مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 87002
تحميل: 4585


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87002 / تحميل: 4585
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (١) عن مقاتل قوله: الشفاعة إلى الله انّما هي دعوة المسلم(٢) .

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (٣) انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين، والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلّا في إسقاط العقاب، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً، وقال: قوله تعالى:( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الإيمان، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة(٤) .

وهذه الجمل تفيد أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين من أقسام الشفاعة، وفسر قوله:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن، شفاعة في حقه، وطلبه منه طلب الشفاعة منه، ويوضح ذلك ويؤيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي: « ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شفّعوا فيه »(٥) .

وفسّر الشارح قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يشفعون له » بقوله: أي يدعون له، كما فسّر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إلّا شفّعوا فيه » بقوله: أي قبلت شفاعتهم.

__________________

(١) النساء: ٨٥.

(٢) تفسير النيسابوري: ١ والمطبوع في إيران غير مرقم.

(٣) غافر: ٧.

(٤) مفاتيح الغيب: ٧ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦، طبعة مصر في ثمانية أجزاء.

(٥) صحيح مسلم: ٣ / ٥٣، طبعة مصر، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

٢٨١

وروي أيضاً عن عبد الله بن عباس أنّه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه »(١) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين، وتصفيتهم في البرزخ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلّا الأوحدي من الناس، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلّا المعنى الرائج.

الثاني: انّ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب، ووجوده في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله: سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: « أنا فاعل »، قال: قلت: يا رسول الله فأين أطلبك ؟ فقال: « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط »(٢) .

فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه، وسلامة فطرته من النبي الأعظم، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما زعمه الوهابيون.

وهذا سواد بن قارب، أحد أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول مخاطباً إياه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب(٣)

وروى أصحاب السير والتاريخ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الإسلام الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولـمّا خاف أن لا يدركه، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما يبعث، وممّا جاء في تلك

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) صحيح الترمذي: ٤ / ٦٢١، كتاب صفة القيامة، الباب ٩.

(٣) نقله « زيني دحلان » عن الطبراني في الكبير كما في التوصل إلى حقيقة التوسل: ٢٩٨.

٢٨٢

الرسالة قوله: « وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني »(١) . ولـمّا وصلت الرسالة إلى يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « مرحباً بتبّع الأخ الصالح » فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالأخ الصالح، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.

وروي أنّ أعرابياً قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنّا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فسبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: « ويحك أنّ الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك »(٢) . وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر، أقرّه على قوله: إنّا نستشفع بك على الله، وأنكر عليه: نستشفع بالله عليك، لأنّ الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه، ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد، ولا يستشفع به.

وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما غسّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكفّنه، كشف عن وجهه وقال: « بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً اذكرنا عند ربك »(٣) .

وروي أنّه لـمّا توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله، وقال: بأبي أنت وأُمّي طبت حياً وميتاً، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك(٤) .

وهذا استشفاع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الدنيا بعد موته.

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ١ / ١٢، السيرة الحلبية: ٢ / ٨٨.

(٢) كشف الارتياب: ٢٦٤، نقلاً عن زيارة القبور: ١٠٠.

(٣) مجالس المفيد: ١٠٣، المجلس الثاني عشر.

(٤) كشف الارتياب: ٢٦٥ نقلاً عن خلاصة الكلام.

٢٨٣

ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال: أللّهمّ إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له(١) .

وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: جئناك لقضاء حقّك، والاستشفاع بك، فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك، فاستغفر لنا واشفع لنا(٢) .

كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمراً جائزاً ورائجاً، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه، ولا فرق بينها وبينه إلّا في اللفظ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين :

إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله داخل فيما ورد من الآيات التالية :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيمًا ) (٣) .

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (٤) .

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الغدير: ٥ / ١٢٤ ـ ١٢٧، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.

(٣) النساء: ٦٤.

(٤) يوسف: ٩٧ ـ ٩٨.

