مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106136 / تحميل: 7214
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

نعم بقي هنا سؤال

وهو انّه إذا سلمنا انّ النبي والرسول لا يقصد منهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم ولا فرق بينهما إلّا في المعنى الجوهري الذي يدلاّن عليه، وانّ ما ذكر من الفروق كلها خارج عن صلب المعنى وما وضع له اللفظ، فكيف نفسر قوله سبحانه:( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (١) وقوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٢) ؟

الجواب

إنّ مفاد هذه الآيات على ما حقّقناه واضح، أمّا فيما إذا وقعا وصفين لشخص واحد مثل قوله سبحانه:( وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (٣) وقوله سبحانه:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) (٤) فالمراد الدلالة على أنّه واجد لكلا المنصبين، ومتصف بكلتا الحيثيتين إذ للفرد الموحى إليه، المبعوث من الله سبحانه لإبلاغ أحكامه، شؤون ومناصب أو صفات وحالات، فبما انّه يوحى إليه وله اتصال بالمبدأ الأعلى ومطلع على الغيب أو منبئ عنه فهو نبي، وبما أنّه يتحمل رسالة من الله تعالى ويتم حجته على العباد، ويجب عليه إرشاد الناس وإنذارهم، فهو رسول( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (٥) .

__________________

(١) مريم: ٥٤.

(٢) الحج: ٥٢.

(٣) مريم: ٥٤.

(٤) الأعراف: ١٥٧.

(٥) النساء: ١٦٥.

٣٨١

وأمّا إذا استعملا على وجه يشيران إلى طائفة مثل قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (١) فإنّ الظاهر انّ كل واحد من اللفظين يشير إلى طائفة وجماعة واحدة ولا يدل على تعدد الطائفتين مصداقاً، وانّ الموصوف بالنبوة غير الموصوف بالرسالة حسب الوجود، بل يمكن أن يكون اللفظان بما لهما من المعنى حاكيين عن جماعة واحدة لهم شأن النبوة والرسالة، فيصير هدف الآية: انّا ما أرسلنا أحداً من هذه العصابة إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أُمنيته، غير انّه طلباً لجلية الحال وتوخياً في استيعاب كل واحد منهم بلا استثناء، وانّ الحكم يعم رسولهم ونبيّهم عطف أحدهما على الآخر، طلباً لشمول الحكم لهم جميعاً، وانّ بلوغهم مرتبة النبوة والرسالة، ما منعهم عن هذه الهواجس.

وان أبيت إلّا عن ظهور الآية في تعدّد الطائفتين وجوداً ومصداقاً وانّ هنا مجموعتين: أنبياء ورسلاً ويفترق بعضها عن بعضها فعندئذ نقول: قصارى ما يمكن أن يقال انّ كل واحد من اللفظين إذا انفرد بالذكر، لا يدل إلّا على المعنى الذي أشرنا إليه، من دون دلالة على أحد من هذه الفروق، ومن دون أن نلتزم بالتفرقة بينهما بواحد من هذه الفروق، مثلاً إذا قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (٢) فلا يقصد من لفظ النبي، إلّا كونه المطّلع على الغيب والمنبئ عنه من دون أن يشير إلى واحد من هذه الفروق.

وإذا قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) لا يقصد منه إلّا صاحب الرسالة والمبعوث إلى الناس لإبلاغ كلام، أو تنفيذ عمل من دون أن يدل على كونه ذا كتاب، أو شريعة جديدة، أو معايناً للملك، وآخذاً منه

__________________

(١) الحج: ٥٢.

(٢) الأحزاب: ٤٥.

٣٨٢

الوحي، فإنّ واحداً من هذه المعاني لا يخطر ببال أي عربي عند سماع هذين اللفظين.

نعم إذا اجتمعا في الذكر، وأشارا إلى طائفتين مثل قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) ، فالاعتراف بظهور الآية فيما ادّعاه القائل من دلالة اللفظين على أنّ هنا طائفتين، مختلفتين، لكل منهما صفة وخاصية، يدفعنا إلى إبداء الفرق بينهما بأحد من الوجوه المذكورة في كلمات القوم مضافاً إلى ما يفيده لفظهما فيكون وزان النبي والرسول وزان الظرف والجار والمجرور والفقير والمسكين، « إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا » وقد عرفت حال الوجوه السالفة، وأقربها إلى الاعتبار هو الوجه الرابع المؤيد ببعض الروايات.

