مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 627
المشاهدات: 182633
تحميل: 3540


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182633 / تحميل: 3540
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

وتعالى بلزوم الوفاء بالعهد وقال:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء: ٣٤ ).

ويقول عن صفات المؤمنين:( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) ( المؤمنون: ٨ ).

وتبلغ أهميّة ذلك أنّ القرآن كما يمدح الموفين بالعهد، ويقول:( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) ( الرعد: ٢٠ )، يذمّ في المقابل الناقضين للعهود، ويقول عنهم:( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) ( الرعد: ٢٥ ).

بل يشبّه الناقض للعهد بالمرأة الناقضة لغزلها، بعد أن تعبت على صنعه إشارة إلى ما يتركه نقض العهد من اختلال في الحياة الاجتماعيّة فيقول:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) ( النحل: ٩١ ـ ٩٢ ).

وقد تضافرت الأحاديث على التأكيد والإيصاء بهذا الأمر فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد »(١) .

وقال أيضاً: « أقربكم منّي غداً في الموقف أصدقكم في الحديث وأدّاكم للأمانة وأوفاكم بالعهد »(٢) .

وقال أيضاً: « يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصّدق فيها »(٣) .

إنّ نقض العهد والميثاق خير دليل على فقدان الوازع الدينيّ، وانعدام الشخصيّة الدينيّة ولهذا قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا دين لمن لا عهد لهُ »(٤) .

إنّ الذي لا يرتاب فيه أحد هو أنّ المشركين واليهود أشدّ الناس عداوة للمؤمنين كما صرّح القرآن بذلك قائلا:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ( المائدة: ٨٢ ).

__________________

(١ و ٢) الكافي ٢: ٣٦٣، ٣٦٤.

(٣) المستدرك ٢: ٨٥.

(٤) بحار الأنوار ١٦: ١٤٤.

٥٢١

ومع ذلك نجد القرآن الكريم يصرّح بلزوم احترام المواثيق والمعاهدات المعقودة مع المشركين فيقول:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إلّاالَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) ( التوبة: ٣ ـ ٤ ).

نعم أجاز الإسلام قتال المشركين إذا نكثوا ايمانهم وخالفوا عهودهم مع المسلمين ولذلك قال سبحانه:( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة: ١٢ ).

ولأجل أهمّية العهود والمواثيق المعقودة بين المسلمين وغيرهم من الحكومات والأطراف أوصى الإمام عليّعليه‌السلام واليه الأشتر باحترام المواثيق إذ كتب في عهده المعروف :

« وإن عقدت بينك وبين عدُوّك عُقدةً أو ألبستهُ منّك ذمّةً فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنّهُ ليس من فرائض الله شيء النّاسُ أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم، وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهود »(١) .

كما أنّه لـمّا تمّ التحكيم ـ في صفّين ـ طلب الخوارج من الإمام أن ينقض قرارالتحكيم ولكنّهعليه‌السلام ردّهم بأشدّ الردّ قائلاً: « ويحكُم أبعد الرّضا والعهد نرجعُ، أو ليس الله يقولُ:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقال:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) »(٢) .

ومن نماذج التزام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمواثيقه وتعهّداته ردّ أبي بصير إلى مكّة بعد توقيع ميثاق الحديبيّة حيث التزم ـ توخّياً للمصلحة ـ في أحد بنود ذلك الميثاق أن يردّ إلى

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم: ٥٣.

(٢) وقعة صفّين لابن مزاحم ( طبعة مصر ): ٥١٤، وفي الارشاد للشيخ المفيد: ١٤٣ ـ ١٤٤ ما يقارب هذا.

٥٢٢

المشركين كلّ من فرّ من مكّة إلى المدينة، واعتنق الإسلام فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة أتاه أبو بصير، وكان ممّن حبس لإسلامه بمكّة فلمّا قدم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب فيه قريش إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبونه منه ـ حسب ما التزم في صلح الحديبيّة ـ وأرسلوا من يعيده إلى مكّة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلُحُ لنا في ديننا الغدر وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك ».

قال يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا بصير انطلق فإنّ الله تعالى سيجعلُ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً »(١) .

وقد فرّج عنه فيما بعد كما وعده الرسول بإذن الله وممّا يؤكد أهمّية العهد والميثاق أنّ الله سبحانه صرّح بوجوب نصرة المؤمنين القاطنين في مكّة غير المهاجرين إلى المدينة إذا طلبوا النصرة من مسلمي المدينة على المشركين إلّا إذا طلبوا العون والنصرة على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق وعهد، وإلى هذا أشار قوله سبحانه:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الأنفال: ٧٢ ).

ويندرج تحت هذا الأصل احترام جميع المعاهدات والمواثيق على اختلاف مقاصدها، ومحتوياتها، كالمواثيق التجاريّة والعسكريّة والسياسيّة إذا كانت في صالح المسلمين حدوثاً وبقاء.

