مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106119 / تحميل: 7213
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أحب النبي المصطفى وابن عمه

علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا

همو أهل بيت أذهب الرجس عنهمو

وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم

وحبهمو سني الذخائر للأخرى

٦. وقال النبهاني:

آل طه يا آل خير نبي

جدكم خيرة وأنتم خيار

أذهب الله عنكم الرجس أه‍

‍ل البيت قدماً وأنتم الأطهار

لم يسل جدكم على الدين أجراً

غير ود القربى ونعم الاجار(١)

هذه نماذج ممّا قيل شعراً في مفاد الآية، وهي تكشف بكل وضوح وجلاء عن أنّ الآية لم تقصد منذ أن نزلت إلّا تكريس محبة ذوي القربى.

ولا شك أنّ الأشعار استوحت محتواها من اللغة وما فهمه المحدّثون، والعلماء الأوائل.

فالأبيات الماضية أمّا كانت من إنشاء العلماء أنفسهم، أو لقيت تأييدهم إلى درجة أنّهم نمَّقوا بها كتبهم في تفسير الآية، وهذا إن دلَّ على شيء فانّما يدلُّ على أنّ الآية لا تحتمل إلّا ما أسفرت عنه كتب الحديث والتفسير والتاريخ.

فهذه هي اللغة كما رأيناها، وهؤلاء هم الأدباء وأبياتهم كما قرأناها كلّها تتفق على أنّ الله سبحانه لم يطلب أجراً لرسالة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا محبَّة ذوي القربى.

وأمّا أنّه كيف يصلح أن تكون المودة في القربى أجراً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فسوف نعود إليه عند البحث عن المقام الثاني، فارتقب.

__________________

(١) لاحظ: الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٢٢٩.

٤١

أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ هاهنا أسئلة حول مفاد الآية طرحها بعض من لا إلمام له بتفسير كلام الله وتوضيح سنة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن نوردها هنا مع الإجابة عليها :

السؤال الأوّل :

لو أراد الله سبحانه من الآية مودّة القربى لقال: إلّا مودّة أقربائه، أو المودّة للقربى.

الجواب: انّ السائل توهم أنّ « القربى » جمع « القريب » أو « الأقرب » فقال لو أراد مودة أقربائه لقال كذا وكذا، ولكنّه غفل عن أنّ القربى مصدر كزلفى وبشرى كما قال الزمخشري في كشّافه، ولأجل ذلك لم يستعمل في القرآن إلّا مع المضاف كقوله « ذي القربى » و « ذوي القربى » و « أُولي القربى » مشيراً إلى صاحب القرابة الرحمية، وأمّا في مورد الآية فقد استعمل بلفظة « في القربى » بحذف المضاف من الأهل وغيره.

قال الزمخشري في كشافه: فإن قلت فهلا قيل إلّا مودة القربى، أو إلّا المودة للقربى، وما معنى قوله:( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ، قلت: جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك: « لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد » تريد أحبهم وهم مكان حبي، ومحله، وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت « إلّا المودة للقربى »، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك، المال في الكيس، وتقديره إلّا المودة ثابتة في القربى، ومتمكنة فيه « والقربى » مصدر بمعنى القرابة كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد « في أهل القربى »(١) .

__________________

(١) الكشّاف: ٣ / ٨١، ط مصر عام ١٣٦٧.

٤٢

قال النبهاني في الشرف المؤبد: القربى مصدر بمعنى القرابة وهو على تقدير مضاف أي ذوي القربى يعني الأقرباء قال: وعبر ب‍ « في » ولم يعبر ب‍ « اللام »، لأنّ الظرفية أبلغ وآكد للمودة(١) .

السؤال الثاني :

إنّ تفسير الآية بمودة أهل البيت وعترة النبي غفلة عن نقطة هامة، وهي: أنّ الآية وردت في سورة الشورى وهي سورة مكية ولم يكن يومذاك الحسنان، بل ربما لم تكن فاطمة أيضاً، فكيف تفسّر الآية بعترة النبي، وتخصص العترة بجماعة خاصة، أعني: علياً وفاطمة والحسن والحسين، مع أنّ أكثرهم لم يكونوا موجودين زمن نزول الآية ؟

وهذا السؤال يرجع إلى ابن تيمية في « منهاجه ص ٢٥٠ »، حيث قال: إنّ سورة الشورى مكية بلا ريب نزلت قبل أنْ يتزوج علي بفاطمة وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين.

الجواب: انّ هناك طريقين لمعرفة الآيات المكية وتمييزها عن المدنية.

الطريق الأوّل: هو ملاحظة نفس مفاد الآية فهو الذي يكشف عن موضع نزول الآية أو السورة، إذ الآيات التي تدور حول التوحيد والمعارف العقلية، وانتقاد الوثنية ورفض الأوثان، والدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وبيان ما جرى في القرون الغابرة على الأمم السالفة، وما يشابه هذه الموضوعات هي مكية في الأغلب على أساس أنَّ القضايا الوحيدة التي كانت تطرح في المحيط المكي كانت تدور حول هذه المسائل وأمثالها، فإنّ محيط مكة في فجر الدعوة الإسلامية ما كان يتحمل أكثر من طرح هذه القضايا.

__________________

(١) الشرف المؤبد نقله عنه العلّامة شرف الدين في الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٣٢.

٤٣

أمّا الآيات التي تدور حول شؤون النظام الإسلامي والجهاد ومحاجة اليهود والنصارى والأحكام الشرعية والنظم الاجتماعية فهي مدنية غالباً.

ولقد تمكّن العلماء مؤخراً أن يحصلوا بمعونة هذا المعيار الدقيق، على نتائج باهرة في مجال فهم النصوص القرآنية.

فإذا كان هذا هو الملاك في تشخيص مكية الآيات عن مدنيتها، فهذا يقودنا ـ بيسر ـ إلى اعتبار كون الآية المبحوثة هنا مدنيّة لا مكّية، لأنّها تناسب ظروف المدينة، ولا تناسب ظروف مكة، إذ ليس من المعقول أن يتحدّث النبي بمثل هذا الطلب في مكّة حيث لم يكن قد آمن به بعد إلّا نفر يسير لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع أو يزيد عن ذلك بقليل، حيث كان يواجه أغلبية معادية، مبالغة في عدائها، متعنتة في خصومتها، وأمّا النفر اليسير، أعني: الجماعة القليلة المؤمنة، فما كان يناسب طلب شيء منهم حتى المودَّة وهم على ذلك الضعف والمحنة الشديدة والتشرّد والمعاناة.

لندع الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ولنأخذ أيَّ رجل بليغ آخر يعرف متى يتكلم وماذا يقول، ترى هل من الصحيح أن يقول لجماعة لم تؤمن به بعد أو لجماعة قليلة مؤمنة كانوا يعذبون بألوان التعذيب:( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) سواء أفسرت الآية بعترة الرسول وأهل بيته، أو غيرها من المعاني التي أبدعها بعضهم في تفسير الآية ؟

أجل انّ مثل هذا الطلب إنّما يصح أن يوجهه إلى الذين صدّقوه وآمنوا به وقبلوا دعوته وكانوا قد وصلوا إلى بعض الأهداف والنجاحات واستقرّت أُمورهم وصفا لهم الجو والحال.

وخلاصة القول: إنّ سؤال الأجر من جانب النبي وهو في إبّان الدعوة ليس أمراً بليغاً حيث لم يستتب له الأمر بعد، ولم يحصل هناك هدوء ولا سكون له ولمن

٤٤

آمن به واتبعه، وإنّما هو مناسب لظرف آخر مثل أواخر عهد الرسالة.

الطريق الثاني: لتمييز مكيّة الآيات عن مدنيتها هو الرجوع إلى النصوص الواردة في هذا المورد عن العلماء وكبار المفسرين، فإذا كان هو الميزان لمعرفة الآيات المكية من المدنية فإنّنا نجد المفسّرين ـ وبالأخص أُولئك الذين ألّفوا كتباً حول مواضع نزول الآيات والسور ـ يقولون: إنّ سورة الشورى مكيّة إلّا أربع آيات أُولاها قوله تعالى:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) فهذا إبراهيم بن عمر البقاعي الذي ألّف كتاباً في هذا المضمار وأسماه « نظم الدرر وتناسق الآيات والسور » يقول في كتابه هذا: سورة الشورى مكية إلّا الآيات ٢٣، ٢٤، ٢٥ و ٢٧(١) .

والواقع أنّه لم يكن البقاعي وحده هو القائل بمدنية هذه الآية، وإنّما قال به عدّة من المفسّرين منهم: نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير الكبير يقول في ابتداء تفسيره لسورة الشورى: سورة الشورى مكية إلّا أربع آيات ومنها آية المودّة في القربى نزلت في المدينة(٢) .

ويقول الخازن في تفسيره: سورة الشورى مكية، ونقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات منها نزلت في المدينة أولاها:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ( ثم يضيف قائلاً ): وليست هذه الآيات الأربع مدنية فحسب بل هناك آيات أُخرى نزلت بالمدينة أيضاً، فقد ذهب فريق إلى أنّ الآيات من ٣٩ إلى ٤٤ أيضاً مدنية(٣) .

