مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150032 / تحميل: 5732
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

عامة البشر.

وحتى لو كان صدر الآية موجهاً إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ ذيلها ـ لا ريب ـ موجه إلى عامة البشر.

إنّ القرآن يريد بهذا الخطاب أن يلفت أنظارنا إلى حادث حدث قبل الخطاب لا حينه ولا بعده بدليل مجيء إذ في مطلع الآية.

ف‍ « إذ » تستعمل فيما إذا كان ظرف الحادثة هو الماضي، ومعناها « واذكر إذ » وقعت هذه الحادثة في الماضي(١) .

آراء العلماء حول الميثاق في عالم الذر

إنّ غاية ما يفيده ظاهر آية الميثاق المطروحة هنا على بساط البحث هو أنّ الله أخذ من بني آدم ميثاقاً وعهداً على الإقرار بربوبيته وأمّا كيفية هذا الميثاق فلم يرد ـ في الآية المذكورة ـ أي توضيح بشأنها ولأجل هذا اختلف المفسرون المسلمون حول حقيقة هذا الميثاق.

وفيما يلي عرض للآراء المطروحة حول هذا المطلب :

النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث

وتقول هذه النظرية ـ والتي لها سند حديثي ـ إنّ الله أحضر أبناء آدم عند خلقه، من صلبه على هيئة كائنات ذرية صغيرة الحجم جداً وأخذ منهم الميثاق

__________________

(١) تقدير « اذكر » في هذه المواضع لإراءة ماضوية الحادثة، وإن كان غير محتاج إليه حسب القواعد الأدبية فإنّ « إذ » ظرف مهمل غير مقيد بشيء.

٨١

قائلاً لهم: « ألست بربكم ؟ فقالوا: بلى »(١) ثم أعادهم إلى صلب آدمعليه‌السلام ، وقد كانت هذه الكائنات الدقيقة الحجم ذات شعور وعقل كافيين آنئذ، وقد سمعت ما قال الله لها وأجابت على سؤاله، وقد أخذ هذا الإقرار من بني آدم ليغلق عليهم باب الاعتذار والتعلّل يوم القيامة.

وهذه النظرية اتخذت باعتبار أنّ لفظة « ذرية » مشتقة من مادة « ذر » واختارها جمع من المفسرين.

انتقادات على هذه النظرية

١. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية، لأنّ ظاهر الآية ـ كما قلنا في النقطة الخامسة ـ يفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم ذرّيتهم، لا من آدم وحده.

ولأجل هذا قال سبحانه:( مِن بَنِي آدَمَ ) ولم يقل من آدم.

كما أنّ الضمائر جاءت في صيغة الجمع:( مِن ظُهُورِهِمْ ) ،( ذُرِّيَّتَهُمْ ) لا المفرد.

وعلى هذا الأساس لا تطابق هذه النظرية مفاد الآية في هذه الناحية.

٢. إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل وعيهم، فلماذا لا يتذكره أحد منّا ؟

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ ما هو منسي ومغفول عنه هو « وقت هذا

__________________

(١) راجع مجمع البيان: ٣ / ٤٩٧ طبع صيدا، وتفسير الفخر الرازي: ٤ / ٣٢٠ طبع مصر عام ١٣٠٨ ه‍.

٨٢

الميثاق والإقرار » وليس نفس الميثاق والإقرار والاعتراف، بدليل ما يجده كل إنسان في ذاته من ميل فطري إلى الإذعان بوجود الله وربوبيته، ولا شك أنّ هذا هو امتداد طبيعي لذلك الإقرار المأخوذ في عالم « الذر ».

لكن هذا الجواب ليس بوجيه جداً كما تصوّر أصحابه، لأنّه ليس من المعلوم أنّ ما نجده من « الميل الفطري » إلى الله في ذواتنا يرتبط حتماً بمثل ذلك الميثاق بل ربما يكون نتيجة « فطرية وجود الله وربوبيته » وبداهتهما.

وما يقال من أنّ الفاصل الزمني الطويل هو الذي كان سبباً لنسيان الميثاق المذكور ليس بصحيح كما يظهر.

