مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106094 / تحميل: 7212
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

قال الزمخشري في كشّافه: كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأيسوا(١) .

وقال الطبرسي: قال المفسّرون حكم هذه الآية ـ يريد الآية الثامنة والأربعين ـ مختص باليهود، لأنّهم قالوا نحن أولاد الأنبياء، وآباؤنا يشفعون لنا فأَيْأَسهم الله عن ذلك، فخرج الكلام مخرج العموم، والمراد به الخصوص، ويدل على ذلك، أنّ الأمّة اجتمعت على أنّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة مقبولة وان اختلفوا في كيفيتها(٢) .

وقال في المنار: إنّ ذلك اليوم، يوم تنقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة هذه الحياة من انطلاق الإنسان في اختياره، يدفع عن نفسه بالعدل والفداء ويستعين على المدافعة بالشفاعة عند الأمراء، وقد يوجد له فيها أنصار ينصرونه بالحق والباطل على سواء.

كان اليهود المخاطبون ببيان هذه الحقيقة كغيرهم من أُمم الجاهلية يقيسون أُمور الآخرة على أُمور الدنيا فيتوهمون أنّه يمكن تخلص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلاً، أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته(٣) .

وهذه الكلمات من أعلام التفسير تكشف القناع عن هدف الآية ومرماها وأنّها لا تهدف إلّا إلى نفي الشفاعة المزعومة لدى اليهود من قدرة العاصي لبعث الشفيع إلى المشفوع عنده على كل تقدير وشرط، مع أنّ الشفاعة الواردة في القرآن تنص على عكس ذلك في كلتا المرحلتين: مرحلة البعث، ومرحلة الشرط، فلا تتحقق إلّا ببعث المشفوع عنده، الشفيع إلى الشفاعة لا ببعث المشفوع له كما يظهر

__________________

(١) الكشاف: ١ / ٢١٥.

(٢) مجمع البيان: ١ / ١٠٣.

(٣) تفسير المنار: ١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٢٠١

حاله في الأبحاث الآتية، وحتى أنّه سبحانه أيضاً لا يبعث على كل حال وتقدير، وفي حق كل أحد، بل له شرائط خاصة كما سيوافيك بيانها.

الصنف الثالث: ينفي شمول الشفاعة للكفار

هناك صنف من الآيات يصرّح بعدم وجود شفيع للكفار يوم القيامة، أو أنّ شفاعة الشافعين لا تنفعهم، وإليك هذه الآيات :

١.( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالحَقِّ فَهَل لَنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (١) .

وحاصل الآية: انّ الذين تركوا الإيمان والعمل يعترفون يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل كان حقاً، ولكن يتمنون أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب، أو يردون إلى الدنيا فيعملون غير الذي كانوا يعملون من الشرك والمعصية، ولكنهم قد أهلكوا أنفسهم بالعذاب وضل عنهم ما كانوا يصفون به الأصنام من أنّها آلهة وأنّها تشفع لهم، وعلى ذلك فالآية واردة في حق الكفار وهم الذين لا يجدون شفعاء حتى يشفعوا لهم.

٢.( إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ *وَمَا أَضَلَّنَا إِلا المُجْرِمُونَ *فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٢) .

وحاصل الآية: انّ أهل النار يوم القيامة يقولون ـ بحسرة ـ ويخاطبون جنود إبليس أو أصنامهم الذين كانوا سبباً في ضلالهم:( إِذْ نُسَوِّيكُم ) بالله وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم، ثم يعترفون بأنّه ما أضلّهم إلّا المجرمون، ويظهرون

__________________

(١) الأعراف: ٥٣.

(٢) الشعراء: ٩٨ ـ ١٠١.

٢٠٢

الحسرة بقولهم:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) يشفعون لنا ويسألون في أمرنا( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) وذي قرابة يهمه أمرنا.

٣.( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّىٰ أَتَانَا اليَقِينُ *فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (١) .

وهذه الآيات ناظرة إلى نفي وجود الشفيع يوم القيامة للكفار الذين انقطعت علاقتهم عن الله لأجل الكفر به وبرسله وكتبه كما انقطعت علاقتهم الروحية عن الشفعاء الصالحين لأجل انهماكهم في الفسق والأعمال السيئة، فانّه ما لم يكن بين الشفيع والمشفوع له ارتباط روحي لا يقدر أو لا يقوم الشفيع على انقاذه وتطهيره وتزكيته.

