مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 627
المشاهدات: 182641
تحميل: 3541


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182641 / تحميل: 3541
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( البقرة: ١٩٥ )

وقوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران: ١٠٤ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة: ٣٥ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج: ٧٨ )

وقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة: ١٧٩ )

وقوله:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق: ٢ )

وقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران: ١٠٣ )

وقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى: ١٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها الله تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلّا منهم أجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره الله وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم )(١) .

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

__________________

(١) الميزان ٤: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠١

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّا الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب الله ـ لقيادة الاُمّة، وإدارة شؤونها، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ولـمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

٢٠٢

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

٥. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

٢٠٣

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة ( دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

٦. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن عليّاًعليه‌السلام إماماً للمسلمين من بعده، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة(١) على ذلك ـ إلّا أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد، لولا النصّ.

* * *

__________________

(١) لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة ١٠٤ ـ ١٨١ من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

٢٠٤

٧. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلطون على أموالهم »(١) .

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلّا بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم، واستلزام أقرار النظام، التصرّف في تلك الأموال والنفوس )، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح: إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها، وتنظيم الحريات والعلاقات

__________________

(١) مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا: إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.

غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.

والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.

وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

٢٠٥

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره، ولـمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلّا بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار، يتراءى ـ في بادئ النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحلّ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

٨. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول: إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة، ومنها قول الله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٨ ـ ٥٩ ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي: الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة الله وإطاعة الرسول واولي الأمر، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

٢٠٦

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة، وإن كانت نابعةً من جانب الله بالأصالة، وهي أمانة بيد الحاكم، ووديعة في عنقه، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( الله ) سبحانه وتعالى، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل، حقّ ذاتيّ لله تعالى، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه، بل المراد أنّه حقّ أعطاه الله سبحانه له.

وبعبارة أخرى: ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو الله سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة، ومسؤولون عنها، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّعليه‌السلام لأحد ولاته: « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة »(١) .

ويقولعليه‌السلام أيضاً: « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وإنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي »(٢) .

ويقول الإمامعليه‌السلام أيضاً: « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥).

(٢) الكامل لابن الأثير ٣: ١٩٣.

٢٠٧

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة »(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه، وأن يجيبوه إذا دعوا »(٢) .

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة، التي هي الحكومة والسيادة، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلّا حفظةً للسلطة وحراسها وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت: حول الآية، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى آخر قوله تعالى) عن زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ) فقالعليه‌السلام : « أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه، ألا تسمع قوله:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام »(٣) .

نعم، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة، أصحابها

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥١٥).

(٢) الأموال لأبي عبيد: ١٢، ٣٨٨.

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٨٥ نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ: وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام .

٢٠٨

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول: ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة )(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال في ذيل هاتين الآيتين: « آيتان إحداهما لنا، والأخرى لكم »(٢) .

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وبالثانية قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .

٩. كتب الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما: « إنّ عليّاً لـمّا مضى لسبيله ( رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده فادخل فيما دخل فيه النّاس »(٣) .

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من الله سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس، ولذلك مضى الإمام الحسنعليه‌السلام يلفت نظر معاوية إليها.

١٠. ذمّ الإمام الصادقعليه‌السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف: ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم، وذلك عندما قال له رجل: إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمامعليه‌السلام : « هذا ليس من ذاك إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط »(٤) .

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ٢: ٦٣.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١٢.

(٤) المستدرك ٣: ١٨٧ نقلا عن دعائم الإسلام.

٢٠٩

١١. قال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

« الواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم »(١) .

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

١٢. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسينعليه‌السلام إليهم قائلاً: « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم »(٢) .

فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

__________________

(١) أصل سليم بن قيس: ١٨٢، وبحار الأنوار ٨: ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) الكامل للجزري ٣: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢١٠

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

٢١١

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً: إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس، وليس تابعاً للمصالح والحقائق، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس، وخسروا أصواتهم.

ثانياً: إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

٢١٢

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة، لاكتساب المزيد من أصوات الناس، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير، واستمالتهم، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج، والبسطاء وغير المثقفين، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً: إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه، وحقوقيّيه، واجتماعيّيه، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة وهو قليل من كثير.

٢١٣

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة، من يستبدّ برأيه، ويستأثر بفيئها، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً: انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق، نموذجيّاً في الإدراة، ويشترط على المنتخب، أن لا يختار إلّا من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ(١) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد الله عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل، بل على كلّ

__________________

(١) ففي الحديث: « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٢١٤

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها، ورفض شرعيّتها، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب الله سبحانه كما يقول الإمام الحسينعليه‌السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها »(٢) .

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله:( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

إنّ مجتمعاً كهذا، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلّا ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً، وفيّةً للدين، ملتزمةً بالإسلام، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

__________________

(١) الطبري ٤: ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

٢١٥

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة، فلماذا يقول الإمام عليّعليه‌السلام في بعض رسائله: « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١)

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّعليه‌السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمامعليه‌السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله: « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(٢) .

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة، هي مصدر السلطات، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٦).

(٢) نهج البلاغة: الرسالة (١٧٣) طبعة عبده.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٧ ـ ٢٠٨ من هذا الجزء.

٢١٦

لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّعليه‌السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّعليه‌السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّونهم نوّاباً لهم، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار: ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء فأمّا المبايعة، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم )(١) .

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب الله سبحانه، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

__________________

(١) المنار ٥: ١٩٥.

٢١٧

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره إذ لا مبرّر لذلك، ولا مسوّغ فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين، ذوي حقوق ومصالح مماثلة، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولـمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

٢١٨

الطريق، كما لابقاء للشركة المساهمة إلّا بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً، فليس لهما إلّا الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

٢١٩

السؤال الرابع :

ولاية الفقيه ومكانتها

في

الحكومة الإسلاميّة

ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه، وتوضيح حقيقتها ودلالتها، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّقدس‌سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

٢٢٠