لأنّ طول هذا الفاصل لا شك أقل ـ بكثير ـ من طول الفاصل الزمني بين الإنسان في الدنيا ويوم القيامة على حين نجد أنّ الإنسان لا ينسى ما شاهده من حوادث في الدنيا فهاهم أهل الجنة ـ مثلاً ـ يقولون لأهل النار :

( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ ) (١) .

ونظير ذلك قول بعض أهل الجنة :

( إنّي كَانَ لِي قَرينٌ [ أي في الدنيا ] *يقول ءَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ ) (٢) .

ومثله قول بعض أهل النار :

( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ [ أي في الدنيا ]مِنَ الأشْرَارِ ) (٣) .

__________________

(١) الأعراف: ٤٤.

(٢) الصافات: ٥١ ـ ٥٢.

(٣) ص: ٦٢.

٨٣

وغير ذلك من الآيات الدالة على تذكر أهل القيامة لما جرى لهم في العالم الدنيوي ممّا يدلّ على عدم نسيان الحوادث رغم طول الفاصلة الزمنية.

٣. انّ الهدف من أخذ الميثاق ـ أساساً ـ هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق، والعمل فرع للتذكّر، فإذا لم يتذكّر الشخص أي شيء من هذا الميثاق، فكيف ترى يصح الاحتجاج به عليه، وكيف يمكن دفعه إلى العمل وفقه ؟

على أنّنا بعد أن كتبنا هذا، وقفنا على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في ( أماليه ) وهو ينص على ما ذكرنا حيث أبطل هذا الرأي إذ قال :

« وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده، أنّ تأويل هذه الآية: أنّ الله استخرج من ظهر آدمعليه‌السلام جميع ذريته وهم في خلق الذر، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم.

وهذا التأويل ـ مع أنّ العقل يبطله ويحيله ـ مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأنّ الله تعالى قال:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) ولم يقل من آدم وقال:( مِن ظُهُورِهِمْ ) ولم يقل: من ظهره، وقال:( ذُرِّيَّتَهُمْ ) ولم يقل: ذريته.

ثمّ أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة أنّهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشأوا على دينهم وسنتهم ».

ثمّ يقول الشريف المرتضى :

« فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية ـ التي استخرجت من ظهور آدمعليه‌السلام فخوطبت وقررت ـ من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون، فإن كانت بالصفة الأُولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم

٨٤

وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به واستشهدوا عليه، لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وأن بعد العهد وطال الزمان وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير.

على أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، وذلك لأنّ الله تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلاّ يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثاً قبيحاً يتعالى الله عنه »(١) .

٤. انّ هذه النظرية تؤول إلى نوع من القول بالتناسخ الذي بطلانه من ضروريات الدين، لأنّه يعني ـ على أساس هذه النظرية ـ أنّ الإنسان أتى إلى هذه الدنيا قبل ذلك، ثم بعد العيش القصير ارتحل ثم عاد بصورة تدريجية إلى هذه الدنيا مرة ثانية وهو التناسخ الذي أبطله المحقّقون والعلماء المسلمون(٢) .

ويبقى ها هنا سؤال وهو: إذا كانت هذه النظرية تواجه تلك الإشكالات وتعاني من هذا القصور، فما هو مصير الأحاديث والروايات التي تسند هذه النظرية ؟! وسيوافيك حق المقال فيها.

__________________

(١) الأمالي: ١ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) هذه الانتقادات الأربعة نقلها صاحب مجمع البيان من المحققين الإسلاميين في: ٤ / ٤٩٧. وذكرت أيضاً في الميزان بالإضافة إلى انتقادات أُخرى، راجع لذلك: ٨ / ٣٢٥ ـ ٣٢٧، كما وذكرت هذه النظرية في تفسير الرازي مع اثني عشر إشكالاً فراجع: ٤ / ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٨٥

النظرية الثانية

يحمل بعض المفسّرين ( وعلى رأسهم: الرماني وأبو مسلم وفريق آخر ) هذه الآية على: التوحيد الفطري، ويفسرونها بهذا التفسير.