الثاني: منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة

انّ منصب النبوّة أسمى من مقام الرسالة، والنبي بما هو نبي، أشرف من الرسول بما هو رسول، لما عرفت انّ الحيثية المقومة للنبوة، هي الاتصال بالله واستعداد النفس لوعي ما ينزل به الوحي من المبدأ الأعلى، والحيثية المقومة للرسالة هي تحمل تنفيذ عمل أو ابلاغ قول من المرسل، وأين شرف الاتصال بالله والمبدأ الأعلى من شرف تحقيق عمل في الخارج أو إبلاغ كلام عن شخص إلى الغير ؟

وقد عرفت أنّ النبي لم يستعمل في القرآن إلّا في الإنسان الموحى إليه، المبعوث من ناحيته سبحانه إلى الناس، وأمّا الرسول فقد توسع فيه القرآن ولا يختص بالإنسان الموحى إليه من الله، بل يستعمل في الأعم.

وبذلك يمكن أن يقال: إنّ النبي في مصطلح القرآن أفضل من مطلق الرسول، فإنّ في توصيف الشخص بكونه نبياً يدل على كونه قد احتل مكانة مرموقة، وليس كذلك عند وصفه بكونه رسولاً، إذ يحتمل أن يكون نبياً مرسلاً من

٣٨٣

جانب الله أو من جانب نبيه، أو شخص ثالث ولا يتأتى مثل هذا الاحتمال في النبي وبذلك يعلم سر إطراء عدة من الأنبياء بالرسالة أوّلاً وبالنبوة ثانياً، قال سبحانه:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (١) ويقول سبحانه:( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (٢) وقال عز اسمه:( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ) (٣) ، وقال عزّ من قائل:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٤) .

ترى أنّه سبحانه عندما أراد إطراء نبي من الأنبياء وتوصيفه بما فيه من الصفات، يصفه أوّلاً بكونه رسولاً ثمّ يردفه بكونه نبياً، وما ذاك إلّا لـما أوضحناه من سمو مقام النبي وكرامته على مطلق الرسول وأحقيته منه عند الإطلاق، فلو كان الأمر على ما اشتهر بين الناس من أحقية الرسول وأفضليته، لما صحّ له سبحانه أن يترقى من الوصف العالي إلى ما هو أنزل منه، خصوصاً إذا كان في مقام الإطراء والمدح، كما هو الحال في الآيات كلّها غير الرابعة.

الثالث: النبوة أساس رسالة الإنسان من الله

النبوة أساس رسالة الإنسان من الله سبحانه، إذ رسالة الإنسان من جانب الله سبحانه لإبلاغ أمره أو زجره لا تتحقّق إلّا باتصاف الرسول بالنبوة وارتقاء نفس النبي إلى حد يقدر معه على وعي الوحي، ويصبح به جديراً بنزول كلام الرب عليه، إذ الرسول الذي أمرنا الله بوجوب اتباعه واقتفائه، وحرمة التخلف

__________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

(٢) مريم: ٥٤.

(٣) مريم: ٥١.

(٤) الحج: ٥٢.

٣٨٤

عن أمره ونهيه، كما هو صريح قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) هو المبعوث من جانب الله، المبلّغ عنه أحكامه ودساتيره، المؤدي عنه سبحانه كل ما يقوله، من صغير وجليل، ولا يصير الإنسان مؤدياً عنه سبحانه إلّا إذا استمسك بباب الوحي واعتصم به واستند إليه في قوله ونقله وإبلاغه واتصف بالتنبّؤ به(٢) .

الرابع

قد تبين في الأمر المتقدم، انّ القسم الخاص من الرسول(٣) أعني: الإنسان المبعوث من جانب الله سبحانه، هو نفس النبي مصدقاً وانّ النسبة بينهما من حيث المصداق هي التساوي، وعلى ذلك فلا فرق بين أن تقول: « محمد رسول الله وخاتم النبيين » أو تقول: « وخاتم الرسل » للتلازم بين الأمرين، من حيث المصداق، فلو فرض أنّه أوصد باب النبوة وختم نزول الوحي إلى أي إنسان ( كما تشير إليه مادة النبأ والنبوة ) فعند ذاك يختتم باب الرسالة الإلهية أيضاً بلا ريب وتردّد، لأنّها تحقيق ما تحمّله النبي من جانب الله عن طريق الوحي، فإذا انقطع الوحي، والاتصال بالمبدأ الأعلى والاطلاع على ما عنده سبحانه، فعند ذاك، فقد أحد أركان الرسالة، أو ركنها الركين، أي التبليغ من جانب الله مستنداً إلى الوحي

__________________

(١) النساء: ٦٤.