أضف إلى ذلك أنّ الشفاعة منوطة بإذنه سبحانه فكيف يصح لله سبحانه أن يأذن للشفيع بأن يشفع في حق من لا ارتباط بينه وبين الله أبداً ؟

ويمكن أن يكون المراد من شفاعة الشافعين في سورة المدثر هو شفاعة الأصنام والأوثان حيث كانوا يعتقدون بشفاعتها يوم القيامة.

كما يحتمل أن يكون المراد هو شفاعة الملائكة والنبيين.

وعلى كل تقدير: فهذا الصنف من الآيات ناف للشفاعة في مورد خاص وهو حالة الكفر، وانفصام الأواصر بين الله والعبد.

الصنف الرابع: ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة

وهذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الأصنام للشفاعة، وذلك لأنّ عرب الجاهلية كانت تعبد الأصنام لأجل الاعتقاد بشفاعتها عند الله، وإليك الآيات الواردة في هذا المجال :

__________________

(١) المدثر: ٤٦ ـ ٤٨.

٢٠٣

١.( وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (١) .

٢.( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

٣.( وَلَمْ يَكُن لَهُم مِن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) (٣) .

٤.( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (٤) .

٥.( ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ ) .(٥)

وهذه الآيات تنفي صلاحية المعبودات الباطلة للشفاعة، وتبرهن على ذلك بقوله سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ ) (٦) وبقوله:( لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (٧) .

وعلى ذلك فبما أنّ عبدة الأصنام والأوثان كانوا يعتقدون بشفاعتهم، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها، جاءت الآيات تفنّد مزعمتهم بأنّهم مسلوبو القدرة والإرادة مسلوبو الخير والضر، فلا يقدرون على دفع الضر وجلب النفع ولا يصلحون

__________________

(١) الأنعام: ٩٤.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) الروم: ١٣.

(٤) الزمر: ٤٣.

(٥) يس: ٢٣.

(٦) يونس: ١٨.

(٧) الزمر: ٤٣.

٢٠٤

للشفاعة.

وهناك بيان للعلّامة الطباطبائي حول هذا القسم من الآيات نأتي به :

كانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطّرد فيها قانون الأسباب، ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي، فيقدّمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيء عن جريمة، أو يستنصرون بنفس أو سلاح، حتى انّهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الأبطال من يستنصر به الميت، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية والأقاويل الكاذبة، فقال عزّ من قائل:( وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ ) (١) وقال:( وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (٢) .

وقال:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (٣) .

وقال:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٤) . إلى غير ذلك من الآيات التي يبين فيها أنّ ذلك

__________________

(١) الانفطار: ١٩.

(٢) البقرة: ١٦٦.

(٣) الأنعام: ٩٤.

(٤) يونس: ٣٠.

٢٠٥

الموطن خال من الأسباب الدنيوية، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل على طريق الإجمال، ثم فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (١) .

وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وقال:( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً ) (٣) .

وقال:( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ ) (٤) . وقال:( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ *بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (٥) .

وقال:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .(٦) وقال:( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (٧) .

وقال:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٨) . إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة(٩) .

__________________

(١) البقرة: ٤٨.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) الدخان: ٤١.

(٤) غافر: ٣٣.

(٥) الصافات: ٢٥ ـ ٢٦.

(٦) يونس: ١٩.

(٧) غافر: ١٨.

(٨) الشعراء: ١٠٠ ـ ١٠١.

(٩) الميزان: ١ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

٢٠٦

ثم قال: إنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه(١) .

والحاصل: أنّ القرآن مع أنّه فند العقائد الجاهلية وعقائد الوثنيين في باب الشفاعة، وأبطل كون النظام السائد في الآخرة عين النظام السائد في الدنيا، لم ينكر الشفاعة من رأسها بل أثبتها لأوليائه في إطار خاص من الشرائط والضوابط، وعلى ذلك فالآيات النافية ناظرة إلى تلك العقيدة السخيفة التي التزم بها الوثنيون وزعموا بموجبها وحدة النظامين وان تقديم القرابين والصدقات إلى الأصنام والخشوع والبكاء لديهم، يصحّح قيامهم بالشفاعة وأنّهم قادرون على ذلك بتفويض منه سبحانه إليهم، بحيث صاروا مستقلين في الفعل والترك.