٢٨٤

وقوله سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان: « توسل المؤمن إلى الله تعالى بدعاء أخيه المؤمن له ». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.

وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الأخيار، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً، وقد طبعت وانتشرت.

وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الأولياء، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الإجمال، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة(٢) .

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة

استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه :

١. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك، أي الشرك في العبادة، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند الله، فقد عبدته بدعائك ،

__________________

(١) المنافقون: ٥.

(٢) راجع معالم التوحيد: ٤٩١ ـ ٥٠١.

٢٨٥

والدعاء مخ العبادة، فيجب عليك أن تقول: أللّهمّ اجعلنا ممن تناله شفاعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه في الجزء الأوّل من هذه الحلقات، حيث قلنا: إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء، ولا مطلق الخضوع، ولا مطلق طلب الحاجة، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الأمور التي ترجع إلى الله سبحانه.

وإن شئت قلت: العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسؤول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.

وبعبارة ثالثة: العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وعاجله وآجله.

إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.

فمن الغريب أن نفسّر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم، وخضوع الإنسان أمام والديه من الشرك الواضح.

وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة، فليس المراد منه مطلق الدعاء، بل المراد دعاء الله مخ العبادة، وما ورد في الروايات من أنّه: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وان كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله(١) . فليس المراد من العبادة هنا: العبادة المصطلحة، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

__________________

(١) الكافي: ٦ / ٤٣٤، الحديث ٤، وعيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٣، الحديث ٦٣، الوسائل: ١٨ الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٩ و ١٣.

٢٨٦

وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه، يتصرف فيها كيف يشاء، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد الله الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة، وارتضائه للمشفوع له، فلا يعد عبادة للمدعو، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الإنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الإلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر، ولا الأحجار المنضودة حوله.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (١) ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الأسباب الدنيوية الموصلة للإنسان إلى غاياته المادية، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الإنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الأمور التي يكسل عنها الإنسان حتى يحض عليه، بل المراد: التوسل بالأسباب الموصلة إلى الأمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الأسباب هو التوسل بدعاء الأخ المؤمن، والولي الصالح، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.

وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

__________________

(١) المائدة: ٣٥.

(٢) الزخرف: ٨٦.

٢٨٧

ومن الواضح إنّ جملة( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة لله تملك الشفاعة بإذنه سبحانه، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه ؟ غاية الأمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب: « إنّ الله أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت: الله أعطاهم الشفاعة، وأطلبها منهم، رجعت [ عندئذ ] إلى عبادة الصالحين، التي ذكرها الله تعالى في كتابه »(١) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه الله سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه ؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.

أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الإجابة عنها، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الأنحاء بإلوهيته وربوبيته، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً، وكونه متصرفاً في الأمور الإلهية تصرفاً بلا منازع، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.

٢. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم، قال سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (٢) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

__________________

(١) كشف الشبهات: ٦ / ٩.

(٢) يونس: ١٨.

٢٨٨

والجواب عن هذا بيّن أيضاً، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لأجل الاستشفاع بالأصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين، وإليك توضيح ذلك فنقول :

إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين: ( العبادة ) ويدل عليه( وَيَعْبُدُونَ ) و ( طلب الشفاعة ) ويدل عليه:( وَيَقُولُونَ ) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني، ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة، لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى، أعني قوله:( وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا ) بعد قوله:( وَيَعْبُدُونَ ) إذ لا فائدة لهذا التكرار، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للأولى خلاف الظاهر، فإنّ عطف الجملة الثانية على الأولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

نعم ثبت بأدلّة أُخرى ( لا من الآية ) بأنّ طلب الاستشفاع بالأصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الأفعال(١) .

٣. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإنّ ذلك دعاء لغير الله وهو حرام قال سبحانه:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) (٢) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن الله سبحانه خاصة، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٣) ، فقد عبر عن

__________________

(١) وان أردت المزيد من التوضيح، فلاحظ الجزء الأوّل من هذه الحلقات: معالم التوحيد في القرآن: ٤٩٣ ـ ٥٠١.