(٢) ويدل على ذلك ما استفاض نقله عن الصادقينعليهما‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبياً وانّ الله تعالى اتّخذه نبياً قبل أن يتّخذه رسولاً، وانّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وانّ الله تعالى اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ». ( الكافي: باب طبقات الأنبياء والرسل: ٩٤ ).

(٣) قد عرفت أنّ الرسول في القرآن هو صاحب الرسالة سواء تحملها من الله، أو من جانب نبيّه أو من جانب شخص عادي، ولأجل ذلك خصصنا الكلام بالقسم الخاص.

٣٨٥

فتصير الرسالة عندئذ منتفية بانتفاء موضوعها.

فإذا كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتماً للنبيّين، أي مختوماً به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين(١) طبعاً، لأنّ رسالة الإنسان من جانب الله سبحانه، عبارة عنبيان وإبلاغ ما أخذه منه عن طريق الوحي، فلا تستقيم رسالة أي إنسان منجانبه سبحانه، إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى، ولا يقدر أن يتقول أي ابن أُنثى بالرسالة من ناحيته عز وجل، إذا كانت النبوة موصدة باعترافه.

وبذلك يعلم أنّ كلا اللفظين ( « خاتم النبيين » و « خاتم الرسل ) » وإن كانا مفيدين لمعنى واحد، إلّا أنّ اختيار الأوّل على الثاني لأجل أنّ النبوة أساس للرسالة من جانب الله، حيث إنّه يجب أن يعتمد الرسول في إبلاغه وإنذاره وإرشاده، على الوحي والاتصال بالله سبحانه، ولا يفيده إلّا لفظ النبي دون غيره، فإذا أصحر المتكلم بإنهاء الوحي وانقطاعه من السماء إلى الأرض إلى يوم القيامة وقال « إنّه خاتم النبيين » أي انّه آخر من يوحى إليه، وانّه لن يوحى من بعده إلى أحد يلزم منه ختم باب الرسالة الخاصة بطريق أولى، ويكون من باب إفادة المقصد ببيّنة وبرهان، كما لا يخفى(٢) وأمّا ختم الرسالات الأُخر، كرسالة الملك من الله سبحانه فلا صلة له بالبحث، سواء أكان بابها مفتوحاً أو موصداً، وأمّا الرسالة من جانب النبي والرسول، فلا نبي بعده، حتى يكون لهذا النبي، رسول وأمّا الرسالة من

__________________

(١) المراد، القسم الخاص من الرسالة، لا الرسالة من جانب النبي ولا من جانب الشخص العادي.

(٢) قال العلّامة الطباطبائي ـ دام ظلّه ـ بعد ما اختار في معنى الرسالة والنبوة ما أوضحنا، وأقمنا برهانه ـ ما هذا لفظه: ولازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوة، فإنّ الرسالة من أنباء الغيب فإذا انقطعت الأنباء، انقطعت الرسالة. الميزان: ١٦ / ٣٤٦.

٣٨٦

ناحية فرد عادي، فهو خارج عن المقصود.

هذا ما أوصلنا إليه التدبر في آيات الذكر الحكيم وكلمات الفطاحل الأعلام، ونردف المقام بالبحث عن الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

٣٨٧

بحث وتنقيب

قد اضطربت الروايات المروية عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، حول تفسير الرسول والنبي، اضطراباً يعسر إرجاعها إلى أمر واحد إلّا بإمعان وتدبّر عميق، وتلك المأثورات على أقسام ننقلها تحت أقسام، حتى تسهل الإشارة إليها :

الأوّل: ما يسوق منصبي النبوة والرسالة إلى أربع درجات ولا يفرّق بينهما قيد شعرة :

أخرج الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي(١) ، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور عنه قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات(٢) فنبي منبئ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبييرى في المنام ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد، وعليه امام، مثل ما كان إبراهيم على لوط(٣) ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت

__________________

(١) قال الغضائري: حديثه يعرف تارة وينكر أُخرى، ويجوز أن يخرج شاهداً، وقد استثنى ابن الوليد وابن نوح وابن بابويه من روايات « محمد بن أحمد بن يحيى » ما رواه عن « أبي يحيى الواسطي » وقرّره الشيخ في فهرسته والنجاشي في رجاله. راجع قاموس الرجال: ٥ / ٤٣.