__________________

(١) راجع تاريخ القرآن للزنجاني: ٥٨. والبقاعي هذا هو برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الشافعي، ولد عام ٨٠٩ ه‍، وتوفّي في دمشق عام ٨٨٥ ه‍. قال في كشف الظنون: ٢ / ٦٠٥: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول.

(٢) تفسير النيسابوري: ٣ / ٣١٢.

(٣) تفسير الخازن: ٤ / ٩٤.

٤٥

ثم إنّ بإمكان القارئ أن يراجع المصاحف التي طبعت تحت إشراف لجان أزهرية ومحققين منهم ليجد فيها هذه العبارة فوق سورة الشورى: سورة الشورى مكّية إلّا الآيات ٢٣، ٢٤، ٢٥ و ٢٧ فمدنية.

وليعلم القارئ أنّ ترتيب الكتاب العزيز في الجمع ليس على حسب ترتيبه في النزول إجماعاً وباتفاق جميع العلماء، ومن ثَمّ كانت أغلب السور المكية لا تخلو من آيات مدنية، وكذلك أكثر السور المدنية لا تخلو من آيات مكية، بحكم أئمّة السلف والخلف من الفريقين ووصف السورة بكونها مكية أو مدنية تابع لأغلب آياتها لا جميعها(١) .

ولكي يكون هذا الكلام مقروناً بالدليل ومدعماً بالبرهان نأتي بنماذج من هذا :

١. سورة العنكبوت مكية إلّا من أوّلها عشر آيات فهي مدنية(٢) .

٢. سورة الكهف مكية إلّا من أوّلها سبع آيات فهي مدنية، وقوله( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) الآية(٣) .

٣. سورة هود مكية إلّا قوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) وقوله:( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ ) (٤) .

٤. سورة مريم مكية إلّا آية السجدة وقوله:( وَإِن مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) (٥) .

٥. سورة الرعد فانّها مكية إلّا قوله:( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبعض آيها

__________________

(١) الكلمة الغرّاء: ٢٢٧.

(٢) راجع تفسير الطبري: ٢٠ / ٨٦، وتفسير القرطبي: ١٣ / ٣٢٣، والسراج المنير: ٣ / ١٦.

(٣) تفسير القرطبي: ١٠ / ٣٤٦، والإتقان: ١ / ١٦.

(٤) تفسير القرطبي: ٩ / ١، والسراج المنير: ٢ / ٤٠.

(٥) إتقان السيوطي: ١ / ١٦.

٤٦

الآخر، أو بالعكس(١) .

٦. سورة إبراهيم مكية إلّا قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ ) الآيتين(٢) .

٧. سورة الإسراء مكية إلّا قوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ ) إلى قوله:( وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (٣) .

٨. سورة الحج مكية إلّا قوله:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ) (٤) .

٩. سورة النمل مكية إلّا قوله:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) (٥) .

١٠. سورة القصص مكية إلّا قوله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ) (٦) .

١١. سورة القمر مكية إلّا قوله:( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (٧) .

١٢. سورة يونس مكية إلّا قوله:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) الآيتين(٨) .

وغيرها مما نص به أئمّة التفسير، وما ذكرناه نماذج ممّا ذكروه.

فكما أنّ كون السورة مكيّة لا يستلزم كون جميع آياتها كذلك فكذلك كون السورة مدنية لا يستلزم كون جميعها كذلك، كما يجده المتتبع في طيات التفاسير.

__________________

(١) تفسير القرطبي: ٩ / ٢٧٨، ومفاتيح الغيب: ٥ / ٢٥٨.

(٢) تفسير القرطبي: ٩ / ٣٣٨، والسراج المنير: ٢ / ١٥٩.

(٣) تفسير القرطبي: ١٠ / ٢٠٣، وتفسير الرازي: ٥ / ٥٤٠، والسراج المنير: ٢ / ٢٦١.

(٤) تفسير القرطبي: ١٢ / ١، وتفسير الرازي: ٦ / ٢٠٦، والسراج المنير: ٢ / ٥١١.

(٥) تفسير القرطبي: ٥ / ٦٥، والسراج المنير: ٢ / ٢٠٥.

(٦) تفسير القرطبي: ١٣ / ٢٤٥، وتفسيرالرازي: ٦ / ٥٨٥.

(٧) السراج المنير: ٤ / ١٣٦.

(٨) تفسير الرازي: ٤ / ٧٧٤، والإتقان: ١ / ١٥، والسراج المنير: ٣ / ٢.

٤٧

كما أنّ بعض الآيات نزلت مرتين، نصّ بذلك العلماء، وعللوه بكونها عظة وتذكيراً، أو لاقتضاء علل متعددة ذلك(١) .

وإن شئت التفصيل فلاحظ أوائل السور من التفاسير تجد انّ المفسّرين حيث يحكمون بأنّ السورة مكية أو مدنية يستثنون في أغلب السور آيات خاصة، فلاحظ التفاسير في تفسير السور: المائدة، الأعراف، الرعد، الإسراء، الكهف، مريم، الحج، الشعراء، القصص، الروم، لقمان، سبأ، الزمر، الزخرف، الدخان، الرحمن.

فإنّ نظرة فاحصة في هذه السور والتفاسير حولها توقف الإنسان على أنّ كون السور مكية أو مدنية بمعنى أنَّ أغلب آياتها لا جميعها كذلك.

* * *

ولو فرضنا كون الآية مكية لكنه لا يستلزم كون المودة مقصورة على الموجودين من أقربائه بل يكون حكماً إسلامياً شاملاً لمن يتولَّد بعد نزول الآية من أقربائه نظير قوله:( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) فانّها شاملة لأولاد المخاطبين المتولدين بعد نزول الآية.

ثم إنّ تفسير النبيّ الآية بعلي وفاطمة وابنيهما يمكن أنْ يكون متأخراً عن نزول الآية لرفع الستار عن وجه الآية، فيكون من الإخبارات النبوية بالمغيبات.

ثمّ إنّ فرض مودتهما على الأمّة قبل ولادتهما لأجل كرامتهما عليه وقرب

__________________

(١) الإتقان: ١ / ٦٠، تاريخ الخميس: ١ / ١١ ومنها سورة الفاتحة، ولأجل تكرار نزولها سميت المثاني. وقد أخذنا هذه النصوص في مورد تلك الآيات عن الغدير: ١ / ٢٣٣، ٢٣٤ شكر الله مساعيه.

٤٨

منزلتهما منه، كما بشر الله آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بالنبي الخاتم، وعرّفهم جلالة قدره وعظم شأنه.

وعلى كل تقدير سواء أكان تفسير الآية بعلي وفاطمة وابنيهما مقارناً مع نزول الآية أم بعده، فقد روى المحدّثون عن ابن عباس أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال: « علي وفاطمة وابناهما »(١) .

وخلاصة القول: إنّ ما يعيّن مكيّة الآيات ومدنيتها هي الأحاديث الإسلامية، فالأحاديث التي تقول بأنّ سورة الشورى مكية هي التي تقول بأنّ آية( قُل لا أَسْأَلُكُمْ ) بل بضع آيات وردت فيها، نزلت في المدينة، ومخالفة هذه الأحاديث ليس سوى نوع اجتهاد في مقابل النص بل النصوص.

وعلى تسليم كونها مكية برمتها لا يضير عدم وجود بعض أفرادها حين النزول في مكة إذ أنّ من الجائز أن يشرِّع مقنن قانوناً يحترم طائفة من الناس يوجد بعض أفرادها حين التشريع، وهذا هو الاسلوب الذي يتبعه القرآن في كثير من تشريعاته حيث يقول:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَىٰ ) (٢) . فلفظ الغنيمة يشمل كل ما تغلب عليه المسلمون في الأجيال كلها، كما أنّ لفظ( وَلِذِي القُرْبَىٰ ) يشمل أقرباء النبي سواء أكانوا موجودين زمن نزول الآية أم لا.

__________________

(١) الذخائر: ٢٥، والكشّاف: ٢ / ٣٣٩، مطالب السؤول: ٨، مفاتيح الغيب: ٧ / ٦٦٥، مجمع الزوائد: ٩ / ١٦٨، الفصول المهمة: ١٢، الكفاية للكنجي: ٣١، شرح المواهب: ٧ / ٣ و ٢١، والصواعق: ١٠١ و ١٣٥ عند البحث في المقام السادس، نور الأبصار: ١١٢، الاسعاف: ١٠٥ وستوافيك نصوصهم.

(٢) الأنفال: ٤١.

٤٩

والعجب تسمية ذلك في كلام بعضهم ( أي إدراج الآية المدنية في السورة المكية أو بالعكس ) تحريفاً باطلاً فإنّ هذا تصور باطل عن معنى التحريف الذي هو بمعنى الزيادة والنقيصة في القرآن وإلاّ يلزم أن نعتبر كلَّ المفسّرين والمحدّثين من القائلين بالتحريف لأنَّهم كثيراً ما يعتبرون الآية مدنية في ضمن السورة المكية وبالعكس.

على أنّ التحقيق هو أنَّ القرآن جمع في عصر الرسول بهذا الشكل الحاضر فبأمره رتبت سوره ونظمت آياته، ووضعت كل آية في موضعها، فإذا كان ذلك بأمر الرسول فهل يصح أن نعتبره تحريفاً ؟

روى المفسّرون عن ابن عباس والسدّي: أنّ قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (١) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول الله وانّ جبرئيل قال له ضعها على رأس الثمانين والمائتين من البقرة، وهذا القول كأنّما إجماعي، وانّما الاختلاف في مدة حياة الرسول بعد نزولها.

