مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 86984
تحميل: 4583


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86984 / تحميل: 4583
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

النَّاسِ إِلا كُفُوراً *وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً *أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) (١) .

استدل الكاتب المسيحي بأنّ نبي الإسلام لما طولب بالمعجزة أظهر العجز قائلاً بأنّه ليس( إِلا بَشَراً رَسُولاً ) .

هذا مبلغ معرفته بمعالم الآية وأهدافها، وقد نسب إلى النبي هذا المضمون من دون أن يتدبّر في الآيات المقترحة وأنّها هل كانت جامعة للشرائط التي نوّهنا بها في مستهل البحث أو لا ؟ وأنّه هل كان صحيحاً في منطق العقل القيام بها أو لا ؟ ولا يظهر وجه الحقيقة إلّا بدراسة كل واحدة من هذه الآيات. فنقول: إنّ مقترحات القوم كانت تدور بين أُمور هي :

١. تفجير ينبوع من الأرض لهم.

٢. أن تكون للنبي جنة من نخيل وعنب وتجري الأنهار خلالها بتفجير منه.

٣. أن يسقط السماء عليهم كسفاً.

٤. أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً.

٥. أن يكون للنبي بيت من زخرف.

٦. أن يرقى في السماء، ولا يكفي ذلك حتى ينزل كتاباً عليهم من السماء.

هذه هي مقترحات القوم، وإليك دراسة كل واحد منها.

أمّا الأوّل: فلأنّ القيام بهذا الأمر يتنافى مع سنّة الله الحكيمة في الحياة

__________________

(١) الإسراء: ٨٩ ـ ٩٣.

١٦١

البشرية التي استقرّت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم ومآربهم من طريق السعي والجد تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم، فإذا كان مطلوب القوم أن يفجر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها حتى تتبدّل أراضيهم القاحلة إلى الأراضي الطيبة الصالحة للزرع والغرس، فهو على خلاف تلك السنّة الحكيمة التي نلمسها في الحياة الإنسانية، وعلى ذلك نزل الذكر الحكيم قال سبحانه:( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَىٰ ) (١) .

نعم ربما تقتضي بعض الأحوال والظروف أن يقوم النبي ـ لإبقاء حياة قومه ـ ببعض المعاجز التي بها تستديم حياتهم كما نرى ذلك في حياة بني إسرائيل، فإنّ موسى استسقى لقومه لما شكوا إليه من الظمأ فأوحى الله تعالى إليه أن:( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (٢) .

ولا يعد مثل ذلك نقضاً للسنّة العامة المذكورة فإنّ حياة بني إسرائيل في التيه كانت حياة خاصة حرجة غير مشابهة لحياة الأقوام الأخرى الذين يقدرون على معايشهم بيسر وسهولة وكسب وكدح، ولأجل ذلك نرى أنّ رحمته سبحانه شملتهم بوجوه متعددة حكاها الله سبحانه في القرآن الكريم قال تعالى:( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٣) .

فلأجل الشرائط الحرجة الاستثنائية التي كان يمر بها بنو إسرائيل، خصّهم سبحانه بالنعم المذكورة في هذه الآيات، وعندما تمكن بنو إسرائيل من تحصيل النعم بالكد والكدح، وسوَّغت الظروف قيامهم برفع حوائجهم بأنفسهم تركهم

__________________

(١) النجم: ٣٩.

(٢) البقرة: ٦٠.

(٣) البقرة: ٥٧.

١٦٢

وشأنهم وطلب منهم القيام بذلك بأنفسهم بالكسب والتعاون، قال سبحانه:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) (١) .

فقوله سبحانه:( فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ ) يرشد إلى أنّ التنوّع الذي طلبوه من الكليم لن يحصل إلّا بقيامهم بالدخول في مصر، وتحصيلها منها بالأسباب الطبيعية، لأنّ الذي يفرض على النبي أن يقوم ـ للإبقاء على حياة قومه ـ إنّما يتقدر بقدر الضرورة وهو الطعام الواحد، وأمّا الزائد على ذلك فلا يحصل إلّا عن طريق المجاري الطبيعية، والأسباب المتعارفة.

