنه في ظاهر النهاية أيضاً المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٥) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٦) المهذب لابن البراج ١ : ٢٠٤.

٢٨٥

يخرج ويفسخ اعتكافه ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام »(١) .

وفي طريقها علي بن فضّال ، وفيه ضعف.

الثالث : أنّ له إبطالَه مطلقاً ، وفسخه متى شاء ، سواء في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث ، اختاره السيد المرتضى(٢) رضي‌الله‌عنه ، وابن إدريس(٣) ، وبه قال الشافعي وأحمد(٤) ، وهو الأقوى ؛ لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، وبراءة الذمة.

مسألة ٢٠٦ : لا يجب الاعتكاف بمجرّد النيّة‌ - وهو قول عامّة أهل العلم - للأصل.

وقال مَنْ لا يُعتدّ به : إنّه يجب الاعتكاف بمجرّد العزم عليه ؛ لأنّ عائشة رَوَتْ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة فأذن لها فأمَرَتْ ببنائها(٥) فضُرب ، وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففعلَتْ فأمرَتْ ببنائها فضُرب ، فلمـّا رأت ذلك زينب بنت جحش أمَرَتْ ببنائها فضُرب.

قالت : وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا صلّى الصبح دخل معتكفة ، فلمـّا صلّى الصبح انصرف فبصر بالأبنية ، فقال : ( ما هذا؟ ) فقالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٩ - ٢٩٠ / ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢١.

(٢) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٣) السرائر : ٩٧.

(٤) المجموع ٦ : ٤٩٠ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣.

(٥) البناء واحد الأبنية ، وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء ، فمنها : الطراف والخباء والقبّة والمضرب. النهاية - لابن الأثير - ١ : ١٥٧ - ١٥٨.

٢٨٦

( ألبرّ أردتنّ؟ ما أنا بمعتكف ) فرجع ، فلمـّا أفطر اعتكف عشراً من شوّال(١) .

ولأنّها عبادة تتعلّق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها ، كالحجّ(٢) .

والرواية تدلّ على النقيض ؛ لأنّ تركه دليل على عدم الوجوب بالعزم.

والفرق بينه وبين الحجّ قد سبق.

مسألة ٢٠٧ : لو اعتكف ثلاثة أيّام ، كان بالخيار‌ إن شاء زاد عليها وإن شاء لم يزد ، وإن زاد يوماً جاز له عدم الزيادة على الأربعة.

فإن زاد على الثلاثة يومين ، قال الشيخ : يجب الإِكمال ستة(٣) ؛ فأوجب السادس - وبه قال ابن الجنيد(٤) وأبو الصلاح(٥) - لقول الباقرعليه‌السلام : « من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء ازداد أيّاماً اُخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يستكمل ثلاثة اُخر »(٦) .

وفي طريقها علي بن فضّال ، والأصل براءة الذمة.

مسألة ٢٠٨ : لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه حالة اعتكافه إلّا لضرورة‌ بإجماع العلماء كافة ؛ لما رواه العامة عن عائشة أنّها قالت : السنّة للمعتكف أن لا يخرج إلّا لما لا بدّ له منه(٧) .

وعنها : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان إذا اعتكف يُدني إليَّ‌

____________________

(١) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ ، وفي صحيح مسلم ٢ : ٨٣١ / ١١٧٣ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٥٦٣ / ١٧٧١ ، وسنن أبي داود ٢ : ٣٣١ - ٣٣٢ / ٢٤٦٤ نحوها.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ - ١٢٤.

(٣) النهاية : ١٧١ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠.

(٤) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٥) الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠.

(٧) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ - ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٠.

٢٨٧

رأسه فاُرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(١) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « لا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة »(٢) .

ولأنّ الاعتكاف هو اللبث ، فإذا خرج بطل الاسم.

والممنوع إنّما هو الخروج بجميع بدنه ، فلو أخرج يده أو رأسه ، لم يبطل اعتكافه ؛ لما تقدّم في رواية عائشة.