فهم يقولون: يحط الإنسان قدميه في هذه الدنيا، وهو ينطوي على سلسلة من الغرائز والاستعدادات، وسلسلة من الحاجات الطبيعية والفطرية إلى جانب سلسلة من المدركات العقلية.

فهو [ أي الإنسان ] عند نزوله من صلب أبيه إلى رحم أُمّه، وعند انعقاد نطفته لا يكون أكثر من ذرة، ولكن هذه الذرة تنطوي على استعدادات وقابليات جديرة بالاهتمام ومن جملة تلكم الاستعدادات هي قابليته لمعرفة الله التي تنمو وتتكامل مع تكامل هذه الذرة وجنباً إلى جنب مع تكامل سائر استعداداته الأُخرى حتى تنتقل في المآل من مرحلة « القوة » إلى مرحلة « الفعلية » والكمال.

وبعبارة أُخرى، فإنّ الإنسان يولد وقد أُودعت في كيانه « غريزة معرفة الله » والتوجه إلى ما وراء الطبيعة بشكل سر إلهي مزروع في أعماق البشر بحيث لو لم تنله يد خارجية لنمت غريزة « الميل إلى معرفة الله » في فؤاد الإنسان ولما انحرف عن جادة التوحيد مطلقاً إلى درجة أنّ علماء النفس اعتبروا « الشعور الديني » هذا أحد أبعاد الروح الإنسانية ووصفوه بمثل هذا البعد، إذ قال أحدهم في تعريف الإنسان بأنّه « حيوان ميتافيزيقي ».

وفي الحقيقة أنّ هذا الشعور الديني الغريزي رسم في ضمير الإنسان بقلم التكوين على غرار بقية الغرائز والأحاسيس الموجودة في الإنسان وهي [ أي غريزة الشعور الديني ] تنمو وتنضج مع نمو الإنسان وتكامله.

٨٦

وبعبارة ـ ثالثة ـ: فإنّ الله أخرج أبناء الإنسان من ظهور آبائهم إلى بطون أُمهاتهم وقد جعل تكوينهم بنحو خاص بحيث يعرفون ربهم دائماً، ويحسّون باحتياجهم إليه تعالى.

وعندما يحس الإنسان باحتياجه إلى الله، ويجد نفسه غارقاً في التوجه إليه سبحانه فساعتئذ يكون وكأنّه يقال له: ألست بربكم ؟ فيقول البشر: بلى أنت ربي(١) .

خلاصة القول: إنّ الإنسان خلق مؤمناً بالله بمقتضى الفطرة الإلهية السليمة الموهوبة له، وسيظل بمعونة العقل الهادي إلى الله يبحث عن الله ويطلبه ويسأل عنه، ويظل يواصل هذه المسيرة ما لم يعقه عائق ولم يمنعه مانع.

وعلى هذا فإنّ الميثاق المذكور في الآية لم يكن ميثاقاً تشريعياً وعلى نحو الخطاب والجواب اللفظيين، بل هو ميثاق تكويني فطري، وجوابه ـ كذلك ـ تكويني فطري.

على أنّ مثل هذا النوع من الحوار والاستيثاق شائع جداً في القرآن الكريم وكذا في محاوراتنا اليومية.

ففي المثال يقال: إنّ الله أعطانا البصر وأخذ منّا الميثاق بأن لا نسقط في البئر.

أو كما يقال: إنّ الله أعطانا العقل وأخذ منّا العهد بأن نميّز به الحق عن

__________________

(١) راجع لمعرفة هذه النظرية: الميزان: ٨ / ٣٣٣ طبع طهران، وتفسير الفخر الرازي: ٤ / ٣٢٢ ومجمع البيان: ٤ / ٤٩٨، طبع صيدا، وفي ظلال القرآن: ٩ / ٥٨ ـ ٥٩، وقد جعل الأخير وقت استقرار الخلية البشرية في رحم الأُمّ موعد ذلك الميثاق.

٨٧

الباطل.

ويقول القرآن الكريم حول السماوات والأرض :

( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (١) .