ولا تقاس تلك الظروف بالأحوال الحاكمة على أرض مكة وسكانها حيث يحكي عنهم سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

وهذا البحث أسفر عن أنّ سؤالهم الوارد في المقطع الأوّل كان على وجه لا يصح للنبي القيام به لمخالفته للسنّة الإلهية الحكيمة في الكون والحياة البشرية.

أمّا الطلب الثاني: أعني: كون النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب ويفجر الأنهار خلالها تفجيراً، فليس هذا إلّا تصوراً باطلاً في شأن النبي من أنّه يجب أن يكون رجلاً غنياً ذا ثروة طائلة، وقد حكى عنهم سبحانه تلك المزعمة بقوله:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا القُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٣) .

__________________

(١) البقرة: ٦١.

(٢) القصص: ٥٧.

(٣) الزخرف: ٣١.

١٦٣

فالإجابة على ذلك السؤال نوع اعتراف بتلك المزعمة، على أنّه يجب أن يكون بين المطلوب والرسالة رابطة عقلية يستدل بالأوّل على الثاني، وهذا الشرط غير موجود في ذلك السؤال، إذ كون الرجل ذا ثروة لا يستدل به على صحة قوله وصدق نبوته ورسالته، وإلاّ يجب أن يكون أصحاب الثروات أنبياء إذا ادّعوا النبوة والرسالة.

وأمّا الطلب الثالث: أعني قولهم:( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) فقولهم:( كَمَا زَعَمْتَ ) يعنون به قوله تعالى:( إِن نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ (١) ) غير أنّ القيام بهذا الاقتراح يضاد هدف الإعجاز، فإنّ الغاية من خرق الطبيعة هي هداية الناس إلى الدين، ولو كانت نتيجة الإعجاز أبادتهم وإهلاكهم لزم نقض الغرض.

وأمّا الطلب الرابع: أعني قولهم:( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) والمراد من قوله:( قَبِيلاً ) أي كفيلاً بما تقول، شاهداً بصحته، والمعنى: أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبيلاً. ويمكن أن يكون المراد منه مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر، وهذه الآية بمنزلة قولهم حيث حكى عنهم سبحانه بقوله:( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ) (٢) . ومن المعلوم أنّ مقترحهم أمر محال، فإنّ طلب رؤية الله المجرد عن المكان والزمان بهذه الأبصار المادية أمر غير ممكن، وهو تعالى يصف نفسه بقوله:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (٣) . ومثله طلب رؤية الملائكة بأشكالهم الواقعية، كما أوعزنا إليه غير مرة.

__________________

(١) سبأ: ٩.

(٢) الفرقان: ٢١.

(٣) الأنعام: ١٠٣.

١٦٤

وأمّا الطلب الخامس: أعني قولهم:( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ ) فيرد بما ردّ به سؤالهم الثاني.

وأمّا الطلب السادس: أعني قولهم:( أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

فلحن السؤال يدل على عنادهم وتعنّتهم، إذ لو كان هدفهم من الطلب هو الاستهداء فيكفي طلبهم الأوّل، أعني: رقي النبي إلى السماء ولم تكن حاجة لقولهم( وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وهذه التحليلات العقلية ترشدنا إلى أنّ عدم قيام النبي بهذه الطلبات والمقترحات إنّما هو لأجل فقدان مقتضى الإجابة، أو لأجل وجود مانعها.

فلننظر بماذا أجابهم سبحانه، نرى أنّه سبحانه ردّ على طلباتهم بأمره النبي أن يقول لهم:( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً ) والدقة في هذه الجملة القصيرة ترشدنا إلى الأمور التالية :

قوله تعالى:( سُبْحَانَ رَبِّي ) فهو يهدف إلى تنزيهه سبحانه عن الرؤية والمجيئ اللّذين طلبهما القوم حيث قالوا:( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ ) ، كما أنّه يرمي إلى أنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بالمحال الذاتي كما لا تتعلق بالأمر الممكن إذا كان على خلاف الحكمة، حيث طلبوا منه إهلاكهم وإبادتهم مع أنّهم خلقوا للاهتداء والتكامل لا للإبادة والهلاك.

