مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 627
المشاهدات: 182616
تحميل: 3538


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182616 / تحميل: 3538
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول الله ؟

إنّ الإمامة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والخلافة عنه تتصوّر بمعنيين :

الأوّل: أنّها إمرة إلهيّة واستمراراً لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهيّ، وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في الإمامة والخلافة، ويشترط فيه كلّ ما يشترط في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا ما استثني.

الثاني: أن تكون رئاسةً دينيّةً لتنظيم اُمور الاُمّة، من تدبير الجيوش وسدّ الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين وقيادتهم في حجّهم وغزوهم(١) . وهذا ما يعتقده اخواننا أهل السنّة في الخلافة، ولأجل ذلك لا يشترط فيها نبوغ في العلم زائداً على علم الرعيّة، بل هو والاُمّة في علم الشريعة سيّان، كما لا يشترط سائر الصفات سوى القدرة على التدبير.

فلو كانت الخلافة بالمعنى الثاني الذي اختاره إخواننا أهل السّنّة، فيكفي في لزوم نصب الإمام ما مرّ في البحث السابق.

وأمّا إذا قلنا بما اختاره الشيعة الإماميّة، فيجب أن يكون الإمام ذات صفات وملكات يملأُ بها كلّ الفراغات الحاصلة بوفاة النبيّ، والإمام بهذه الخصائص يحتاج إلى تربية إلهيّة كما في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعرف تلك الشخصيّة مع ما تتصف به من الصفات إلّا الله سبحانه، فيجب أن يعرّفها إلى الاُمّة وإلاّ جهلها الناسن ويلزم نقض الغرض.

ولأجل الاختلاف في معنى الإمامة، عقدنا هذا البحث وفصلناه عن البحث السابق.

__________________

(١) وقد أجمل الماورديّ مسؤوليّات الإمام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانيّة: ١٥ ـ ١٦.

١٠١

الطريق الثاني

٢

وفاة النبيّ والفراغات الهائلة

١. الفراغ في بيان الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة.

٢. الفراغ في تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده.

٣. الفراغ في مواصلة تكميل الاُمّة روحياً ونفسياً.

٤. الفراغ في مجال الردّ على الأسئلة والشبهات.

٥. الفراغ في صيانة الدين من محاولات التحريف.

دراسة الفراغات لماذا ؟

إنّ دراسة الفراغات الهائلة المذكورة والحاصلة بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والوقوف على كيفيّة سدّها بعده، تعيننا على معرفة لون الحكومة الإسلاميّة ـ بعده ـ.

وعلى القارئ، أن يتأمّل في هذه النقاط الحساسة، بتجرّد وموضوعية، حتّى يقف على ضالّته المنشودة.

لا شكّ أنّ وجود النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يملأُ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

فالرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تقتصر مسؤوليّاته وأعماله على تلقيّ الوحي الإلهيّ وتبليغ الرسالة الإلهيّة إلى الناس، بل كانت تتجاوز ذلك بكثير.

١٠٢

فقد كان النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم ب‍ :

١. بيان الأحكام الإسلاميّة من كليات وجزئيات.

٢. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده وبيان أهدافه، وكشف رموزه وأسراره.

٣. دفع اُمّته ـ بحسن قيادته ودرايته ـ في طريق الكمال والرّقيّ والتقدّم. وتربية المسلمين، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية، وإعداد المسلم القرآني الكامل.

٤. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام، ويوجّهونها ضد الدعوة الإسلاميّة.

٥. صون الدين الإسلاميّ والرسالة الإلهيّة من أيّة محاولة تحريفية ومن أي دس في التعاليم المقدّسة.

وقد كانت كلّ هذه الاُمور تعتمد بالإضافة إلى ( الوحي ) إلى قدرات نفسيّة عالية، وقابليات فكريّة هائلة، ومعنويّات خاصّة تؤهّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للقيام بكلّ تلك المهام الجسيمة، والاضطلاع بجميع تلك المسؤوليات الكبرى.

ولا ريب أنّ من كان يقوم بمثل هذه المسؤوليات، يعتبر فقده وغيابه من الساحة ملازماً لحدوث فراغ هائل في الحياة الاجتماعيّة، وثغرة كبرى في القيادة لا يسدّها إلّا من يقوم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في القدرة القياديّة، والإداريّة، ويتمتّع بكلّ تلك الكفاءات الذاتيّة، ويتحلّى بجميع تلك الصفات النفسية العليا، والمؤهّلات الفكريّة والعلميّة والسياسيّة، ما عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي.