السؤال الثالث

إنّ المحبة حالة قلبية غير اختيارية فلا يمكن الأمر بها بأن تقع تحت دائرة الطلب، لأنّه لو كانت هناك موجبات الود وجدت المحبة قهراً وإن لم يوص بها، وإن لم تكن فلا توجد وان كانت هناك توصية بذلك.

الجواب: عزب عن المستشكل أنّه لو كانت المودة أمراً غير اختياري موجباً لعدم صحة الأمر بها، لزم عدم صحة النهي عنها أيضاً فإنّ الموضوع غير

__________________

(١) البقرة: ٢٨١.

(٢) الكشاف: ١ / ٣٠٣، مجمع البيان: ١ / ٣٩٤، الإتقان: ١ / ٧٧.

٥٠

الاختياري لا يقع تحت دائرة الطلب مطلقاً، لا تحت دائرة الأمر ولا تحت دائرة النهي، بينما نرى القرآن ينهى عن مودة الكفّار وأعداء الله ويقول وهو يصف المؤمنين:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (١) .

كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (٢) .

والآية الأولى وإن كانت تخبر في الظاهر عن أحوال المؤمنين إلّا أنّ المقصود منها هو الحث على الاجتناب عن مودتهم ومحبتهم.

إذا كانت المودة ـ لأجل كونها أمراً خارجاً عن الاختيار ـ لا يتعلق بها الأمر لماذا نجد الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله يدفع المسلمين إلى التوادد والتحابب ممثلاً لذلك بمثل جميل ورائع حيث يقول :

« مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »(٣) .

وهذا الحديث ونظائره كثيرة في الأحاديث الإسلامية، وكلّها تعطي أنّ المودة موضوع قابل للطلب، كما أنّ المحدثين عقدوا في موسوعاتهم الحديثية أبواباً من قبيل باب « الحب في الله » وباب « البغض في الله » وأدخلوا في هذه الأبواب مجموعات كبيرة من الأحاديث التي تبدو منها بجلاء الدعوة إلى التوادد والتحابب بين الأمّة الإسلامية ونبذ الكفار وعدم موالاتهم.

__________________

(١) المجادلة: ٢٢.

(٢) الممتحنة: ١.

(٣) مسند أحمد: ٤ / ٧، والتاج: ٥ / ١٧، نقلاً عن صحيحي البخاري ومسلم.

٥١

ومن هنا يبدو أنّ البغض والحب ليسا كما يتوهم أمرين غير اختياريين وغير خاضعين للإرادة الانسانية، بل هما حالتان اختياريتان تتحققان بالتدبر واعمال النظر في مقدماتهما.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله »(١) . أي تحب المؤمن لإيمانه بالله، وتبغض الكافر لكفره بالله.

ويقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتر النخعي: « واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم »(٢) .

ولو أُتيح لك أن تطّلع بالتفصيل على النصوص الواردة في مجال الحب والبغض، لرأيت كيف أنّ الرسول والأئمّة: أوصوا بمحبة جماعة معينة، ونهوا عن مودة آخرين، فها هو الرسول يقول: « عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالبعليه‌السلام »(٣) . والهدف النهائي من هذه الكلمة هو الدعوة إلى موالاة علي وعقد القلب على محبته.

ويقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: « من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمّة من بعدي، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي، ورزقوا فهماً وعلماً »(٤) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي أيضاً: « ومن أحبني فليحبه، ومن أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة »(٥) .

__________________

(١) سفينة البحار: ١ / ١٢.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب برقم ٥٣.

(٣) تاريخ بغداد: ٤ / ٤١٠.

(٤) حلية الأولياء: ١ / ٨٦.

(٥) مسند أحمد: ٥ / ٣٦٦، وصحيح مسلم كتاب الفتن: ١١٩، وصحيح الترمذي كتاب المناقب: ٢٠.

٥٢

ولا شك أنّ هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس إلّا دفع الناس إلى محبتهم وموالاتهم.

أضف إلى ذلك أنّ دعوة النبي إلى حب وموادّة جماعة خاصة، يكون سبباً قوياً لغرس بذور المحبة لتلك الجماعة في قلوب الناس، وسرعان ما تنمو تلك البذور وتتحول إلى حب عميق لتلك الجماعة، فعندما يأخذ الرسول بيد علي ويقول: « من أحبني فليحبه »، تكون تلك العبارة حافزاً لمشاعر القوم تجاه مكانة علي، وسبباً لنمو بذور المحبة في أفئدتهم، كيف لا، وهذه الكلمات من رسول الله هي التي صنعت جماعة أحبت علياً وآله غاية الحب.

نعم لو أوصى بمحبة من لا يتوفر فيه ملاك المحبة، إمّا لوجود نقاط ضعف في خلقه أو عمله لما نفعت التوصية، على أنّ هناك قد يوجد من يتوفر فيه ملاكالمحبة دون أن يعلم أكثر الناس به، فدعوة الناس إلى محبتهم وولائهم تكون سبباً إلى التفتيش في موجبات هذه الدعوة، وفي نهاية المطاف يكون هذا الأمر سبباً إلى التفات الناس إلى سجاياهم وأخلاقهم التي تخلق المحبة في قلوب الناس.

وبذلك يتضح أنّ دفع الناس إلى التعرف على عظمة الشخص يحصل بأحد أمرين :

الأوّل: رفع الستر عن سجاياه الأخلاقية وملكاته الفاضلة ببيان فضائله، وهو عمل يوجه الناس إلى القائد بصورة مباشرة.

الثاني: الأمر بحبه وموالاته، ويكون سبباً لإقبال الناس عليه، والتعرّف بالتدريج على مؤهلاته وصفاته وسجاياه.

وعلى هذا الأساس يعتبر الأمر بمودتهم منطلقاً للتعرف وأساساً للاتّباع.

٥٣

السؤال الرابع

كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنّا نجد في صفوفهم من عادى الله ورسوله، وانّه سبحانه نهى عن مودة من يعاديه أو يعادي رسوله ؟

الجواب: لا شك أنّ القرآن الكريم نهى عن موالاة الكفار سواء أكانوا من أقرباء الرسول أم لا، قال سبحانه :

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ ) (١) .

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (٣) .

فبملاحظة هذه الآيات والآيات التي نزلت في مكة وطلبت من المؤمنين أن يجانبوا آباءهم وأُمهاتهم المشركين، يقضي العقل بأنّ الرسول إنّما طلب موالاة من يرتبط به بوشيجة القربى إذا كان موصوفاً بالإيمان والتقى، وليس من المعقول ممن ينهى عن موالاة الكفار والمشركين، أن يطلب موالاة أقربائه على الإطلاق حتى المشركين.

__________________

(١) التوبة: ١١٣.

(٢) التوبة: ٢٣.

(٣) الممتحنة: ١.

٥٤

وقصارى الكلام هو أن نخصّص إطلاق الآية بما دلَّ على المجانبة من الكفار والمشركين، وإن كانوا من أُولي القربى.

وهذا الإشكال ضئيل غاية الضآلة، فكأن صاحبه جهل أو تجاهل أنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، فالقرآن هو الذي يقول في حق ولد نوح:( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (١) . فعندئذ لا يتبادر من الآية سوى محبة المؤمنين والمخلصين من أقرباء النبي دون الكفار والمشركين.

على أنّ الآية كما أسلفناه نزلت في المدينة ولم يكن يومذاك حول النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله غير ذوي القربى المؤمنين، وقد أجاب دعوته كل من بقي من بني هاشم ممن لم يؤمن به قبل، فإذا كان نزول الآية في عام الفتح وبعده فلم يكن في أرض المدينة ومكة من أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كافر أو منافق.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره روزبهان(٢) من أنّ ظاهر الآية شامل لجميع أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ضعيف جداً، وعلى فرض الصحة فالحديث الصحيح خصّصها بعدّة خاصّة كما ذكرنا صورة الحديث فيما مر.

وأظن أنّ هذا الإشكال لم يكن يحتاج إلى هذا التفصيل لظهور بطلانه.

__________________

(١) هود: ٤٦.

(٢) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠.

٥٥

المقام الثاني

التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر

إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّه كان شعار الأنبياء في طريق دعوتهم وتجاه أُممهم هو رفض الأجر، وعدم طلبه من الأمّة وكلّهم يقولون:( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ ) (١) .

فالقرآن يحدّثنا في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب بأنّ شعارهم الوحيد طوال فتراتهم الرسالية كان هو قولهم:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَىٰ رَبِّ العَالَمِينَ ) (٢) .

كما يرد في سورتي هود ويونس(٣) هذا المضمون عن نوح وهود أيضاً وإنّ من علائم النبوّة أنّ أصحابها لا يطلبون أجراً على رسالتهم.

ولأجل ذلك لما لاحظ المبعوث الثالث إعراض أهالي إنطاكية عن رسل المسيح، التفت إلى أهاليها وقال:( اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (٤) .

__________________

(١) لاحظ الشعراء، الآيات: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠.