والآيات المثبتة ناظرة إلى الشفاعة الصحيحة التي ليست لها حقيقة سوى جريان فيضه سبحانه ومغفرته من طريق أوليائه إلى عباده بإذنه ومشيئته تحت شرائط خاصة. وسيوافيك توضيح حقيقتها في الأبحاث القادمة.

الصنف الخامس: ما يعدّ الشفاعة حقّاً مختصاً به سبحانه

هناك آيات ترى أنّ الشفاعة مختصة بالله سبحانه لا يشاركه فيها غيره، وهي عبارة عن الآيات التالية :

١.( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (٢) .

٢.( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن

__________________

(١) المصدر نفسه: ١٥٩.

(٢) الأنعام: ٥١.

٢٠٧

تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ) (١) .

٣.( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (٢) .

٤.( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٣) .

وكون الشفاعة مختصة بالله سبحانه لا ينافي ثبوتها لغيره بإذنه سبحانه، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن القسم السادس من أصناف آيات الشفاعة.

غير أنّا نعطف نظر القارئ إلى نكتة في قوله سبحانه:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٤) .

وهذه الآية وإن كانت تدل على اختصاصها بالله سبحانه، غير أنّ الحصر هنا حصر إضافي لا حقيقي، فهي تهدف إلى نفي ثبوت هذا الحق في حق الآلهة المزعومة كما تشير إليه الآية المتقدمة على تلك الآية حيث قال:( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (٥) .

فأنت إذا لاحظت الآيتين جملة واحدة تقف على أنّ الهدف هو حصر حق الشفاعة بالله سبحانه في مقابل الآلهة المزعومة التي كانت العرب تزعم أنّها تملك حق الشفاعة، ولأجل ذلك ترد الآية عليهم بقوله سبحانه:( أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) .

__________________

(١) الأنعام: ٧٠.

(٢) السجدة: ٤.

(٣) الزمر: ٤٤.

(٤) الزمر: ٤٤.

(٥) الزمر: ٤٣.

٢٠٨

الصنف السادس: يثبت الشفاعة لغيره سبحانه تحت شرائط خاصة

إنّ هذا الصنف من الآيات يصرح بوجود شفيع غير الله سبحانه، وأنّ شفاعته تقبل عند الله تعالى في إطار خاص وشرائط معينة في الشفيع والمشفوع له، وهذه الآيات وان لم تتضمن أسماء الشفعاء، أو أصناف المشفوع له غير أنّها تحدد كلا منهما بحدود واردة في الآيات، وإليك هذا القسم من الآيات :

١.( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (١) .

٢.( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (٢) .

٣.( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) .

والضمير المتصل في قوله:( لا يَمْلِكُونَ ) يرجع إلى الآلهة التي كانت تعبد، وأُشير إليه في قوله سبحانه:( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً *كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ) (٤) .

٤.( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٥) .

٥.( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) (٦) .

٦.( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٧)

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) يونس: ٣.

(٣) مريم: ٨٧.

(٤) مريم: ٨١ ـ ٨٢.

(٥) طه: ١٠٩.

(٦) سبأ: ٢٣.

(٧) الزخرف: ٨٦.

٢٠٩

والضمير المتصل في( يَدْعُونَ ) يرجع إلى الآلهة الكاذبة كالأصنام والملائكة، والمسيح بن مريم، فهؤلاء لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد بالحق وهم يعلمون، أي شهد بعبودية ربه ووحدانيته كالملائكة والمسيح ويستفاد من هذه الآيات أُمور تالية :

١. انّ هذه الآيات تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون تحت شرائط خاصة وإن لم تصرح بأسمائهم وسائر خصوصياتهم.

٢. انّ شفاعتهم مشروطة بإذنه سبحانه حيث يقول سبحانه:( إِلا بِإِذْنِهِ ) .

٣. يشترط في الشفيع أن يكون ممن يشهد بالحق، أي يشهد بالله سبحانه ووحدانيته وسائر صفاته.

٤. أن لا يظهر الشفيع كلاماً يبعث غضب الله سبحانه بل يقول قولاً مرضياً عنده، ويدل عليه قوله سبحانه:( وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (١) .