(٢) ويحتمل أن يكون المراد، انقسام مجموع الصنفين إلى أربعة، لا كل واحد، وعندئذ يخرج الحديث عن الدلالة على هذا القسم.

(٣) الظاهر من التمثيل ب‍ « لوط » من جهة انّ عليه إماماً، لا من جهة انّه لا يعاينه حتى ينافي قوله سبحانه:( ولـمّاجَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) ( هود: ٧٧ ) ولا من جهة انّه لم يبعث إلى أحد حتى ينافي قوله تعالى:( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) ( الصافات: ١٣٣ ).

٣٨٨

ويعاين الملك، وقد أُرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا، كيونس، قال الله تعالى:( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (١) ( قال: يزيدون ثلاثين ألفاً ) وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين ( الملك ) في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم(٢) ، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال الله:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً »(٣) .

والرواية مع قطع النظر عمّا تحتاج إليه من توجيه، كما أشرنا إليه في التعليقة، تخالف ما استظهرناه من الآيات من كون كل نبي مبعوثاً إلى الناس، وانّه ليس لنا نبي لا يعدو نفسه، كما هو نص الرواية، إلّا على بعض الوجوه، كما هو الحال في بدء الوحي وقبل الأمر بالإنذار، ولكنّه يؤيد ما أوضحناه من كونه النسبة بين الرسول(٤) والنبي هي المساواة حسب المصداق.

وأمّا ما أخرجه الكليني بسند موثق عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: « سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أُولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».(٥) فليس من أحاديث هذا الباب، بل غايته انّ هناك نبياً ومرسلاً، وأمّا تساوي النبوة والرسالة، والنبي والرسول فلا يستفاد منه أصلاً.

__________________

(١) الصافّات: ١٤٧.

(٢) قد حدّد أولو العزم بقيود أربعة: من رؤية في المنام، وسماع صوت الملك، ومشاهدته، وهو إمام.

(٣) الكافي: ١ / ١٧٤، ١٧٥، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة.

(٤) المراد الرسالة من الله فلا تغفل.

(٥) الكافي: ١ / ٨٤، باب طبقات الأنبياء والرسل.

٣٨٩

الثاني: ما يخصص النبوة بتجلّي الله لنبيه في اليقظة، ولا يطلقها على غيره من مراتب الوحي(١) .

روى الصدوق عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام جعلت فداك: الغشية التي تصيب رسول الله إذا أُنزل عليه الوحي ؟ فقال: « ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلّى الله له »، قال: ثم قال: « تلك النبوة يا زرارة » وأقبل يتخشع(٢) .

ويمكن توجيهه بحملها على الدرجة الكاملة من النبوة، وإن كانت النبوة غير منحصرة في هذا القسم، كما ينبئ عنه قولهعليه‌السلام تلك النبوة، فلا ينافي ما أوضحناه.

وأمّا حديث الغشية، فقد أوضحه الإمام في رواية أُخرى بقوله: « إنّ جبريل إذا أتى النبي لم يدخل عليه حتى يستأذنه، فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، وإنّما ذلك عند مخاطبة الله عزّ وجلّ إياه بغير ترجمان وواسطة »(٣) .

الثالث: ما يظهر منه اختصاص النبوة بالإيحاء في المنام، والرسالة بمعاينة الملك(٤) .

__________________

(١) وقد نقله قولاً في مجمع البحرين مادة « نبأ ».

(٢) التوحيد: ١١٥، طبعة مكتبة الصدوق.

(٣) راجع البحار: ١٨ / ١٠٢.

(٤) الظاهر انّ المراد من الملك في هاتيك الروايات هو جبرئيل، ولو كان مطلق من كلّمه الملك أو رآه رسولاً، يلزم أن تكون سارة زوجة إبراهيم ومريم بنت عمران رسولتين، بل كل من كلّمه الملكان ببابل، رسولاً، وعند ذلك يمكن أن يقال: إنّ المراد من الملك فيها هو جبرئيل وله بين الملائكة شأن عظيم وهو رسول كريم، ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

وقد جعل المجلسي في « مرآة العقول »: ١ / ١٣٤ هذا المعنى أحد الاحتمالات.