(٢) الشعراء: ١٠٩.

(٣) يونس: ٢٧، هود: ٢٩ و ٥١.

(٤) يس: ٢١.

٥٦

ومع ذلك كيف يصح أن يقال أنّ الرسول بدَّل هذا الشعار الذي ظل يتمسّك به كل الرسل على طول التاريخ، وجعل مودة أقربائه أجراً على رسالته، أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأعظم نفسه يصرح بأمر من الله بأنّه لا يسأل أجراً ويقول:( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

الجواب: انّ الأجر في اللغة هو العوض الذي يتلقّاه المرء لقاء عمل يؤدّيه، وهو بمفهومه يشمل كل الأجور الدنيوية والأخروية، بيد أنّ المقصود بالأجر المنفي في هذه الآيات، بقرينة توجيه الخطاب إلى البشر، هو الأجر الدنيوي الذي كان بإمكان البشر تقديمه إلى الرسل، ولا شكّ أنّ الرسول لم يطلب من أحد مثل هذه الأجور الدنيوية كما لم يطلب أيضاً إخوانه من الرسل ذلك من قبل.

ولفظ الأجر في الآية وإن كان يشمل الأجور الدنيوية كلَّها حتى التكريم والتبجيل لنفسه وقومه وأقربائه، وعند ذاك تكون المودَّة داخلة في المستثنى منه قطعاً.

غير انّ المطلوب في الآية ليس نفس المودة والولاء لأقربائه بما هي هي حتى يعود أجراً دنيوياً مطلوباً ويصير طلبها من الأمة مصادماً للآيات الحاكية عن رفض الأنبياء للأجر بتاتاً بل المودَّة في القربى وسيلة لاتصال الأمّة بعترة النبي، ويكون نفس ذلك الاتصال ذريعة لتكامل الأمّة في المراحل الفكرية والعملية، فعندئذ تنتفع الأمّة الإسلامية بها قبل أن تنتفع به العترة، فحينئذ لا تكون المودّة في القربى أجراً حقيقياً وان أُخرجت بصورة الأجر.

هذا هو مجمل الجواب، وأمّا التفصيل فيبين في ضمن أمرين :

الأوّل: انّ الأجر وإن كان يطلق على الأجر الدنيوي والأخروي، ولكن

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

٥٧

المقصود من الأجر المنفي في هذه الآيات هو الأجر الدنيوي بقرينة توجيه الخطاب إلى الناس.

أضف إليه أنّه ليس من المعقول أن يطلب الرسول من الناس أجراً أُخروياً، إذ ليس في وسع الناس أن يقدّموا مثل هذا الأجر إلى الرسول، هذا وإنّ القرآن يحدّثنا بأنّ الرسول كان يعلن للناس بأنّه لا يريد من أحد أجراً، وقد أمره سبحانه أن يقول :

( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

وقوله سبحانه :

( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ) (٢) .

فمع مثل هذه التصريحات التي تمَّت في بدء الرسالة، لا يمكن للنبي أن يطلب من الناس شيئاً يعتبره الناس أجراً على عمله، كيف ؟ والنبي الأعظم كالأنبياء السابقين من نخبة المجتمع وصفوة البشرية، والإخلاص منطلقهم الوحيد في عملهم ودعوتهم، وكان شعارهم كل شيء لأجل الله.

قال شيخنا المفيد: إنّ أجر النبيّ هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال، يتعلق بالعباد لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره(٣) .

الثاني: هل الاستثناء في الآية استثناء منقطع أو استثناء متصل ؟

فقد نقل روزبهان عن بعضهم أنَّ الاستثناء منقطع والمعنى: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً « لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم » فلهذا أسعى

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

(٢) ص: ٨٦.

(٣) شرح عقائد الصدوق: ٦٨.

٥٨

وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم(١) .

وقال بعضهم: الاستثناء متصل والمعنى: لا أسألكم عليه أجراً من الأجور إلّا مودّتكم في قرابتي، وأيّد ذلك القول بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل، وانّه لا يحمل على المنقطع إلّا لتعذر المتصل، ولأجل ذلك لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلّا عند تعذر المتصل، حتى عدلوا للحمل على المتصل، عن الظاهر في قوله: له عندي مائة درهم إلّا ثوباً، وله علي إبل إلّا شاة، وقالوا: معناه إلّا قيمة ثوب أو قيمة شاة، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير الاستثناء متصلاً.

وممّن ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع الشيخ المفيد، فقال: إن قال قائل ما معنى قوله تعالى:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) أوليس هذا يفيد أن قد سألهم النبي مودة القربى أجراً على الأداء ؟ قيل له ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجة العقل والقرآن، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنه استثناء منقطع، ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجراً لكني ألزمكم المودة في القربى، وأسألكموها، فيكون قوله لا أسألكم عليه أجراً كلاماً تاماً قد استوفى معناه، ويكون قوله إلّا المودّة في القربى كلاماً مبتدأً، فائدته لكن المودّة للقربى سألتكموها، وهذا كقوله:( فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلا إِبْلِيسَ ) (٢) والمعنى فيه لكن إبليس وليس باستثناء من جملة وكقوله:( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالَمِينَ ) (٣) معناه لكن ربّ العالمين ليس بعدو لي، قال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

__________________

(١) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠. وسوف نرجع إلى نقد هذا الفكر الذي زعمه روزبهان تفسيراً للآية. وممن اختار كون الاستثناء منقطعاً الرازي في تفسيره: ٧ / ٣٩٠، وقال تم الكلام عند قول: ( عليه أجراً ) ثم قال: ( إلّا المودة في القربى ): أي لكن اذكركم قرابتي منكم. فلاحظ.

(٢) الحجر: ٣٠ ـ ٣١.

(٣) الشعراء: ٧٧.

٥٩

وكأنّ المعنى في قوله: « وبلدة ليس بها أنيس » على تمام الكلام، واستيفاء معناه، وقوله: « إلّا اليعافير » كلام مبتدأ معناه لكن اليعافير والعيس فيها، وهذا بيّن لا يخفى فيه الكلام على أحد، ممن عرف طرفاً من اللسان، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاده(١) .

والحق في المقام أن يقال: إنّ تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع ليس على ما اشتهر، من أنّ المستثنى المنقطع غير داخل في المستثنى منه لا موضوعاً ولا حكماً، لا حقيقة ولا ادّعاء، إذ لو لم يكن المستثنى داخلاً بنحو من الأنحاء في المستثنى منه كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء، فالمستثنى حتى المنقطع داخل في المستثنى منه دخولاً ادّعائياً لا حقيقياً، إذ ليس الاستثناء إلّا إخراج ما لولاه لدخل، ومعلوم انّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة غاية الأمر انّ المستثنى منه بمفهومه اللغوي شامل للمستثنى كما في قولنا جاءني القوم إلّا زيد، بخلاف الاستثناء المنقطع، فالمستثنى منه وإن كان غير شامل للمستثنى بمفهومه اللغوي، لكن المخاطب ربّما يتوهم شمول الحكم المذكور للمستثنى منه، للمستثنى أيضاً، فيعود المتكلم إلى استدراك ذلك الوهم بعدم شموله للمستثنى، مثلاً إذا قلنا: جاء زيد إلّا خادمه، وجاء القوم إلّا مراكبهم، فالاستثناء لأجل دفع توهم، وهو انّ مجيء زيد والقوم كان مع خادمه ومراكبهم ولولا هذا التوهم لما صح الاستثناء، ولأجل ذلك قلنا بأنّ المستثنى في الاستثناء المنقطع داخل في المستثنى منه ادّعاء لا حقيقة، ولولا توهم الدخول لا يصح الاستثناء، فلا يصح أن يقال جاءني القوم إلّا الغراب أو إلّا الشجر، إذ ليس مجيئ الغراب والشجر معرضاً للتوهم.

وبذلك يظهر أنّ مصحح الاستثناء هو دخول المستثنى في المستثنى منه

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق: ٦٨.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهو على مصر، ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصر إلى افريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية، ولمّا سار معاوية إلى صفّين لم يسر معه ؛ فقال له: ما يمنعك عن المسير معي إلى قتال عليّ ويدي عندك معروفة.

فقال: لا أُشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك وهو الله عزّ وجلّ، فسكت عنه معاوية. فبعث عبد الله موسى بن نصير وقدم القيروان سنة ٨٩ وبها صالح خليفة حسان، فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد، فوجّه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة، فغنم بها وسبى وعاد.

ثمّ بعثه إلى ناحية أُخرى وابنه مروان كذلك، وتوجّه هو إلى ناحيةٍ فغنم منها وسبى وعاد، وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي.

ثمّ غزا طنجة وافتتح درعة وصحراء فيلالت وأرسل ابنه إلى السوس، وأذعن البربر لسلطانه ودولته، وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة وولى عليها طارق بن زياد الليثي، ثمّ أجاز طارق إلى الأندلس.

فكان فتحها سنة تسعين، وتعاقب عليها ولاة المسلمين إلى أن انتهى أمرها إلى الأغالبة، وجدّهم إبراهيم بن الأغلب وهو الذي تولاّها من قِبَل الرشيد مع الأندلس.