وأمّا قوله:( بَشَراً رَسُولاً ) فيهدف لفظهما إلى أنّ القيام بهذه الطلبات يحتاج إلى قدرة قاهرة غير متناهية وهي خارجة عن إطار القدرة البشرية، ولست أنا إلّا بشراً وأمّا القيام بها بما أنّي رسول فيتوقف على إذنه سبحانه المنتفي هنا لما ذكرنا من العلل.

١٦٥

فقيام المسؤول بهذه الطلبات أمّا بلحاظ أنّه بشر، أو بلحاظ أنّه رسول، فإن كان باللحاظ الأوّل، فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور، وإن كان باللحاظ الثاني، فهو موقوف على إذنه سبحانه.

قال العلّامة الطباطبائي: أمره سبحانه أن يجيب عمّا اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم في ما لا يخفى على ذي نظر، فإنّهم سألوه أُموراً عظاماً لا يقوى على أكثرها إلّا القدرة الغيبية الإلهية، أضف إلى ذلك أنّ فيها ما هو مستحيل بالذات، كالإتيان بالله والملائكة، ولم يرضوا بهذا المقدار دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدّي لذلك، المجيب لما سألوه، فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا، بل قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر أو تسقط السماء أو تأتي بالله أو ترقى و ...، فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر، فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة ؟! وإن أرادوا منه ذلك بما أنّه يدّعي الرسالة، فالرسالة لا تقتضي إلّا حمل ما حمّله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه، وإقداره على أن يخلق كل ما يريد، ويوجد كل ما شاءُوا، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعي لنفسه ذلك، فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح(١) .

الآية الخامسة عشرة

قوله سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ *وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ ) (٢) .

والاستدلال بهذه الآية على مراد المستدل على غرار ما تقدم.

__________________

(١) الميزان: ١٣ / ٢٠٣.

(٢) طه: ١٣٣ ـ ١٣٤.

١٦٦

غير أنّ الاستدلال بها على مطلوبهم غير صحيح جداً، فإنّ عدم القيام بما كانوا يقترحونه من الآية كان لأجل العلة التالية: أنّهم إنّما اقترحوا آية على النبوة ـ على عادتهم في التعنت ـ تحقيراً للمعجزة التي أعطاها لنبيه، فلأجل ذلك نرى أنّ القرآن يجيبهم بقوله :

( أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ ) أي أو لم تأتكم آية هي أُمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز، وهو القرآن، فهو برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته عند الموافقة، لأنّه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة.

ويمكن أن تكون الجملة مشيرة إلى معنى آخر وهو: أنّه سبحانه يذكرهم بقوله: أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها، فماذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أُولئك ؟

فعلى المعنى الأوّل فعلّة الامتناع من الإتيان بآية أُخرى هو أنّهم كانوا بصدد تحقير المعجزة الكبرى، فإذا لم يبصروا بها فلا يبصرون بغيرها.

وعلى المعنى الثاني تشير الجملة إلى أنّ الآية لو أتتهم لكذبوها فيعمّهم العذاب ويشملهم البلاء، وقد عهد سبحانه أن لا يعذبهم ونبيّه فيهم، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (١) .

ثمّ أي فائدة لمعجزة توجب إبادة القوم وإهلاكهم ؟!

الآية السادسة عشرة

قوله سبحانه:( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ

__________________

(١) الأنفال: ٣٣.

١٦٧

كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ *مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ *وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ *وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) (١) .