ولو أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما وهو قاعد مادٌّ لهما ، فكذلك ، وإن اعتمد عليهما فهو خارج.

والممنوع منه الخروج عن كلّ المسجد.

فلو صعد على المنارة ، فإن كانت في وسط المسجد أو بابها فيه أو في رحبته وهي تُعدّ من المسجد ، جاز سواء كان الصعود للأذان أو لغيره ، كما يصعد على سطح المسجد ودخول بيت منه.

وإن كان الباب خارج المسجد ، لم يجز ؛ لأنّها لا تُعدّ حينئذٍ من المسجد ، ولا يصح الاعتكاف فيها.

وهل للمؤذّن صعودها للأذان؟ الأقرب : المنع - وهو أحد وجهي الشافعية(٣) - لأنّه لا ضرورة إليه ، لإِمكان الأذان على سطح المسجد ، فصار كما لو صعدها لغير الأذان ، أو خرج لغير ضرورة ، أو خرج إلى الأمير ليُعْلمه الصلاة.

والثاني : الجواز ؛ لأنّها مبنيّة للمسجد معدودة من توابعه.

ولأنّه قد اعتاد صعودها للأذان وقد استأنس الناس بصوته ، فيعذر فيه.

____________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٨١.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠.

٢٨٨

ويجعل زمان الأذان مستثنى عن اعتكافه(١) .

مسألة ٢٠٩ : يجوز للمعتكف الخروج عن المسجد لقضاء الحاجة‌ بإجماع العلماء.

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفة للغائط والبول(٢) .

ولأنّ هذا ممّا لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه ، لم يصح لأحد أن يعتكف.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف ، ومن المعلوم أنّه كان يخرج لقضاء الحاجة.

ولما رواه العامة عن عائشة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(٣) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه داود بن سرحان ، قال : كنت بالمدينة في شهر رمضان ، فقلت للصادقعليه‌السلام : إنّي اُريد أن أعتكف فماذا أقول وماذا أفرض على نفسي؟ فقال : « لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك »(٤) .

وفي معناه الخروج للاغتسال من الاحتلام.

ولو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها ولا يجوز التجاوز ، إلّا أن يجد غضاضةً بأن يكون من أهل الاحتشام(٥) ، فيحصل له مشقّة بدخولها ، فيجوز له العدول إلى منزله وإن كان أبعد.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠.

(٢) المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٢.

(٣) تقدّمت الاشارة إلى مصادرها في الصفحة السابقة ، الهامش (١).

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ - ٢٨٨ / ٨٧٠.

(٥) أي : الاستحياء. الصحاح ٥ : ١٩٠٠.

٢٨٩

ولو بذل له صديق منزله - وهو قريب من المسجد - لقضاء الحاجة ، لم تلزمه الإِجابة ؛ لما فيه من المشقّة بالاحتشام ، بل يمضي إلى منزل نفسه ، سواء كان منزله قريباً أو بعيداً بُعْداً متفاحشاً أو غير متفاحش ، إلّا أن يخرج بالبُعْد عن مسمّى الاعتكاف.

ولو كان له منزلان أحدهما أقرب ، تعيّن عليه القصد إليه ، خلافاً لبعض الشافعيّة حيث سوّغ له المضيّ إلى الأبعد(١) .

ولو احتلم ، وجب عليه المبادرة بالخروج عن المسجد للغسل ؛ لأنّ الاستيطان حرام.

مسألة ٢١٠ : يجوز للمعتكف الخروج لشراء المأكول والمشروب‌ إذا لم يكن له مَنْ يأتيه به بالإِجماع ؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه ، والضرورة ثابتة فيه ، فجاز كغيره من الضروريات.

وهل يجوز الخروج للأكل خارج المسجد؟ إشكال ، أقربه ذلك إن كان فيه غضاضة ويكون من أهل الاحتشام ، وإلّا فلا.

وللشافعية وجهان : هذا أحدهما ؛ لأنّه قد يستحيي منه ويشقّ عليه.

والثاني : أنّه لا يجوز - وهو قول الشافعي في الاُمّ(٢) - لأنّ الأكل في المسجد ممكن(٣) .