وفي سنة ٢١٩ هـ فتح أسد بن الفرات صقلية وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية، وولّى عليها سنة إحدى عشر ومئتين بطريقاً اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائداً من الروم حازماً شجاعاً فغزا سواحل افريقية وانتهبها.

ثمّ بعد مدّةٍ كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض على مقدّم الأسطول وقتله، ونُميَ الخبر إليه بذلك فانتقض وتعصّب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلية فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية، فأتبعه جيشاً أخذوه وقتلوه.

واستولى القائد على صقلية فملكها وخُوطب بالملك، وولّى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة.

وكان ميخائيل ابن عمّ بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمّه على القائد واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة.

وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجداً بزيادة الله فبعث معهم العساكر، واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان، فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مازر، وساروا إلى بلاطة، ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا

٣٢١

بلاطة والروم الذين معه وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة، فقتل واستولى المسلمون على عدّة حصون من الجزيرة، ووصلوا إلى قلعة الكرات وقد اجتمع بها خلقٌ كثير، فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية حتّى استعدّوا للحصار، ثمّ امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كلّ ناحيةٍ وكثرت الغنائم.

ثمّ حاصروا سرقوسة برّاً وبحراً، وجاء المدد من افريقية وحاصروا بليرم.

وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة، قد بعثوهم واشتدّ حصار المسلمين لسرقوسة، ثمّ أصاب معسكرهم الفناء، وهلك كثيرٌ منهم ومات أسد بن الفرات أميرهم ودُفن بمدينة قَصريانَّة. ومعهم القائد الذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه.

وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم ودخل فلّهم إلى قصريانة.

ثمّ توفّي محمد بن الحواري أمير المسلمين وولي بعده زهير بن عوف.

ثمّ محّص الله المسلمين فهزمهم الروم مرّات، وحصروهم في معسكرهم حتّى جهدهم الحصار وخرج مَن كان في كبركيب من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مازر، وتعذّر عليهم الوصول إلى إخوانهم، وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن اشرفوا على الهلاك. فوصلت مراكب إفريقية مدداً وأسطول من الأندلس، خرجوا للجهاد واجتمع منهم ثلاثمئة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة. ثمّ ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم عليها سنة عشرين.

ثمّ بعثوا إلى طرميس، ثمّ بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سريّة إلى سرقوسة فغنموا، ثمّ سارت سريّةٌ أُخرى واعترضها بطريق صقلية فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتّى يئس منهم وانصرف على غير طائل. فحمل عليهم أهل السريّة وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطُعن وجرح.

وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودوابّ ومتاع، ثمّ جهّز زيادة الله إلى صقلية إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر وولاّه أميراً عليها، فخرج منتصف رمضان وبعث أسطولاً، فلقي أسطولاً للروم فغنمه، وقتل مَن كان فيه وبعث أسطولاً آخر إلى قصوره فلقي أسطولاً فغنمه، وسارت سريّةٌ إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر

٣٢٢

السبي بأيدي المسلمين، وبعث الأغلب سنة (٢١) أسطولاً نحو الجزائر فغنموا وعادوا، وبعث سريّةً إلى قطلبانة وأُخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين.

ثمّ كانت وقعة أُخرى كان فيها الظفر للمسلمين، وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب.

ثمّ عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدلّ المسلمين عليها ودخلوا منها البلد، وتحصّن المشركون بحصنه حتّى استأمنوا، وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه وعادوا إلى بليرم، إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله، فوهنوا أوّلاً، ثمّ أنشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد. وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومئتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته، وولي مكانه أخوه أبو عقال الأغلب.وبعث سنة أربع وعشرين ومئتين سريّةً إلى صقلية، فغنموا وعادوا ظافرين.

وفي سنة خمس وعشرين ومئتين استأمن للمسلمين عدّة حصون من صقلية، فأمنوهم وفتحوها صلحاً.

وسار أسطول المسلمين إلى قلورية، ففتحوها ولقوا أسطول القسطنطينية فهزموهم.

وفي سنة ستّ وعشرين ومئتين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثمّ حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها.

ثمّ توفّي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ستّ وعشرين ومئتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته، وولي مكانه ابنه أبو العبّاس محمد بن الإغلب، وتوفّي سنة اثنتين وأربعين ومئتين، فولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.

وفي أيّامه افتتحت قصريانة من مدن صقلية في شوال سنة تسع وأربعين ومئتين لثمان سنين من ولايته.

وفي أيّام ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب تغلّب الروم على مواضع من جزيرة صقلية.

بقيّة أخبار صقلية

وفي سنة ثمان وعشرين ومئتين سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر، ونزل مرسى مسينة وحاصرها ؛ فامتنعت عليه، وبثّ السرايا في نواحيها فغنموا.

ثمّ بعث طائفةً من عسكره وجاؤوا إلى البلد من وراء جبلٍ مطلٍّ عليه وهم مشغولون بقتاله، فانهزموا وأعطوا باليد ففتحها.

ثمّ حاصر سنة ثنتين وثلاثين ومئتين مدينة لسى.

وكاتب أهلها بطريق صقلية

٣٢٣

يستمدّونه ؛ فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيةٍ فخرجوا، واستطرد لهم حتّى جاوزوا الكمين فخرجوا عليهم فلم ينج منهم إلاّ القليل، وسلّموا البلد على الأمان.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين أجاز المسلمون إلى أرض انكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينةً وسكنوها.

وفي سنة أربع وثلاثين ومئتين صالح أهل رغوس وسلّموا المدينة للمسلمين، فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين توفّي أمير صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العبّاس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم.

وكتب له محمد بن الأغلب، بعهده على صقلية، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا وتأته الغنائم، ولمّا جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه وعلى مقدّمته عمّه رياح، فعاث في نواحي صقلية وردّد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس، فغنموا وخربّوا وحرقوا، وافتتح حصوناً جمّة، وهزم أهل قصريانة وهي مدينة ملك صقلية، وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلمّا فتحها المسلمون انتقل الملك إلى قصريانة.

وخبر فتحها أنّ العبّاس كان يردّد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة، فيصيب منهم ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى وقدّمهم للقتل، فقال له بعضهم - وكان له قدر وهيبة - استبقني وأنا أملك قصريانة، ودلّهم على عورة البلد ؛ فجاؤوها ليلاً ووقفهم على بابٍ صغيرٍ فدخلوا منه، فلمّا توسّطوا البلد وضعوا السيف وفتحوا الأبواب ودخل العبّاس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه.

وذل الروم بصقلية من يومئذٍ، وبعث ملك الروم عسكراً عظيماً مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة، فجاءهم العبّاس من بليرم، فقاتلهم وهزمهم وأقلع فلّهم إلى بلادهم، بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين ومئتين.

وافتتح بعدها كثيراً من قلاع صقلية، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة ورجف إليهم العبّاس من مكانه وهزمهم.

ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية، ثمّ سار سنة سبع وأربعين

٣٢٤

ومئتين إلى سرقوسة فغنم، ورجع فاعتلّ في طريقه، فهلك منتصف سنته ودُفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك إحدى عشرة سنة من إمارته.

واتّصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال، وغزوا أرض قلورية وانكبردة، وفتحوا فيها حصوناً وسكن بها المسلمون.

ولمّا توفّي العبّاس اجتمع الناس على ابنه عبد الله، وكتبوا إلى صاحب افريقية.

وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من افريقية على صقلية في منتصف ثمان وأربعين ومئتين، وأخرج ابنه محموداً في سريّةٍ إلى سرقوسة، فعاث في نواحيها وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر ورجع، ثمّ فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس. ثمّ غدروا فسرّح ابنه محمداً في العساكر، وسبى أهلها ثمّ سار خفاجة إلى رغوس، وافتتحها وأصابه المرض، فعاد إلى بليرم، ثمّ سار سنة ثلاث وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وقطانية فخرب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلية فامتلأت أدهم من الغنائم.

وفي سنة أربع وخمسين ومئتين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلية، فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم، وبعث سنة خمس وخمسين ومئتين ابنه محمداً في العساكر إلى طرميس، وقد دلّه بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.

وجاء محمد بن خفاجة من ناحيةٍ أُخرى فظنوه مدداً للعدو فأجفلوا ورآهم محمد مجفلين فرجع.

ثمّ سار خفاجة إلى سرقوسة في حرّها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين ومئتين.

وولّى الناس عليهم ابنه محمداً، وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير افريقية فأقرّه على الولاية، وبعث إليه بعهده.

وفي سنة سبع وثمانين ومئتين بعث إبراهيم بن أحمد أخي أبي الغرانيق ابنه أبا العبّاس عبد الله على صقلية، فوصل إليها في مئة وستّين مركباً وحصر طلاية، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت وكانت بينهم فتنة، فأغراه كلّ واحدٍ منهم بالآخرين، ثمّ اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم.

وبثّ جماعةٌ من وجوهها إلى أبيه وفرّ

٣٢٥

آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية، وآخرون إلى طرميس فاتّبعهم وعاث في نواحيها.

ثمّ حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين، وتجهّز سنة ثمان وثمانين للغزو، فغزا ميسنى ثمّ مسينة، ثمّ جاء في البحر إلى ريو ففتحها عنوةً، وشحن مراكبه بغنائمها.

