مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن19%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106056 / تحميل: 7208
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

النَّاسِ إِلا كُفُوراً *وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً *أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) (١) .

استدل الكاتب المسيحي بأنّ نبي الإسلام لما طولب بالمعجزة أظهر العجز قائلاً بأنّه ليس( إِلا بَشَراً رَسُولاً ) .

هذا مبلغ معرفته بمعالم الآية وأهدافها، وقد نسب إلى النبي هذا المضمون من دون أن يتدبّر في الآيات المقترحة وأنّها هل كانت جامعة للشرائط التي نوّهنا بها في مستهل البحث أو لا ؟ وأنّه هل كان صحيحاً في منطق العقل القيام بها أو لا ؟ ولا يظهر وجه الحقيقة إلّا بدراسة كل واحدة من هذه الآيات. فنقول: إنّ مقترحات القوم كانت تدور بين أُمور هي :

١. تفجير ينبوع من الأرض لهم.

٢. أن تكون للنبي جنة من نخيل وعنب وتجري الأنهار خلالها بتفجير منه.

٣. أن يسقط السماء عليهم كسفاً.

٤. أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً.

٥. أن يكون للنبي بيت من زخرف.

٦. أن يرقى في السماء، ولا يكفي ذلك حتى ينزل كتاباً عليهم من السماء.

هذه هي مقترحات القوم، وإليك دراسة كل واحد منها.

أمّا الأوّل: فلأنّ القيام بهذا الأمر يتنافى مع سنّة الله الحكيمة في الحياة

__________________

(١) الإسراء: ٨٩ ـ ٩٣.

١٦١

البشرية التي استقرّت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم ومآربهم من طريق السعي والجد تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم، فإذا كان مطلوب القوم أن يفجر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها حتى تتبدّل أراضيهم القاحلة إلى الأراضي الطيبة الصالحة للزرع والغرس، فهو على خلاف تلك السنّة الحكيمة التي نلمسها في الحياة الإنسانية، وعلى ذلك نزل الذكر الحكيم قال سبحانه:( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَىٰ ) (١) .

نعم ربما تقتضي بعض الأحوال والظروف أن يقوم النبي ـ لإبقاء حياة قومه ـ ببعض المعاجز التي بها تستديم حياتهم كما نرى ذلك في حياة بني إسرائيل، فإنّ موسى استسقى لقومه لما شكوا إليه من الظمأ فأوحى الله تعالى إليه أن:( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (٢) .

ولا يعد مثل ذلك نقضاً للسنّة العامة المذكورة فإنّ حياة بني إسرائيل في التيه كانت حياة خاصة حرجة غير مشابهة لحياة الأقوام الأخرى الذين يقدرون على معايشهم بيسر وسهولة وكسب وكدح، ولأجل ذلك نرى أنّ رحمته سبحانه شملتهم بوجوه متعددة حكاها الله سبحانه في القرآن الكريم قال تعالى:( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٣) .

فلأجل الشرائط الحرجة الاستثنائية التي كان يمر بها بنو إسرائيل، خصّهم سبحانه بالنعم المذكورة في هذه الآيات، وعندما تمكن بنو إسرائيل من تحصيل النعم بالكد والكدح، وسوَّغت الظروف قيامهم برفع حوائجهم بأنفسهم تركهم

__________________

(١) النجم: ٣٩.

(٢) البقرة: ٦٠.

(٣) البقرة: ٥٧.

١٦٢

وشأنهم وطلب منهم القيام بذلك بأنفسهم بالكسب والتعاون، قال سبحانه:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) (١) .

فقوله سبحانه:( فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) يرشد إلى أنّ التنوّع الذي طلبوه من الكليم لن يحصل إلّا بقيامهم بالدخول في مصر، وتحصيلها منها بالأسباب الطبيعية، لأنّ الذي يفرض على النبي أن يقوم ـ للإبقاء على حياة قومه ـ إنّما يتقدر بقدر الضرورة وهو الطعام الواحد، وأمّا الزائد على ذلك فلا يحصل إلّا عن طريق المجاري الطبيعية، والأسباب المتعارفة.

ولا تقاس تلك الظروف بالأحوال الحاكمة على أرض مكة وسكانها حيث يحكي عنهم سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

وهذا البحث أسفر عن أنّ سؤالهم الوارد في المقطع الأوّل كان على وجه لا يصح للنبي القيام به لمخالفته للسنّة الإلهية الحكيمة في الكون والحياة البشرية.

أمّا الطلب الثاني: أعني: كون النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب ويفجر الأنهار خلالها تفجيراً، فليس هذا إلّا تصوراً باطلاً في شأن النبي من أنّه يجب أن يكون رجلاً غنياً ذا ثروة طائلة، وقد حكى عنهم سبحانه تلك المزعمة بقوله:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا القُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٣) .

__________________

(١) البقرة: ٦١.

(٢) القصص: ٥٧.

(٣) الزخرف: ٣١.

١٦٣

فالإجابة على ذلك السؤال نوع اعتراف بتلك المزعمة، على أنّه يجب أن يكون بين المطلوب والرسالة رابطة عقلية يستدل بالأوّل على الثاني، وهذا الشرط غير موجود في ذلك السؤال، إذ كون الرجل ذا ثروة لا يستدل به على صحة قوله وصدق نبوته ورسالته، وإلاّ يجب أن يكون أصحاب الثروات أنبياء إذا ادّعوا النبوة والرسالة.

وأمّا الطلب الثالث: أعني قولهم:( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) فقولهم:( كَمَا زَعَمْتَ ) يعنون به قوله تعالى:( إِن نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ (١) ) غير أنّ القيام بهذا الاقتراح يضاد هدف الإعجاز، فإنّ الغاية من خرق الطبيعة هي هداية الناس إلى الدين، ولو كانت نتيجة الإعجاز أبادتهم وإهلاكهم لزم نقض الغرض.

وأمّا الطلب الرابع: أعني قولهم:( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) والمراد من قوله:( قَبِيلاً ) أي كفيلاً بما تقول، شاهداً بصحته، والمعنى: أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبيلاً. ويمكن أن يكون المراد منه مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر، وهذه الآية بمنزلة قولهم حيث حكى عنهم سبحانه بقوله:( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ) (٢) . ومن المعلوم أنّ مقترحهم أمر محال، فإنّ طلب رؤية الله المجرد عن المكان والزمان بهذه الأبصار المادية أمر غير ممكن، وهو تعالى يصف نفسه بقوله:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (٣) . ومثله طلب رؤية الملائكة بأشكالهم الواقعية، كما أوعزنا إليه غير مرة.

__________________

(١) سبأ: ٩.

(٢) الفرقان: ٢١.

(٣) الأنعام: ١٠٣.

١٦٤

وأمّا الطلب الخامس: أعني قولهم:( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ ) فيرد بما ردّ به سؤالهم الثاني.

وأمّا الطلب السادس: أعني قولهم:( أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

فلحن السؤال يدل على عنادهم وتعنّتهم، إذ لو كان هدفهم من الطلب هو الاستهداء فيكفي طلبهم الأوّل، أعني: رقي النبي إلى السماء ولم تكن حاجة لقولهم( وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وهذه التحليلات العقلية ترشدنا إلى أنّ عدم قيام النبي بهذه الطلبات والمقترحات إنّما هو لأجل فقدان مقتضى الإجابة، أو لأجل وجود مانعها.