ولو عطش ولم يجد الماء في المسجد ، فهو معذور في الخروج.

ولو وجده فالأقرب منعه من الخروج للشرب - وهو أصحّ وجهي الشافعية - لأنّ فعله في المسجد ممكن ، ولا يستحي منه ، ولا يُعدّ تركه من المروة ،

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢.

(٢) قال الشافعي في الاُم ٢ : ١٠٥ : وإن أكل المعتكف في بيته فلا شي‌ء عليه. وكذلك حكاه عنه النووي في المجموع ٦ : ٥٠٥.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢.

٢٩٠

بخلاف الأكل فيه(١) .

ولو فجأه القي‌ء خرج من المسجد ليتقيّأ خارجه صيانةً للمسجد وأهله عن الاستقذار.

وكلّ ما لا بدّ منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ، ولا يفسد اعتكافه ، وهو على اعتكافه ما لم يطل المكث ويخرج به عن اسم المعتكف.

مسألة ٢١١ : لو اعتكف في أحد المساجد الأربعة واُقيمت الجمعة في غيره‌ لضرورة ، أو اعتكف في غيرها عند مَنْ سوَّغه ، خرج لأدائها ، ولم يبطل اعتكافه عند علمائنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد(٢) - لأنّه خرج لأداء واجب عليه ، فلا يبطل به اعتكافه ، كما لو خرج لأداء الشهادة ، أو لإِنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق.

وقال الشافعي : يجب أن يخرج لصلاة الجمعة.

وفي بطلان اعتكافه قولان ، أحدهما : لا يبطل ، كما اخترناه. والثاني: أنّه يبطل - وبه قال مالك(٣) - لسهولة الاحتراز عن هذا الخروج بأن يعتكف في الجامع.

وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقلّ من أسبوع ، ابتدأ من أول الاُسبوع أين شاء من المساجد وفي الجامع متى شاء ، وإن كان أكثر من اُسبوع ، فيجب أن يبتدئ به في الجامع حتى لا يحتاج إلى الخروج للجمعة.

فإن كان قد عيّن غير الجامع وقلنا بالتعيين ، فلا يخرج عن نذره إلّا بأن‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣.

(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣.

(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣ ، المجموع ٦ : ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠.

٢٩١

يمرض فتسقط عنه الجمعة ، أو بأن يتركها عاصياً ويدوم على اعتكافه(١) .

وهذا يستلزم الجمع بين الضدّين في الحكمين.

واحتجّ على بطلان الاعتكاف : بأنّه أمكنه أداء فرضه بحيث لا يخرج منه ، فبطل بالخروج ، كالمكفّر إذا ابتدأ صوم شهرين متتابعين في شعبان أو ذي الحجّة.

وليس بجيّد ؛ لأنّه إذا نذر أيّاماً معيّنة فيها جمعة ، فكأنّه استثنى الجمعة بلفظه.

ويبطل ما ذكره بما لو نذرت المرأة اعتكاف أيّام متتابعة فيها عادة حيضها.

مسألة ٢١٢ : يجوز للمعتكف أن يخرج لعيادة المرضى وشهادة الجنائز‌ عند علمائنا أجمع ، سواء اشترط ذلك في اعتكافه أو لا - وبه قال عليعليه‌السلام ، وسعيد بن جبير والنخعي والحسن(٢) - لما رواه العامّة عن عليعليه‌السلام ، أنّه قال : « إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم »(٣) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « ولا يخرج في شي‌ء إلّا لجنازة أو يعود مريضاً ولا يجلس حتى يرجع »(٤) .

ولأنّه مؤكّد الاستحباب ، والاعتكاف للعبادة ، فلا يناسب منعها من مؤكّداتها.

وقال عطاء وعروة ومجاهد والزهري والشافعي ومالك وأصحاب الرأي :

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥١٣ - ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠.

(٢) المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ ، المجموع ٦ : ٥١٢.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة ٣ : ٨٧ - ٨٨ ، وأوردها ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٣٦ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٨.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٩ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧١.