وهذا النوع من الكلام وتوجيه الخطاب إلى السماوات والأرض الفاقدة للشعور والإدراك والعقل ليس إلّا عن طريق التكوين فيكون معنى هذه الآية هو أنّ السماء والأرض خاضعتين ـ تكوينياً ـ لمشيئة الله وإرادته، وأنّهما تجريان وفق سننه التي شاءها لهما(٢) .

ونقل من بعض بلغاء العرب وخطبائهم مقال من هذا القبيل إذ قال :

« سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك، وأينع ثمارك، فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً »(٣) .

ولهذا الرأي شاهد قرآني وحديثي :

أمّا الشاهد القرآني فهو قوله سبحانه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ ) الذي يمكن أن يكون مبيناً لهذه الآية.

وغاية التفاوت ما بين الآيتين هي: أنّ آية( فِطْرَةَ اللهِ ) تقول بإجمال: أنّ الشعور الديني عجن بفطرة البشر وخلقته من دون أن تعين الآية زماناً، في حين أنّ الآية ـ المبحوثة هنا ـ تتحدث عن تحقّق هذا السر الإلهي في كيان الإنسان في بدء تكوينه وظهوره، أي أنّ الإنسان كان ينطوي فطرياً وتكوينياً على هذا السر الإلهي

__________________

(١) فصلت: ١١.

(٢) سيوافيك حق المقال في الآية في فصل سريان العلم في الموجودات.

(٣) مجمع البيان: ٤ / ٤٩٨ طبع صيدا.

٨٨

منذ أن كان موجوداً ذرياً صغيراً في رحم أُمّه وكأنّ أوّل خلية إنسانية تستقر في رحم الأُم تنطوي على هذه الوديعة الإلهية وهي « غريزة الميل والانجذاب إلى الله ».

وإذا أردنا أن نتحدث عن ذلك بلغة العلوم الطبيعية لزم أن نقول :

إنّ جينات الخلية لدى كل إنسان تحمل بين جوانحها هذه الخاصية الروحية، وإنّ هذه الخاصية تنمو وتتكامل مع تكامل الخلية ونموها.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تنطبق مع ما جاء في حديث معتبر السند من أنّ عبد الله بن سنان يقول سألت أبا عبد الله ـ الصادق ـعليه‌السلام ، عمّا هو المقصود من الفطرة ؟ فقال :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: ألست بربكم وفيه المؤمن والكافر »(١) .

وإنّ للشريف الرضي كلاماً لعله يشير إلى أنّه اختار هذه النظرية إذ قال :

« إنّه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيباً يدل على معرفته ويشهد بقدرته، ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات، والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته ـ على الوجه الذي أراده الله تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته ـ بمنزلة المقر المعترف وان لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَىٰ السَّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (٢) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهم جواب، ومثله

__________________

(١) تفسير البرهان: ٣ / ٤٧ في تفسير آية( فِطْرَة الله ) الحديث ٧.

(٢) فصلت: ١١.

٨٩

قوله تعالى:( شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) (١) ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم وإنّما لما ظهر منهم ظهوراً لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ومثل هذا قولهم :

« جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة بإحسانك »(٢) .

ثم إنّ سيدنا الحجة شرف الدين ممن ذهب إلى هذا المذهب إذ قالرحمه‌الله :

« واذكر يا محمّد للناس ما قد وثقوا الله عليه بلسان حالهم التكويني من الإيمان بالله والشهادة له بالربوبية وذلك( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ) أي حيث أخذ ربك جل سلطانه( مِن بَنِي آدَمَ ) أي( مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فأخرجها من أصلاب آبائهم نطفاً، فجعلها في قرار مكين من أرحام أُمهاتهم ثم جعل النطف علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأ كلاً منهم خلقاً سوياً قوياً في أحسن تقويم سميعاً بصيراً ناطقاً عاقلاً مفكّراً مدبّراً عالماً عاملاً كاملاً ذا حواس ومشاعر وأعضاء أدهشت الحكماء، وذا مواهب عظيمة وبصائر نيرة تميّز بين الصحيح والفاسد والحسن والقبيح وتفرق بين الحق والباطل فيدرك بها آلاء الله في ملكوته وآيات صنعه جل وعلا في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وبذلك وجب أن يكونوا على بيّنة قاطعة بربوبيته، مانعة عن الجحود بوحدانيته فكأنّه تبارك وتعالى إذ خلقهم على هذه الكيفية قررهم( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) فقال لهم:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وكأنّهم( قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا ) على أنفسنا لك بالربوبية نزولاً على ما قد حكمت به عقولنا وجزمت به بصائرنا حيث ظهر

__________________

(١) التوبة: ١٧.