فلننظر بماذا أجابهم سبحانه، نرى أنّه سبحانه ردّ على طلباتهم بأمره النبي أن يقول لهم:( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) والدقة في هذه الجملة القصيرة ترشدنا إلى الأمور التالية :

قوله تعالى:( سُبْحَانَ رَبِّي ) فهو يهدف إلى تنزيهه سبحانه عن الرؤية والمجيئ اللّذين طلبهما القوم حيث قالوا:( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ ) ، كما أنّه يرمي إلى أنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بالمحال الذاتي كما لا تتعلق بالأمر الممكن إذا كان على خلاف الحكمة، حيث طلبوا منه إهلاكهم وإبادتهم مع أنّهم خلقوا للاهتداء والتكامل لا للإبادة والهلاك.

وأمّا قوله:( بَشَراً رَسُولاً ) فيهدف لفظهما إلى أنّ القيام بهذه الطلبات يحتاج إلى قدرة قاهرة غير متناهية وهي خارجة عن إطار القدرة البشرية، ولست أنا إلّا بشراً وأمّا القيام بها بما أنّي رسول فيتوقف على إذنه سبحانه المنتفي هنا لما ذكرنا من العلل.

١٦٥

فقيام المسؤول بهذه الطلبات أمّا بلحاظ أنّه بشر، أو بلحاظ أنّه رسول، فإن كان باللحاظ الأوّل، فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور، وإن كان باللحاظ الثاني، فهو موقوف على إذنه سبحانه.

قال العلّامة الطباطبائي: أمره سبحانه أن يجيب عمّا اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم في ما لا يخفى على ذي نظر، فإنّهم سألوه أُموراً عظاماً لا يقوى على أكثرها إلّا القدرة الغيبية الإلهية، أضف إلى ذلك أنّ فيها ما هو مستحيل بالذات، كالإتيان بالله والملائكة، ولم يرضوا بهذا المقدار دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدّي لذلك، المجيب لما سألوه، فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا، بل قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر أو تسقط السماء أو تأتي بالله أو ترقى و ...، فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر، فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة ؟! وإن أرادوا منه ذلك بما أنّه يدّعي الرسالة، فالرسالة لا تقتضي إلّا حمل ما حمّله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه، وإقداره على أن يخلق كل ما يريد، ويوجد كل ما شاءُوا، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعي لنفسه ذلك، فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح(١) .

الآية الخامسة عشرة

قوله سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ *وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ ) (٢) .

والاستدلال بهذه الآية على مراد المستدل على غرار ما تقدم.

__________________

(١) الميزان: ١٣ / ٢٠٣.

(٢) طه: ١٣٣ ـ ١٣٤.

١٦٦

غير أنّ الاستدلال بها على مطلوبهم غير صحيح جداً، فإنّ عدم القيام بما كانوا يقترحونه من الآية كان لأجل العلة التالية: أنّهم إنّما اقترحوا آية على النبوة ـ على عادتهم في التعنت ـ تحقيراً للمعجزة التي أعطاها لنبيه، فلأجل ذلك نرى أنّ القرآن يجيبهم بقوله :

( أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ ) أي أو لم تأتكم آية هي أُمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز، وهو القرآن، فهو برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته عند الموافقة، لأنّه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة.

ويمكن أن تكون الجملة مشيرة إلى معنى آخر وهو: أنّه سبحانه يذكرهم بقوله: أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها، فماذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أُولئك ؟

فعلى المعنى الأوّل فعلّة الامتناع من الإتيان بآية أُخرى هو أنّهم كانوا بصدد تحقير المعجزة الكبرى، فإذا لم يبصروا بها فلا يبصرون بغيرها.

وعلى المعنى الثاني تشير الجملة إلى أنّ الآية لو أتتهم لكذبوها فيعمّهم العذاب ويشملهم البلاء، وقد عهد سبحانه أن لا يعذبهم ونبيّه فيهم، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (١) .

ثمّ أي فائدة لمعجزة توجب إبادة القوم وإهلاكهم ؟!

الآية السادسة عشرة

قوله سبحانه:( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ

__________________

(١) الأنفال: ٣٣.

١٦٧

كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ *مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ *وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ *وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) (١) .

نرى أنّ أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رموا قرآنه ومعجزته الكبرى بكونه أضغاث أحلام وتجاوزوا ذلك فاعتبروها فرية اختلقها ونسبها إلى الله سبحانه، ثم استقر رأيهم على أنّه قول شاعر، وهذا قول المتحيّر الذي بهره ما سمع فمرّة يقول: « حلم » وتارة يقول: « فرية »، وأُخرى بأنّه: « شعر » ولا يجزم على أمر واحد من هذه الأمور، فلأجل ذلك يعرض عن الجميع ويستدعي أن يأتي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه بآية كما أتى الأوّلون من الأنبياء مثل الناقة والعصا.

ذلك مبلغهم من العلم والدرك، والقرآن يصف نفسه بأنّه:( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وعندئذ يجب أن نستمع إلى ما يجيبهم القرآن تجاه هذا الاقتراح، فأجابهم بوجوه :

١. إنّ قوله( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) مشيراً إلى أنّه لم يؤمن قبل هؤلاء الكفار من أهل قرية جاءتهم الآيات التي طلبوها أفهم يؤمنون عند مجيئها، مصرحاً بحالهم وأنّ سبيلهم سبيل من تقدم من الأمم الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنّهم يؤمنون عندها، فلمّا جاءتهم نكثوا وخالفوا، فلو أعطينا لهؤلاء، أيضاً ما يقترحون لكانوا أنكث من هؤلاء فهل في هذه الحال يصح أن يقوم النبي بالإعجاز والإجابة على الطلبات والاقتراحات ؟

٢. انّ قوله:( إلّاأهلكناهم ) اشارة إلى أنّهم لو خالفوا ولم يؤمنوا بعد

__________________

(١) الأنبياء: ٥ ـ ٨.

(٢) العنكبوت: ٤٩.

١٦٨

المجيء بالآيات المقترحة، لعمّهم الهلاك كما عمّ الأمم السابقة واستحقّوا عذاب الاستئصال، فلأجل ذلك لم يأت بالآيات المقترحة.

٣. انّ قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) إشارة إلى جواب ثالث، وهو: أنّ الظاهر من قول المقترحين:( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) أنّهم آمنوا بنبوّة موسى وعيسى وصدقوهما، فلأجل ذلك يطلبون من النبي نفس المعجزات التي جاء بها الرسولان السابقان، فعند ذلك يدعوهم القرآن إلى أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعرّفوهم بالبشائر الواردة في حق النبي في الكتب المنزلة قبله، فلو أنّهم بصدد الحقيقة فلماذا لم يطرقوا هذا الباب ؟ وهذا آية أنّهم قوم لجاج وعناد.

٤. إنّ قوله:( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يشير إلى عقيدة القوم فكأنّهم كانوا ينتظرون من النبي أن يكون ذا قدرة فوق البشرية فلا يأكل ولا يمشي في الأسواق، ويفعل كل ما اقترحوا عليه، مع أنّ الأنبياء في منطق القرآن والعقل فوق هذه المزعمة، فهم لا يفعلون، ولا يقدرون على شيء إلّا بإذن الله قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) . ثم إنّ الآية تشتمل على حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته :

الأولى: نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية والنبوة.

الثانية: حلّها، وهو انّ الفارق بين النبي وغيره هو الوحي الإلهي، وهو كرامة من الله يخصص بها من يشاء من عباده.

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

١٦٩

فالآية نظير قوله:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

وعلى ذلك كله فامتناع النبي عن القيام بمقترحات القوم، ليس لأجل أنّه لم يؤت بمعجزة سوى القرآن، بل إمّا لأجل اليأس من إيمانهم، وإمّا لاستلزام الإنكار إبادتهم واستئصالهم، وإمّا لأجل أنّ النبي ليس قادراً على كل ما يطلبونه منه إلّا بإذن الله، وإذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط.