٢٩٢

ليس له الخروج في ذلك - وعن أحمد روايتان(١) - لما روته عائشة ، قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(٢) .

وعنها : أنّها قالت : السنّة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازةً ولا يمسّ امرأةً ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلّا لما لا بدّ منه(٣) .

ولأنّه ليس بواجب ، فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب لأجله(٤) .

والحديث نقول بموجبه ، ولا دلالة فيه على موضع النزاع.

والحديث الثاني ليس مسنداً إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يكون حجّةً.

وكونه ليس بواجب لا يمنع الاعتكاف من فعله ، كقضاء الحاجة.

مسألة ٢١٣ : لو تعيّنت عليه صلاة الجنازة‌ وأمكنه فعلها في المسجد ، لم يجز له الخروج إليها ، فإن لم يمكنه ذلك ، فله الخروج إليها.

وإن تعيّن عليه دفن الميت أو تغسيله ، جاز له الخروج لأجله ، لأنّه واجب متعيّن ، فيقدّم على الاعتكاف ، كصلاة الجمعة.

والشافعي لمـّا منع من عيادة المريض وصلاة الجنازة قال : لو خرج لقضاء الحاجة فعاد في الطريق مريضاً ، فإن لم يقف ولا ازْوَرَّ(٥) عن الطريق ، بل اقتصر على السلام والسؤال ، فلا بأس ، وإن وقف وأطال ، بطل اعتكافه ، وإن لم يُطل فوجهان ، والأصحّ : أنّه لا بأس به.

____________________

(١) المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ - ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢١.

(٤) المدوّنة الكبرى ١ : ٢٣٥ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المجموع ٦ : ٥١٢ ، المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ - ١٤٩.

(٥) ازْوَرَّ : عدل وانحرف. لسان العرب ٤ : ٣٣٥.

٢٩٣

ولو ازْوَرَّ عن الطريق قليلاً فعاده ، فقد جعلوه على هذين الوجهين. والأصحّ عندهم : المنع ؛ لما فيه من إنشاء سير لغير قضاء حاجة.

وقد روي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان لا يسأل عن المريض إلّا مارّاً في اعتكافه ولا يعرّج عليه(١) (٢) .

ولو كان المريض في بيت الدار التي يدخلها لقضاء الحاجة ، فالعدول لعيادته قليل ، وإن كان في دار اُخرى فكثير.

ولو خرج لقضاء حاجة فعثر في الطريق على جنازة ، فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا يزْوَرّ عن الطريق.

وفيه وجه آخر : أنّه لا يجوز ؛ لأنّ في صلاة الجنازة يفتقر إلى الوقفة(٣) .

مسألة ٢١٤ : يجوز الخروج للمعتكف لإِقامة الشهادة عند الحاكم‌ ، سواء كان الاعتكاف واجباً أو ندباً ، وسواء كان متتابعاً أو غير متتابع ، تعيّن عليه التحمّل والأداء أو لم يتعيّن عليه أحدهما إذا دُعي إليها ؛ لأنّ إقامة الشهادة أمر واجب لا بدّ منه ، فصار ضرورة ، كقضاء الحاجة ، فلا يكون مبطلا ، وإذا دعي إليها مع عدم التعيين ، تجب الإِجابة ، فلا يمنع منه الاعتكاف.

وقال الشافعي : إن تعيّن عليه التحمّل والأداء ، خرج ، ولا يبطل اعتكافه المتتابع بخروجه ، ويستأنف إذا عاد ، وإن تعيّن عليه التحمّل دون الأداء ، فكما لو لم يتعيّنا عليه ، وإن كان بالعكس فقولان ؛ لأنّه خرج لغير حاجة ، فأبطل التتابع(٤) .

والمقدّمة الاُولى ممنوعة.

____________________

(١) لا يعرّج عليه ، أي : لم يُقم ولم يحتبس. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢٠٣.

(٢) أوردها الرافعي في فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، وفي سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ / ٢٤٧٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣٢١ بتفاوت في اللفظ.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، والمجموع ٦ : ٥١١ - ٥١٢.