(٢) الجن: ١٨.

(٣) غافر: ٦٠.

٢٨٩

العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى، وقد مر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدعاء مخ العبادة ».

والجواب بوجوه: أوّلاً: أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) .

وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شؤونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.

وثانياً: أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله:( مَعَ اللهِ ) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير، وجعله مع الله، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلّا بما يملكه من الله سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى الله سبحانه، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة، فلأجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شؤون وجوده أو فعله قال سبحانه:( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ

__________________

(١) الأعراف: ١٩٧.

٢٩٠

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (١) . ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) وقوله:( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة وباطلة، فإنّ الأصنام لا تستطيع نصر أحد، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة، وكانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

وثالثاً: أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الإلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.

٤. الشفاعة حق مختص بالله سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه:( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ *قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) .

والجواب: انّ المراد من قوله سبحانه:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلّا بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والإجازة، قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك

__________________

(١) الأعراف: ١٩٤.

(٢) الزمر: ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) الزخرف: ٨٦.

٢٩١

فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.

هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة بالله سبحانه وانّه المالك لها بالأصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والأسباب والمسببات، قال سبحانه:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (١) والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والأرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الأسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الأثر ( كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات ) فموجد الأسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام والأوثان تملك الشفاعة، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الأصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً، كما يدل عليه قوله سبحانه:( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ *قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) .

٥. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً، لأنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.

__________________

(١) السجدة: ٤.

(٢) الميزان: ١٦ / ٢٥٨.

٢٩٢

والاستدلال باطل من وجوه :

أمّا أوّلاً: فلأنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الإنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

وثانياً: أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل الله أحياء يرزقون قال سبحانه:( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ إلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الأفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه:( إلّاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل الله تعالى، فهل يكون هذا الطلب لغواً ؟!

وثالثاً: أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الأمم جمعاء، ويقول سبحانه:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) فالآية تصرّح بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم، فإذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهداً على الأمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون

__________________

(١) آل عمران: ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) النساء: ٤١.

٢٩٣

الحياة، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الأمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان ؟!

ولا يصح لك أن تفسّر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصره النبي ؟! كلا لا، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالأمّة المعاصرة للنبي.

فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الأكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه في حق الكافرين:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) . فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ، وانّ هذا وعاء للإنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ) (٢) .

وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجئ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.

وأمّا الأحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج، وقد روى المحدّثون قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من أحد يسلّم عليّ إلّا رد الله روحي حتى أرد عليه

__________________

(١) المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) غافر: ٤٦.

٢٩٤

السلام »(١) . كما نقلوا قوله: « إنّ لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام »(٢) .

وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة، ويقول:( سَلامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي العَالَمِينَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) و( سَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ ) (٣) .

كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول:( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات، فأي فائدة في التسليم عليهم، وفي أمر المؤمنين بالصلوات والسلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب، ويقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وحمل ذلك على الشعار الأجوف والتحية الجوفاء، أمر لا يجترئ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.

٦. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (٥) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلّا أنّهم لا يسمعون، فعند ذلك تصبح النتيجة: انّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ويدل

__________________

(١) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: ٤ / ١٣٤٩، نقله عن أئمّة الحديث مثل أبي داود والبيهقي قال: وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي.

(٢) المصدر السابق: ١٣٥٠ نقلاً عن النسائي وغيره.

(٣) الصافات: ٧٩، ١٠٩، ١٢٠، ١٣٠، ١٨١.

(٤) الأحزاب: ٥٦.

(٥) النمل: ٨٠.

٢٩٥

على ذلك أيضاً قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي القُبُورِ ) (١) ، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.

والجواب أوّلاً: أنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.

ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله: يا محمد اشفع لنا عند الله، لا يشير إلى جسده المطهر، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.