الآية السابعة عشرة

قال سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

وهذه الآية قد تذرّع بها الخصم على أنّ النبي لم يكن مزوداً بمعجزة سوى القرآن وأنّه كل ما طولب بالمعجزة أجاب بأنّ « الآيات عند الله » غير أنّ الإمعان في الآيات التي سبقتها وتأخرت عنها يكشف القناع عن مقصد الآية ومرادها، وإليك بيانها :

إنّ الناظر في الآيات المتقدمة على هذه الآية يجد أنّ القرآن يبرهن على كونه من الله سبحانه بأنّ النبي الآتي به أُمّي ما كان يتلو من قبله من كتاب وما كان يخط بيمينه شيئاً، فهذا الكتاب العظيم الذي ينطوي على آفاق من العلوم والمعارف والحكم، يستحيل أن يكون من نسج الإنسان وصنع البشر، فلأجل ذلك

__________________

(١) إبراهيم: ١٠ ـ ١١.

(٢) العنكبوت: ٥٠.

١٧٠

يصفه بقوله:( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (١) فبعد ذلك ينقل اقتراحهم بقوله:( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ ) تعريضاً بالكتاب على أنّه ليس بآية معجزة وهذه السخرية نظير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ *لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (٢) . ففي هذه الحالة، وهذا الموقف هل يصح للنبي أن يقوم بتلبية مقترحهم ليكون عمله نوعاً من الاعتراف بعقيدتهم وتكريساً لاستهزائهم ؟!

ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يجيبهم بقوله:( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ ) وهذا جواب عن زعمهم أنّ من يدّعي الرسالة يجب أن يكون متدرعاً بقوة غيبية يقدر بها على كل ما طولب به، وحقيقة الجواب هي التصريح بأنّه لا يشارك في القدرة على المعاجز معه سبحانه فليس للنبي شيء إلّا أن يشاء الله، وقد تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم غير مرة، وعلى ذلك فليست الآية بصدد نفي الإعجاز عن النبي، بل هي بصدد بيان حقائق غير منكرة في منطق العقل وهي: أنّ القادر المطلق هو الله سبحانه، ولا يشاركه غيره والنبي لا يقوم بخرق العادة إلّا بإذنه، وأين ذلك ممّا يدّعيه الخصم ؟!

ويؤكد ذلك ذيل الآية:( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

الآية الثامنة عشرة

قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) (٣) .

__________________

(١) العنكبوت: ٤٩.

(٢) الحجر: ٦ ـ ٧.

(٣) غافر: ٧٨.

١٧١

والاستدلال بهذه الآية على نفي المعجزة من غرائب الاستدلالات إذ ليس في الآية أيُّ إشعار بذلك فضلاً عن الدلالة والتصريح، بل مفاد الآية ومرامها كمفاد الآية الثامنة والثلاثين من سورة الرعد، أعني قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) .

وعلى ذلك فالآيتان تدلاّن على أنّ الإعجاز ليس في اختيار النبي حتى يقوم به كيف شاء، أو كيف ما شاءوا، بل يقتفي في ذلك إذن الله سبحانه، وهو موقوف على توفر شرائط غير موجودة إلّا في ظروف قليلة.

على أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الآية هي الآيات التي تنصر الحق، وتقضي بين الرسول وأُمّته وتلك أعم من الإعجاز، أعني: النصر في الحروب والظروف القاسية، ويؤيد ذلك ذيل الآية، أعني: قوله:( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) أي إذا جاء أمر الله بالعذاب قضي بالحق فأُظهر الحق وأُزهق الباطل، وخسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك وفي آخرتهم بالعذاب الدائم.

حصيلة البحث

وأنت أيها القارئ الكريم إذا أمعنت في هذه الآيات وما تشابهها في الهدف والمفاد تقف على أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما يرميه الخصم المعاند الذي يكن للإسلام ونبيه حقداً وعداوة، ويمهد الطريق للغزو الفكري وزعزعة القلوب عما اعتقدت به.

فإنّ هذه الآيات تهدف إلى حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق القرآنية وهي أن للإتيان بالمعجزة قوانين وضوابط، وانّه يتوقف على توفر شرائط أشرنا إليها في مستهل البحث الحاضر، فلو فقدت واحدة من هذه لما صح للنبي القيام

١٧٢

بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم، وليس في الآيات أي إشعار بأنّ النبي كان يظهر العجز عن القيام بالإعجاز والإتيان بالآية أو يحيل الأمر إلى الله سبحانه بمعنى أنّه لم يؤت له أيّة معجزة سوى القرآن.

كل ذلك دعايات وسفاسف ألصقها الكتّاب المسيحيون، ومن يقتفي أثرهم في الأهداف والغايات بمفاد الآيات ومعانيها، والآيات تنادي خلاف ما ادّعوا.

والعجب أنّ بعض الكتّاب قد استدل على مدّعاه ببعض الآيات التي لا تمس ما نحن فيه أصلاً مثل قوله سبحانه:( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *قُلْ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (١) .

فالآية تهدف إلى أنّ العلم بوقت قيام القيامة يختص به سبحانه ولم يطّلع عليه أحد سواه، قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (٢) ومثل ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ *وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (٣) .

فالآية تهدف إلى أنّ النبي ليس بضنين على الوحي، بأن يكتم بعضه ويبيّن بعضه، فالمراد من الغيب هو الوحي، فلا صلة للآية بالإعجاز، كل ذلك يعرب عن أنّ الكاتب كان يخبط خبط عشواء فيأتي في مقام الاستدلال بشيء لا مساس له بالموضوع أبداً.

__________________

(١) الملك: ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) لقمان: ٣٤.

(٣) التكوير: ٢٣ ـ ٢٥.

١٧٣
١٧٤

٤

النبي الشفيع

في القرآن الكريم

١٧٥

في هذا الفصل

١. الشفاعة وكلمات علماء الإسلام، وهي أربع وثلاثون كلمة.

٢. الآيات الواردة حول الشفاعة، وهي على سبعة أصناف :

أ. الآيات النافية للشفاعة.

ب. ما يفنّد عقيدة اليهود فيها.

ج. ما ينفي شمول الشفاعة للكفّار.

د. ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة.

ه‍. ما يعد الشفاعة حقاً مختصاً به سبحانه.

و. ما يثبت الشفاعة لغيره سبحانه في شرائط خاصة.

ز. ما يسمي أسماء من تقبل شفاعتهم.

٣. الشفاعة المرفوضة والشفاعة المقبولة.

٤. آيات أُخرى في الشفاعة.

٥. حقيقة الشفاعة وأقسامها الثلاثة: التكوينية، والقيادية، والمصطلحة.

٦. لماذا شرِّعت الشفاعة، وما هي مبرراتها ؟

٧. ما هو أثر الشفاعة، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

٨. إشكالات مثارة حول الشفاعة وهي عشرة.

٩. الشفاعة في الأدب العربي.

١٠. الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

١٧٦

١

الشفاعة وعلماء الإسلام

الشفاعة أصل من أُصول الإسلام

أجمع العلماء على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلين على ذلك بقوله سبحانه:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١) .

وبقوله سبحانه:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢) .

وفسّرت الآيتان بالشفاعة، فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة، والذي أُعطي للنبي هو حق الشفاعة الذي يرضيه.

ولما كانت الإحاطة بمفاد الآيتين تتوقف على البحث عن: معنى الشفاعة وأدلّتها، وحدودها، والتعرّف على الشفعاء، ناسب أن نبحث عن الشفاعة بالإسهاب ـ وإن كان الهدف الأسمى هو التعرّف على إحدى صفات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كونه شفيعاً يوم القيامة ـ فنقول :

اتفقت الأمّة الإسلامية على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب الكريم، وصرّحت به السنّة النبوية والأحاديث عن العترة الطاهرة.

ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وان اختلفوا في معناها وبعض

__________________

(١) الضحى: ٥.

(٢) الإسراء: ٧٩.

١٧٧

خصوصياتها. فذهب الإمامية والأشاعرة إلى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وذهبت المعتزلة إلى خلاف ذلك قائلين: بأنّ شفاعة رسول الله للمطيعين، دون العاصين، وأنّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين(١) .

وإلى ذلك يرجع أيضاً اختلافهم في معنى الشفاعة، هل هي بمعنى طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب كما ذهبت إليه الوعيدية ؟ أو إسقاط عقاب الفساق من الأمّة كما ذهب إليه غيرهم(٢) ؟ فانّ مآل النزاعين أمر واحد، فتارة تطرح المسألة بلحاظ المشفوع له، فيقال: هل هي للمطيعين أو الخاطئين ؟ وأُخرى بلحاظ نفس معنى الشفاعة، هل هو طلب زيادة المنافع أو إسقاط العقاب ؟

وعلى كل تقدير، فالشفاعة بإجمالها موضع اتفاق بين الأمّة الإسلامية، ولا بأس أن نذكر بعض نصوص علماء الإسلام في هذا البحث حتى يكون القارئ على بصيرة من الأمر، فنقول :

١. لقد أشار أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي المتوفّى عام ٣٣٣ ه‍ في تفسيره، إلى الشفاعة المقبولة، واستدل لها بآية:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٣) وقد أورد قبلها قوله سبحانه:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٤) .

وقال ما حاصله: إنّ الآية الأولى وإن كانت تنفي الشفاعة، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية(٥) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ١٤ ـ ١٥.

(٢) كشف المراد: ٢٦٢.

(٣) الأنبياء: ٢٨.

(٤) البقرة: ٤٨.

(٥) تفسير الماتريدي المعروف بتأويلات أهل السنّة: ١٤٨.

١٧٨

٢. قال تاج الإسلام أبو بكر الكلابادي ( المتوفّى عام ٣٨٠ ه‍ ): أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر الله سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي في الشفاعة واجب لقوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١) ولقوله:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢) وقوله:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٤) .

٣. قال المفيد: اتفقت الإمامية على أنّ رسول الله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وأنّ أمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمّة آل محمد يشفعون كذلك، وينجي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ووافقهم على شفاعة الرسول، المرجئة، سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعمت أنّ شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للمطيعين دون العاصين، وانّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين(٥) .

وقال في موضع آخر: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته من الشيعة خاصة فيشفّعه الله عزّ وجلّ، ويشفع أمير المؤمنين في عصاة شيعته فيشفّعه الله عزّ وجلّ، وتشفع الأئمّة في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفّعهم الله، ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفّعه الله، وعلى هذا القول إجماع الإمامية ـ إلّا من شذ منهم ـ وقد نطق به القرآن، وتظاهرت به الأخبار قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لأهل

__________________

(١) الضحى: ٥.

(٢) الإسراء: ٧٩.

(٣) الأنبياء: ٢٨.

(٤) التعرف لمذهب أهل التصوف: ٥٤ ـ ٥٥، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.

(٥) أوائل المقالات: ١٥.

١٧٩

الإيمان:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (١) وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه »(٢) .

٤. وقال الشيخ الطوسي: حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيشفّعه الله تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قولهعليه‌السلام : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وإنّما قلنا لا تكون في زيادة المنافع، لأنّها لو استعملت في ذلك، لكان أحدنا شافعاً في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سأل الله أن يزيده في كرامته، وذلك خلاف الإجماع، فعلم بذلك أنّ الشفاعة مختصة بما قلناه، والشفاعة ثبتت عندنا للنبي وكثير من أصحابه ولجميع الأئمّة المعصومين وكثير من المؤمنين الصالحين(٣) .

٥. يقول القاضي عياض: مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً، ووجوبها سمعاً، بصريح الآيات، وبخبر الصادق، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى:( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله، وهي في الكفّار، وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات، فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم، وإخراج من استوجب النار(٤) .

__________________

(١) الشعراء: ١٠٠ ـ ١٠١.

(٢) أوائل المقالات: ٥٢ ـ ٥٣.

(٣) التبيان: ١ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٤) بحار الأنوار: ٨ / ٦٢، وشرح صحيح مسلم: ٢ / ٥٨.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وإن أراد البيع ولا حاكم هناك ، استقلّ به ، فإن كان فوجهان لهم ، أحدهما : جواز الاستقلال ؛ لأنّه نائب عن المالك في الحفظ ، فكذا في البيع(١) .

مسألة ٣٩٤ : لو وجد بعيراً في أيّام منى في الصحراء مقلَّداً كما يُقلَّد الهدي ، لم يجز أخذه ؛ لأنّه لا يجوز مع عدم التقليد فمعه أولى.

وقال الشافعي : يأخذه ويُعرّفه أيّام منى ، فإن خاف أن يفوته وقت النحر نحره ، والأولى عنده أن يرفع إلى الحاكم حتى يأمره بنحره(٢) .

ونقل بعضهم قولاً آخَر : إنّه لا يجوز أخذه(٣) ، كما ذهبنا إليه.

ثمّ بنوا القولين على القولين فيما إذا وجد بدنة منحورة غمس ما قُلّدت به في دمها وضرب صفحة سنامها ، هل يجوز الأكل منها؟ فإن منعنا الأكل ، منعنا الأخذ هنا ، وإن جوّزنا الأكل اعتماداً على العلامة ، فكذا التقليد علامة كون البعير هدياً ، والظاهر أنّ تخلّفه كان لضعفه عن المسير ، والأُضحية المعيّنة إذا ذُبحت في وقت النحر وقع في موقعه وإن لم يأذن صاحبها(٤) .

قال الجويني : لكن ذبح الضحيّة وإن وقع في موقعه لا يجوز الإقدام عليه من غير إذنٍ(٥) .

وجوّز بعض الشافعيّة الأخذ والنحر(٦) .

ولهذا الإشكال ذهب القفّال تفريعاً على هذا القول أنّه يجب رفع

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٦.

(٢) البيان ٧ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦.

٣٠١

الأمر إلى الحاكم لينحره(١) .

وهذا ليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ الأخذ الممنوع منه إنّما هو الأخذ للتملّك ، ولا شكّ أنّ هذا البعير لا يؤخذ للتملّك.

المطلب الثاني : في الملتقط.

مسألة ٣٩٥ : يصحّ أخذ الضالّة في موضع الجواز لكلّ بالغٍ عاقلٍ.

ولو أخذه في موضع المنع ، لم يجز ، وضمنه ، إماماً كان أو غيره ؛ لأنّه أخذ ملك غيره بغير إذنه ، ولا أذن الشارع له ، فهو كالغاصب.

وهذا الفرض في الإمام عندنا باطل ؛ لأنّه معصوم.

أمّا عند العامّة الذين لم يوجبوا عصمة إمامهم فإنّه قد يُفرض.

وكذا يُفرض عندنا في نائب الإمام.

وكذا يجوز للصبي والمجنون أخذ الضوالّ ؛ لأنّه اكتساب ، وينتزع الوليّ ذلك من يدهما ، ويتولّى التعريف عنهما سنةً ، فإن لم يأت له مالك تملّكاه وضمناه بتمليك الوليّ لهما وتضمينهما إيّاه إن رأى الغبطة في ذلك ، وإن لم يكن في تمليكهما غبطة ، أبقاها أمانةً.