ولمّا كانت هذه الكفاءات النفسيّة والمؤهّلات المعنويّة من الاُمور الباطنيّة الخفيّة التي لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلّا بتعريف من الله تعالى وتعيينه وتشخيصه.

كما أنّها لـمّا كانت لا تحصل للشخص بطريق عاديّ وبالتربية البشريّة المتعارفة بل لابدّ من اعداد إلهيّ خاص، وتربية إلهيّة خاصّة، ينطرح هذا السؤال :

١٠٣

هل كان يمكن للاُمّة أن تتعرفّ بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات الخفيّة بالطرق العاديّة ؟ أو كان يحتاج ذلك إلى تشخيص الله تعالى، وتعيينه وتنصيبه ؟.

ولو قلت: إنّ رحيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوجد فراغاً في الرسالة واستمرار الوحي فكيف يمكن سد هذا الفراغ ؟ أو هل يمكن ملؤه أيضاً ؟.

قلنا: إنّ خصيصة الخاتميّة التي أخبر عنها القرآن الكريم، واتّصفت بها النبوّة المحمّديّة، تخبر عن عدم حصول مثل هذا الفراغ، وعدم احتياج الاُمّة إلى تتابع الرسالات واستمرار الوحي، والاتصال السماويّ بالأرض، لأنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء بأكمل الشرائع وأتمّها، وأوفاها بحاجات البشريّة.

وبعبارة اخرى، إنّ الرسول الخاتم قد أتى بكلّ ما تحتاج إليه البشريّة من تشريعات للحاجات الفعليّة، ومن اُصول للتشريعات اللازمة للحاجات المستجدّة فلا توجد وفاة الرسول فراغاً في ذلك الجانب، وإنّما الفراغ هو في الجوانب القياديّة الخمس المذكورة، التي تحتاج إلى الكفاءات والمؤهّلات الذاتيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الوجوه التي تدلّ بصراحة كافية على أنّ الاُمّة الإسلاميّة لم يكن في مقدورها اختيار ومعرفة القائد المناسب الذي يخلّف الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقود الاُمّة بنفس المؤهّلات والكفاءات التي كان يتحلّى بها النبيّ الراحل ـ ما عدا الوحي ـ بل كان يجب تعريفه من جانب الله سبحانه، وتعيينه ونصبه لقيادة الاُمّة وسدّ ما حدث ـ بوفاة النبيّ القائد المعلّم ـ من فراغ بل فراغات

إنّ هذه الوجوه هي :

١. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة

لا شكّ أنّ الوحي الإلهيّ انقطع بوفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كما لا شكّ أنّ

١٠٤

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله التحق بربه وقد أدّى ما عليه من مهمّة التبليغ والدعوة خير أداء، وقام بتثقيف الاُمّة الإسلاميّة أفضل قيام، ولكن الاُمّة كانت تعاني ـ بعد وفاة النبيّ ـ من مشكلات كبيرة تشريعيّة بالنسبة للحوادث المستجدّة والوقائع الجديدة، فماذا كان السبب ؟ فهل كان هناك نقص في التشريع الإسلاميّ، أم كان هناك أمر آخر يتعلّق بالاُمّة نفسها ؟.

وبعبارة اخرى: إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا من جانب عن إكمال الشريعة وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الاُمّة إلّا وقد جاء به الكتاب والسنّة، وبيّنه وأتمّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد من المسلمين، خصوصاً بعد القول بخاتميّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وانسداد باب الوحي الإلهيّ.

ومن جانب آخر، نرى بأن الاُمّة الإسلاميّة فوجئت بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحوادث جمّة لم تجد لها حلولاً في الكتاب والسنّة، وقد اعترفت بذلك أتم اعتراف.

فكيف يمكن الجمع بين الأمرين والتوفيق بينهما ؟.

إنّ الذي تدلّ عليه الشواهد التأريخية، هو أنّ المسلمين لم يستطيعوا ـ رغم ما بذله الرسول الأكرم من جهود كبرى في فترة رسالته ـ أن يستوعبوا التربية العلميّة الكافية والتعبئة الفكريّة اللازمة التي تؤهّلهم لمواجهة جميع المفاجئات، وحلّ جميع المشكلات والمسائل المستجدّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لأنّ مثل هذه التربية الكافية، وهذه التعبئة الوافية بالحاجة والحاجات المستجدّة كانت تتطلّب فترة طويلة، وجوّاً من الطمأنينة، وتركيزاً شديداً.

ولكن هذه الظروف والشرائط المساعدة لم تتوفّر لا للمسلمين، ولا للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال مدّة الدعوة التي استغرقت ٢٣ عاماً.