(٤) المجموع ٦ : ٥١٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٨.

٢٩٤

مسألة ٢١٥ : يجوز للمعتكف أن يخرج في حاجة أخيه المؤمن‌ ؛ لأنّه طاعة فلا يمنع الاعتكاف منه.

ولما رواه الصدوق -رحمه‌الله - عن ميمون بن مهران ، قال : كنت جالساً عند الحسن بن عليعليهما‌السلام ، فأتاه رجل فقال له : يا ابن رسول الله إنّ فلاناً له عليَّ مال ويريد أن يحبسني ؛ فقال : « والله ما عندي مال فأقضي عنك » قال : فكلّمه فلبسعليه‌السلام نعله ، فقلت له : يا ابن رسول الله أنسيت اعتكافك؟ فقال : « لم أنس ولكني سمعت أبي يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : مَنْ سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عَبَدَ الله عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة صائماً نهاره قائماً ليله»(١) .

مسألة ٢١٦ : قال الشيخرحمه‌الله : يجوز أن يخرج ليؤذّن في منارة خارجة عن المسجد‌

وإن كان بينه وبين المسجد فضاء(٢) ، ولا يكون مبطلاً لاعتكافه ؛ لأنّ هذه المنارة بُنيت للمسجد وأذانه ، فصارت كالمتّصلة به.

ولأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك بأن يكون مؤذّن المسجد وقد عرف الجيران صوته ووثقوا بمعرفته بالأوقات ، فجاز ذلك.

وقال الشافعي : إن لم يكن بابها في المسجد ولا في رحبته المتّصلة به ، ففي بطلان اعتكاف المؤذّن الراتب بصعودها للأذان وجهان.

ولو خرج إليها غير المؤذّن الراتب للأذان ، فإن أبطلنا اعتكاف الراتب فإبطال هذا أولى ، وإلّا فقولان مبنيّان على أنّها مبنيّة للمسجد ، فتكون معدودةً من توابعه ، فلا يبطل اعتكافه ، أو أنّ الراتب قد اعتاد صعودها للأذان ، واستأنس الناس بصوته ، فيبطل هذا(٣) ؛ لفقد هذا المعنى فيه(٤) .

____________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢٣ - ١٢٤ / ٥٣٨.

(٢) الخلاف ٢ : ٢٣٥ ، المسألة ١٠٦ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤.

(٣) أي : اعتكاف المؤذّن غير الراتب.

(٤) المجموع ٦ : ٥٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٠ - ٥٣١.

٢٩٥

قال الشيخرحمه‌الله : لو خرج المؤذّن إلى دار الوالي وقال : حيَّ على الصلاة أيّها الأمير ، أو قال: الصلاة أيّها الأمير ، بطل اعتكافه(١) .

وهو حسن ؛ لأنّه خرج من معتكفة لغير ضرورة.

وللشافعي قول بالجواز ؛ لأنّ بلالاً جاء فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله(٢) .

ونمنع كون بلال قاله حال اعتكافه ، أو أنّه خرج من المسجد فجاز أن يكون وقف على بابه.

سلّمنا ، لكن فعله ليس حجّةً.

ويجوز للمعتكف الصعود على سطح المسجد ؛ لأنّه من جملته ، وبه قال الفقهاء الأربعة(٣) . وكذا يجوز أن يبيت فيه.

ولو كان إلى جنب المسجد رحبة وليست منه ، لم يجز الخروج إليها إلّا لضرورة ؛ لأنّها خارجة عن المسجد فكانت كغيرها ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية : الجواز ؛ لأنّها تابعة له ومعه ، فكانت بمنزلته(٤) .

والمقدّمتان ممنوعتان. ولا فرق بين أن يكون عليها حائط وباب أو لم يكن.