٢. الإسلام والسلام العالميّ

لا شكّ أنّ لفظة السلام ممّا تلتذّ بسماعها الاذان، وتهوى إلى حقيقتها الأفئدة والقلوب، ولذلك تتستّر ورائها الدول الكبرى لتضليل الشعوب.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٣.

٥٢٣

وقد أصبح ( السلام العالمي ) اليوم أكبر مشكلة في المجال الدوليّ حيث تتبارى القوى العظمى في تسليح نفسها بأخطر الأسلحة، وأفتكها. ولذلك تجري محاولات كبيرة وجهود جبّارة للحفاظ على السلام العالميّ وإقامته، ومن هذا الباب عقدت مؤتمرات نزع السلاح، والحدّ من صنع ( الأسلحة النووية ) وانتشارها، ولكن هل تُرى استطاعت البشريّة أن تحقّق أيّة خطوات إيجابيّة في هذا المجال أو أخفقت ؟ إنّ الوقائع الدامية في أرجاء العالم هي التي تجيب عن هذا السؤال. نعم لقد استطاع الإسلام بما وضع من اُسس وقواعد إنسانيّة أن يحقّق أمل البشريّة في السلام.

ويكفي دلالة على عناية الإسلام بالسلام اشتقاق اسمه من السلم قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة: ٢٠٨ ).

ثمّ هو يدعو إلى الصلح والمسالمة إذا جنح العدو لذلك، قال سبحانه:( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال: ٦١ ).

وهو يدعو إلى اقرار السلام حتّى في المحيط العائلي لأنّه مقدّمة لإقرار الصلح في المحيط الاجتماعيّ، قال:( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء: ١٢٨ ).

ثمّ هو يعتبر جميع المؤمنين والمؤمنات اخوة فإذا حدث بينهم نزاع أوجب على المسلمين المبادرة إلى المصالحة بين المتنازعين، فقال:( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) ( الحجرات: ١٠ ).

وإذا ما حدث نزاع واقتتال بين طائفتين من المسلمين أمر باصلاح أمرهم ودعا إلى الضرب على أيدي الباغي منهما فقال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات: ٩ ).

وقد شاء الإسلام كلّ ذلك وأراده حفاظاً على السلام والتعايش السلميّ، بحيث يأمل الإسلام في أن تحصل المودّة حتّى بين المؤمنين ومن يعادونهم ويخالفونهم في العقيدة، قال سبحانه:( عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ

٥٢٤

قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المممتحنة: ٧ ).

وبالتالي فإنّ الإسلام يدعو إلى اقرار السلام في جميع أرجاء الحياة البشريّة.

وقد سار النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا النهج الإنسانيّ، فقد فعل ـ عند فتح مكّة ـ ما يكون اُسوة حسنة بعده للحكومات الإسلاميّة حال الفتح فقد أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رايته ـ يوم فتح مكّة ـ سعد بن عبادة، وهو أمام الكتيبة فلمّا مرّ سعد براية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على أبي سفيان نادى: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ(١) الحرمة اليوم أذلّ الله قريشاً.

فأقبل رسول الله حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه :

يا رسول الله أمرت بقتل قومك، زعم سعد ومن معه حينما مرّ بنا فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة اليوم أذلّ الله قريشاً وإنّي أنشدك الله في قومك، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.

قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اليومُ يومُ المرحمة اليومُ أعزّ الله فيه قُريشاً ».

[ قال ]: وأرسل رسول الله إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد(٢) .

وأقدم دليل على توخّي الإسلام للتعايش السلميّ، والسعي إليه بكلّ وسيلة ممكنة ما دام الخصم لا يريد العدوان، تلك الوثيقة المعروفة التي وقّعها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش في ( الحديبيّة )، فإنّ فيها مواداً تدلّ على مدى اهتمام الإسلام بقضيّة السلام، والتعايش السلميّ ومدى سعيه لإقراره ما أمكنه، فإنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا أراد أن يكتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل مكّة، دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فقال: « اكتُب بسم الله الرّحمن الرّحيم ».

فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب: باسمك اللّهمّ.

__________________

(١) في رواية: تسبى.

(٢) مغازي الواقديّ ٢: ٨٢١ ـ ٨٢٢ وأعلام الورى للطبرسيّ: ١٩٧.

٥٢٥

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكتُب باسمك أللّهم » فكتبها.

ثمّ قال: « اكتُب هذا ما صالح عليه مُحمّد رسولُ الله سُهيل بن عمرو ».

فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم اقاتلك، ولكن اكتب: اسمك واسم أبيك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين يأمن فيهنّ النّاس ويكفّ بعضهم عن بعض على أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه، وأنّ بيننا عيبةً مكفوفةً وأنّه لا أسلال ولا أغلال، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه »(١) .