نرى أنّ أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رموا قرآنه ومعجزته الكبرى بكونه أضغاث أحلام وتجاوزوا ذلك فاعتبروها فرية اختلقها ونسبها إلى الله سبحانه، ثم استقر رأيهم على أنّه قول شاعر، وهذا قول المتحيّر الذي بهره ما سمع فمرّة يقول: « حلم » وتارة يقول: « فرية »، وأُخرى بأنّه: « شعر » ولا يجزم على أمر واحد من هذه الأمور، فلأجل ذلك يعرض عن الجميع ويستدعي أن يأتي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه بآية كما أتى الأوّلون من الأنبياء مثل الناقة والعصا.

ذلك مبلغهم من العلم والدرك، والقرآن يصف نفسه بأنّه:( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وعندئذ يجب أن نستمع إلى ما يجيبهم القرآن تجاه هذا الاقتراح، فأجابهم بوجوه :

١. إنّ قوله( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) مشيراً إلى أنّه لم يؤمن قبل هؤلاء الكفار من أهل قرية جاءتهم الآيات التي طلبوها أفهم يؤمنون عند مجيئها، مصرحاً بحالهم وأنّ سبيلهم سبيل من تقدم من الأمم الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنّهم يؤمنون عندها، فلمّا جاءتهم نكثوا وخالفوا، فلو أعطينا لهؤلاء، أيضاً ما يقترحون لكانوا أنكث من هؤلاء فهل في هذه الحال يصح أن يقوم النبي بالإعجاز والإجابة على الطلبات والاقتراحات ؟

٢. انّ قوله:( إلّاأهلكناهم ) اشارة إلى أنّهم لو خالفوا ولم يؤمنوا بعد

__________________

(١) الأنبياء: ٥ ـ ٨.

(٢) العنكبوت: ٤٩.

١٦٨

المجيء بالآيات المقترحة، لعمّهم الهلاك كما عمّ الأمم السابقة واستحقّوا عذاب الاستئصال، فلأجل ذلك لم يأت بالآيات المقترحة.

٣. انّ قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) إشارة إلى جواب ثالث، وهو: أنّ الظاهر من قول المقترحين:( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) أنّهم آمنوا بنبوّة موسى وعيسى وصدقوهما، فلأجل ذلك يطلبون من النبي نفس المعجزات التي جاء بها الرسولان السابقان، فعند ذلك يدعوهم القرآن إلى أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعرّفوهم بالبشائر الواردة في حق النبي في الكتب المنزلة قبله، فلو أنّهم بصدد الحقيقة فلماذا لم يطرقوا هذا الباب ؟ وهذا آية أنّهم قوم لجاج وعناد.

٤. إنّ قوله:( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يشير إلى عقيدة القوم فكأنّهم كانوا ينتظرون من النبي أن يكون ذا قدرة فوق البشرية فلا يأكل ولا يمشي في الأسواق، ويفعل كل ما اقترحوا عليه، مع أنّ الأنبياء في منطق القرآن والعقل فوق هذه المزعمة، فهم لا يفعلون، ولا يقدرون على شيء إلّا بإذن الله قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) . ثم إنّ الآية تشتمل على حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته :

الأولى: نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية والنبوة.

الثانية: حلّها، وهو انّ الفارق بين النبي وغيره هو الوحي الإلهي، وهو كرامة من الله يخصص بها من يشاء من عباده.

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

١٦٩

فالآية نظير قوله:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

وعلى ذلك كله فامتناع النبي عن القيام بمقترحات القوم، ليس لأجل أنّه لم يؤت بمعجزة سوى القرآن، بل إمّا لأجل اليأس من إيمانهم، وإمّا لاستلزام الإنكار إبادتهم واستئصالهم، وإمّا لأجل أنّ النبي ليس قادراً على كل ما يطلبونه منه إلّا بإذن الله، وإذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط.