وإليك فيما يأتي تفصيل العوامل التي حالت دون أن يستوعب المسلمون جميع أبعاد الشريعة، ويتلقّوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله التعبئة الفكرية الكافية والتعليم الواسع، رغم

١٠٥

ما بذلهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل تحقيق ذلك من جانبه :

(أ): لقد قضى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله الفترة المكّيّة من حياته الرسالية ـ التي استغرقت ١٣ عاماً كاملة ـ في دعوة المشركين في مكّة، وما حولها. تلك الدعوة الرفيقة الرحيمة المخلصة التي كانت تقابل بالعناد واللجاج منهم، وتواجه بالمضايقات وخلق الصعوبات.

وحتّى لو تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من إحراز بعض النجاح في مهمّته فإنّ عناد المشركين والوثنيين يجعل تلك النتائج قليلة وضئيلة واستمر هذا الحال في مكّة حتّى انتهى إلى محاولة اغتيال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والقضاء على حياته الشريفة ـ في فراشه ـ، وكانت الهجرة المباركة إلى يثرب ( المدينة ).

إنّ تركيز الدعوة في مكّة على الجوانب الاعتقادية لم يسمح بالتكلّم عن القوانين العباديّة والاجتماعيّة، والسياسيّة هذا مضافاً إلى أنّ التحدّث عن هذه الجوانب والمسائل التي تتعلّق بالنظام الاجتماعيّ في ذلك الجوّ الخانق، ومع تلك العقول البدائيّة، والنفوس غير المستعدّة، كان بعيداً عن مقتضى البلاغة، التي تقتضي أن يكون لكلّ مقام مقال ولكلّ مقال مقام.

لأجل ذلك نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكّة تدور ـ في الأغلب ـ حول قضايا التوحيد والمعاد وإبطال الشرك ومقارعة الوثنيّة وغيرها من القضايا الاعتقاديّة الكليّة، حتّى صار أكثر المفسّرين يعرف الآيات المكّية والمدنيّة ويميّز بينهما بهذا المعيار.

وأمّا في الفترة المدنيّة التي استقبل فيها أهل المدينة رسول الإسلام بحفاوة بالغة وشوق كبير، فقد تمكّن الرسول الأكرم ـ بعد أن وجد بعض الأجواء المناسبة للتربية والتعليم ـ أن يبيّن للاُمّة بعض أحكام الإسلام ويطبق قسماً منها، ويعرّف الناس بواجباتهم وحقوقهم، وما يجب أن يعرفوه من مسائل الحلال والحرام.

غير أنّ حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة لم تسلم ولم تخل هي أيضاً من مزاحمة

١٠٦

المشاكل الكثيرة، فقد أثار تمركز المسلمين في يثرب، وتعالي شوكتهم، وتعاظم أمر الرسالة الإسلاميّة حفيظة الكفّار والمشركين، وخوفهم وقلقهم من مستقبل الأمر، ودفعهم ذلك إلى التعرّض للرسول والمسلمين في المدينة اكثر من مرة.

وهذه الحملات والتحرشات وإن كانت تواجه موقفاً شجاعاً وقوياً من المسلمين بقيادة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت تعود في كل مرة بالويل والخيبة على أصحابها، كما تشهد بذلك وقائع بدر وأحد والأحزاب وغيرها، إلّا أنهّا كانت ـ ولا شكّ ـ تأخذ الكثير الكثير من أهتمام الرسول ووقته الذي كان يصرفه إلى تجهيز المسلمين وتهيئتهم لصد العدوان، ومواجهة الأعداء أو إبطال المؤامرات التي كانت تبيّت ضدّ الدولة الإسلاميّة الفتيّة، الحديثة التأسيس في المدينة المنوّرة.

هذا إلى جانب المشاكل الداخلية التي كان يثيرها المنافقون واليهود الذين كانوا ـ كما قلنا ـ بمثابة الطابور الخامس، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل، وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من الوقت الذي كان يمكن أن يصرف على تربية المسلمين وتعبئتهم الفكريّة واعدادهم العلميّ، وتعليمهم ما يعينهم على حلّ كلّ ما قد يطرأ على حياتهم ويستجدّ من مشكلات ومسائل وحوادث في المستقبل.

إنّ اشتراك النبيّ في (٢٧) غزوة، كان البعض منها يستغرق أكثر من شهر، والاشتغال ببعث وتسيير ما يقارب (٥٥) سرّية لقمع المؤمرات وإبطالها، وصدّ التحركات العدوانيّة.

وبالتالي، أنّ ماصرفه الرسول القائد في مواجهة المثلّث التآمري ( اليهود ـ المنافقون ـ المشركون ) اخذ من وقت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واهتمامه وجهده ما لو اتيح له أن يصرفه على تعبئة المسلمين علميّاً، وتربيتهم فكرياً، لأتى بثمار كبيرة وكثيرة.