مسألة ٣٩٦ : الأقرب : عدم اشتراط الحُرّيّة ، فيجوز للعبد القِنّ والمدبَّر والمكاتَب وأُمّ الولد والمعتق بعضه التقاطُ الضوالّ في موضع الجواز ؛ لأنّه اكتساب وهؤلاء من أهله وهُمْ أهلٌ للحفظ.

والأقرب : إنّه لا يشترط الإسلام ولا العدالة ، فيجوز للكافر أخذ الضالّة ، وكذا للفاسق ؛ لأنّه اكتساب وهُما من أهله.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

٣٠٢

وقال الشافعي : لا يجوز لغير الإمام وغير نائبه أخذ الضوالّ للحفظ لصاحبها ، فإن أخذها غير الامام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لزمه الضمان ؛ لأنّه لا ولاية له على صاحبها(١) .

ولأصحابه وجهٌ آخَر : إنّه يجوز أخذها لحفظها قياساً على الإمام(٢) .

واحتجّ بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنَع من أخذها من غير أن يفرّق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ، والقياس على الإمام باطل ؛ لأنّ له ولايةً ، وهذا لا ولاية له(٣) .

ونحن نقول بموجبه في موضع المنع من أخذها.

أمّا لو وجدها في موضعٍ يخاف عليها فيه ، مثل أن يجدها في أرض مسبعة يغلب على الظنّ افتراس الأسد لها إن تركها فيه ، أو وجدها قريبةً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها ، أو في موضعٍ يستحلّ أهله أخذ أموال المسلمين ، أو في برّيّة لا ماء بها ولا مرعى ، فالأولى جواز الأخذ للحفظ ، ولا ضمان على آخذها ؛ لما فيه من إنقاذها من الهلاك ، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حرقٍ ، وإذا حصلت في يده سلّمها إلى بيت المال ، وبرئ من ضمانها ، وله التملّك مع الضمان ؛ لأنّ الشارع نبّه على علّة عدم التملّك لها بأنّها محفوظة ، فإذا كانت في المهلكة انتفت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٥ - ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦٠ - ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٣ و ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٣) راجع : المغني ٦ : ٣٩٩ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

٣٠٣

العلّة.

مسألة ٣٩٧ : لو ترك دابّة بمهلكةٍ فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلّصها ، تملّكها - وبه قال الليث والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق(١) - إلّا أن يكون تركها بنيّة العود إليها فأخذها ، أو كانت قد ضلّت منه ؛ لما رواه العامّة عن الشعبي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له »(٢) .

وفي لفظٍ آخَر عن الشعبي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مَنْ ترك دابّةً بمهلكةٍ فأحياها رجل فهي لمَنْ أحياها »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها لـمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال ومن الموت فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنّما هي مثل الشي‌ء المباح »(٤) .

ولأنّ القول بملكها يتضمّن إحياءها وإنقاذها من الهلاك ، وحفظاً للمال عن الضياع ، ومحافظةً على حرمة الحيوان ، وفي القول بعدم الملك‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٠ - ١٦١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٧ / ٣٥٢٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٦٨ / ٢٥٩ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٨ / ٣٥٢٥ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٤)

٣٠٤

تضييع ذلك كلّه من غير مصلحةٍ تحصل ، ولأنّ مالكه نبذه رغبةً عنه وعجزاً عن أخذه ، فمَلَكه آخذه ، كالمتساقط من السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبةً عنه وزهداً فيه.

المطلب الثالث : في الأحكام.

مسألة ٣٩٨ : يجوز للإمام ونائبه أخذ الضالّة على وجه الحفظ لصاحبه ، ثمّ يرسله في الحمى الذي حماه الإمام لخيل المجاهدين والضوالّ ؛ لأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب ، وفي أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك ، ثمّ يُعرّفها حولاً ، فإن جاء صاحبها ، وإلّا بقيت في الحمى.

وقال أحمد : لا يلزمه تعريفها ؛ لأنّ عمر لم يكن يُعرّف الضوالّ(١) .

وفعل عمر ليس حجّةً.

وإذا عرف إنسان دابّته ، أقام البيّنة عليها وأخذها ، ولا يكفي وصفها ؛ لأنّها ظاهرة بين الناس يعرف صفاتها غير أهلها ، فلا تكون الصفة(٢) لها دليلاً على ملكه لها ، ولأنّ الضالّة قد كانت ظاهرةً للناس حين كانت في يد مالكها ، فلا يختصّ هو بمعرفة صفاتها دون غيره ، ويمكنه إقامة البيّنة عليها ؛ لظهورها للناس ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إيّاها.

مسألة ٣٩٩ : الأقرب عندي : إنّه يجوز لكلّ أحدٍ أخذ الضالّة ، صغيرةً كانت أو كبيرةً ، ممتنعةً عن السباع أو غير ممتنعةٍ ، بقصد الحفظ لمالكها ، والأحاديث(٣) الواردة في النهي عن ذلك محمولة على ما إذا نوى بالالتقاط‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٩٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) في « ث ، خ ، ر » : « الصفات ».

(٣) منها : ما تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦٦.

٣٠٥

التملّك إمّا قبل التعريف أو بعده ، أمّا مع نيّة الاحتفاظ فالأولى الجواز ، كما أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه أخذ ما لا يجوز أخذه على وجه التملّك.

مسألة ٤٠٠ : ما يحصل عند الإمام من الضوالّ فإنّه يُشهد عليها ويَسِمها بوَسْم أنّها ضالّة.

ثمّ إن كان له حمى ، تركها فيه إن رأى المصلحة في ذلك ، وإن رأى المصلحة في بيعها أو لم يكن له حمى ، باعها بعد أن يصفها ويحفظ صفاتها ، ويحفظ ثمنها لصاحبها ، فإنّ ذلك أحفظ لها ؛ لأنّ في تركها ضرراً على مالكها ؛ لإفضائه إلى أن تأكل جميع ثمنها.

وأمّا غير الإمام ونائبه إذا التقط الضالّة ولم يجد سلطاناً يُنفق عليها ، أنفق من نفسه ، ويرجع مع نيّة الرجوع.

وقيل : لا يرجع ؛ لأنّ عليه الحفظَ ، ولا يتمّ إلّا بالإنفاق(١) .

والأوّل أقرب ؛ دفعاً لتوجّه الضرر بالالتقاط.

ولا يبعد من الصواب التفصيلُ ، فإن كان قد نوى التملّك قبل التعريف أو بعده ، أنفق من ماله ، ولا رجوع ؛ لأنّه فَعَل ذلك لنفعه ، وإن نوى الحفظ دائماً ، رجع مع الإشهاد إن تمكّن ، وإلّا فمع نيّته.

ولو كان للّقطة نفعٌ كالظهر للركوب ، أو الحمل أو اللبن أو الخدمة ، قال الشيخرحمه‌الله : يكون ذلك بإزاء ما أنفق(٢) .

والأقرب : أن ينظر في قدر النفقة وقيمة المنفعة ، ويتقاصّان.

مسألة ٤٠١ : لا يضمن الضالّة بعد الحول إلّا مع قصد التملّك.

ولو قصد حفظها دائماً ، لم يضمن ، كما في لقطة الأموال ، إلّا مع‌

____________________

(١) كما في شرائع الإسلام ٣ : ٢٩٠.

(٢) النهاية : ٣٢٤.

٣٠٦

التفريط أو التعدّي.

ولو قصد التملّك ، ضمن ، فإن نوى الحفظ بعد ذلك ، لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّه قد تعلّق الضمان بذمّته ، كما لو تعدّى في الوديعة ثمّ نوى الحفظ.

ولو قصد الحفظ ثمّ نوى التملّك ، لزمه الضمان من حين نيّة التملّك.

مسألة ٤٠٢ : لو وجد مملوكاً بالغاً أو مراهقاً ، لم يجز له أخذه ؛ لأنّه كالضالّة الممتنعة يتمكّن من دفع المؤذيات عنه.