(٢) الأمالي: ١ / ٣٠.

٩٠

لديها أمرك فلا إله إلّا أنت خلقتنا من تراب ثم أخرجتنا من الأصلاب فلك الحمد إقراراً بربوبيتك

ثم يقول: هذا كلّه من مرامي الآية الكريمة، وإنّما جاءت على سبيل التمثيل والتصوير تقريباً للأذهان إلى الإيمان وتفنّناً في البيان والبرهان، وذلك ممّا تعلوا به البلاغة فتبلغ حد الإعجاز ألا ترى كيف جعل الله نفسه في هذه الآية بمنزلة المشهد لهم، على أنفسهم وجعلهم بسبب مشاهدتهم تلك الآيات وظهورها في أنفسهم بمنزلة المعترف الشاهد وإن لم يكن هناك شهادة وإشهاد.

وباب التمثيل واسع في كلام العرب ولا سيما في الكتاب والسنّة »(١) .

إشكالات هذه النظرية

هذه النظرية وإن كانت أفضل من سابقتها، إلّا أنّها رغم ذلك لا تخلو من نقود وإشكالات نذكر طرفاً منها :

١. أنّ ظاهر الآية المبحوثة هنا حاك عن أنّ حادثة أخذ الميثاق قد تحقَّقت في الزمن السابق بدليل قوله:( وَإِذْ أَخَذَ ) .

ولفظة( إِذْ ) تستعمل في الماضي، وإذا ما اتفق أن استعملت في المستقبل كان ذلك تجوزاً ولعناية خاصة اقتضاها المقام مثل:( وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَىٰ ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) (٢) ، فإنّ من المسلّم أنّ الباري تعالى لم يقل هذا الكلام لعيسى بن مريم في الماضي، وإنّما سيقوله له في المستقبل [ أي في يوم القيامة ] ويسوغ استعمال « إذ » و « قال » في المستقبل كون

__________________

(١) فلسفة الميثاق والولاية: ٣ ـ ٥.

(٢) المائدة: ١١٦.

٩١

هذا المستقبل محقّق الوقوع فيكون كالماضي.

وعلى كل حال فإنّ ظرف توجه هذا الخطاب القرآني إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى المسلمين أو إلى عامة البشر هو ظرف نزول القرآن، ولكن ظرف وقوع أخذ الميثاق هو الماضي، ولذا جاءت الآية مبتدئة ب‍ « إذ » الذي هو بمعنى « واذكر إذ ».

فإذا كانت الآية ناظرة إلى خلقة الإنسان وتكوينه مع الاستعدادات القابلة لهدايته إلى الله ـ كما تقوله النظرية هذه ـ ففي هذه الصورة يكون ظرف هذا الحادث وظرف الخطاب واحداً، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث يفيد تعدّد ظرفي أخذ الميثاق، والخطاب.

٢. إذا كان هدف الآية هو بيان أنّ الإنسان خلق مع سلسلة من القابليات الفطرية والعقلية التي تهديه إلى الله، ففي هذه الصورة لماذا يقول الله :

( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) ؟

في حين كان المناسب أن يقول :

فعرف نفسه لهم.

ولماذا قالوا في آية أُخرى :

( بَلَىٰ شَهِدْنَا )

وكان الأحرى أن يقولوا :

بلى عرفناك ؟

٣. انّ تفسير قول الله تعالى( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) بالخطاب والجواب « التكوينيين » وان كان صحيحاً في حد ذاته إلّا أنّه خلاف الظاهر قطعاً إذ أنّ

٩٢

ظاهر الآية هو الخطاب والجواب « التشريعيين ».