٣٩٠

أخرج الكليني عن أحمد بن محمد(١) ومحمد بن يحيى(٢) عن محمد بن الحسين(٣) ، عن علي بن حسان(٤) عن ابن فضال(٥) عن علي بن يعقوب الهاشمي(٦) ، عن مروان بن مسلم(٧) عن بريد(٨) عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام في قوله عزّ وجل:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) قلت: جعلت فداك: ليست هذه قراءتنا، فما الرسول والنبي والمحدّث ؟ قال: « الرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبي هو الذي يرى في منامه وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة » قلت: أصلحك الله كيف يعلم إنّ الذي رأى في النوم حق وانّه الملك ؟ قال: « يوفق لذلك حتى يعرفه، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء »(٩) .

الرابع: ما يظهر منه انّ للنبي شأنين ( الإيحاء إليه في المنام وسماع صوت

__________________

(١) ولعلّه العاصمي كما احتمله المجلسي في مرآته، وليس المراد أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، لأنّ الكليني لا يروي عنه إلّا بواسطة.

(٢) العطار القمي.

(٣) محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، وهو ثقة جليل.

(٤) علي بن حسان الواسطي، لا الهاشمي، لأنّه لا يروي إلّا عن العمش وهو ثقة جليل.

(٥) أي الحسن بن الفضال، لا ابناه: علي بن الحسن، وأحمد بن الحسن، وهو إمامي ثقة، وكان فطحياً ولكنه استبصر.

(٦) لم يعنون في كتب الرجال، والظاهر من متن الحديث انّه كان إمامياً، ولو كان مطعوناً، لذكر في كتب الرجال.

(٧) ثقة جليل.

(٨) العجلي ثقة جليل عديل زرارة ومحمد بن مسلم، فالخبر وإن لم يكن صحيحاً اصطلاحاً إلّا أنّه حجة ومعتبر.

(٩) الكافي: ١ / ٨٥، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث.

٣٩١

الملك بلا معاينة، وللرسول شؤون ثلاثة وهي هذان الأمران مضافاً إلى معاينة الملك ) :

١. أخرج الكليني عن عدة(١) من أصحابنا، عن أحمد بن محمد(٢) عن أحمد بن محمد بن أبي نصر(٣) عن ثعلبة بن ميمون(٤) عن زرارة،(٥) قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل:( وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ما الرسول وما النبي ؟ قال: « النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك »، قلت: الإمام ما منزلته ؟ قال: « يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين »، ثم تلا هذه الآية:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) (٦) ( ولا محدث ).

٢. أخرج الكليني عن محمد بن يحيى،(٧) عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن الأحول،(٨) قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الرسول والنبي والمحدّث ؟ قال: « الرسول هو الذي يأتيه جبرئيل قبلا، فيراه ويكلّمه

__________________

(١) العدة التي يروي الكليني بواسطتهم عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عبارة عن: محمد بن يحيى العطار، داود بن كورة، أحمد بن إدريس، علي بن إبراهيم، وعلي بن موسى الكمنداني، صرّح بذلك النجاشي في ترجمة أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، والعلاّمة الحلي في خاتمة خلاصته، نعم عدّ صاحب الوسائل « محمد بن موسى » مكان « علي بن موسى الكمنداني » وهو من هفوات قلمه الشريف قدس الله سره.

(٢) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، من أجلاّء أصحابنا القميين، ثقة، فقيه.

(٣) البزنطي من أصحاب الرضا والجوادعليهما‌السلام ، ثقة جليل.

(٤) أحد فقهاء الطائفة الأجلاّء.

(٥) أمره في الفقاهة والجلالة غني عن البيان، فالرواية صحيحة، رجالها كلّهم ثقات.

(٦) الحج: ٥٢.

(٧) محمد بن يحيى العطار، ثقة جليل.

(٨) مؤمن الطاق، محمد بن علي بن النعمان، ثقة جليل، فالحديث صحيح، رجاله كلهم ثقات.

٣٩٢

فهذا الرسول »(١) .

وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام ونحو ما كان رأى رسول الله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة، وكان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه جبرئيل ويكلّمه بها قبلاً ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة وأمّا المحدث فهو الذي يحدث، فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه(٢) .

أقول: أثبت الحديث في صدره للنبي أمراً واحداً وهو انّه يرى في منامه، لكنه استدركه في ذيله وأثبت له أمرين، وهو انّه يرى في منامه ويسمع صوت الملك ولا يراه في اليقظة، ولعل تعريف النبي بالرؤية في المنام، للإيعاز إلى أقل ما تتحقق به النبوة، مثل ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرى من أسباب النبوة قبل الوحي.

أضف إليه انّ ما أثبته ذاك الحديث للإمام من سماع صوت الملك بلا معاينة ولا رؤية في المنام، أثبته الحديث السابق للإمام.

ثمّ إنّ رفع الاختلاف بين القسمين ( الثالث والرابع ) سهل، فإنّ القسم الثالث وان أثبت للنبي شأناً واحداً وأثبت ذاك شأنين إلّا إنّ الرابع يقدّم على الثالث، لأنّه تعرض لأمر لم يتعرّض له الآخر، والمثبت مقدم على الساكت ولا

__________________

(١) لـمّا كانت الوظيفة المحولة على الرسول أشد وأشق من النبي غير الرسول، وبما انّه في إبلاغ رسالاته مضطر إلى ملابسة الناس وأحوالهم من جميع المشارب والأذواق والعقليات المختلفة، وهو معرض لصنوف ثقيلة من الأذى والسخرية والجدال والمشاحنة، اقتضى ذلك، اختصاص الرسول بالمعاينة، إذ هو عند ذاك في حاجة إلى تقوية روحه وتثبيت جناحه وتشجيعه على التحمل والصبر ومعاينة الملك، وربما تزود العاين بكل هذه الأسلحة الروحية لمواجهة هذه المواقف الصعبة، ولأجله قالعليه‌السلام : الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلمه.

(٢) الكافي: ١ / ١٧٦، باب الفرق بين النبي والرسول والمحدّث.

٣٩٣

يعدان متعارضين، أضف إلى ذلك إنّ كثيراً منها ليست في مقام التحديد، بل في مقام انّ النبوة تتحقق بالرؤية في المنام، أو برؤية الملك في اليقظة بلا تكلم معه، فما يثبت للنبي شأنين، لا صراحة فيه، في اجتماعهما معاً، كما يستفاد ذلك أيضاً، من رواية « المعروفي » الآتية.

الخامس: ما يظهر منه انّ النبي يعاين الملك ولا يسمع كلامه حين المعاينة بخلاف الرسول فإنّه يعاينه حين التكلم :

أخرج الكليني عن علي بن إبراهيم(١) عن أبيه(٢) عن إسماعيل بن مرار(٣) ، قال كتب المعروفي إلى الرضاعليه‌السلام جعلت فداك: أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام ؟ قال: « إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه، وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم، والنبي ربّما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص »(٤) .

وظاهره انّ النبي يعاين الملك وان لم يسمع كلامه، وهذا مخالف لما أوردناه في القسمين الماضيين ( الثالث والرابع ) خصوصاً الأخير، فإنّ صريحه انّ النبي لا يعاين الملك. أللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المنفي عنه فيهما معاينته مع سماع كلامه، والثابت له في هذا القسم هو المعاينة مع عدم سماع كلامه، ولم يظهر من القسمين سلبهما عن النبي.

__________________

(١) ثقة جليل.

(٢) إمامي ممدوح.

(٣) يروي عن يونس بن عبد الرحمان، قال ابن الوليد: كل ما روي عن يونس صحيح، غير ما انفرد به العبيدي، وهذه الجملة من خرّيت الفن توثيق له على وجه العام، فالحديث وان لم يكن صحيحاً لكنه معتبر.

(٤) الكافي: ١ / ١٧٦، باب الفرق بين النبي والرسول.

٣٩٤

إلى هنا تمَّ ما أورده الكليني في هذا الباب، واتضح عدم الفرق الجوهري بين الروايات التي نقلناها في القسم الثالث والرابع والخامس وأنّ مآل الجميع واحد.