ورجع إلى مسينة فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ له ثلاثين مركباً.

ثمّ أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر ورجع إلى صقلية.

وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العبّاس من صقلية وارتحل هو إليها.

وذكر ابن الأثير أنّ فتح سرقوسة كان في أيّامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلية، وأنّه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم، ثمّ فتح البلد واستباحها.

واتفقوا كلّهم على أنّه ركب البحر من افريقية إلى صقلية، فنزل طرانية ثمّ تحوّل عنها إلى بليرم، ونزل على دمشق وحاصرها سبعة عشر يوماً، ثمّ فتح مسينة وهدم سورها، ثمّ فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها.

ثمّ بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العبّاس عبد الله إلى قلعة بيقض فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية، ثمّ عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة، فقتل وسبى ورهب منه الفرنجة.

ثمّ رجع إلى صقلية ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك.

ثمّ سار إلى كنسة في حرّها، واستأمنوا إليه فلم يقبل ثمّ هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولّى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العبّاس وهو يومئذٍ بافريقية. فأمن أهل كنسة قبل أن يعلموا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلاً حتّى تلاحقت به السرايا من النواحي، ثمّ ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير حمله إلى القيروان فدفنه بها.

وفي أيّامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلية. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلته بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بانكجان يهدّده ويحذّره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلمّا

٣٢٦

قربت أُمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم أظهر التوبة ومضى إلى صقلية، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع قبائل كتامة حتّى استولى عليهم واتّبعوه.

وكان إبراهيم قد أسرّ لابنه أبي العبّاس في شأن الشيعي، ونهاه عن محاربته وأن يلحق به إلى صقلية إن ظهر عليه.

ولمّا هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين وولي مكانه ولده أبو العبّاس عبد الله، ولأُمورٍ بلغته عن ولده زيادة الله من اعتكافه على اللّذات واللهو، وعزمه على التوثّب عليه ؛ اعتقله وولّى على صقلية مكانه محمد بن السرقوسي، ثمّ ولي زيادة الله أبو مضر بعد مقتل أبيه أبي العبّاس.

وجرت حروب بينه وبين أبي عبد الله الشيعي، كان فيها الظهور للشيعي واستيلاؤه على بلاده فخروج زيادة الله من المغرب إلى المشرق سنة ستّ وتسعين.

ثمّ تفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيّامهم، وأصبحت افريقية وصقلية في حكم عبيد الله المهدي ودانت له، وبعث العمّال في نواحيها وأصبحت صقلية في ولاية الكلبيّين ؛ فكان أول والٍ عليها من قبل المهدي الحسن بن محمد بن أبي خنزير(١) من رجالات كتامة، فوصل إلى مازر سنة سبع وتسعين في العساكر، فولّى أخاه على كبركيت، وولّى على القضاء بصقلية اسحق بن المنهال.

ثمّ سار سنة ثمان وتسعين في العساكر إلى دمشق فعاث في نواحيها ورجع، ثمّ شكى أهل صقلية سوء سيرته وثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولّى عليهم أحمد بن قهرب، وبعث سريّةً إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي.

ثّم أرسل سنة ثلاثمئة ابنه عليّاً إلى قلعة طرمن المحدثة ليتخذها حصناً لحاشيته وأمواله حذراً من ثورة أهل صقلية. فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامه وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه.

وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى افريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن ابن أبي خنزير فقتلوه وأحرقوا الأسطول.

وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها، وانتهوا إلى طرابلس، وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي، ثمّ وصلت الخِلَع

____________________

(١) وفي تاريخ أبي الفداء ابن أبي حفترير.

٣٢٧

والألوية من المقتدر إلى ابن قهرب، ثمّ بعث الجيش في الأسطول إلى قلوية، فعاثوا في نواحيها ورجعوا، ثمّ بعث ثانيةً أسطولاً إلى افريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي، ثمّ ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمئة وحبسوه وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر خنزير في جماعةٍ من خاصّته.

وولّى على صقلية أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة، فركب إليها البحر فنزل في طرانية، وعصى عليه أهل صقلية بمَن معه من العساكر فامتنعوا عليه وقاتله أهل كبركيت وأهل طرانية، فهزمهم وقتلهم، ثمّ استأمن إليه أهل طرانية فأمنهم وهدم أبوابها.

وأمره المهدي بالعفو عنهم، ثمّ ولّى المهدي على صقلية سالم بن راشد، وأمدّه سنة ثلاث عشرة بالعساكر، فعبر البحر إلى أرض انكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصوناً ورجعوا، ثمّ عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أيّاماً، ورحلوا عنها، ولم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية وقلورية ويعيثون في نواحيها.

وبعثّ المهدي سنة ثنتين وعشرين جيشاً في البحر مع يعقوب بن إسحاق فعاث في نواحي جنوة. ولمّا كانت سنة خمس وعشرين انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد، وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم واستمدّ القائم فأمده بالعساكر مع خليل بن اسحاق، فلمّا وصل إلى صقلية شكا إليه أهلها من سالم بن راشد، واسترحمته النساء والصبيان، وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلية بمثل ذلك، فرقّ لشكواهم ودسّ إليهم سالمٌ بأنّ خليلاً إنّما جاء للانتقام منهم بمَن قتلوا من العسكر. فعاودوا الخلاف واختطّ خليل مدينةً على مرسى المدينة وسمّاها الخالصة.

وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ستّ وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم. حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة واجتمع أهل صقلية على الخلاف، واستمدّوا ملك القسطنطينية فأمدّهم بالمقاتلة والطعام، واستمدّ خليل القائم فأمدّه بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلّوط وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين ؛ فارتحل عنها وحاصر كبركيت ثمّ حبس عليها عسكراً للحصار مع أبي خلف بن هارون، ورحل عنها وطال حصارها إلى سنة

٣٢٨

تسع وعشرين. فهرب كثيرٌ من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة، ثمّ غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا.

ورجع خليل إلى أفريقية آخر سنة تسع وعشرين، وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجّة البحر فغرقوا أجمعين.

ثمّ ولّى على صقلية عطاف الأزدي.

ثمّ كانت فتنة أبي يزيد، وشُغل القائم والمنصور بأمره، فلمّا انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلية للحسن بن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قوّاده، وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محلٌّ كبير في مدافعة أبي يزيد عناء عظيم.

وكان سبب ولايته أنّ أهل بليرم كانوا قد استضعفوا عطافاً، واستضعفهم العدو لعجزه ؛ فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين.

وتولّى كبروبك بنو الطير منهم، ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمدّه، فولّى الحسن بن علي على صقلية، وركب البحر إلى مازر وأرسى بها فلم يلقه أحدٌ منهم، وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير، وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه، فسبق ميعادهم ودخل المدينة ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين.

واضطرّ بنو الطير إلى لقائه وخرج إليهم كبيرهم إسماعيل، ولحق به من انحرف عن بني الطير فكثر جمعه، ودسّ إسماعيل بعض غلمانه فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنّه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أنّ الحسن لا يعاقب مملوكه فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل واستحلفه على دعواه وقتل عبده. فسرّ الناس بذلك ومالوا عن الطير وأصحابه وافترق جمعهم. وضبط الحسن أمره وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين، وبعث ملك الروم بطريقاً في البحر في عسكرٍ كبيرٍ إلى صقلية واجتمع هو والسردغرس.

واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمئة راجل، وجمع الحسن مَن كان عنده وسار برّاً وبحراً وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها. وزحف إليه الروم، فصالحه على مالٍ أخذه، وزحف إلى الروم ففرّوا من غير حرب.

ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهراً وصالحهم على مال، ورجع بالأسطول إلى مسينة فشتى بها.

وجاءه أمر

٣٢٩

المنصور بالرجوع إلى قلورية، فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس، فهزمهم وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمئة.

ثمّ سار إلى خراجة في حرّها حتّى هادنه ملك الروم قسطنطين.

ثمّ عاد إلى ربو وبنى بها مسجداً وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأنّ مَن دخله من الأسرى أمن.

ولمّا توفّي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن واستخلف على صقلية ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية، فغزاها وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها، فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفاً مدداً.

وبعث أحمد يستمدّ المعز، فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن، وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة ورجفوا إلى رومطة، ومقدّم الجيش على حصارها الحسن بن عمّار وأبن أخي الحسن بن علي. فأحاط الروم بهم وخرج أهل البلد إليهم، وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقُتل جماعة من البطارقة معه، وانهزم الروم وتتبّعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي.

ثم فتحو رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلية وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب، فحرقوا مراكبهم وقتل كثير منهم، وتُعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز وكانت سنة أربع وخمسين، وأسر فيها ألف من عظمائهم ومئة بطريق، وجاءت الغنائم والأُسارى إلى مدينة بليرم حضرة صقلية، وخرج الحسن للقائهم فأصابته الحمّى من الفرح فمات وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلية بعد أن ولّى المعزّ عليهم يعيش مولى الحسن، فلم ينهض بالأمر ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعزّ فولّى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابةً عن أخيه أحمد، ثمّ توفّي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين، واستبدّ بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلاًّ محيّاً.