ومعلوم أنّ الأخذ بما هو خلاف الظاهر لا يصح ما لم يدل عليه دليل، وما لم يصرفنا عن الأخذ بالظاهر صارف وجيه.

٤. هذه النظرية « أعني: أخذ الميثاق بمعنى خلق الإنسان مع قابليات فطرية وعقلية تهديه إلى الله » بيان ملخّص للتوحيد الفطري والاستدلالي.

ولو كان هذا هو هدف القرآن من هذه الآية، لتعيّن عليه أن يبيّن ذلك بعبارة أوضح.

النظرية الثالثة

وهي ما ذهب إليها وارتآها الأُستاذ الجليل العلاّمة الطباطبائي، مؤلّف تفسير الميزان، حيث فسر آية الميثاق هذه، بنحو نذكر توضيحه قبل نقل نص ما قاله حرفياً :

وإليك هذا التوضيح في نقاط :

١. انّ الزمان ظاهرة تدريجية الظهور، فأجزاء الزمان ـ بحكم كونه حادثاً ـ لا تجتمع في مكان واحد، وهذه الخاصية ونعني بها خاصية الظهور والحدوث التدريجي والتقطيع والتفرق لا تختص بالزمان فقط، بل تشمل كل حادث وتعم كل حادثة ظاهرة تستقر على بساط الزمن.

٢. لا شك أنّ حوادث العالم تنقسم بالنسبة إلينا إلى :

حوادث الماضي.

وحوادث الحاضر.

٩٣

وحوادث المستقبل.

ولكل حادث زمان ومكان خاصان، ولا يمكن للإنسان الذي يعيش ضمن نطاق الزمان أن يشهد كل الحوادث دفعة واحدة وفي نظرة واحدة، ولا يمكن أن تجتمع كلها لديه.

ولكن الناظر إلى الحوادث لو شاهدها من فوق نطاق الزمان والمكان، ونظر إلى كل أجزاء الزمان على أنّها ظاهرة واحدة فحينئذ ينتفي مفهوم الماضي والحاضر والمستقبل.

ولتقريب هذا الأمر إلى الذهن نشير إلى بعض الأمثلة التي تقرب هذه الحقيقة إلى الذهن فنقول :

٣. لنفترض شخصاً جالساً في غرفة وهو ينظر من روزنة صغيرة جداً إلى خارج تلك الغرفة وفي هذا الأثناء يمر من أمام تلكم الروزنة قطار إبل، فإنّ من المسلّم ـ في هذه الحالة أن لا يرى ذلك الشخص في كل لحظة إلّا بعيراً واحداً.

أمّا إذا صعد هذا الشخص على سطح تلك الغرفة فإنّه يتسنى له في هذه الحالة أن يرى كل الآبال في نظرة واحدة وفي لحظة واحدة، وليس جملاً واحداً في كل لحظة كما كان ينظر من خلال الروزنة داخل الغرفة.

إنّ مثل المحبوس في نطاق الزمن الناظر إلى الحوادث من خلال هذا المنفذ مثل الجالس في الغرفة ـ في المثال المذكور ـ لا يرى الأشياء إلّا تدريجاً.

أمّا إذا تسنّى للإنسان أن ينظر إلى الحوادث من فوق هذا النطاق، فإنّه يمكنه حينئذ أن يرى كل أجزاء الشيء وحالاته في مكان واحد ودفعة واحدة، لأنّه في مثل هذه الحالة سينظر إلى الشيء من خلال المنظار الواسع.

٩٤

٤. لنتصور نملة تسير فوق سجّاد ملوّن، فإنّ هذه النملة ستشاهد في كل لحظة لوناً واحداً لا أكثر، لمحدودية نظرها، وصغر أُفق رؤيتها.

أمّا الإنسان حيث إنّه يتمتع بنظر أوسع، فإنّه يرى كل ألوان ذلك السجّاد والبساط دفعة واحدة.

٥. لنتصوّر أنفسنا ونحن جلوس في مكان ما من ضفاف النيل ننظر إلى الماء ونراقب جريانه وتموّجاته، فإنّنا لن نرى في هذه الحالة إلّا جانباً محدوداً من جريان هذا النهر العظيم وجانباً من مائه وتموّجاته.