ولو كان صغيراً ، كان له أخذه ؛ لأنّه في معرض التلف ، والمال إذا كان بهذه الحال جاز أخذه ، وهو نوع منه.

وإذا أخذ عبداً صغيراً للحفظ ، لم يدفع إلى مدّعيه إلّا بالبيّنة ، ولا تكفي الشهادة على شهود الأصل بالوصف ؛ لاحتمال الشركة في الأوصاف ، بل يجب إحضار شهود الأصل ليشهدوا بالعين ، فإن تعذّر إحضارهم لم يجب نقل العبد إلى بلدهم ولا بيعه على مَنْ يحمله ، ولو رأى الحاكم ذلك صلاحاً جاز ، ولو تلف قبل الوصول أو بعده ولم يثبت دعواه ، ضمن المدّعي قيمة العبد وأجره.

مسألة ٤٠٣ : لو ترك متاعاً في مهلكةٍ فخلّصه إنسان ، لم يملكه ؛ لأنّه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف كالخشية على الحيوان ، فإنّ الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع ، والمتاع يبقى إلى أن يعود مالكه إليه.

ولو كان المتروك عبداً ، لم يملكه آخذه ؛ لأنّ العبد في العادة يمكنه التخلّص إلى الأماكن التي يعيش فيها ، بخلاف البهيمة.

وله أخذ العبد والمتاع ليخلّصه لصاحبه.

وهل يستحقّ الأُجرة عن تخليص العبد أو المتاع؟ الوجه : إنّه لا يستحقّ إلّا مع الجُعْل ؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير جُعْلٍ ، فلم يستحق شيئاً ، كالملتقط.

٣٠٧

وقال أحمد : يستحقّ الجُعْل(١) . وليس بجيّدٍ.

مسألة ٤٠٤ : ما يلقيه رُكْبان البحر فيه من السفينة خوفاً من الغرق إذا أخرجه غير مالكه ، فالأقرب : إنّه للمُخرج ، وبه قال الليث بن سعد والحسن البصري [ قال : ](٢) وما نضب عنه الماء فهو لأهله(٣) .

وقال ابن المنذر : يردّه على أربابه ، ولا جُعْل له(٤) ، وهو مقتضى قول الشافعي(٥) .

ويتخرّج على قول أحمد : إنّ لمن أنقذه أُجرة مثله(٦) .

والأقرب : ما قدّمناه ؛ لأنّه مال ألقاه أربابه فيما يتلف بتركه فيه اختياراً منهم ، فمَلَكه مَنْ أخرجه ، كالمنبوذ بنيّة الإعراض عن تملّكه.

ولو انكسرت السفينة في البحر فأُخرج بعض المتاع الذي فيها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، روى الشعيري فيه أنّ الصادقعليه‌السلام سئل عن ذلك ، فقال : « أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم وهُمْ أحقّ به »(٧) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني والشرح الكبير ، وهو مقتضى ما في الإشراف على مذاهب أهل العلم.

(٣ و ٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦١ ، المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٥) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٦) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٧ ، الهامش (٣)

٣٠٨

وقال الشافعي وابن المنذر : إذا انكسرت السفينة فأخرجه قوم ، يأخذ أصحاب المتاع متاعهم ، ولا شي‌ء للّذين أصابوه(١) .

وعلى قياس قول أحمد يكون لمستخرجه أُجرة المثل ؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى تحصيله(٢) وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق ، فإنّ الغوّاص إذا علم أنّه يُدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص ، وإن علم أنّه يؤخذ منه بغير شي‌ءٍ لم يخاطر بنفسه في استخراجه(٣) .

مسألة ٤٠٥ : قد بيّنّا أنّه يجوز للإنسان أن يلتقط العبد الصغير وكذا الجارية الصغيرة ، ويُملك كلٌّ منهما بعد التعريف.

وقياس مذهب أحمد : إنّه لا يُملكان بالتعريف(٤) .

وقال الشافعي : يملك العبد دون الجارية ؛ لأنّ التملّك بالتعريف - عنده - كالقرض ، والجارية - عنده - لا تُملك بالقرض(٥) .

واستشكل بعض العامّة ذلك ؛ فإنّ الملقوط محكوم بحُرّيّته ، وإن كان ممّن يعبّر عن نفسه فأقرّ بأنّه مملوك لم يُقبل إقراره ؛ لأنّ الطفل لا قول له ، ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريف سيّده(٦) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦ - ٣٥٧.

(٢) الظاهر : « تخليصه ».

(٣) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٠٢ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، البيان ٧ : ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٧ ، المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

٣٠٩

الفصل الثالث : في اللقيط‌

وفيه مطالب :

الأوّل : الأركان.

اللقيط كلّ صبي ضائع لا كافل له ، ويُسمّى منبوذاً باعتبار أنّه يُنبذ ، أي يرمى ، ويُسمّى لقيطاً ، أي ملقوطاً ، واللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كما يقال : دهين وخضيب وجريح وطريح ، وإنّما هو مدهون ومخضوب ومجروح ومطروح ، ويُسمّى ملقوطاً باعتبار أنّه يُلقط.

إذا عرفت هذا ، فالأركان ثلاثة :

الأوّل : الالتقاط.

وهو واجب على الكفاية ؛ لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك ، وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، وقد قال الله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١) .

ولأنّ فيه إحياء النفس فكان واجباً ، كإطعام المضطرّ وإنجائه من الغرق ، وقد قال الله تعالى :( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٢) وقال تعالى :( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٣) .

ووجد سُنَين أبو جميلة منبوذاً فجاء به إلى عمر بن الخطّاب ، فقال :

____________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة المائدة : ٣٢.

(٣) سورة الحجّ : ٧٧.

٣١٠

ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال : وجدتُها ضائعةً فأخذتُها ، فقال عريفه : إنّه رجل صالح ، فقال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : اذهب فهو حُرٌّ ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته(١) .

وهذا الخبر عندنا لا يُعوّل عليه ، والولاء عندنا لمن يتولّاه الملتقط ، فإن لم يتوال أحداً ، كان ميراثه للإمام.

وليس أخذ اللقيط واجباً على الأعيان بالإجماع وأصالة البراءة ، ولئلّا تتضادّ الأحكام ، ولأنّ الغرض الحفظ والتربية ، وذلك يحصل بأيّ واحدٍ اتّفق ، بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولو تركه الجماعة بأسرهم أثموا بأجمعهم إذا علموا به وتركوه مع إمكان أخذه.

مسألة ٤٠٦ : ويستحبّ الإشهاد على أخذه ؛ لأنّه أصون وأحفظ ، لأنّه يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ، ولا تعريف في اللقيط.

وللشافعيّة طريقان ، أحدهما : إنّه على وجهين أو قولين كما قدّمنا في اللّقطة ، والأصح : القطع بالوجوب ، بخلاف اللّقطة ، فإنّ الأصحّ فيها الاستحباب ؛ لأنّ اللقيط يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، فجاز أن يجب الإشهاد عليه كما في النكاح(٢) .

والأصل عندنا ممنوع.

وحكى الجويني وجهاً ثالثاً هو : الفرق ، فإن كان الملتقط على ظاهر العدالة لم يكلّف الإشهاد ، وإن كان مستور العدالة كُلّف ليصير الإشهاد قرينةً‌

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٣٨ / ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٧.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، البيان ٨ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

٣١١

تغلب على الظنّ الثقة(١) .

وإذا أوجبنا الإشهاد فلو تركه لم تسقط ولاية الحضانة.

وقال الشافعي : تسقط ولاية الحضانة ، ويجوز الانتزاع(٢) .