الآية السابعة عشرة

قال سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

وهذه الآية قد تذرّع بها الخصم على أنّ النبي لم يكن مزوداً بمعجزة سوى القرآن وأنّه كل ما طولب بالمعجزة أجاب بأنّ « الآيات عند الله » غير أنّ الإمعان في الآيات التي سبقتها وتأخرت عنها يكشف القناع عن مقصد الآية ومرادها، وإليك بيانها :

إنّ الناظر في الآيات المتقدمة على هذه الآية يجد أنّ القرآن يبرهن على كونه من الله سبحانه بأنّ النبي الآتي به أُمّي ما كان يتلو من قبله من كتاب وما كان يخط بيمينه شيئاً، فهذا الكتاب العظيم الذي ينطوي على آفاق من العلوم والمعارف والحكم، يستحيل أن يكون من نسج الإنسان وصنع البشر، فلأجل ذلك

__________________

(١) إبراهيم: ١٠ ـ ١١.

(٢) العنكبوت: ٥٠.

١٧٠

يصفه بقوله:( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) (١) فبعد ذلك ينقل اقتراحهم بقوله:( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِن رَبِّهِ ) تعريضاً بالكتاب على أنّه ليس بآية معجزة وهذه السخرية نظير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ *لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (٢) . ففي هذه الحالة، وهذا الموقف هل يصح للنبي أن يقوم بتلبية مقترحهم ليكون عمله نوعاً من الاعتراف بعقيدتهم وتكريساً لاستهزائهم ؟!

ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يجيبهم بقوله:( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ ) وهذا جواب عن زعمهم أنّ من يدّعي الرسالة يجب أن يكون متدرعاً بقوة غيبية يقدر بها على كل ما طولب به، وحقيقة الجواب هي التصريح بأنّه لا يشارك في القدرة على المعاجز معه سبحانه فليس للنبي شيء إلّا أن يشاء الله، وقد تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم غير مرة، وعلى ذلك فليست الآية بصدد نفي الإعجاز عن النبي، بل هي بصدد بيان حقائق غير منكرة في منطق العقل وهي: أنّ القادر المطلق هو الله سبحانه، ولا يشاركه غيره والنبي لا يقوم بخرق العادة إلّا بإذنه، وأين ذلك ممّا يدّعيه الخصم ؟!

ويؤكد ذلك ذيل الآية:( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

الآية الثامنة عشرة

قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) (٣) .

__________________

(١) العنكبوت: ٤٩.

(٢) الحجر: ٦ ـ ٧.

(٣) غافر: ٧٨.

١٧١

والاستدلال بهذه الآية على نفي المعجزة من غرائب الاستدلالات إذ ليس في الآية أيُّ إشعار بذلك فضلاً عن الدلالة والتصريح، بل مفاد الآية ومرامها كمفاد الآية الثامنة والثلاثين من سورة الرعد، أعني قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) .

وعلى ذلك فالآيتان تدلاّن على أنّ الإعجاز ليس في اختيار النبي حتى يقوم به كيف شاء، أو كيف ما شاءوا، بل يقتفي في ذلك إذن الله سبحانه، وهو موقوف على توفر شرائط غير موجودة إلّا في ظروف قليلة.

على أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الآية هي الآيات التي تنصر الحق، وتقضي بين الرسول وأُمّته وتلك أعم من الإعجاز، أعني: النصر في الحروب والظروف القاسية، ويؤيد ذلك ذيل الآية، أعني: قوله:( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ ) أي إذا جاء أمر الله بالعذاب قضي بالحق فأُظهر الحق وأُزهق الباطل، وخسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك وفي آخرتهم بالعذاب الدائم.

حصيلة البحث

وأنت أيها القارئ الكريم إذا أمعنت في هذه الآيات وما تشابهها في الهدف والمفاد تقف على أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما يرميه الخصم المعاند الذي يكن للإسلام ونبيه حقداً وعداوة، ويمهد الطريق للغزو الفكري وزعزعة القلوب عما اعتقدت به.

فإنّ هذه الآيات تهدف إلى حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق القرآنية وهي أن للإتيان بالمعجزة قوانين وضوابط، وانّه يتوقف على توفر شرائط أشرنا إليها في مستهل البحث الحاضر، فلو فقدت واحدة من هذه لما صح للنبي القيام

١٧٢

بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم، وليس في الآيات أي إشعار بأنّ النبي كان يظهر العجز عن القيام بالإعجاز والإتيان بالآية أو يحيل الأمر إلى الله سبحانه بمعنى أنّه لم يؤت له أيّة معجزة سوى القرآن.