مسألة ٢١٧ : إذا خرج المعتكف لضرورة ، حرم عليه المشي تحت الظلال والوقوف فيه‌ - إلّا لضرورة - إلى أن يعود إلى المسجد. وكذا لا يقف تحت غير الظلال ؛ لأنّه مُنافٍ للاعتكاف الذي هو اللبث في المسجد خاصة ، ولأنّ في المشي تحت الظلال نوعَ ترفّه.

قال الصادقعليه‌السلام : « ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤.

(٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٣) المغني ٣ : ١٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٠.

(٤) المغني ٣ : ١٣٨ - ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٠.

٢٩٦

مجلسك »(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ثم لا يجلس حتى يرجع ولا يخرج في شي‌ء إلّا لجنازة أو يعود مريضاً ولا يجلس حتى يرجع »(٢) .

وبه قال الثوري(٣) .

وحكى عنه الطحاوي في كتاب الاختلاف أنّ المعتكف لا يدخل تحت سقف إلّا أن يكون ممرّه فيه ، فإن دخل فسد اعتكافه(٤) . وباقي العامّة يجيزون له الاستظلال بالسقف(٥) .

و [ السيد المرتضى ](٦) رحمه‌الله ، احتجّ عليهم : بإجماع الطائفة والاحتياط.

مسألة ٢١٨ : إذا خرج المعتكف لضرورة ، لم يجز له أن يصلّي إلّا في المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة خاصة‌ ، فإنّه يصلّي في أيّ بيوتها شاء ؛ لأنّها حرم ، فلها حرمة ليست لغيرها.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها شاء سواء عليه صلّى في المسجد أو في بيوتها » ثم قالعليه‌السلام بعد كلام. « ولا يصلّي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة »(٧) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ - ٢٨٨ / ٨٧٠.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٩ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧١.

(٣ - ٥ ) كما في الانتصار للسيد المرتضى : ٧٤.

(٦) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : الشيخ ، بدل السيد المرتضى. والظاهر كونه من سهو النسّاخ. وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لمنتهى المطلب [ ٢ : ٦٣٥ ] للمصنّف ، والانتصار [ : ٧٤ ] للسيد المرتضى ، مضافاً إلى عدم ورود أصل المسألة في الخلاف للشيخ الطوسي.

(٧) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦.

٢٩٧

شاء ، والمعتكف في غيرها لا يصلّي إلّا في المسجد الذي سمّاه »(١) .

ولو اعتكف في غير مكّة فخرج لضرورة فضاق وقت الصلاة عن عوده ، صلّى أين شاء ، ولا يبطل اعتكافه ؛ لأنّه صار ضرورياً ، فيكون معذوراً ، كالمضيّ إلى الجمعة.

مسألة ٢١٩ : أوقات الخروج للضرورة لا يجب تداركها‌ ، ولا يخرج المعتكف فيها عن اعتكافه إذا لم يَطُل الزمان ، بل يكون الاعتكاف مستمرّاً في أوقات الخروج لقضاء الحاجة وشبهها ، ولهذا لو جامع في هذا الوقت ، بطل اعتكافه. وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) .

والثاني : أنّه لا يستمرّ ، بل يكون زمان الخروج لقضاء الحاجة كالمستثنى لفظاً عن المدّة المنذورة؛ لأنّه لا بدّ منه ، فإن جعلناه كقضاء الحاجة ، لم يحتج إلى تجديد النيّة ، وإن جعلناه كالمستثنى ، فلأنّ اشتراط التتابع في الابتداء رابطة لجميع ما سوى تلك الأوقات(٣) .

وقال بعض الشافعية : إن طال الزمان ، ففي لزوم التجديد وجهان(٤) .

والحقّ : أنّ مع طول الزمان بحيث يخرج عن الاسم يبطل الاعتكاف.

وإذا خرج لقضاء الحاجة ، لم يكلّف الإِسراع ، بل يمشي على سجيّته المعهودة ؛ لأنّ عليه مشقّةً في إلزامه غير ذلك.

وإذا خرج لقضاء الحاجة ، لم يجز له أن يجامع في مروره بأن يكون في هودج ، أو فرض ذلك في وقفة يسيرة ، فإن فعل بطل الاعتكاف.