٥. أن يعهد الله سبحانه له بالشفاعة كما يشير إليه قوله سبحانه:( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) .

ثم إنّ هنا سؤالاً يطرح في المقام ونظائره، وهو: كيف يصح الجمع بين هذا الصنف من الآيات التي تثبت الشفاعة لغيره سبحانه والصنف الخامس الذي يخصها بالله سبحانه ؟ وهذا السؤال مطروح في مقامات كثيرة قد أجبنا عنها في كتاب « معالم التوحيد »، وإليك خلاصة الجواب :

إنّ مقتضى التوحيد في الأفعال وأنّه لا مؤثر في عالم الكون إلّا الله سبحانه، أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه، وانّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته، والاعتراف بمثل العلل التابعة لا ينافي انحصار

__________________

(١) قال الطبرسي: أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلّا شفاعة من إذن الله له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصالحين والصدّيقين والشهداء. ( مجمع البيان: ٤ / ٣١ ).

٢١٠

التأثير الاستقلالي في الله سبحانه، ومن ليس له إلمام بالمعارف القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات، إذ كيف يمكن أن تنحصر شؤون وأفعال، كالشفاعة والمالكية والرازقية وتوفّي الأرواح، والعلم بالغيب، والإشفاء، بالله سبحانه كما عليه أكثر الآيات القرآنية، بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير الله من عباده، فكيف ينسجم هذا الانحصار مع هذه النسبة ؟ غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ هذه الأمور على وجه الاستقلال والأصالة قائمة بالله سبحانه مختصة به، في حين أنّ هذه الأمور تصدر من الغير على وجه التبعية وفي ظل القدرة الإلهية.

وقد اجتمعت النسبتان في قوله سبحانه:( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) (١) فهذه الآية بينما تنسب الرمي بصراحة إلى النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله تسلبه عنه وتنسبه إلى الله سبحانه، وذلك لأنّ انتساب الفعل إلى الله ـ الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته ـ أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله، ولكن شدّة الانتساب لا تسلب المسؤولية عن العبد، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته :

لكن كما الوجود منسوب لنا

والفعل فعل الله وهو فعلنا(٢)

وعلى ذلك فإذا كانت الشفاعة عبارة عن جريان الفيض الإلهي ـ أعني: طهارة العباد عن الذنوب وتخلّصهم عن شوائب المعاصي ـ على عباده، فهي فعل مختص بالله سبحانه لا يقدر عليه أحد إلّا بإقداره وإذنه، وبذلك يصح نسبته إلى الله سبحانه بالأصالة وإلى غيره بالتبعية، ولا منافاة بين النسبتين، وهذا كالملكية فالله سبحانه مالك الملك والملكوت، ملك السماوات والأرض بإيجاده وإبداعه ،

__________________

(١) الأنفال: ١٧.

(٢) لاحظ معالم التوحيد: ٣٦١ ـ ٣٦٥، وشرح المنظومة للمحقق السبزواري: ١٧٥.

٢١١

ثم يملّكه العبد منه بإذنه، ولا منافاة في ذلك لأنّ الملكية الثانية في طول الملكية الأولى، ونظيرها كتابة أعمال العباد فالكاتب هو الله سبحانه حيث يقول سبحانه:( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (١) وفي الوقت نفسه ينسبها إلى رسله وملائكته ويقول سبحانه:( بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٢) .

فإذا كانت الملائكة والأنبياء والأولياء مأذونين في الشفاعة فلا مانع من أن تنسب إليهم الشفاعة كما تنسب إلى الله سبحانه، غير أنّ أحدهما يملك هذا الحق بالأصالة والآخر يملكه بالتبعية.

ولأجل ذلك يقول العلّامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى:( للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) : أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ولا يملك أحد الشفاعة إلّا بتمليكه(٣) .

وقال العلّامة الطباطبائي في تفسير تلك الآية: كل شفاعة مملوكة لله فإنّه المالك لكل شيء، إلّا أن يأذن لأحد في شيء منها فيملّكه إياها.

وإن شئت قلت: إنّ الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه وغيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه، والشفاعة تنتهي إلى توسط بعض صفاته بينه وبين المشفوع كتوسط الرحمة بينه وبين عبده المذنب، وتخليصه من العذاب(٤) .