وإذا أشهد فليشهد على الملتقط وما معه من ثيابٍ وغيرها إن كان معه شي‌ء.

الركن الثاني : اللقيط.

وقد ذكرنا أنّه كلّ صبي ضائع لا كافل له ، والتقاطه من فروض الكفايات ، فيخرج بقيد الصبي البالغ ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة والتعهّد ، فلا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وقع في معرض هلاكٍ ، أُعين ليتخلّص.

أمّا الصبي الذي بلغ سنّ التمييز فالأقرب : جواز التقاطه ؛ لحاجته إلى التعهّد والتربية ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّه لا يلتقط ؛ لأنّه مستقلٌّ ممتنع ، كضالّة الإبل ، فلا يتولّى أمره إلّا الحاكم(٣) .

وقولنا : « ضائع » نريد به المنبوذ ؛ لأنّ غير المنبوذ يحفظه أبوه أو جدّه لأبيه أو الوصي لأحدهما ، فإن لم يكن أحد هؤلاء ، نصب القاضي له مَنْ يراعيه ويحفظه ويتسلّمه ؛ لأنّه كان له كافل معلوم ، وهو أبوه أو جدّه أو وصيّهما ، فإذا فقد قام القاضي مقامه ، كما أنّه يقوم لحفظ مال الغائبين والمفقودين ، أمّا المنبوذ فإنّه يشبه اللّقطة ولهذا يُسمّى لقيطاً فلم يختصّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩.

(٢) الوسيط ٤ : ٣٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٤.

٣١٢

حفظه بالقاضي.

وقولنا : « لا كافل له » نريد به مَنْ لا أب له ولا جدّ للأب ومَنْ يقوم مقامهما ، والملتَقَط ممّن هو في حضانة أحد هؤلاء لا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وُجد في مضيعةٍ أُخذ ليُردّ إلى حاضنه.

الركن الثالث : الملتقِط.

مسألة ٤٠٧ : يعتبر في الملتقِط التكليف والحُرّيّة والإسلام والعدالة ، فلا يصحّ التقاط الصبي ولا المجنون.

ولو كان الجنون يعتوره أدواراً ، أخذه الحاكم من عنده ، كما يأخذه لو التقطه المجنون المطبق أو الصبي.

وأمّا العبد فليس له الالتقاط ؛ لأنّ منافعه ملك سيّده ، فليس له صَرفها إلى غيره إلّا بإذنه ، ولأنّ الالتقاط تبرّعٌ والعبد ليس من أهله ؛ إذ أوقاته مشغولة بخدمة مولاه.

ولو أذن له السيّد أو علم به فأقرّه في يده ، جاز ، وكان السيّد في الحقيقة هو الملتقِط ، والعبد نائبه قد استعان به عليه في الأخذ والتربية والحضانة ، فصار كما لو التقطه سيّده وسلّمه إليه.

وإذا أذن له السيّد ، لم يكن له الرجوع في ذلك.

أمّا لو كان الطفل في موضعٍ لا ملتِقط له سوى العبد ، فإنّه يجوز له التقاطه ؛ لأنّه تخليصٌ له من الهلاك ، فجاز ، كما لو أراد التخليص من الغرق.

ولو التقط العبد مع وجود ملتقطٍ غيره ، لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّه المنصوب للمصالح ، إلّا أن يرضى مولاه ويأذن بتقريره في‌

٣١٣

يده ، فيقدَّم على الحاكم.

ولا فرق بين القِنّ والمدبَّر وأُمّ الولد والمكاتَب والمحرَّر بعضه في ذلك كلّه ؛ لأنّه ليس لأحد هؤلاء التبرّعُ بماله ولا بمنافعه إلّا بإذن السيّد.

وقال الشافعي : المكاتَب إذا التقط بغير إذن السيّد انتُزع من يده ، كالقِنّ ، وإن التقط بإذن السيّد جاء فيه الخلاف في تبرّعاته بالإذن ، لكنّ الظاهر عندهم المنع ؛ لأنّ حقّ الحضانة ولاية ، وليس المكاتَب أهلاً لها(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما.

وللشافعيّة وجهان في الـمُعتَق نصفه إذا التقط في يوم نفسه هل يستحقّ الكفالة؟(٢) .

مسألة ٤٠٨ : لا يجوز للكافر أن يلتقط الصبي المسلم ، سواء كان الكافر ذمّيّاً أو معاهداً أو حربيّاً ؛ لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم ، قال الله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه ويُعلّمه الكفر ، بل الظاهر أنّه يُربّيه على دينه وينشأ على ذلك كولده ، فإن التقطه لم يُقرّ في يده.

أمّا لو كان الطفل محكوماً بكفره ، فإنّه يجوز للكافر التقاطه ؛ لقوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٤) .

وللمسلم التقاط الطفل الكافر.

مسألة ٤٠٩ : الأقرب : اعتبار العدالة في الملتقِط ، فلو التقطه الفاسق‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٣) سورة النساء : ١٤١.

(٤) سورة الأنفال : ٧٣.

٣١٤

لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّ الفاسق غير مؤتمنٍ شرعاً ، وهو ظالم ، فلا يجوز الركون إليه ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ) (١) ولا يؤمن أن يبيع الطفل أو يسترقّه ويدّعيه مملوكاً له بعد مدّةٍ ، ولا يؤمن سوء تربيته له ولا يوثق عليه ويخشى الفساد به ، وهو قول الشافعي(٢) أيضاً.

ويفارق اللّقطة - حيث أُقرّت في يد الفاسق عندنا وفي أحد قولَي الشافعي(٣) - من ثلاثة أوجُه :

الأوّل : إنّ في اللّقطة معنى التكسّب ، والفاسق من أهل التكسّب ، وهاهنا لا كسب ، بل هو مجرّد الولاية.

الثاني : إنّ في اللّقطة وجوب ردّها إليه لو انتزعناها منه بعد التعريف حولاً ونيّة التملّك ليتملّكها ، فلم ننتزعها منه واستظهرنا عليه في حفظها وإن كان الانتزاع أحوط ، وهنا لا يردّ اللقيط إليه ، فكان الانتزاع أحوط وأسهل.

الثالث : المقصود في اللّقطة حفظ المال ، ويمكن الاحتياط عليه بالاستظهار في التعريف ، أو بنصب الحاكم مَنْ يُعرّفها ، فيزول خوف الخيانة ، ولا يحتاج إلى أن ينتزعها الحاكم ، وهنا المقصود حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولا سبيل إلى الاستظهار عليه ؛ لأنّه قد يدّعي رقّه في بعض البلدان وبعض الأحوال.

____________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٢ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥ ، المغني ٦ : ٤١٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢ و ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

٣١٥

وقيل : لا يشترط العدالة ، ولا ينتزع اللقيط من يد الفاسق ؛ لإمكان حفظه في يده بالإشهاد عليه ، ويأمر الحاكم أميناً يشارفه عليه كلّ وقتٍ ويتعهّده في كلّ زمانٍ ، ويشيع أمره فيعرف أنّه [ لقيط ](١) فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته ؛ جمعاً بين الحقّين ، كما في اللّقطة(٢) .

مسألة ٤١٠ : مَنْ ظاهر حاله الأمانة إلّا أنّه لم يختبر حاله ، لا ينتزع من يده ؛ لأنّ ظاهر المسلم العدالة ، ولم يوجد ما يعارض هذا الظاهر ، ولأنّ حكمه حكم العَدْل في لقطة المال والولاية في النكاح وأكثر الأحكام ، لكن يوكل الإمام مَنْ يراقبه من حيث لا يدري لئلّا يتأذّى ، فإذا حصلت للحاكم الثقة به صار كمعلوم العدالة.