والشاهد على ذلك انّا نرى: انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان، في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائت الميضاة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك ؟ فذكر حاجته وقضى له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من

__________________

(١) فاطر: ٢٢.

٢٩٦

عنده، فلقي ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ، فقال ابن حنيف: والله ما كلّمته، ولكن شهدت رسول الله، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن شئت دعوت أو تصبر »، فقال: يا رسول الله، انّه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي: « ائت الميضاة، فتوضأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات »، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنّه لم يكن به ضر(١) .

وثانياً: أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّا تهدف إليه الآيتان، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر، وهو انّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية، وهي تتصور على قسمين: هداية مستقلة، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الأوّل من الهدايتين، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول:( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَىٰ وَالبَصِيرُ *وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ *وَلَا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ *وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ *إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ ) (٢) .

والمستدل أخذ بالجملة الوسطى، أعني قوله:( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها، فإنّك إذا لاحظت قوله:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ) تقف على أنّ المراد من قوله:( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه، فكأنّه يقول: لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو الله سبحانه، ولأجل ذلك

__________________

(١) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: ٤ / ١٣٧٣، ورواه البيهقي من طريقين.

(٢) فاطر: ١٩ ـ ٢٣.

٢٩٧

يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه « ليس إلّا نذير » لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.

والحاصل: انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم، شيء، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه، شيء آخر، والآية بصدد الأمر الثاني لا الأوّل، والذي يفيد المستدل هو الأوّل، ويدل على ذلك قوله سبحانه:( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٢) وقال سبحانه:( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (٣) فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه، بقرينة قوله سبحانه:( إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٥) بل يصفه سبحانه بقوله:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٦) وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.

وإن شئت قلت: إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٧) ، وقال تعالى:( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

__________________

(١) البقرة: ٢٧٢.

(٢) القصص: ٥٦.

(٣) الأحزاب: ٤.

(٤) النمل: ٨١، والروم: ٥٣.

(٥) السجدة: ٢٤.

(٦) الشورى: ٥٢.

(٧) القصص: ٥٦.

٢٩٨

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) وقال سبحانه:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) (٢) وقال سبحانه:( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ، كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الأمّة، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال، وعلى نحو الإطلاق، سواء أشاء الله أم لم يشأ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.

وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل، فإنّ المقصود من قوله:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (٤) هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي، أو ميت الأحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم، ولأجل ذلك يقول:( وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٥) .

وقد وقفت في هذا الفصل الذي أفردناه عن الفصول السابقة على الإشكالات التي نسجتها الأوهام حول الشفاعة وعرفت ضآلتها بوجه واضح، وفي ختام هذا الفصل نعطف نظر القارئ الكريم إلى نكتة، وهي انّ الشفاعة وما يرجع إليها من الأبحاث من الأمور المسلّمة بين المسلمين، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في أثر الشفاعة، وإنّه هل هو رفع العقاب أو ترفيع الدرجة كما أنّه لو كان

__________________

(١) يوسف: ١٠٣.

(٢) آل عمران: ١٢٨.

(٣) الشعراء: ٣.

(٤) النمل: ٨٠.

(٥) النمل: ٨١.

٢٩٩

هناك خلاف آخر فإنّما هو في الإشكال العاشر، فإنّ الوهابيين يمنعون طلب الشفاعة ممن أُعطي الشفاعة، والناظر في أبحاثهم وكلماتهم وتحليلاتهم يقف على أنّهم أعداء الإنسان الكامل، ولأجل ذلك يصرفون هممهم للحط من شخصيته، ومكانته، ويتصورون أنّ التوحيد لا يتم إلّا بتنقيصهم، وكأنّ التوحيد لا يتم إلّا بحط مكانتهم أو شخصيتهم ومنازلهم المعنوية.

بقي هنا بحثان يتم بهما بحث الشفاعة :

الأوّل: الشفاعة في الأدب العربي.

الثاني: الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

٣٠٠