وهناك بيان أبسط للعلّامة الطباطبائي نأتي به حرفيّاً :

إنّ الآيات بينما تحكم باختصاص الشفاعة بالله سبحانه ـ وقد ذكرت هذه الآيات في الصنف الخامس ـ وبينما يعمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان، فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه، وهناك آيات تنفيها ،

__________________

(١) النساء: ٨١.

(٢) الزخرف: ٨٠.

(٣) مجمع البيان: ٤ / ٥٠١.

(٤) الميزان: ١٧ / ٢٧٠.

٢١٢

فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره وإثباته له تعالى بالاختصاص، ولغيره بارتضائه، قال تعالى:( قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ ) (١) .

وقال تعالى:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ) (٢) وقال تعالى:( عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً *إِلا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَسُولٍ ) .(٣) وكذلك الآيات الناطقة في التوفّ ـ ي والرزق، والتأثير والحكم والملك، وغير ذلك فإنّها شائعة في اسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ثم يثبته لنفسه ثم يثبته لغيره بإذنه ومشيئته، فتفيد أنّ غيره تعالى من الموجودات لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها وانّما تملكها بتمليك الله إيّاها حتى أنّ القرآن يثبت نوعاً من المشيئة فيما حكم وفيما قضى عليها بقضاء حتم، كقوله تعالى:( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٤) .فقد علق الخلود بالمشيئة ـ وخاصة في خلود الجنة، مع حكمه بأنّ العطاء غير مجذوذ ـ إشعاراً بأنّ قضاءه تعالى عليهم بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عزّ اسمه كما يدل عليه قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .(٥)

ومن هنا يظهر أنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة

__________________

(١) النمل: ٦٥.

(٢) الأنعام: ٥٩.

(٣) الجن: ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) هود: ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٥) هود: ١٠٧.

٢١٣

فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بالاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه(١) .

بقيت هنا نكتتان :

١. انّ الظاهر من الاستثناء الوارد في الآيات المتقدّمة، أعني قوله سبحانه:( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) وقوله:( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله:( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) انّها بصدد بيان شرائط الشفعاء، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) غير أنّه ربّما يحتمل أن يكون المراد منه هو المشفوع له، ويكون مآل الآيات إلى أنّ الشفاعة لا تجدي إلّا في حق من اجتمعت فيه هذه الشروط.

٢. انّ الشفيع المأذون ليس له أيّة استقلالية ولا أصالة في أمر الشفاعة، بل هو مظهر لإجراء أمره سبحانه وإرادته ومشيئته، ولأجل ذلك نرى أنّ القرآن ينفي وجود الشفيع المطاع بتاتاً، حيث يقول:( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (٢) . وذلك لأنّ الشفيع ليس صاحب إرادة ومشيئة، فهو مطيع لأمر الله مأذون من جانبه لا مطاع.

الصنف السابع: يذكر من تقبل شفاعته

ويتضمن هذا الصنف أسماء وخصوصيات من تقبل شفاعته يوم القيامة، وإليك هذه الآيات :

١.( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ

__________________

(١) الميزان: ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) غافر: ١٨.

٢١٤

ارْتَضَىٰ وَهُم مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (١) .

وهذه الآيات تصرح بأنّ الملائكة الذين اتخذهم المشركون أولاداً لله سبحانه، معصومون من كل ذنب، لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضاه الله سبحانه، وهم مشفقون من خشيته.

٢.( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) (٢) .

وهذه الآية كالآية السابقة تفيد كون الملائكة ممن ترضى شفاعتهم بإذن الله سبحانه في حق من يشاء الله ويرضاه.

٣.( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) (٣) .

وهذه الآية تعد حملة العرش ومن حوله ممن يستغفرون للذين آمنوا، والآية مطلقة تشمل ظروف الدنيا والآخرة، وهل طلب المغفرة إلّا الشفاعة في حق المؤمنين ؟

هذه هي الأصناف السبعة من الآيات الواردة حول الشفاعة نفياً وإثباتاً، والجميع ناظر إلى أمر واحد وهو أنّ الشفاعة حق خاص بالله سبحانه وانّ الشفاعة بيده ابتداءً ونهاية، وهو لا يأذن إلّا لعدة خاصة من مقربي عباده، ولا يأذن لهم أن يشفعوا لهم إلّا في حق عدة معينة.