كل ذلك دعايات وسفاسف ألصقها الكتّاب المسيحيون، ومن يقتفي أثرهم في الأهداف والغايات بمفاد الآيات ومعانيها، والآيات تنادي خلاف ما ادّعوا.

والعجب أنّ بعض الكتّاب قد استدل على مدّعاه ببعض الآيات التي لا تمس ما نحن فيه أصلاً مثل قوله سبحانه:( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *قُلْ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (١) .

فالآية تهدف إلى أنّ العلم بوقت قيام القيامة يختص به سبحانه ولم يطّلع عليه أحد سواه، قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (٢) ومثل ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ *وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِينٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (٣) .

فالآية تهدف إلى أنّ النبي ليس بضنين على الوحي، بأن يكتم بعضه ويبيّن بعضه، فالمراد من الغيب هو الوحي، فلا صلة للآية بالإعجاز، كل ذلك يعرب عن أنّ الكاتب كان يخبط خبط عشواء فيأتي في مقام الاستدلال بشيء لا مساس له بالموضوع أبداً.

__________________

(١) الملك: ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) لقمان: ٣٤.

(٣) التكوير: ٢٣ ـ ٢٥.

١٧٣
١٧٤

٤

النبي الشفيع

في القرآن الكريم

١٧٥

في هذا الفصل

١. الشفاعة وكلمات علماء الإسلام، وهي أربع وثلاثون كلمة.

٢. الآيات الواردة حول الشفاعة، وهي على سبعة أصناف :

أ. الآيات النافية للشفاعة.

ب. ما يفنّد عقيدة اليهود فيها.

ج. ما ينفي شمول الشفاعة للكفّار.

د. ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة.

ه‍. ما يعد الشفاعة حقاً مختصاً به سبحانه.

و. ما يثبت الشفاعة لغيره سبحانه في شرائط خاصة.

ز. ما يسمي أسماء من تقبل شفاعتهم.

٣. الشفاعة المرفوضة والشفاعة المقبولة.

٤. آيات أُخرى في الشفاعة.

٥. حقيقة الشفاعة وأقسامها الثلاثة: التكوينية، والقيادية، والمصطلحة.

٦. لماذا شرِّعت الشفاعة، وما هي مبرراتها ؟

٧. ما هو أثر الشفاعة، أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

٨. إشكالات مثارة حول الشفاعة وهي عشرة.

٩. الشفاعة في الأدب العربي.

١٠. الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

١٧٦

١

الشفاعة وعلماء الإسلام

الشفاعة أصل من أُصول الإسلام

أجمع العلماء على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلين على ذلك بقوله سبحانه:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١) .

وبقوله سبحانه:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢) .

وفسّرت الآيتان بالشفاعة، فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة، والذي أُعطي للنبي هو حق الشفاعة الذي يرضيه.

ولما كانت الإحاطة بمفاد الآيتين تتوقف على البحث عن: معنى الشفاعة وأدلّتها، وحدودها، والتعرّف على الشفعاء، ناسب أن نبحث عن الشفاعة بالإسهاب ـ وإن كان الهدف الأسمى هو التعرّف على إحدى صفات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كونه شفيعاً يوم القيامة ـ فنقول :

اتفقت الأمّة الإسلامية على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب الكريم، وصرّحت به السنّة النبوية والأحاديث عن العترة الطاهرة.

ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وان اختلفوا في معناها وبعض

__________________

(١) الضحى: ٥.

(٢) الإسراء: ٧٩.

١٧٧

خصوصياتها. فذهب الإمامية والأشاعرة إلى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وذهبت المعتزلة إلى خلاف ذلك قائلين: بأنّ شفاعة رسول الله للمطيعين، دون العاصين، وأنّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين(١) .