وللشافعية في إبطال الاعتكاف وجهان : أصحهما : البطلان.

أمّا على تقدير القول باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء‌

____________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٣ ، التهذيب ٤ : ٢٩٣ - ٢٩٤ / ٨٩٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٧.

(٢ و ٣ ) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٢ - ٥٠٣.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٣.

٢٩٨

الحاجة : فظاهر ؛ لأنّ الجماع يكون قد صادف الاعتكاف.

وأمّا على تقدير القول بعدم استمراره : فلأنّ الجماع عظيم الوقع ، فالاشتغال به أشدّ إعراضاً عن العبادة.

والثاني : أنّه لا يبطل ؛ لأنّه غير معتكف في تلك الحالة ولم يصرف إليه زماناً(١) .

وإذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى ، لم يلزمه نقل الوضوء إلى المسجد ، بل يقع ذلك تابعاً ، بخلاف ما إذا احتاج إلى الوضوء بمعنى غير قضاء الحاجة ، كما لو قام من النوم ، فإنّه لا يجوز له الخروج ليتوضّأ في أظهر وجهي الشافعية إذا أمكن الوضوء في المسجد(٢) .

وإذا منعنا من الأكل خارج المسجد أو مشى إلى منزله لقضاء الحاجة ، جاز له أن يأكل لقمة أو لقمتين ، وليس له أن يأكل جميع أكله ؛ لأنّ القليل لا اعتداد به.

مسألة ٢٢٠ : إذا حاضت المرأة أو نفست وهي معتكفة ، لزمها الخروج من المسجد‌ بلا خلاف ؛ لأنّ الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد ، فهو كالجنابة وآكد منه وقد قالعليه‌السلام : ( لا اُحلّ المسجد لحائض ولا جنب )(٣) .

وإذا خرجت لعذر الحيض ، مضت إلى بيتها. وبه قال الشافعي ومالك وربيعة والزهري وعمرو بن دينار(٤) .

أمّا خروجها من المسجد : فلما تقدّم من الإِجماع والحديث.

وأمّا رجوعها إلى منزلها : فلأنّه وجب عليها الخروج من المسجد وبطل‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ - ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥٠٤.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥٠٣.

(٣) سنن أبي داود ١ : ٦٠ / ٢٣٢.

(٤) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٠ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٨٥.

٢٩٩

اعتكافها.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إنّها ترجع إلى بيتها »(١) .

وقال أحمد : إن لم يكن في المسجد رحبة ، رجعت إلى منزلها ، وإن كان له رحبة خارجه يمكن أن تضرب فيها خباءها ، ضربت خباءها فيها مدّة حيضها(٢) .

وقال النخعي : تضرب فسطاطها في دارها ، فإذا طهرت ، قضت تلك الأيّام ، وإن دخلت بيتاً أو سقفاً استأنفت(٣) .

لأنّ عائشة قالت : كنّ المعتكفات إذا حضن أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإخراجهنّ من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن(٤) .

ولا حجّة فيه ؛ لجواز أن يكونعليه‌السلام أمر بذلك ليعرف الناس أنّ رحبة المسجد ليست منه ، أو لأنّ الاعتكاف قد كان واجباً عليهنّ وعلمعليه‌السلام من حالهنّ توهّم سقوطه بخروجهنّ من المسجد.

إذا عرفت هذا ، فإن كان اعتكافها ثلاثة أيّام لا غير ، فإذا حاضت في أثنائه بطل ، ولم يجز لها البناء على ما فعلته ؛ لأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام عندنا.

ثم إن كان واجباً ، وجب عليها بعد الطهر الاستئناف ، وإلّا فلا.

وإن كان أكثر ، فإن حاضت بعد الثلاثة ، جاز لها البناء على ما فعلته بعد الطهر ، لأنّه عذر كقضاء الحاجة.

ولا يُعدّ أيّام الحيض من الاعتكاف إجماعاً. ومَنْ لا يشترط الصوم من‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٩ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٣ / ٥٣٦.

(٢) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦.

(٣) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٠.

(٤) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٥٤ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٧.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672