على أنّ الوظائف المهمة التي كان يضطلع بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم بها بنفسه لم تقتصر على هذه الاُمور، بل كانت تقع على كاهله مهمّة: ( عقد الاتفاقيّات السياسيّة

١٠٧

والمواثيق العسكريّة الهامّة ) التي يزخر بها تأريخ الدعوة الإسلاميّة(١) .

مثل هذه الحياة الحافلة بالأحداث والوقائع، الزاخرة بالصعوبات والمتاعب، كانت تحمل المسلمين من جانب آخر على صرف جلّ اهتمامهم وأوقاتهم في مسألة الدفاع عن حياض الإسلام، وحياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا ما تيسّر لهم بعض الفرصة والفراغ، وانصرفوا إلى تعلّم الأحكام والقوانين الإسلاميّة، إذا بحوادث جديدة تستقطب اهتمامهم، وتسلب منهم فرصة الأخذ، والتعلّم الواسع من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وخاصّة إذا عرفنا أنّ أوضاع المسلمين وإمكاناتهم البشريّة وعددهم لم يبلغ حدّاً يسمح بأن تتفرّغ كل جماعة منهم لعمل خاصّ، جماعة للدفاع وجماعة للزراعة، وجماعة للتعلّم والتفقّه، ولكن كان الجميع جنوداً عند تعرّض البلاد لهجوم الأعداء، فإذا فرغوا من الحرب انصرفوا ـ بعض الوقت ـ إلى الزراعة أو التعلّم، أو التكسّب والتجارة.

(ب): لقد كان التشريع الإسلاميّ يشقّ طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعيّة في عهد الرسول الأكرم، وما كانت تثيره من أسئلة وتتطلّب من حلول هي التي كانت توجب نزول التشريع عن طريق الوحي الإلهيّ، وبهذه الصورة كان التشريع الإسلاميّ يتكامل، ويتخذ صيغته الكاملة.

وهذا هو شأن كلّ تشريع، فلا يمكن أن يكون القانون وليد لحظة واحدة من الزمان أو مقتضيات يوم واحد، بل يكون وقوع الحوادث والوقائع هو السبب في اتّساع دائرة القانون وتكامله.

ثمّ إنّ تكامل التشريع الإسلاميّ ليس بالمعنى المتبادر في التشريعات البشريّة المتكاملة تدريجياً.

فإنّ الباعث على التدرّج في التشريعات ( الوضعيّة ) هو عدم علم المشرّع بما سيحدث، وأمّا التشريع الإسلاميّ فالمشرع فيه هو الله سبحانه وهوعالم بمقتضيات الأحكام ومصالحها وملابساتها وما يوجب النسخ والتخصيص فيكون معنى التكامل

__________________

(١) راجع كتاب الوثائق السياسيّة للبروفسور محمّد حميد الله. ومكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي.

١٠٨

التشريعيّ في الإسلام، هو التكامل في البيان والتدريج في النزول، لأجل أنّ بيان الأحكام لا يصحّ إلّا بعد وجود مقتضيات وشروط في نفس المجتمع.

أضف إلى ذلك، أنّ التدريج في البيان والنزول إذا كان متّصلاً بالواقعة الخاصّة التي نزل في حقّها القرآن يكون أوقع في النفوس وأقرب إلى الحفظ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان: ٣٢ ) وقوله سبحانه:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الاسراء: ١٠٦ ).

هذا مضافاً إلى ناحية خاصّة بالمجتمع المدنيّ في عهد الرسول كانت تستوجب هذا التدرج، وهو كون ذلك المجتمع فاقداً لأيّ قانون اجتماعيّ وأخلاقيّ، فكان تعليمه جميع القوانين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دفعةً واحدةً، أو في فترة قصيرة، أمراً يكاد يكون مستحيلاً حتّى لو خلت حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من المشاكل والمتاعب التي مرّ ذكرها.

وقد كان ذلك عاملاً من عوامل عدم قدرة الاُمّة على استيعاب كلّ معالم الشريعة وأبعادها وتفاصيلها وتفريعاتها، وأخذها من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ اُموراً وأسباباً عديدةً اخرى كانت تقتضي التدرّج في نزول القرآن الكريم إلى جانب ما ذكرناه، ويمكن تلخيصها فيما يلي :

١. تثبيت فؤاد النبيّ

إنّ النبيّ إذ كان يتحمّل مسؤوليةً ضخمةً جداً وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقّات صعبة جدّاً، كان لابدّ له من إمداد غيبيّ مستمرّ غير منقطع ونجدة إلهيّة متّصلة، ولهذا كان نزول جبرائيل المتكرر موجباً لتسليته وتقويته الروحيّة وإلى هذا أشار القرآن إذ قال:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) ( الفرقان: ٣٢ ).