وعلى ذلك فتفترق الشفاعة الواردة في القرآن الكريم عما عليه اليهود حيث لم يجعلوا لها حداً في الشافع والمشفوع له، بل القرآن وضع لها حدوداً وقيوداً في

__________________

(١) الأنبياء: ٢٦ ـ ٢٨.

(٢) النجم: ٢٦.

(٣) غافر: ٧.

٢١٥

الشافع والمشفوع له.

كما تفترق عن رأي من رفضها وطردها ولم يثبتها لأحد من أوليائه.

ولأجل ذلك نفصل القول في الشفاعات المردودة والمقبولة حتى يتميّز الحق عن الباطل.

الشفاعات المرفوضة

١. الشفاعة التي كانت تعتقدها اليهود الذين رفضوا كل قيد وشرط في جانب الشافع والمشفوع له واعتقدوا أنّ الحياة الأخروية كالحياة الدنيوية حيث يمكن التخلص من عذاب الله سبحانه بالفداء. وقد ردّ القرآن في كثير من الآيات وقال:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (١) .

وقد مضى هذا الأمر في الصنف الثاني من الأصناف السبعة المذكورة.

٢. الشفاعة في حق من قطعوا علاقاتهم الإيمانية مع الله سبحانه فلم يؤمنوا به أو بوحدانيته أو بقيامته أو أفسدوا في الأرض، وظلموا عباده أو غير ذلك مما يوجب قطع رابطة العبد مع الله سبحانه حتى صاروا أوضح مصداق لقوله سبحانه:( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (٢) وقوله سبحانه:( قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ اليَوْمَ تُنسَىٰ ) (٣) وقوله سبحانه:( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا ) (٤) . إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حق المشركين والكافرين والظالمين والمفسدين، وهؤلاء كما قطعوا علاقتهم الإيمانية مع الله

__________________

(١) البقرة: ٤٨.

(٢) الحشر: ١٩.

(٣) طه: ١٢٦.

(٤) الأعراف: ٥١.

٢١٦

سبحانه، كذلك قطعوا علاقتهم الروحية مع الشافع فلم تبق بينهم وبين الشافعين أيّة مشابهة تصحح شفاعتهم لهم.

وقد ورد في الصنف الثالث من الأصناف السبعة المذكورة ما يوضح هذا الأمر.

٣. الأصنام التي كانت العرب تعبدها كذباً وزوراً، وقد نفى القرآن أن تكون هذه الأصنام قادرة على الدفاع عن أنفسها فضلاً عن الشفاعة في حق عبّادها. راجع لمعرفة ذلك الصنف الرابع من الأصناف المذكورة.

هذه هي الشفاعات المرفوضة في القرآن الكريم.

الشفاعات المقبولة

الشفاعات المقبولة عبارة عمّا نذكره :

١. الشفاعة التي هي حق مختص بالله سبحانه ولا يمكن لمخلوق أن ينازعه في هذا الحق أو يشاركه فيه. لاحظ الصنّف الخامس من الأصناف السبعة.

٢. شفاعة قسم خاص من عباد الله سبحانه الذين تقبل شفاعتهم عند الله تحت شرائط خاصة ذكرت في الآيات الواردة في الصنف السادس وإن لم تذكر أسماؤهم وخصوصياتهم.

٣. شفاعة الملائكة وحملة العرش ومن حوله حيث يستغفرون للذين آمنوا، فهؤلاء يقبل استغفارهم الذي هو قسم من الشفاعة. والفرق بين هذا وما تقدم هو أنّه قد ذكرت أسماء الشفعاء وخصوصياتهم في هذه الآيات دون ما تقدمها.

وبالإحاطة بهذه الأصناف السبعة تقدر على تمييز الشفاعة المرفوضة والمقبولة في لسان القرآن الكريم.

٢١٧

آيات أُخرى في الشفاعة

وهناك آيات أُخرى فسرت بالشفاعة وهذا الصنف وإن لم يكن في الصراحة في الموضوع كالآيات الماضية إلّا أنّ الأحاديث فسرتها بالشفاعة وقد وردت هذه الأحاديث في المجاميع الحديثية وهذه الآيات عبارة عن ما نذكره :

١.( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (١) .