انظر كيف رضي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحذف لقبه توخّيا للسلام وطلباً للصلح.

وانظر كم بلغت مرونة الإسلام حتّى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رضي في عهده أن يعيد الهارب من صفوف الكفّار، في حين التزم بأن لا يعيدوا إليه من ترك صفوف المسلمين وهرب إلى قريش، وهو غاية في التنازل بهدف إقرار السلام.

والعجيب أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عمل بهذا البند من الوثيقة في نفس المجلس تدليلاً على حسن نيّته، والتزامه بما كتب، وحرصه على السلام، فبينا رسول الله يكتب هذا الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال: يا محمّد قد لجّت [ تمّت ] القضيّة بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: « صدقت »، فجعل يجذبه جذباً شديداً ويجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتننوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً، وأعطيناهُم على ذلك

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤: ٣١٨، والكامل للجزريّ ٢: ١٣٨، وأعلام الورى للطبرسيّ: ٩٧.

٥٢٦

وأعطُونا عهد الله، وإنّا لا نغدُر بهم »(١) .

وهذا هو نموذج أو نماذج معدودة في هذا المجال وكتب التاريخ والسير والفقه والحديث طافحة بأمثالها.

٣. حكم الأسرى

تعتبر مسألة ( الأسرى ) من أهمّ القضايا في النظام السياسيّ الخارجيّ للدول وتعتبر حقوقهم من أبرز ما لفت نظر الحقوقيّين، واهتمامهم في عالمنا المعاصر حتّى أنّه اتفقت الدول على ميثاق ينصّ على هذه الحقوق هو ( ميثاق جنيف ).

وللأسرى في النظام الإسلاميّ مكانة خاصّة، وقوانين تضمن حقوقهم، وكرامتهم، وتكفل احترامهم وسلامتهم.

إنّ الأسارى على نوعين :

نوع ؛ يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة ما لم يسلموا، والإمام مخيّر بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم حتّى ينزفوا.

ونوع آخر ؛ وهو ما إذا اُخذوا بعد انقضائها فحينئذ لم يقتلوا وكان الإمام مخيّراً بين المنّ والفداء، والاسترقاق، ولا يسقط هذا الحكم لو أسلموا(٢) وهذا هو المشهور بين الفقهاء.

ويستفاد ذلك من كتاب الله العزيز قال سبحانه:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال: ٦٧ ).

فالآية صريحة في وجوب قتل الأسارى لغاية الاثخان في الأرض والتمكّن فيها

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣١٨، والكامل للجزريّ ٢: ١٣٨، وأعلام الورى للطبرسيّ: ٩٧.

(٢) نعم نقل أمين الإسلام في مجمع البيان ٥: ٩٧، قولا آخر يلاحظه من أراد الوقوف عليه وهو لا يوافق القول المشهور بين فقهاء الشيعة فهو يخالف المشهور في كلا القسمين فلاحظ.

٥٢٧

واستضعاف المشركين، كما أنّها ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى كقوله سبحانه:( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأنفال: ٥٧ ).

فهي نزلت في حقّ الناقضين للعهود وتؤكّد على النبيّ بأنّه إذا صادفتهم في الحرب وظفرت بهم وأدركتهم فنكّل بهم تنكيلاً وأثّر فيهم تأثيراً حتّى تشرّد بهم من بعدهم وتطردهم وتمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد ويتفرّقوا في البلاد مخافة أن تقابلهم بمثل ما قابلتهم به، وأن يحلّ بهم ما حلّ بمن قبلهم فالآية ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى أعني المأخوذين قبل أن تضع الحرب أوزارها، ويشهد على ذلك قوله تعالى:( فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ) ، وقوله سبحانه:( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) ( محمد: ٤ ).

والظاهر أنّ قوله:( حَتَّىٰ تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) غاية لقوله:( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) أي القتل والتنكيل لحد وضع الحرب أوزارها، فيختصّ القتل بالأسرى المأخوذين قبل انقضاء القتال وانتهائه.

وأمّا النوع الآخر أعني المأخوذين بعده فحكمه ما أفاده قوله:( حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) فالآية تخيّر الحاكم بين إطلاق سراحهم مجّاناً بلا عوض، وأخذ الفداء بالنفس أو المال.

وأمّا الاسترقاق فقد دلّت عليه الأحاديث الإسلاميّة، فلاحظ الكتب الفقهيّة.