١٠٩

٢. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمّة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً، ليسهل تعليمه للناس وإلقاؤه إليهم.

كيف لا، والنبيّ طبيب يعالج النفوس، ويداوي الأرواح وذلك يقتضي التدرّج في العلاج كما يفعل المداوون.

٣. بيان الميزة التطبيقيّة للقرآن

إنّ القوانين التي تسنّ طبقاً للحاجات، وعند ظهور المشكلات، تكون أقرب إلى النتيجة المطلوبة منها فيما لو سنّت جملةً في وقت واحد.

ولهذا، كانت الآيات القرانية تتنزّل وفقاً للحاجات وتبعاً للحوادث التي كانت تقع شيئاً فشيئاً، فيأخذ بها المسلمون ويعالجون بها مشكلاتهم فيشاهدون النتائج العمليّة الطيّبة، فبسببها تزداد ثقتهم بالوحي ويزداد تعلقّهم به.

وبهذا كان القرآن يحقّق نجاحات كبيرةً في النفوذ إلى القلوب والأعماق لأنّه كان يقرن العلم بالعمل، ويلبّي الحاجات الفكريّة والحياتية وهي أفضل وسيلة للتأثير في القلوب.

٤. تعدّد الاحتجاجات

إنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية كانت تتنزّل على النبيّ في مقام الاحتجاج على طوائف اليهود والنصارى، الذين كانوا يتوافدون على النبيّ بين فينة وأخرى، فكان طبيعياً أن تنزل الآيات في أوقات متعدّدة وأزمنة متفاوتة.

٥. التدليل على صدق الرسالة

إنّ التدرّج في التنزيل كان أحد الأدلة الساطعة على صدق هذا الكتاب في

١١٠

انتسابه إلى الله، وكونه وحياً سماوياً وليس تأليفاً بشريّاً إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وأشهر وأعوام متفاوتة مع حفظ النمط الخاصّ بها، ورغم ما تعرّض له الرسول في حياته الرسالية من شدّة ورخاء، وعسر ويسر، وهدوء واضطراب، وسلم وحرب، كان خير دليل على أنّ هذا الكلام لم يكن إلّا وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم، وخالق عليّ عليم فكان ذلك أظهر لعظمة القرآن، وأقوى دليل على إعجازه.

* * *

(ج): إنّ اتساع رقعة الدولة الإسلاميّة، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم تكن فيه الدولة الإسلاميّة قد توسعت كما توسعت بعد وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.

فهل كان من الصحيح ـ والحال هذه ـ أنّ يبيّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس، حلولاً لمشاكل لم تحدث بعد، ويتحدث عن موضوعات لم يعرفوا شيئاً عن ماهيتها وتفاصيلها، ولم يشهدوا لها نظيراً في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّما كانت تحدث بصورة طبيعية فيما بعد ؟.

ألم يكن بيان تلك الأحكام والحلول لتلك الموضوعات المستقبلية المجهولة عملاً غير مفيد، بل أمراً صعباً للغاية، لأنّه لم يكن في وسع المسلمين أنّ يدركوا معناه وهم لم يعرفوها عن كثب ولم يعرفوا لها أي مثيل ونظير ؟.

وهكذا لم يتسنّ للمسلمين أنّ يتعرّفوا على كلّ شيء فيما يتعلق بالحوادث والموضوعات الواقعة في المستقبل، ولذلك كانوا يجهلون الكثير من الأحكام المتعلّقة بها، والحلول اللازمة لها.

هذه كانت أهم العوامل التي حالت دون أن يستطيع المسلمين استيعاب كافة التعاليم والأحكام الإسلاميّة من النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلم يكن ما وعوه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله وافياً بالحاجات المستجدة وهذا ما يلمسه كلّ من درس تأريخ الاُمّة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وستقف على نماذج من هذه الحاجات

١١١

التي لم يجد فيها المسلمون الأجوبة فيما لديهم من تشريع.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ القرآن الكريم يصرّح في غاية الوضوح بأنّ الله سبحانه أكمل دينه بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة: ٣ ).

كما يصرّح النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك في خطابه التأريخي عند عودته من حجة الوداع إذ يقول: « يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه »(١) .

وأكّدالإمام عليّعليه‌السلام على هذه الحقيقة أيضاً إذ قال: « أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول:( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وفيه تبيان لكلّ شيء(٢) .