وإلى ذلك يرجع أيضاً اختلافهم في معنى الشفاعة، هل هي بمعنى طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب كما ذهبت إليه الوعيدية ؟ أو إسقاط عقاب الفساق من الأمّة كما ذهب إليه غيرهم(٢) ؟ فانّ مآل النزاعين أمر واحد، فتارة تطرح المسألة بلحاظ المشفوع له، فيقال: هل هي للمطيعين أو الخاطئين ؟ وأُخرى بلحاظ نفس معنى الشفاعة، هل هو طلب زيادة المنافع أو إسقاط العقاب ؟

وعلى كل تقدير، فالشفاعة بإجمالها موضع اتفاق بين الأمّة الإسلامية، ولا بأس أن نذكر بعض نصوص علماء الإسلام في هذا البحث حتى يكون القارئ على بصيرة من الأمر، فنقول :

١. لقد أشار أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي المتوفّى عام ٣٣٣ ه‍ في تفسيره، إلى الشفاعة المقبولة، واستدل لها بآية:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٣) وقد أورد قبلها قوله سبحانه:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٤) .

وقال ما حاصله: إنّ الآية الأولى وإن كانت تنفي الشفاعة، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية(٥) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ١٤ ـ ١٥.

(٢) كشف المراد: ٢٦٢.

(٣) الأنبياء: ٢٨.

(٤) البقرة: ٤٨.

(٥) تفسير الماتريدي المعروف بتأويلات أهل السنّة: ١٤٨.

١٧٨

٢. قال تاج الإسلام أبو بكر الكلابادي ( المتوفّى عام ٣٨٠ ه‍ ): أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر الله سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي في الشفاعة واجب لقوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١) ولقوله:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢) وقوله:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٤) .

٣. قال المفيد: اتفقت الإمامية على أنّ رسول الله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وأنّ أمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمّة آل محمد يشفعون كذلك، وينجي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ووافقهم على شفاعة الرسول، المرجئة، سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعمت أنّ شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للمطيعين دون العاصين، وانّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين(٥) .

وقال في موضع آخر: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته من الشيعة خاصة فيشفّعه الله عزّ وجلّ، ويشفع أمير المؤمنين في عصاة شيعته فيشفّعه الله عزّ وجلّ، وتشفع الأئمّة في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفّعهم الله، ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفّعه الله، وعلى هذا القول إجماع الإمامية ـ إلّا من شذ منهم ـ وقد نطق به القرآن، وتظاهرت به الأخبار قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لأهل

__________________

(١) الضحى: ٥.

(٢) الإسراء: ٧٩.

(٣) الأنبياء: ٢٨.

(٤) التعرف لمذهب أهل التصوف: ٥٤ ـ ٥٥، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.

(٥) أوائل المقالات: ١٥.

١٧٩

الإيمان:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (١) وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه »(٢) .

٤. وقال الشيخ الطوسي: حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيشفّعه الله تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قولهعليه‌السلام : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وإنّما قلنا لا تكون في زيادة المنافع، لأنّها لو استعملت في ذلك، لكان أحدنا شافعاً في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سأل الله أن يزيده في كرامته، وذلك خلاف الإجماع، فعلم بذلك أنّ الشفاعة مختصة بما قلناه، والشفاعة ثبتت عندنا للنبي وكثير من أصحابه ولجميع الأئمّة المعصومين وكثير من المؤمنين الصالحين(٣) .

٥. يقول القاضي عياض: مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً، ووجوبها سمعاً، بصريح الآيات، وبخبر الصادق، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى:( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله، وهي في الكفّار، وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات، فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم، وإخراج من استوجب النار(٤) .

__________________

(١) الشعراء: ١٠٠ ـ ١٠١.

(٢) أوائل المقالات: ٥٢ ـ ٥٣.

(٣) التبيان: ١ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٤) بحار الأنوار: ٨ / ٦٢، وشرح صحيح مسلم: ٢ / ٥٨.

١٨٠