ولكنّنا عندما ننظر إلى النيل من طائرة محلّقة فوق ذلك النهر، فإنّنا سنرى جانباً أعظم وأكثر من مسيره ومسيله وتموّجاته وتعرّجاته.

من هذا البيان يتضح أنّ بُعد الحوادث وقُربها إنّما يصدق بالنسبة إلى من يعيش ضمن نطاق الزمان، فالزمان هو الذي يقرّبه من الحوادث أو يبعده عنها، ولكن الموجودات التي تعيش فوق الزمان والمكان، فلا يصدق في حقّها الفاصل الزماني أو المكاني.

٦. للإنسان ولغيره من أجزاء هذا العالم ممّا يعيش ضمن نطاق الزمان وجهان :

وجه بالنسبة إلى الله.

ووجه بالنسبة إلى الزمان.

فهي من جهة كونها مرتبطة بالله، وكون الله تعالى محيطاً بها لا يكون شيء من أجزائها بغائب عن بعضها، كما لا يكون الله بغائب عنها، ولا هي بغائبة عن ساحة الله ومتناول علمه بل كل كائنات العالم [ دون أن يكون فيها ماض

٩٥

ومستقبل ] حاضرة عنده سبحانه.

وكيف يمكن أن تكون تلك الأشياء على غير هذا النحو، في حين أنّ العالم بأسره من صنعه وفعله، ولا شيء من المصنوع بغائب عن صاحبه وصانعه.

وإلى ذلك يشير الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام في دعائه قائلاً :

« كيف يخفى عليك ـ يا إلهي ـ ما أنت خلقته ؟! وكيف لا تحصي ما أنت صنعته ؟! أو كيف يغيب عنك ما أنت تدبّره ؟! »(١) .

ولكن هذه الموجودات من حيث كونها تعيش في بطن الزمان، وتكون مزيجة به، لذلك تبدو في شكل حوادث متناثرة وأجزاء متفرّقة ومختلفة تتخلّلها فواصل زمنية وهنا تمنعها عوامل معينة من حضور الله عندها(٢) .

[ لا حضورها عند الله ] فيوجد بين الله وبين رؤيتها القلبية له حجاب حائل.

في هذا المحاسبة يعمد الأُستاذ الطباطبائي إلى تقسيم العالم إلى وجهين :

الباطن.

والظاهر.

فيكون الوجود الجمعي للعالم هو الباطن، والوجود الجزئي المتفرق هو الظاهر.

ويستفيد الأُستاذ الطباطبائي لإثبات هذين الوجهين من بعض الآيات، ويقول: إنّ جملة « كن فيكون » إشارة إلى هذين الجانبين :

الجمعي والتدريجي.

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء ٥٢.

(٢) أي أن تكون هي عالمة بالله.

٩٦

فيقول: إنّ لفظة « كن » إشارة إلى الوجود الدفعي الجمعي للعالم(١) خصوصاً إذا ضممنا هذا المقطع من الآية إلى الآية ٥٠ من سورة القمر، وهي :

( ومَا أمْرُنا إلّا واحدةٌ كَلَمْحٍ بالبَصَر ) .

بتقريب أنّ وحدة الأمر لا تعني إلّا أن تتواجد كل الحوادث في مكان واحد دفعة واحدة دون تفرّق أو تدرّج وذلك بعد توجّه الخطاب « كن » إليها.

وجملة « فيكون » الحاكية عن التدريجية والتواجد التدريجي إشارة إلى الجانب التدريجي والظهور المتفرق لهذا العالم.

من هذا البيان الذي قرّرناه بتوضيح وشرح منا نستنتج أنّ الآية المبحوثة [ أي آية أخذ الميثاق ]ناظرة إلى حالة الوجود والحضور الجمعي الدفعي عند حضرة ذي الجلال حضوراً لا تتصور فيه غيبة، وكأنّ كل أبناء آدم أخذوا وجمعوا من ظهور آبائهم، وحضروا عند الله، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يجد كل إنسان ربه، ووجدانه لله تعالى دليل واضح على وجود الله وربوبيته.