فإذا كان الله قد أكمل دينه فلا نقصان، بل كمال وتمام، فلماذا كانت الاُمّة تعجز عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ؟.

ترى كيف اُكمل الدين في السنة العاشرة من الهجرة، وبيّن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من علوم ومعارف وأصول وفروع وحلول لمشاكلهم الفعليّة والحادثة فيما بعد ؟.

هل استودع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ذلك عند الاُمّة نفسها، وقد تقدم استحالة تحقق ذلك في تلكم الفترة القصيرة ومع تلك المشاكل الكثيرة، وعدم قدرة الناس على الاستيعاب والأخذ الكامل ؟.

__________________

(١) الكافي ٢: ٧٤ وتحف العقول: ٤٠ ( طبعة إيران ).

(٢) نهج البلاغة: الخطبة رقم (١٨).

١١٢

كيف لا ؛ وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الفروع والاُصول لا تتجاوز (٥٠٠) حديثاً.

قال السيد محمّد رشيد رضا في الوحي المحمّديّ: ( إنّ أحاديث الأحكام الاُصول خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر )(١) .

وقال أيضاً في موضع آخر: ( يقولون: إنّ مصدر القوانين الاُمّة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازيّ، والمنصوص قليل جداً )(٢) .

هذه هي كلّ الأحاديث المنقولة عن طرق أهل السنّة، وهي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غالباً، بينما نعلم أنّ ما حدث ووقع بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أكثر بكثير ممّا حدث في حياته الشريفة.

ثمّ لما كانت أكثر الأحاديث ردّاً على الأسئلة التي يطرحها الصحابة، وتدور حول ما كان يحدث لهم، لذلك لم يسألوا عمّا لم يحدث ولم يقع بعد.

وقد كان هذا عاملاً مهمّاً من عوامل قلّة الحديث النبويّ في الأحكام.

هذا مضافاً إلى، أنّ السبب الآخر لقلّة الحديث النبويّ، هو ضياع طائفة كبيرة منه، لعدم اعتناء الأوائل بتدوين السنّة وهو الأمر الذي استوجب وقوع الخلاف والاختلاف حتى في أبسط المسائل، وأكثرها ابتلاء، مثل الاختلاف في عدد التكبيرات في صلاة الموتى، وهو أمر كما نعلم ممّا يبتلى به المجتمع كثيراً، ولو كان هناك شيء مكتوب لما وقع الاختلاف والحيرة.

فإذا بطل هذا الشقّ ( أي استيعاب الاُمّة جميع ما يحتاجون إليه وتكميل الدين من هذا الطريق ) تعيّن الشقّ الآخر لتفسير تكميل الدين، وهو أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أودع كل ما تحتاج إليه الاُمّة من اُصول وفروع لدى فرد أو طائفة خاصّة من الاُمّة، لكي يرجع إليهم المسلمون بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم ،

__________________

(١) الوحي المحمّديّ ( الطبعة السادسة ): ٢١٢.

(٢) تفسير المنار لرشيد رضا ٥: ١٨٩.

١١٣

مشاكلهم في العقيدة والعمل، في اُمور الدين والدنيا.

أجل لابدّ أن يكون في الاُمّة من يرفع هذه الحاجة، أي يكون حاملاً لعلم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم يكن له نصيب في النبوّة، إيفاءً لغرض التشريع الإلهيّ ويكون له من الكفاءات والمؤهّلات ما تؤهّله للقيام بمثل هذه العبء الثقيل والأمر الخطير، ويسدّ بالتالي ما أحدثه رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيابه من فراغ بل فراغات هائلة وخطيرة.

على أنّ من يتحمّل هذه العلوم لا يمكن أن يتحمّلها عن طريق الأسباب العاديّة والتربية العرفيّة المتعارفة، وإلاّ لتيسّر للجميع أن يتحمّلوها ثمّ إنّ التعلّم والتربية على هذا النمط، أقصر من أن ينتج شخصيّةً متفوّقةً علميّةً كفوءةً للقيام مقام النبيّ في علمه وسياسته ودرايته وكياسته، وتدبيره وإدارته وجميع مؤهّلاته ( ما عدا النبوّة وتلقّي الوحي الإلهيّ السماوي ) ويفي بغرض التشريع ويسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

بل لابدّ أن يكون تعلّمه وأخذه لتلك المعارف والعلوم الجمّة من طرق غير متعارفة وتربية تفوق نوعاً وكيفاً ما تعارف من التربية والتعليم.