* * *

بقي هنا أمران :

الأوّل: أنّ قتل الأسارى المأخوذين والحرب قائمة يختص بوضع خاصّ لا بزمان خاصّ، فالحكم أبديّ إلى يوم القيامة لكنّه حكم على موضوع محدّد وهو ما إذا كان في استبقاء الأسارى قبل الاثخان محذور كما هو الحال في الصدر الأوّل من التاريخ الإسلاميّ، فإنّ معيشتهم في ذلك العصر وإمكانيّاتهم كانت محدودة بحيث لا يمكن

٥٢٨

لهم حفظ الأسرى في أثناء الحرب لقلّة الإمكانيّات وعدم وجود الأماكن المناسبة لحفظهم واستبقائهم(١) فربّما كان في استبقاؤهم مظنّة وقوع الفتنة، وكان موجباً لبقاء قوّة العدو، وشوكته، فلأجل ذلك يأمر الكتاب العزيز بقتلهم لغاية الإثخان والغلبة في الأرض والتمكّن فيها في مقابل العدو.

فكلمة( حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ ) توحي بذلك القيد وأنّ الحكم مختصّ بما إذا كان في قتلهم تقوية للمسلمين وإضعاف للعدو.

وأمّا إذا كان المسلمون أقوياء وكان استبقاؤهم أمراً ممكناً، ولم تكن في قتلهم تقوية لهم وإضعاف للعدو فالآية منصرفة عن ذلك الوضع، وممّن تنبّه إلى ذلك « الجصّاص » في إحكام القرآن حيث قال :

( وذلك في وقت قلّة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوّهم من المشركين فمتى اُثخن المشركون واُذلّوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء، فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحالة التي كان عليها المسلمون في أوّل الإسلام )(٢) .

وقال صاحب المنار في فلسفة القتل قبل الإثخان ما يؤيّد هذا الاتّجاه :

( فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لإنّ ذلك يفضي إلى ضعفنا ورجحانهم علينا حتّى إذا أثخنّاهم في المعركة جرحاً وقتلاً وتمّ لنا الرجحان عليهم فعلاً، رجّحنا الأسر(٣) المعبّر عنه بشدّ الوثاق لأنّه يكون حينئذ من الرحمة الاختياريّة، وجعل الحرب ضرورة تقدّر بقدرها، ولذلك خيّرنا الله تعالى فيه بين المنّ عليهم وإعتاقهم بفكّ وثاقهم وإطلاق حريّتهم. وامّا بفداء أسرانا عند

__________________

(١) والذي يدلّ على فقدان الأمكنة لحبس الأسارى ما نقله الكتاني عن شفاء الغليل للخفاجيّ أنّه كتب قائلا: « لم يكن في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سجن »، وأضاف قائلا: « وكان يحبس في المسجد وفي الدهاليز » التراتيب الإداريّة ١: ٢٩٧.

(٢) أحكام القرآن ٣: ٣٩١، ولاحظ أيضاً الصفحة ٧٢ من ذلك الجزء.

(٣) الأولى أن يقول: رجّح القرآن الأسر.

٥٢٩

قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم أو بمال نأخذه منهم.

وجملة القول، أنّ اتّخاذ الأسرى إنّما يحسن ويكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحقّ والعدل، إمّا في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وإمّا في الحالة العامّة التي تعمّ كلّ معركة وكلّ قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوّة العامّة والسلطان الذي يرهب الأعداء )(١) .

والعجب أنّ الدكتور محمّد فتحي عثمان الاُستاذ بكليّة العلوم الاجتماعيّة قد نقل في تأليفه « من اُصول الفكر السياسيّ الإسلاميّ » في الصفحة ٢٠٦ عن الكاتب الشهير محمّد عبد الله درّاز في كتابه « دراسات إسلاميّة في العلاقات الاجتماعيّة الدوليّة » في بحث الإسلام والرقّ، كلمة صرح فيها ( بأنّنا إذا نظرنا في القرآن لم نجد فيه أثراً لقتل الأسير والاسترقاق ).

أقول: أمّا الاسترقاق فصحيح أنّه لا يوجد في القرآن ولكنّه ورد في الأحاديث الإسلاميّة، وإن كان الاسترقاق خطوة انتقالية إلى أمر آخر وهو تربيتهم على النهج الإسلاميّ ثمّ تحريرهم.

وأمّا قتل الأسير فيدلّ عليه قوله سبحانه:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال: ٦٧ ) وقد عرفت المراد من الآية.

* * *

الأمر الثاني: قد عرفت أنّ الإمام مخيّر في الأسارى المأخوذين بعد وضع الحرب أوزارها بين اُمور منها الاسترقاق، فلابدّ من بيان النكتة في ذلك.

إنّ الاسترقاق لأجل أنّه ربّما تكون المصلحة المنحصرة فيه إذ ربّما يكون إطلاق سراحهم بلا عوض أو مع العوض سبباً لاجتماعهم مرّة اُخرى وتآمرهم ضدّ الإسلام والمسلمين، ويكون الحبس أمراً شاقّاً وعسيراً.

__________________

(١) المنار ١٠: ٩٧ ـ ٩٨.