السادس: ما يظهر منه انّ عدد المرسلين لا يعدو عن ثلاثمائة وثلاثة عشر والنبيين أكثر من المرسلين بكثير :

روى الفريقان عن أبي ذر، أنّه سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: قلت يا رسول الله كم النبيّون ؟ قال: « مائة وأربعة وعشرون ألف نبي »، قلت: كم المرسلون ؟ قال: « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً »(١) .

القضاء بين هذه المأثورات

هذه المأثورات عن أهل البيت بين صحاح وحسان ولا منتدح للباحث عن التعرض لها وتوضيح مضامينها، فنقول :

أمّا القسم الأوّل والثاني فلا يخالف ما احتملناه من أنّ الرسول(٢) والنبي متساويان في الصدق وإن لم يكونا مترادفين، فإنّ القسم الأوّل يسوق النبيين والمرسلين معاً إلى أربع طبقات من دون أن يفرّق بينهما قدر شعرة، وأمّا على القول بكون النبي أعم ـ كما هو الحال في النبي الأعظم في بدء الوحي ـ فلا بد من توجيه الرواية على وجه لا يخالفه، كما قلنا، من أنّ كلاً من اللفظين يشير إلى جهة خاصة هي مدلولهما الوضعي على ما أوضحناه.

__________________

(١) بحار الأنوار: ١١ / ٣٢ من الطبعة الحديثة.

(٢) المراد من الرسول: الرسول من جانب الله سبحانه، لا مطلق الرسول، وقد عرفت أنّ القرآن يتوسع في إطلاق الرسول إلّا أنّ البحث في هذه الروايات إنّما هو عن الرسول الخاص الدائر في الألسن، لا مطلق الرسول.

٣٩٥

وأمّا القسم الثاني فهو وان كان يخص النبوة بتجلّي الرب له، إلّا أنّ ذلك من باب إطلاق الكلي على الفرد الكامل، كما في قوله سبحانه:( ذَٰلِكَ الكِتَابُ ) .

وأمّا القسم السادس فلم يثبت عندنا بسند صحيح يؤخذ به.

بقي القسم الثالث والرابع والخامس: وقد أرجعناها إلى أمر واحد وهو « انّ النبي من يوحى إليه في المنام، وربما يسمع بلا معاينة، وربّما عاين بلا تكلم، وأمّا الرسول فهو حائز لعامة المراتب، يوحى إليه في المنام ويسمع الصوت بلا معانية، وربّما يراه ويسمع صوته، فالرسول هو النبي الذي استكملت نفسه حتى استعد لمشاهدة رسول ربه(١) .

فيجب عند ذلك ملاحظة هذا القسم من الروايات :

فنقول: إنّ تلك المأثورات الواردة في الأقسام الثلاثة تهدف إلى أمر واحد، وهو انّ النبي أعم من الرسول، ولا يشترط فيه إلّا أقل مراتب الاتصال بالله، بخلاف الرسول، فهو النبي الذي وصل إلى مكانة مرموقة يقدر معها على معاينة الملك ووعي الوحي عنه. ويترتب على ذلك أُمور :

١. النبي أعم من الرسول، وهو أخص منه.

٢. الرسول أشرف من النبي.

٣. ختم النبوة يستدعي ختم الرسالة، فانّ الاختلاف بين المنصبين حسب تنصيص الروايات من قبيل اختلاف درجات حقيقة واحدة، فلا ينال بالدرجة الكاملة، إلّا إذا نيل بالناقصة منها، كما هو الحال في الدرجات العلمية، كشهادة الدكتوراه والليسانس.

فلو أوصد باب الكلية بوجوه المتخرجين من الثانوية، فلا يعقل أن يكون

__________________

(١) كما هو ظاهر الحديث الأوّل من القسم الرابع.

٣٩٦

قسم الدكتوراه مفتوحاً عليهم، فإنّ الطالب إنّما يتم دراسة الكلية وما بعدها واحداً بعد واحد.

وهذا الأمر الثالث مما أصفقنا عليه سواء أقلنا بما في الروايات، أم قلنا بما استظهرناه من الآيات من كون الرسول أعم من النبي، والرسول المصطلح يساوق النبي صدقاً، وان لم يكونا مترادفين.