وسار إليه سنة إحدى وسبعين ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم فلمّا قاربهم خام عن اللقاء ورجع.

وكان الإفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في أتباعه وأدركه، فاقتتلوا وقُتل

٣٣٠

أبو القاسم في الحرب، وأهمّ المسلمين أمرهم فاستماتوا وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة. ونجا ردويل إلى خيامه برأسه وركب البحر إلى رومة. وولّى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابراً فرحل بالمسلمين لوقته راجعاً ولم يعرّج على الغنائم.

وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفاً، وكان عادلاً حسن السيرة، ولمّا ولي ابن عمّه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور وحسنت الأحوال، وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم. وتوفّي سنة خمس وسبعين، ووُلِّي أخوه عبد الله فاتّبع سيرة أخيه إلى أن توفّي سنة تسع وسبعين.

ووُلِّي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن فأنسى بجلائله وفضائله مَن كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج وعطّل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين.

وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمئة أنّه مع البربر والعبيد ؛ فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله ونفى البربر والعبيد واستقامت أحواله. ثمّ انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني، فثار عليه الناس بسببها وجاؤوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفّة، فتلطّف بالناس وسلّم إليهم الباغاني فقتلوه وقتلوا حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر ورحل إلى مصر وولّى ابنه ابن جعفر سنة عشرة، ولقبّه بأسد الدولة بن تاج الدولة ويُعرف بالأكحل ؛ فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده، فأساء ابن جعفر السيرة وتحامل على صقلية ومال إلى أهل افريقية، وضجّ الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان وأظهروا دعوته ؛ فبعث الأسطول فيه ثلاثمئة فارس مع ولديه عبد الله وأيّوب.

واجتمع أهل صقلية وحصروا أميرهم الأكحل، وقُتل وحُمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمئة.

ثمّ ندم أهل صقلية على ما فعلوه، وثاروا بأهل افريقية وقتلوا منهم نحواً من ثلاثمئة وأخرجوهم، وولّوا الصمصام أخا الأكحل. فاضطربت الأمور وغلب السفلة على الأشراف.

ثمّ ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدّموا عليهم ابن الثمنة من رؤوس الأجناد، وتلقّب القادر بالله واستبدّ بمازر... ابنه عبد الله قبل

٣٣١

الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقلّ بملك الجزيرة إلى أن أُخذت من يده. ولمّا استبدّ ابن الثمنة بصقلية تزوّج ميمونة بنت الجراس، فتخيّل له منها شيء فسقاها السمّ، ثمّ تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها وأفاقت، فندم واعتذر، فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها.

ووقعت الفتنة وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس، فانتصر ابن الثمنة بالروم وجاء القمص، وجاء ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من أخوته وجمع من الفرنج ووعدهم بملك صقلية، وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى افريقية عُمر بن خلف بن مكّي فنزل تونس ووُلِّي قضاؤها، ولم يزل الروم يملكونها حتّى لم يبق إلاّ المعاقل.

وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحاً سنة أربع وستين وأربعمئة. وتملّكها رجار كلّها وانقطعت كلمة الإسلام منها، ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدتهم خمس وتسعون سنة.

ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه، وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب: نزهة المشارق(١) في أخبار الآفاق.

وممّن شارك من الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة ومَن ساهم في أعمالها

١ - كان الكتاميّون أوّل من لبّى الدعوة الفاطميّة وأيّدوا داعيها أبا عبد الله الشيعي، وقد عرفت في تضاعيف البحث عنهم وفيما سبق في تاريخ الدولة الفاطميّة، ما كان لهم من المكانة والمنزلة في بلاد المغرب، وبنصرتهم مهدّ أبو عبد الله الأمر لأوّل خلفائهم أبي عبيد الله الملقّب بالمهدي، وبهم انتصر المهديُّ على بني الأغلب وبني مدرار، واستولى على سلطانهم الذي طوى قروناً وقد عرف لهم بلاءهم وقسّم على وجوههم الأعمال سنة ٢٩٧.

وفي خطط المقريزي:

وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ بن

____________________

(١) المعروف المشتاق بدل المشارق.

٣٣٢

المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لمّا سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة ٣٥٨ وهم أيضاً كانوا أكابر من قَدِم معه من الغرب في سنة ٣٦٢، فلمّا كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك وقدمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو علي المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله فقدّم ابن عمّار الكتامي وولاّه الوساطة ج ٣ ص ١٨.

ولمّا انحرف أبو عبد الله وأخوه أبو الفضل أحمد عن المهدي لاستبداده دونهما بالأمر، وحاولا الانتقاض عليه وائتمرا على قتله، وأرسلا شيخ مشايخ كتامة لامتحان المهدي وتوهين أمره بزعمهما، بعد أن هبّت ريحه واشتدّت عصبته وقويت بالكتاميين أنفسهم شوكته، فخدعا ذلك الكتاميّ الذي جُوزي بالقتل، أعادا المؤامرة على المهدي وكان من الكتاميّين في المؤتمرين أبو زاكي تمّام بن معارك، ولكنّ المهدي تعجّل تنفيذ المؤامرة بقتلهما، ولمّا علم بمداخلة أبي زاكي في المؤامرة بعثه والياً على طرابلس وأمر واليها بقتله فقتله.

وظهرت فتنة سكنها المهدي، ورجعت كتامة إلى بلادها بعد أن استقرّ له الأمر.

٢ و ٣ - عروبة وأخوه حباسة:

لمّا قوي أمر الشيعي والتقى جيشه وجيش زيادة الله وقد بلغ عدده مئة ألف، وقد زحف لقتال الشيعي وكتامة إبراهيم بن جيش من صنائع زيادة الله وقد تلقّته كتامة بإجانة فانهزمت عساكره وتقهقر إلى باغاية ثمّ إلى القيروان.

وكان ممّن توجّه لقتال زيادة الله عروبة بن يوسف من أمراء كتامة وأوقع بباغاية.

ولمّا فرّ زيادة الله إلى الشرق حضر الشيعي وفي مقدّمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي جفترير (خنزير) وهما اللذان أمرهما المهديُّ بقتل الشيعي وأخيه سنة ٢٩٧، وبعد قتلهما ولّى حباسة على برقة وعلى المغرب عروبة، وأنزله باغاية إلى تاهرت وافتتحها.

وفي سنة ٣٠٠ هـ لمّا أغزى المهدي ابنه أبا القاسم الإسكندرية بعث أسطولاً مؤلّفاً من مئتي مركب، عقد لواءه على حباسة، فملكوا برقة ثمّ الاسكندرية والفيّوم، ثمّ عاد حباسة بعد أن بعث المقتدر العبّاسي سبكتكين ومؤنساً الخادم سنة ٣٠٢.

وقد قتل المهدي حباسة فشقّ ذلك على أخيه عروبة فانتقض عليه، وتبعه جموع من كتامة والبربر،

٣٣٣

فأرسل إليهم المهدي مولاه غالباً فهزمهم وقتل عروبة وبني عمّه وكثيراً من أشياعهم.

٤ - يعقوب الكتامي:

لما جهّز المهدي سنة ٣٠٧ ابنه أبا القاسم على مصر ثالثةً فملك الإسكندرية والجزيرة والأشمونين، فأرسل المقتدر مؤنساً، وبعد عدّة مواقع انتصرت مراكب الخليفة القادمة من طرسوس وكانت خمسة وعشرين مركباً على أسطول افريقية المؤلّف من ثمانين مركباً، وقد سيّر نجدةً لأبي القاسم يقوده سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وقد أُسرا، أمّا سليمان فقد مات في السجن، ويعقوب فقد هرب من حبس بغداد وكان قد سيّر إليها.

٥ - الحسن بن هارون الكتامي:

جمع هذا الرجل كلمة قبيلة كتامة لتأييد دعوة أبي عبد الله الشيعي، وذلك أنّه لمّا بلغ ابن الأغلب خبره كتب إلى عامله على ميلة يسأله عنه فصغّره، وذكر أنّه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه.

ثمّ قال الشيعي للكتاميين: أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره، وتفرقت كلمة البربر وكتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد، واتصل الخبر بالحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكانٍ وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبد الله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار وشهر الحروب فكان له الظفر فيها، وغنم الأموال وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها واقتتلوا ثمّ اصطلحوا ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة ظفر بهم وصارت إليه أمولهم، فاستقام له أمر البربر وكتامة.

٦ - ريحان الكتامي:

ولاّه موسى بن أبي العافية على فاس سنة ٣٠٩ هـ.

وفي سنة ٣١٣ ثار عليه الحسن بن محمد بن القاسم الإدريسي الملقّب بالحجام ونفاه عن فاس.

٧ - عبد الله بن يخلف الكتامي:

ولاّه المعزّ على طرابلس سنة ٣٦١ هـ. وهي السنة التي عزم على المسير فيها إلى مصر، وقد مهّد له

٣٣٤

جوهر ملكها، وأبقى صقلية في يد ابن الكلبي أبي القاسم علي بن الحسن بن علي بن أبي الحسين.

وفي سنة ٣٦٥ أقرّه العزيز نزار على طرابلس وأضاف إلى ولايته سرت وجرابية.