وقبل ذلك لو أراد السفر به ، مُنع وانتُزع منه ؛ لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه وأن يكون إظهاره العدالة لمثل هذا الغرض الفاسد ، وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني له : إنّه يُقرّ في يده ويسافر به ؛ لأنّه يُقرّ في يده في الحضر من غير مشرفٍ يُضمّ إليه ، فكذا في السفر ، كالعَدْل ، ولأنّ الظاهر الستر والصيانة(٣) .

فأمّا مَنْ عُرفت عدالته وظهرت أمانته فيُقرّ اللقيط في يده في سفرٍ وحضرٍ ؛ لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة ، ولها وجهان.

مسألة ٤١١ : يعتبر في الملتقِط الرشد ، فلا يصحّ التقاط المبذِّر‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « لقطة ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) المغني ٦ : ٤١٣ - ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠.

(٣) الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦ ، المغني ٦ : ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١١ ، وفيها القول الأوّل فقط.

٣١٦

المحجور عليه ، فلو التقط لم يُقر في يده وانتُزع منه ؛ لأنّه ليس مؤتمناً عليه شرعاً وإن كان عَدْلاً.

ولا يشترط في الملتقِط الذكورة ، فإنّ الحضانة أليق بالإناث.

ولا يشترط كونه غنيّاً ؛ إذ ليست النفقة على الملتقط.

والفقير يساوي الغني في الحضانة.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر ، وهو : إنّه لا يُقرّ في يد الفقير ؛ لأنّه لا يتفرّغ للحضانة ؛ لاشتغاله بطلب القوت(١) .

مسألة ٤١٢ : لو ازدحم على لقيطٍ اثنان ، فإن كان ازدحامهما عليه قبل أخذه وقال كلّ واحدٍ منهما : أنا آخذه وأحضنه ، جعله الحاكم في يد مَنْ رآه منهما أو من غيرهما ؛ لأنّه لا حقّ لهما قبل الأخذ.

وإن ازدحما بعد الأخذ بأن تناولاه تناولاً واحداً دفعةً واحدة ، فإن لم يكن أحدهما أهلاً للالتقاط مُنع منه ، وسلّم اللقيط إلى الآخَر ، كما لو كان أحدهما مسلماً حُرّاً عَدْلاً والآخَر يكون كافراً أو فاسقاً أو عبداً لم يأذن له مولاه ، أو مكاتَباً كذلك ، فإنّ المسلم العَدْل الحُرّ يُقرّ في يده ، ولا يشاركه الآخَر ، ولا اعتبار بمشاركته إيّاه في الالتقاط ؛ لأنّه لو التقطه وحده لم يُقرّ في يده ، فإذا شاركه مَنْ هو من أهل الالتقاط كان أولى.

وأمّا إن كان كلّ واحدٍ منهما أهلاً للالتقاط ، فإن سبق أحدهما إلى الالتقاط ، مُنع الآخَر من مزاحمته.

ولا يثبت السبق بالوقوف على رأسه من غير أخذٍ ، وهو أظهر وجهي‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣١٧

الشافعيّة ، والثاني : إنّه يثبت(١) .

وإن لم يسبق أحدهما ، فإن اختصّ أحدهما بوصفٍ يوجب تقدّمه قُدّم ، وكان أولى من الآخَر.

وإن تساويا من كلّ وجهٍ ، فإن سلّم أحدهما لصاحبه ورضي بإسقاط حقّه جاز ؛ لأنّ الحقّ له ، فلا يُمنع من الإيثار به ، وإن تشاحّا أُقرع بينهما - وبه قال الشافعي(٢) - لقوله تعالى :( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (٣) .

ولأنّه أمر مشكل ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم أولويّة أحدهما ، وكلّ مشكلٍ ففيه القرعة بالنصّ عن أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

ولأنّه لا يمكن أن يُخرج عن أيديهما ؛ لاشتماله على إبطال حقّهما الثابت لهما بالالتقاط ، أو يُترك في أيديهما إمّا جمعاً ، والاجتماع على الحضانة مشقٌّ أو متعذّر ، ولا يمكن أن يكون عندهما في حالةٍ واحدة ، وإمّا بالمهايأة ، وهو يشتمل على الإضرار باللقيط ؛ لما في تبدّل الأيدي من قطع الأُلفة واختلاف الأغذية والأخلاق ، أو يختصّ به أحدهما لا بالقرعة ، ولا سبيل إليه ؛ لتساويهما ، فلم يبق مخلص إلّا القرعة ، كالزوج يسافر بإحدى زوجاته بالقرعة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ - ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) سورة آل عمران : ٤٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣.

٣١٨

وقال بعض الشافعيّة : يرجّح أحدهما باجتهاد القاضي ، فمَن رآه خيراً للّقيط أقرّه في يده(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يستوي الشخصان في اجتهاد القاضي ولا سبيل إلى التوقّف ، فلا بدّ من مرجوعٍ إليه ، وليس سوى القرعة.

وقال بعض الشافعيّة : يخيّر الصبي في الانضمام إلى مَنْ شاء منهما(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد لا يكون مميّزاً بحيث يفوّض إليه التخيير ، ولو كان مميّزاً فإنّه لا يخيّر ، كما يخيّر الصبي بين الأبوين عند بلوغه سنّ التمييز - عندهم(٣) - لأنّه هناك يعوّل على الميل الناشئ من الولادة ، وهذا المعنى معدوم في اللقيط.

مسألة ٤١٣ : هذا إذا تساويا في الصفات ، فإن ترجّح أحد الملتقطين بوصفٍ يوجب تخصيصه به دون الآخَر وكانا معاً ممّن يثبت لهما جواز الالتقاط ، أُقرّ في يده ، وانتُزع من يد الآخَر.

والصفات المرجّحة أربعة :

أ : الغنى ، فلو كان أحدهما غنيّاً والآخَر فقيراً ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّهما يتساويان - وهو قول بعض علمائنا(٤) - لأنّ الفقير أهل للالتقاط ، كالغني.

وأظهرهما عند الشافعيّة : أولويّة الغني ؛ لأنّه ربما يواسيه بمالٍ وينفعه في كثيرٍ من الأوقات ويؤاكله أحياناً ، ولأنّ الفقير قد يشتغل بطلب القوت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٤٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٦ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤.

(٤) لم نتحقّقه.

٣١٩

عن الحضانة(١) .

فإن رجّحنا الغني على الفقير وكانا معاً غنيّين إلّا أنّ أحدهما أكثر غنىً من الآخَر ، فللشافعيّة وجهان في تقديم أكثرهما مالاً(٢) .

ب : أن يكون أحدهما بلديّاً والآخَر قرويّاً ، أو كان أحدهما بلديّاً أو قرويّاً والآخَر بدويّاً ، تساويا عند بعض علمائنا(٣) ، ورجّح البلديّ على القرويّ ، والقرويّ على البدويّ ؛ لما فيه من حفظ نسبه وإمكان وصول قريبه إليه.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ج : مَنْ ظهرت عدالته بالاختبار يُقدّم على المستور على خلافٍ بين علمائنا.

وللشافعيّة وجهان :

أحسنهما : إنّه يقدّم احتياطاً للصبي.

والثاني : يستويان ؛ لأنّ المستور لا يسلّم ثبوت المزيّة للآخَر ويقول : لا أترك حقّي بجهلكم بحالي(٥) .

د : الحُرّ أولى من العبد والمكاتَب وإن كان التقاطه بإذن السيّد ؛ لأنّه في نفسه ناقص ، وليست يدُ المكاتَب يدَ السيّد.

مسألة ٤١٤ : لا تُقدّم المرأة على الرجل ؛ لأنّ المرأة وإن كانت

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٣) لم نتحقّقه.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧ - ٤٨٨.

(٥) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407