٥٣٠

وأمّا قتلهم بعد وضع الحرب أوزارها فتعدّ ضراوة بسفك الدماء وإسرافاً بلا جهة فيتعيّن الأمر في الاسترقاق بتوزيعهم في بيوت المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم حتّى يتربّوا بتربيتهم ويتخلّقوا بأخلاقهم وآدابهم(١) .

هذا وتخيّر الإمام أدلّ دليل على مرونة الإسلام حيث ترك للإمام والحاكم المجال ليقوم بما تقتضيه المصلحة.

وقد أكّد الإسلام على احترام الأسرى والعطف عليهم والرحمة بهم وحسن المعاملة معهم، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « استوصُوا بالأسارى خيراً »(٢) .

ويكفي دلالة عمليّة على ذلك أنّه لـمّا افتتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله القموص [ وهي من قلاع اليهود بخيبر ] أتى رسول الله بصفيّة بنت حيّي بن أخطب، وباُخرى معها فمرّ بها بلال، وهو الذي جاء بهما، على قتلى من قتلى يهود فلمّا رأتهم التي مع صفيّة صاحت، وصكّت وجهها وحثّت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « اعزُبُوا عنّي هذه الشّيطانة »، وأمر بصفيّة فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اصطفاها لنفسه فقال رسول الله لبلال: حين رأى بتلك اليهوديّة ما رأى: « أنزعت منّك الرّحمةُ يا بلالُ حين تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما »(٣) .

بل وحث على إطعام الأسير وسقيه حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إطعامُ الأسير حقّ على من أسرهُ »(٤) .

وقد بلغ من عطف الإسلام وإنسانيّته أنّه حرّم المثلة بالقتلى، فلمّا وقف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في اُحد على جسد حمزة بن عبد المطّلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ،

__________________

(١) راجع في أحكام الأسارى المصادر التالية: الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ ٢: ٤٦، والمختلف للعلاّمة الحليّ ١: ١٦٩، وكنز العرفان: ٣٦٥.

وقد أشرنا إلى فلسفة الرقّ والاسترقاق في الإسلام وأنّها حالة استثنائيّة اقتضتها ظروف الحرب خاصّة فلاحظ: ٢٧٥ ـ ٢٦١ من كتابنا هذا.

(٢ و ٣) سيرة ابن هشام ٢: ٢٩٩ و ٢٣٦.

(٤) وسائل الشيعة ١١: ٦٩ وقد مرّت الإشارة إلى هذا الأمر في: ٤١٥ من كتابنا هذا.

٥٣١

ومثّل به فجدع أنفه واُذنه، فحزن حزناً شديداً وقال: « ولئن أظهرني الله على قُريش في موطن من المواطن لأُمثّلنّ بثلاثين رجُلاً منهُم ».

فأنزل الله سبحانه:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ *وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ( النحل: ١٢٦ ـ ١٢٧ ).

فعفا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

* * *

٤. الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط

لا شكّ أنّ للحكومة الإسلاميّة أن تتوسّل بالحصار الاقتصاديّ، كوسيلة من وسائل الحرب والدفاع ولكن هذا الأمر تابع لهدف عسكريّ فقط بمعنى أنّه يجوز فقط لأجل تحديد الفعاليّات العسكريّة للعدو في اطار الأهداف الاستراتيجيةّ.

إنّ الإسلام يقوم بهذا الأمر ضدّ المعتدين والمهاجمين فحسب، ولا يسوغ استخدامه ضدّ الأبرياء من الناس.

وهذا هو سيرة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك نموذجاً من ذلك :

خرجت خيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسّروا ثمامة بن أثال الحنفيّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أحسنُوا اُسارهُ » فمكث مدة ثمّ اطلقوا سراحه فأسلم، ثمّ خرج إلى مكّة معتمراً فأخذته قريش وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه فإنّكم تحتاجون إلى اليمامة [ وكان من ملوكها ] لطعامكم، فخلّوه، ثمّ خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكّة شيئاً فكتبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك تأمر بصلة الرحم، وإنّك قد قطعت أرحامها فقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع. فكتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه، أن يخلّي بينهم وبين الحمل(٢) .

وهكذا منع الرسول من استخدام الحصار الاقتصاديّ ضدّ الأبرياء من الناس ،

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ٢: ٩٦ و ٦٣٩.

٥٣٢

وأعطى درساً رائعاً في مقابلة الأعداء.

٥. الحدّ من التسلّح

يشهدا العالم اليوم سعياً شديداً من الشرق والغرب لنزع السلاح أو الحدّ من التسلّح، وهو أمر يتبنّاه كثير من الحقوقيّين والمفكّرين غير أنّهم لم ينجحوا في ذلك أللّهم إلّا في حقّ الشعوب الضعيفة حيث تمكّن الدول العظمى من إبقاء هذه الشعوب في إطارات محدودة من التسلّح فيما مضت هي في تسليح نفسها حتّى قمّة رؤوسها.