ثمّ إنّ التعرف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الاُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهّلات فلابدّ أن يكون التعريف من جانب الله المحيط بجمبع عباده، العارف بأسرارهم وسرائرهم، العالم بنفوسهم ونفسياتهم، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.

وبعبارة اُخرى: إنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله متعيّناً بتنصيص من الله سبحانه :

الأوّل: أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين ما لم يبيّنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لكافّة المسلمين وعامّتهم، لأسباب خاصّة وقفت عليها في هذا المقام وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو طائفة، إلّا بتربية إلهيّة خاصّة، وتعليم خارج عن نطاق التعليم المألوف، ولولا هذه العناية الخاصّة لما قدر القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على سدّ الفراغ الحاصل من وفاته.

١١٤

الثاني: أنّ التعرف على هذا الشخص لا يتحقق بالاختبار والتجربة، أو أنّه يصعب معرفته بهذا الطريق.

وعلى هذين الأمرين، يجب أن يكون القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذا تربية إلهيّة أوّلاً، ومعرّفاً من جانبه سبحانه ثانياً وهذا يعيّن لون الحكومة وشكلها بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ ما ذكرناه، عن عدم إحاطة الاُمّة ومعرفتها بكلّ معالم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها ومعارفها على النحو الذي يعينها على حلّ مشاكلها المستحدثة، لم يكن مجرّد ادّعاء خال من الدليل، فلنا أن نستدل على ذلك بوجهين :

الأوّل: اعتراف ثلّة من الصحابة بعدم وجود الحلول في الكتاب أو السنّة لبعض المسائل.

الثاني: ذكر بعض الموارد التي لم يردفيها نصٌّ اسلاميٌّ صريح، ممّا جعل المسلمين أن يأخذوا فيها بظنونهم، أو أن يأخذوا بمقاييس ومعايير لم يرد على صحّتها دليل.

وإليك أمثلة من الوجهين :

أوّلاً: اعتراف الصحابة بالقصور

أ ـ عن ميمون بن مهران قال: ( كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنّة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربّما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا. فإن أعياه أن يجد فيه سنّةً عن رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فأستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به )(١) .

إنّ هذا اعتراف صريح من الخليفة والصحابيّ، بأنّ الكتاب والسنّة النبويّة

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ( مادة جهد ).

١١٥

ـ عندهم ـ كانا غير وافيين بالحاجات الفقهيّة، ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

ب ـ عندما نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضياً للكوفة، قال له فيما قال: ( ان جاءك شيء من كتاب الله، فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فانظر سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم تكن في سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك لتقدّم فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر، ولا أرى التأخّر إلّا خيراً لك )(١) .

في حين نجد الإمام عليّاًعليه‌السلام لـمّا ولّى شريحاً القضاء يشترط عليه أن لا ينفّذ القضاء حتّى يعرضه عليه(٢) .

ج ـ عن عبد الله بن مسعود قال: ( أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإنّ الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فليقض فيه بما قضى به الصالحون، ولا يقل إنّي أخاف وإني أرى )(٣) .

وزاد مؤلف كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة » :

فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه ولم يقض به الصالحون، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي(٤) .

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ( مادة جهد ).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٦ كتاب القضاء ( أبواب صفات القاضي، الباب الثالث ).

(٣) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ـ ٢١٣ ( مادة جهد ).

(٤) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة: ١٧٧، على ما نقله مؤلّف: الإمامة في التشريع الإسلاميّ.

١١٦

د ـ كان ابن عباس إذا سئل عن أمر: فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه رأيه(١) .

إنّ هذه العبارات وما يشابهها من الاعترافات، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلاميّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهي تكشف ـ بوضوح ـ عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدةً لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقّوه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

* * *

ثانياً: بعض ما لا نص فيه من المسائل

إنّ الوجه الثاني الذي يدل على عدم استيعاب الاُمّة لكل أبعاد الشريعة وتفاصيلها، هو الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ، فعمد الصحابة إلى الأخذ بالرأي والقياس، التماساً للحلول والأحكام المناسبة.

ولذلك أضطرّ الصحابة منذ الأيام الاولى من وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بمختلف أشكاله إلّا تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبويّة ـ عندهم ـ للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع.

غير أنّ الاجتهاد في هذا العصر وما بعده، لم يكن مقصوراً على الاجتهاد المألوف بين الشيعة الإماميّة من ردّ الفروع إلى الاُصول، وتطبيق الكليات على المصاديق والجزئيات، بل كان يعبّر عن لون آخر أشبه بإبداء الرأي من عند الشخص بلا دليل وحجّة قاطعة فيما بينه وبين الله.

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٣ ( مادة جهد ).