وأمّا الأمر الأوّل فتمكن الموافقة معه، فالنبي يمكن أن يكون أعم من الرسول، أمّا لأنّ النبي ربّما لا يكون رسولاً في بعض الأحوال، كما هو الحال في بدء الوحي، وأمّا لما ذكر في هذه الروايات من أنّ الرسول يسمع كلامه مع معاينته في حال التكلم، بخلاف النبي.

وأمّا الأمر الثاني فالتصافق معه مشكل، إذ لو كان الرسول أشرف من النبي فلماذا أخّر النبي وقدم الرسول في كثير من الآيات مع كونها في مقام الإطراء، فهل يصح التدرج من الكامل إلى الناقص ؟ وقد قدمنا الآيات فلاحظ، ومنه يظهر الإشكال في أخصية الرسول على الوجه المذكور في الروايات، فإنّ لازمه التدرّج من الكامل إلى الناقص.

المحدَّث في السنّة

قد وقفت على الفرق بين الرسول والنبي كما وقفت على المراد منهما في الكتاب والسنّة، وبقي هنا بحث وهو: ما هو معنى المحدَّث ؟ فنقول :

اتفق أهل الحديث على أنّ في الأمّة الإسلامية أُناساً تكلّمهم الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة، أو يلهمون ويلقى في روعهم شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة، من المبدأ الأعلى أو ينكت لهم في قلوبهم من حقائق تخفى على غيرهم أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه.

٣٩٧

وقد ورد هذا المعنى في الكتب الحديثية من الفريقين.

روى البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج ٢ ص ١٩٤، عن أبي هريرة قال: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر ». وعند القوم أحاديث في هذا الصدد وفي ما ذكرناه كفاية.

وأخرج الكليني عن الأحول قال: سألت أبا جعفر عن الرسول والنبي والمحدَّث ؟ فقال: « وأمّا المحدَّث فهو الذي يحدَّث ولا يعاين ولا يرى في منامه ».

وفي حديث آخر عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليه‌السلام : قالا: « المحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة »(١) .

وقد روي عن ابن عباس انّه كان يقرأ:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) ـ ولا محدَّث ـ(٢) .

وليس المراد هو سقوط تلك اللفظة من الذكر الحكيم، فإنّ ابن عباس أجل من أن ينسب إليه التحريف، وعلى كل تقدير فالقول بوجود المحدَّث بين الأمّة الإسلامية مما أطبقت عليه الروايات.

__________________

(١) الكافي: ١ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: ٦ / ٩٩.

٣٩٨

فهرس المواضيع

مقدمة الكتاب ٥

كلمة العلّامة الحجّة المحقق السيد مرتضى العسكري ٧

رسالة العلّامة الحجّة الشيخ سلمان الخاقاني ٩

خطاب العلّامة الحجة الحكيم المتأله الشيخ حسن الآملي ١١

مقدمة المؤلف: الإيمان بالغيب في الكتاب العزيز ١٣

أثر الحضارة المادية الحديثة على أفكار بعض المفكرين المسلمين ١٤

مناقشة آراء صاحب المنار في تفسير آيات من سورة البقرة ١٥

أجر الرسالة المحمدية في القرآن الكريم

شعار الأنبياء في طريق دعوتهم هو ( ما أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ ) وفيه مقامات ٣١

المقام الأوّل: ما هو المراد من ( المَؤدَّةَ فِي القُربى ) ؟ ٣٦

٣٩٩

ماذا فهم الأوائل من ( المَؤدَّةَ فِي القُربَى ) ؟ ٣٨

أسئلة وأجوبتها ٤٢

السؤال الأوّل: لو أراد الله من الآية مودة القربى لقال: إلا مودة أقربائه، أو المودة للقربى ؟ ٤٢

السؤال الثاني: إنّ تفسير الآية بمودة أهل البيت غفلة لأن الآية وردت في سورة مكية ؟ ٤٣

السؤال الثالث: إن المحبة حالة قلبية غير اختيارية ؟ ٥٠

السؤال الرابع: كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنا نجد في صفوفهم من عادى الله ورسوله ؟ ٥٤

المقام الثاني: التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر ٥٦

المقام الثالث: كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟ ٦٤

المقام الرابع: المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى الله ٦٧

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين ٦٩

المقام الخامس: مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة ٧٢

المقام السادس: في سرد الأحاديث الواردة حول الآية ٨١

معاجز النبي الأكرم ٦ وكراماته

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته ٨٩

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407