قال في الكشاف: ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، وقيل: المراد: الشفاعة وهي نوع واحد مما يتناوله اللفظ. وعن ابن عباس: مقام يحمدك فيه الأوّلون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى، وتشفع فتشفّع، وليس أحد إلّا تحت لوائك(٢) .

وقال الطبرسي: أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة وهو المقام الذي يشفع فيه للناس وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفه ويجتمع تحته الأنبياء والملائكة فيكون أوّل شافع وأول مشفّع(٣) .

وقد روى السيوطي في الدر المنثور ( ج ٤ ص ١٩٧ ) والسيد البحراني في تفسير البرهان ( ج ٢ ص ٤٣٨ ـ ٤٤٠ ) أحاديث متضافرة حول الآية وكلّها تجمع على أنّ المراد من المقام المحمود هو مقام الشفاعة فلاحظها في تلك المراجع.

٢.( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ *إِلا مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ

__________________

(١) الإسراء: ٧٩.

(٢) الكشاف: ٢ / ٢٤٣.

(٣) مجمع البيان: ٣ / ٤٣٥.

٢١٨

هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (١) .

والاستدلال بالآية على الشفاعة يحتاج إلى الدقة في مفرداتها.

فقد ورد في الآية لفظة الإغناء والنصر، والمراد من الأوّل هو أنّ يتكفل الغير أمر الإنسان بكامله، كما أنّ المراد من النصر هو أن يتكفل بعض الأمور ويكون اكتماله بسبب الإنسان نفسه.

فقد نرى أنّ القرآن ينفي أن يقدر إنسان على إغناء إنسان آخر يوم القيامة بأن يرفع عن كاهله كل مسؤولياته، ويكون هو المسؤول عن عمل غيره، وهذا ما عبر عنه القرآن في الآيات الأخرى بقوله:( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (٢) .

كما أنّ القرآن ينفي نصر إنسان لإنسان آخر يوم القيامة، ولكنّه يستثني من الثاني حالة واحدة معبراً عنها بقوله:( إِلا مَن رَحِمَ اللهُ ) (٣) أي الذين رحمهم الله من المؤمنين.

ومن مصاديق هذا الاستثناء هو الشفاعة، لأنّ الشفاعة لا تحصل إلّا بأمر الله تعالى وإذنه، فعندئذ يسقط عقاب المشفوع له لشفاعته(٤) .

قال العلّامة الطباطبائي: إنّ الإغناء يكون فيما استقل المغني في عمله، ولا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك، والنصرة إنّما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة، ويتم له ذلك بنصرة الناصر.

والوجه في انتفاء الإغناء والنصر يومئذ انّ الأسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة قال تعالى:( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (٥) وقال :

__________________

(١) الدخان: ٤١ ـ ٤٢.

(٢) البقرة: ٤٨.

(٣) الدخان: ٤٢.

(٤) لاحظ مجمع البيان: ٥ / ٦٨.

(٥) البقرة: ١٦٦.

٢١٩

( فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ) (١) .

وقوله:( إِلا مَن رَحِمَ اللهُ ) استثناء من ضمير( لا هُمْ يُنصَرُونَ ) والآية من أدلة الشفاعة.

والشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة وهو الدين المرضي(٢) .

ولأجل ذلك قلنا انّ الشفاعة تحتاج إلى وجود رابطة ما بين العبد وربه والمشفوع له وشافعه وهي في جانب الله العلاقة الإيمانية، وفي جانب المشفوع له الوشيجة الروحية.

٣.( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَىٰ *وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (٣) .

وفسرها المفسّرون بالشفاعة، قال الطبرسي: « وسيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة فيك وفي أُمتك ما ترضى به. وقال محمد ابن علي بن الحنفية مخاطباً أهل العراق: يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب الله عزّ وجلّ قوله:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) الآية، وانّا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) وهي والله الشفاعة، ليعطينها في أهل لا إله إلّا الله حتى يقول ربي رضيت ».

وعن الصادقعليه‌السلام قال: « دخل رسول الله على فاطمة وعليها كساء من ثلة الإبل، وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله لما أبصرها، فقال: يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليَّ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) »(٤) .

__________________

(١) يونس: ٢٨.

(٢) الميزان: ١٨ / ١٥٧.

(٣) الضحى: ٤ ـ ٥.

(٤) مجمع البيان: ٥ / ٥٠٥.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407