١١٧

فقد أحدثوا مقاييس للرأي، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط لم يكن منها أثر في الشرع، وكان القياس أوّل هذه المقاييس، ومن هذه المعايير: المصالح المرسلة، وسدّ الذرائع والاستحسان، إلى غيرها من القوانين التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلاميّ ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها، وتشعّبت بهم مذاهبها، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الالتجاء إلى إعمال الرأي في مثل هذه المسائل، وللبحث حول هذه المعايير المصطنعة مقام ومجال آخر فيطلب منه.

وإليك فيما يلي بعض هذه الموارد، وهي غيض من فيض، وقليل من كثير :

(أ): فيمَنْ شرب خمراً

رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أنّ يقيم عليه الحدّ، فقال: إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، لأنّي نشأت بين قوم يستحلّونها، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن فتحيّر أبو بكر في حكمه فأرسل إلى أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقال :

« مرّ رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلى عليه آية التحريم، أو أخبره بذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن شهد بذلك رجلان فأقم عليه الحدّ، وإنّ لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه وخلّ سبيله ».

ففعل أبو بكر ذلك فلم يشهد أحد فاستتابه وخلاّ سبيله(١) .

(ب): ما الكَلاَلَة ؟!

سئل أبو بكر عن الكلالة في قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ). فقال: إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان والله

__________________

(١) الإرشاد للمفيد: ١٠٦، مناقب ابن شهر آشوب: ٤٨٩

١١٨

ورسوله بريئان منه، أراه ما خلا الولد والوالد، فلمّا استخلف عمر قال: إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر(١) .

وهكذا نرى من يتصدر مقام الزعامة والقيادة في المجتمع الإسلاميّ، يجهل حكماً إسلامياً ويعمد إلى رأيه الشخصيّ، والأخذ بظنه.

(ج): أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر

رفعت إلى عمر بن الخطاب إمرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها، فبلغ ذلك عليّاً فقال: « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال: « قال الله تعالى:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ( البقرة: ٢٣٣ ) وقال:( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) ( الأحقاف: ١٥ ) فستّة أشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً »، فخلاّ عنها(٢) .

ولا يمكن القول بأنّ حكم هذه المسألة قد جاء في صريح الكتاب، لأنّ معنى وروده في الكتاب العزيز هو أن يكون مفهوماً لأغلبية الصحابة، ومعلوماً لهم، وخاصّةً لمن يتصدر مقام الزعامة، ولكن الواقعة بمجموعها تثبت بأن استخراجه وفهمه لم يكن مقدوراً إلّا للإمام.

(د): مسألة العوْل

لقد شغلت هذه المسألة بال الصحابة فترةً من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله التي واجهت جهاز الحكم.

__________________

(١) سنن الدارمي ٢: ٣٦٥، تفسير الطبري ٦: ٣٠، الجامع الكبير للسيوطي ٦: ٢٠، تفسير ابن كثير ١: ٢٦٠.

(٢) السنن الكبرى ٧: ٤٤٢، مختصر جامع العلم: ١٥٠، تفسير الرازي ٧: ٤٨٤، الدرّ المنثور ١: ٢٨٨، ذخائر العقبى: ٨٢.

١١٩

ويعنى من العول ؛ أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض، ولا تقصر إلّا بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة، ومثال ذلك، ما إذا ترك الميت زوجةً وأبوين وبنتين. ولـمّا كان سهم الزوجة ـ حسب فرض القرآن ـ الثمن، وفرض الأبوين الثلث، وفرض البنتين الثلثين، فإنّ التركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين، أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختين للأب، فلمّا كان فرض الزوج النصف، وفرض الأختين الثلثين، زادت السهام عن التركة، فهنا ـ عندما ـ يجب إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن، وذلك كالأبوين والبنتين والأختين لاستحالة أن يجعل الله في المال ثمناً وثلثاً وثلثين، أو نصفاً وثلثين وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك.

ولكن هذه المسألة لـمّا طرحت على عمر بن الخطاب تحيّر، فأدخل النقص على الجميع استحساناً وهو يقول: ( والله ما أدري أيكم قدّم الله، ولا أيّكم أخّر، ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة )(١) .

( ه‍ ): الطلاق في الجاهليّة والإسلام

سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقةً فقال: ( لا آمرك ولا أنهاك ).

فقال عبد الرحمان بن عمر: ( لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء )(٢) .

(و): معنى الأبّ

بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا *

__________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٠٩، مستدرك الحاكم ٤: ٣٤٠ وصحّحه.

(٢) كنز العمال ٥: ١٦١.

١٢٠