ويرجع فشل هؤلاء الحقوقيّين والساعين إلى أنّهم يطلبون أمراً غير عمليّ فالإنسان ينزع بصورة فطريّة إلى السيطرة، والاستيلاء وهي نزعة تجرّه إلى أن يسلّح نفسه بما يتسنّى له من أسلحة.

ولذلك فإنّ الإسلام يعمد ـ بدل الدعوة إلى نزع السلاح أو ما شابهه إلى تغيير هدف التسلّح، ووجهة الكفاح والنضال فهو يحثّ البشريّة على أن تجعل نضالها من أجل العقيدة الإلهيّة وبسط العدالة الاجتماعيّة.

وعندئذ يتغيّر استعمال الأسلحة بتغيّر الأهداف والمقاصد ولا يضير التسلّح ولا يشكّل خطراً على أحد.

وبالجملة إذا كان النضال من أجل عقيدة دينيّة صحيحة وبوحي منها وتوجيه من تعاليمها تحدّد استخدام الوسيلة الحربيّة بصورة قهريّة، وأحسن الإنسان استعمالها تبعاً لذلك، ولهذا يتعيّن على المصلحين السعي في هذا المجال لتثمر جهودهم وتتخلّص البشريّة من الرعب الناشئ عن سباق التسلّح إذ في غير هذه الصورة لن تثمر جهودهم ويبقى الحدّ من التسلّح أو عدم استخدامه في تدمير الحياة أملاً بعيد المنال.

٦. الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام

كما يمتلك الإسلام نظاماً للقتال والحرب كذلك يمتلك نظاماً رائعاً في حال

٥٣٣

السلم والصلح ومن ذلك: النظام الخاصّ بالدبلوماسيّين فإنّ للدبلوماسيّين والسفراء والرسل عند الإسلام احتراماً كبيراً، وحصانة خاصّة لا نجد لها مثيلا أبداً، حتّى أنّ للدبلوماسيّ أن يظهر عقيدته المخالفة للدولة الإسلاميّة دون أن يصيبه أذى أو يمسّه من المسلمين ضرر، ونذكر من باب المثال نموذجاً واحداً يدلّ على ما قلناه: فقد كتب مسيلمة بن حبيب [ الكذّاب ] إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً جاء فيه :

أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوماً يعتدون. فلمّا قدم رسول مسيلمة بهذا الكتاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرأه قال لهما: فما تقولان أنتما، قالا نقول كما قال، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أمّا والله لولا أنّ الرّسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما ».

ثمّ كتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مسيلمة: « بسم الله الرّحمن الرّحيم من مُحمد رسُول الله إلى مُسيلمة الكذّاب السّلامُ على من اتّبع الهُدى أمّا بعدُ فإنّ الأرض لله يُورثُها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمُتّقين »(١) .

انظر كيف عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله سفيري مسيلمة ولم يعاقبهما على إلحادهما.

وانظر كيف قابل النبيّ مسيلمة، وقايس بين الكتابين، فإنّك تجد رائحة الوحي الطيّبة تفوح من كتاب الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتنبئ عن ذكائه وعقله وحسن درايته وعظيم سياسته وكياسته.

٧. التعهّدات المتقابلة، والمنفردة

إنّ من أهمّ ما يستدعي اهتماماً خاصّاً في السياسة الخارجيّة هي التعهّدات بين الدول وهي على نوعين :

١. التعهّد من جانب واحد.

٢. التعهّد من جانبين.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٦٣٩.

٥٣٤

أمّا التعهّد من جانب واحد فهو شكل بسيط من التعهّدات فإنّ الدولة تلتزم من ناحيتها باُمور اتّجاه دولة اُخرى بصورة ابتدائية، كأن تعترف بها، وبأمنها وتتعهّد بعدم العدوان عليها وعدم التعرّض لها، ونحن نجد ـ في الإسلام ـ نماذج من هذا النوع، فعندما خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في ملاحقة الروم، فانتهى إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطاه النبيّ كتاباً التزم فيه باُمور وإليك نصّه :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه أمنة من الله ومحمّد النبيّ رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيّارتهم في البرّ والبحر لهم ذمّة الله، وذمّة محمّد النبيّ، ومن كان معهم من أهل الشّام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنّه لا يحول ماله دون نفسه وأنّه طيّب لمن أخذه من النّاس وأنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر »(١) .

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعهّد لتلك الجماعة بأن يحترم أمنهم في كلّ الحالات والأماكن ويعترف لهم بحقّ الحياة والعيش، ويضمن سلامة تنقّلاتهم من دون أن يأخذ منهم تعهّداً متقابلا.