ولكن استقرار الإنسان ضمن نطاق الزمان وتطورات الحياة أشغله بحيث نسي نفسه وغفل عن علمه الحضوري بالله [ أي علمه بالله الناشئ من حضوره بين يديه سبحانه ].

وإليك فيما يلي نص ما قاله العلاّمة الطباطبائي في ميزانه :

« إنّ لكل شيء عند الله وجوداً وسيعاً غير مقدّر في خزائنه، وإنّما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلاً :

فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه

__________________

(١) الحاضر عند الله بمجموعه وكله وأسره.

٩٧

النشأة.

وأثبت بقوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء ) (١) ،( وَمَا أَمْرُنَا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ ) (٢) وما يشابههما من الآيات، أنّ هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من الله يفيضه على الشيء، ويلقيه إليه بكلمة « كن » إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان :

وجه إلى الدنيا، وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجياً ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ويظهر ناقصاً ثم لا يزال يتكامل حتى يفنى ويرجع إلى ربّه.

ووجه إلى الله سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أُمور غير تدريجية، وكل ما لها فهو لها في أوّل وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل.

وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشيء واحد وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح وسيجيء إن شاء الله استيفاء الكلام فيه.

ومقتضى هذه الآيات أنّ للعالم الإنساني على ماله من السعة وجوداً جمعياً عند الله سبحانه، وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم، وكيف يغيب فعل عن فاعله، أو ينقطع صنع عن صانعه ؟ وهذا هو الذي يسمّيه الله سبحانه

__________________

(١) يس: ٨٣.

(٢) القمر: ٥٠.

٩٨

بالملكوت ويقول:( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) (١) .

وأمّا هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني وهو الذي يفرّق بين الآحاد، ويشتت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان، وتطبيقها على مر الليالي والأيام، ويحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية، واللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه، وموقع تلك النشأة وهذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن ويكون في قوله تعالى:( أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

ويتبيّن بذلك أنّ هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أُخرى إنسانية هي هي بعينها غير أنّ الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربّهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال، بل لأنّهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه ويعترفون به وبكل حق من قبله. وأمّا قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلّا فعله تعالى القائم به.

وأنت إذا تدبّرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) وأجدت التدبّر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله.

فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرّق الله فيها بين أفراد هذا النوع وميّز

__________________

(١) الأنعام: ٧٥.

(٢) يس: ٨٢.

٩٩

بينهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا ».(١)

أسئلة حول هذه النظرية

هناك أسئلة تفرض نفسها حول هذه النظرية لابد من طرحها هنا، لأنّه ما لم يجب عليها بإجابات قاطعة لا يمكن الاعتماد على هذه النظرية.

وإليك فيما يأتي بعض هذه الأسئلة :

١. لا شك أنّ هذا العالم يتجلّى للشخص المحيط الناظر إليه من فوق الزمان والمكان على غير ما يتجلّى للمحاط الغارق في الزمان والمكان.

وبعبارة أُخرى: فإنّه يمكن أن ينظر إلى هذا العالم من منظارين :

أ. من منظار الناظر المحيط بالزمان والمكان.

وفي هذه الصورة لا وجود للتفرّق والتشتّت بل ما يراه هو الوجود الجمعي للأشياء، والظواهر.

ب. من منظار الناظر المحاط بالزمان والمكان.

وفي هذه الصورة لا يرى إلّا الوجود المتفرّق المتشتّت المتناثر التدريجي لجميع الظواهر والحوادث.

ولكن هذا الاختلاف في السعة والضيق في المرأى، هل هو عائد إلى السعة والضيق في الرائي، ونظرة الناظر بمعنى أنّ في الأُولى يكون لدى الرائي قدرة على النظر الواسع فيما يكون الرائي في الصورة الثانية فاقداً لهذه القدرة، أم أنّ هذا الاختلاف يرجع إلى نفس الظواهر والحوادث ؟

__________________

(١) راجع تفسير الميزان: ٨ / ٣٣٤ ـ ٣٣٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672