وأمّا التعهّدات المتقابلة فهي أيضا على قسمين: فتارة يلتزم الطرفان بالاُمور السلبيّة مثل: أن يتعهّدا بأن لا يتعرّض أحدهما للاخر، وغير ذلك، وتارة يلتزم الطرفان بالاُمور الإيجابيّة مثل التعهّد بالتبادل التجاريّ والثقافيّ، ونحن نرى نماذج من كلا النوعين في تاريخ الحياة السياسيّة للإسلام.

ونمثّل للنوع الأوّل بقصّة بني ضمرة.

فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما بلغ « ودان » وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً، وبني ضمرة بن بكر بن عبد منات بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم عليه مخشي ابن عمرو الضمري وكان سيّدهم في زمانه، فلمّا خرج الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادعه على بني ضمرة في

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٥٢٥.

٥٣٥

غزوة ودان فقال: يا محمّد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال: « نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك(١) ثُمّ جالدناك حتّى يحكُم الله بيننا وبينك »(٢) .

ومن هذا القبيل ما جرى في صلح الحديبيّة الذي مرّ عليك.

ونمثّل للتعهّدات المتقابلة على الاُمور الإيجابيّة بما حصل بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وخزاعة في الحديبيّة، حيث كان من بنود صلح الحديبيّة مع قريش أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت خزاعة في عقد رسول الله وعهده، وهو يمثّل التعاون الدفاعيّ الذي يطلق عليه اليوم بالمعاهدات الدفاعيّة.

ويستفاد من حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ إلغاء المعاهدة كان يتمّ تارة بصورة مباشرة واُخرى بصورة غير مباشرة.

فنرى أنّ قريشاً لـمّا عاونت بني كنانة معاونة غير مباشرة بالسلاح عدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك نقضاً وذلك عندما تحقّقت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منها ثأراً، فخرج نوفل بن معاوية وهو يومئذ قائدهم حتّى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلا وتحاوزوا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم.

فلمّا تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من العهد والميثاق بما استحلّوا من خزاعة وكان في عقده وعهده وعرف النبيّ بذلك اعتبره نقضاً للعهد وإلغاء للمعاهدة، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فتح مكّة ملغياً ما كان بينه وبين قريش من وثيقة الصلح(٣) .

__________________

(١) المقصود هو الموداعة التي تمّت في اللقاء الأول لاحظ سيرة ابن هشام ١: ٥٩١.

(٢ و ٣) سيرة ابن هشام ٢: ٢١٠ و ٣٩٠ ـ ٣٩٧.

٥٣٦

كل هذا يكشف عن وجود نظام خاصّ لهذه التعهّدات في السياسة الخارجيّة للإسلام يتجلّى خطوطه في مجموعة المواقف النبويّة وغيرها من مصادر الشريعة.

٨. المعاهدة للاستقراض الحربيّ

إنّ للحكومة الإسلاميّة أن تستقرض أو تستعير من الآخرين ما تحتاج إليه من المال أو السلاح في حالات الحرب. والحاجة إلى ذلك وهو أمر فعله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لما عاهد نصارى نجران ووضع عليهم جزية معيّنة، وشرط عليهم أن يعيروا ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة.

وقد جاء في هذه الوثيقة. « وما هلك ممّا أعاروُا رُسلي من خيل أو ركاب فهُم ضمن حتّى يردّوهُ إليهم، ولنجران وحاشيتها جوارُ الله وذمّةُ مُحمّد النبيّ رسُول الله على أنفُسهم وملّتهم وأرضهم وأمُوالهم وغائبهم وشاهدهم الخ »(١) .

٩. قطع العلاقات السياسيّة

لما كانت إقامة العلاقات الوديّة مع الدول الاُخرى، وتوقيع المعاهدات معها لأجل مصالح تقتضي ذلك، وفي مقابل أعمال يجب أن يقوم بها المعاهد، فإنّ الإخلال بمحتويات هذه المعاهدات، والقيام بما يخالف هذه المصالح يجوّز ـ في منطق العقل ـ قطع العلاقات ونقض المواثيق المعقودة وقد فعل الرسول الأكرم ذلك في قصّة الحديبيّة حيث أقدم على نقض الصلح مع قريش، وفتح مكّة عندما أظهرت قريش سوء نيّتها.

بيد أنّه يجب أن يكون قطع العلاقات تابعاً للمعايير الإنسانيّة، ولمبرّرات صحيحة، فإذا اقتضى الأمر قطع العلاقات ونقض المعاهدة وجب على الحكومة الإسلاميّة إعلام الطرف الآخر بذلك وإبلاغه بالقطع، قال الله سبحانه:( الَّذِينَ

__________________

(١) راجع فتوح البلدان للبلاذريّ ٧٦.

٥٣٧

عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ *فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ *وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال: ٥٦ ـ ٥٨ ).

١٠. الإسلام والبلاد المفتوحة

لقد كان المتعارف في العصور الماضية إذا استولت دولة على بلد، أن تفعل فيه ما تشاء من القتل والتشريد والاسترقاق والنهب وما شابه ذلك، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم إذ قال:( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل: ٣٤ ).

وأدلّ دليل على ما ذكره التاريخ من أعمال الملوك والقادة عند فتحهم للبلاد، وللمثال نذكر القصّة التالية :

لمّا دخل إسكندر المقدونيّ فارس هدم حصون فارس، وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم واستعمل على مملكة فارس رجالاً وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها، وهدم مدنها، وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثمّ سار منها إلى الصين(١) .

ولا يخفى عليك ما ارتكبه جيش المغول والتتار من الدمار والجرائم عند غزو إيران والعراق وارتكاب ما لا يمكن ذكره في هذا المختصر، وقد كانوا يفعلون كلّ ذلك استناداً إلى ما كانوا يعتقدونه من حقّ التسخير والفتح للفاتحين.

نعم إنّ الحقوقيّين قرّروا اُموراً لمن يسخّرون البلاد ويفتحونها ولكن من ترى يصغي لهم ويعمل بما قرّروه من قيود وأحكام، فليس كلّ ما تقرّره المؤسّسات العالميّة من اُمور تجريه الدول وتنفّذه الحكومات، فهذه منظمة الأمم المتّحدة لا يتجاوز أحكامها عن

__________________

(١) الكامل لابن الاثير ٢: ١٦٠.

٥٣٨

حدود التوصيات والرجاءات وهذه إسرائيل قد صدرت بحقّها عشرات القرارات والطلبات من منظمة الأمم المتّحدة ولكنّها تنفّذ كلّ يوم جرائمها في لبنان وغيرها من الأراضي الإسلاميّة بلا اكتراث واعتناء بالاُمم المتّحدة وقراراتها وطلباتها ونداءاتها المكرّرة.

وها هو الإسلام قد فتح ـ أيام حكومته ـ بلاداً ومدناً، وسيطر على الامبراطوريّتين الكبيرتين ( فارس والروم ) ولكن لم يفعل ما يفعله الفاتحون، إلّا بما تقتضيه الضرورة، ولم يأخذ من المغلوب عليه سوى ( الجزية ) التي وقفت على قدرها وأحكامها السهلة السمحة.

ولأجل ذلك نجد الشعوب المختلفة تستقبل الفتوحات الإسلاميّة برحابة صدر بل وتطالب الحكومات الإسلاميّة تخليصها من حكوماتهم والعيش تحت راية الإسلام وفي ظلّ حكومته العادلة.

وما ذكرناه في سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجال العلاقات الخارجيّة وعهوده يعتبر قدوة ومنهجاً كاملا للحكومة الإسلاميّة في معاملتها مع الدول والشعوب الاُخرى. وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ الواجب على الإسلام هو بيان الاُسس الكليّة والاُصول العامّة وأمّا الأشكال المناسبة لهذه الاُسس فمتروكة للزمن والظروف الطارئة.

ثمّ لـمّا كان الإسلام نظاماً للبشريّة كافّة فإنّ هذا النظام لم يرتض لحكومته أن تعيش منغلقة على العالم كجزيرة في وسط بحر بل يدعو إلى أن تقيم هذه الحكومة جسوراً مع المجتمع الدوليّ لتستفيد من خبرات البشر، كما تفيدها ديناً وأخلاقاً ونظاماً إلهيّاً ضامناً لسعادة البشريّة.

٥٣٩

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٦

الحكومة الإسلاميّة

والاستخبارات والأمن العامّ

لا تفتيش عن العقائد، ولا اطّلاع على الأسرار

لا شكّ في أنّ أهمّ ما جاء به الإسلام من اُصول اجتماعيّة هو الحريّة العقائديّة والشخصيّة، والاحترام الكامل للإنسان وعقائده، وأفكاره وأسراره، ولذلك فهو لم يسمح بتفتيش عقائد الأفراد ومنع من محاولة التعرّف على أسرارهم ودخائل حياتهم وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله:( وَلا تَجَسَّسُوا ) ( الحجرات: ١٢ ).

كما أنّه لم يسمح لأحد ـ فيما لو اطّلع على دخيلة أحد أو علم بسرّ من أسراره الخاصّة ـ أن يبوح به للناس، أو يفضحه على رؤوس العباد وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله:( وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ) ( الحجرات: ١٢ )، فهاتان الجملتان اللتان وردتا في آية واحدة تكشفان عن هذا الأصل الإسلاميّ الذي أشرنا إليه إلّا وهو الحفاظ على أسرار الآخرين وحرمة الاطّلاع عليها، وهو أصل دلّت عليه الروايات والنصوص المتضافرة القاطعة في النهي، والتحريم والتحذير.

٥٤٠