٨ و ٩ - من رؤساء كتامة الذين رافقوا أبا عبد الله الشيعي من مكّة إلى مصر فافريقية وأيّدوا دعوته: حريث الجميلي وموسى بن مكاد.

١٠ - جعفر بن فلاح الكتامي:

كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصريّة، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فتغلّب على الرملة سنة ٣٥٨، ثمّ غلب على دمشق وملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ٣٦٠، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل فظفر به القرمطي، وقتله وقتل خلقاً كثيراً من أصحابه سنة ٣٦١.

وقد ترجم له القاضي ابن خلّكان في وفياته ؛ فقال: كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي صاحب افريقية، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصرية، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فغلب على الرملة في ذي الحجّة سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ثمّ غلب على دمشق فملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ستّين، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقاً كثيراً، وذلك في يوم الخميس لستّ خلون من ذي القعدة سنة ٣٦٠ (ره).

وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوباً:

يا منزلاً عبث الزمانُ بأهله فـأبادهم بـتفرّقٍ لا يجمعُ

أيـن الذين عهدتهم بك مرّةً كان الزمان بهم يضر وينفعُ

٣٣٥

وكان جعفر المذكور رئيساً جليل القدر ممدوحاً، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هاني الأندلسي:

كـانت مساءلة الركبان تخبرني عن جعفر بن فلاح أطيب الخبرِ

حـتّى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

١١ - سليمان بن جعفر بن فلاح:

قال القلانسي:

(وكان هذا القائد مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقّد اليقظة في أحواله والمضاء، ويكنّى بأبي تميم، بعثه العزيز بالله والياً على دمشق سنة ٣٦٩ فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام الحارثي من دخولها وقوتل وأزعج من مكانه).

وفي سنة ٣٨٦ جهّزه الحاكم بأمر الله إلى الشام لقتال برجوان، وقد انتقض عليه بسبب تغلّب ابن عمّار وكتامة على الشام، فبعث سليمان هذا أخاه عليّاً إلى دمشق، فامتنع أهلها عليه فكاتبهم وتهددهم وأذعنوا ودخل البلد ففتك بهم، ثمّ قدم أبو تميم فأمن وأحسن. وبعث أخاه عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة، فسار إلى مصر. وبعد قتل ابن عمّار وإظهار برجوان الحاكم وتجديد البيعة له انتقض برجوان على أبي تميم بن فلاح.

قال المقريزي في خططه:

(وفي سنة ٣٨٦ هـ ندب الحسن بن عمّار أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه وجعله اسفهلاّر الجيش، وأمره بالمسير إلى الشام، فسار من مصر ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها.

وجرى بينه وبين سليمان حرب في عسقلان انتهت بهزيمة منجوتكين، ولمّا انجلت فتنة ابن عمّار بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله، وكتب بذلك إلى دمشق وفيه ما يبعث على الوثوب على سليمان، ولمّا كان مع ما عُرف به من الكفاية واليقظة والمضاء، مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء والتوفّر على اللذة، ولمّا وردت المطلقات المصريّة بما اشتملت عليه في حقّه وهو منهمك في القهوة، لم يشعر إلاّ بزحف العامّة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه، فخرج هارباً على ظهر فرسه. (انتهى ملخّصاً عن تاريخ ابن القلانسي).

٣٣٦

وكان برجوان ألدّ أعداء ابن عمّار وهو الذي عمل على إسقاطه والاستئثار دونه بأمر الخلافة. وفي هذه السنة اصطنع جيش بن محمد بن الصمصامة، وقدّمه وجهّز معه ألف رجلٍ وسيّره إلى دمشق وأعمالها، وبسط يده في الأموال وردّ إليه تدبير الأعمال، فسار جيش ونزل على الرملة، والوالي عليها وحيد الهلالي، ومعه خمسة آلاف رجل، ووافاه ولاة البلد وخدموه. وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح فقبضه قبضاً جميلاً.

وسار جيش بن الصمصامة على مقدّمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه، فهرب بين يديه حتّى لحق بجبلي طيئ وتبعه حتّى كاد يأخذه، ثمّ عفى عنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد إلى الرملة. وستجد أخباره في غير هذا المكان.

وفي خطط المقريزي ج ٤ ص ٦٨:

وفي سنة ٣٨٦ هـ ولي الحاكم بأمر الله الخلافة بعد أبيه العزيز بالله نزار، وجعل أبا محمد الحسن بن عمّار وساطة ولقّب بأمين الدولة وقلّد سليمان بن فلاح الشام. فخرج بنجوتكين من دمشق وسار منها لمدافعته، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجراح الطائي في كثيرٍ من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ ثمّ أُسر فحمل إلى القاهرة.

وفي سنة ٣٨٧ صرف عن ولاية الشام بجيش بن الصمصامة.

١٢ - علي بن جعفر بن فلاح الكتامي:

الملقّب بقطب الدولة كذا في خطط الشام، تقدّم شيء من خبره في أخبار أخيه سليمان، فقد ولي دمشق من قبل أخيه ثمّ طرابلس.

وفي سنة ٣٩٠ ولي(١) دمشق بعد وفاة واليها فحل بشهور.

وفي سنة ٣٩٢ في شهر رمضان قلد ولايتها تموصلت (طرفلة) عوضاً عن ابن فلاح.

وفي سنة ٣٩٨ مات منجوتكين وولّي علي بن فلاح دمشق. وفي هذه السنة ولّي ولاية طرابلس.

وفي سنة ٣٩٩ ولّي دمشق القائد حامد بن ملهم لست بقين من رجب، وكان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ الأمر

____________________

(١) وفي سنة ٣٩٧ كان من قوّاد الجيش الشامي الحاكمي لقتال أبي ركوة الذي خرج على الحاكم واستفحل أمره، وانضمّ إليه بنو قرّة وبعض كتامة لمّا نالهم جميعاً من اضطهاد الحاكم وسوء سياسته، وانتهى أمر أبي ركوة بالانكسار والقتل، ولم يذكر في الكامل خروجه لحرب أبي ركوة.

٣٣٧

في البلد، فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان.

وكانت مدّة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر.

وفي سنة ٤٠٩ جاء في الخطط ج ٤ ص ٧٤:

وأقام (الحاكم) ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن علي بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة.

١٣ - القائد أبو محمود بن إبراهيم بن جعفر:

هكذا نسبه في ذيل تاريخ دمشق (ابن القلانسي).

وفي خطط الشام: أبو محمود بن جعفر بن فلاح.

وفي تاريخ ابن خلدون: أبو محمود بن إبراهيم.

وفي الخطط في مكان آخر: وجيش بن محمد بن الصمصامة أبو الفتوح القائد المغربي هو ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام المتوفّى سنة ٣٩١.

وفي خطط المقريزي: أبو محمود إبراهيم بن جعفر.

وأبو محمود من شيوخ كتامة كان من قوّاد المعز وابنه العزيز، ففي سنة ٣٦٣ جرّد في خمسة عشر ألف رجل في طلب القرمطي، وقد فرّ من مصر مغلولاً، فاتبعه وتثاقل في سيره خوفاً من رجوعه عليه. ولمّا علم أبو محمود ارتحاله من أذرعات إلى الأحساء رحل ونزل بها مكانه. وفي هذه السنة وصل بجيشه إلى دمشق، وكان والياً عليها ظالم بن موهوب العقيلي، فخرج لتلقّيه ولمّا نزل على دمشق في جيشه اضطرب الناس وجرت أمورٌ عظام بين الجيش والدمشقيين لم تنفرج إلاّ بعد شهرين ونصف شهر. وتقرّرت الموادعة والمصالحة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله أبي محمود. ولمّا استقرّ الصلح والموادعة بين أهل دمشق وأبي محمود، وخمدت نار الفتنة بعض الخمود، وركدت ريحها بعض الركود، وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين، اعتمد أبو محمود على ابن أخته جيش في ولاية دمشق وحمايتها. ولكن لم يطل الأمر حتّى عادت الفتنة، ممّا حدا بالمعز أن يولّي ريّان الخادم عقيب هذه الفتنة والياً عليها، ويستقدمه من طرابلس فيصرف أبو محمود عن دمشق. ولكن أهل دمشق لم تطب نفوسهم لحكم المغاربة والفاطميّين وصادف أن كان قد نزل ضاحية دمشق الفتكين المغربي، فحملوه على ولاية حكم بلدهم. وقد جرت حروب بين جيوش المعز والفتكين. وقد استنجد بالقرمطي، استدعت أخيراً أن يتولّى المعز

٣٣٨

بنفسه القيادة العامّة للجيوش المصرية، وينتهي الأمر بفوزها على الفتكين والقبض عليه، ثمّ العفو عنه وحمله إلى مصر معزّزاً مكرّماً.

ثمّ غلب قسام الحارثي من قرية تلفيت ومن خواص أصحاب الفتكين على دمشق سنة ٣٦١ بعد أن كانت في ولاية حميدان.

ووليها بعده القائد أبو محمود في نفرٍ يسير، وهو ضميمة لقسام وما زال على هذه الحال إلى سنة ٣٧٠ حيث هلك فيها.

١٤ - أبو الفتوح جيش بن محمد بن صمصامة:

القائد المغربي ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام. تولّى نيابة دمشق غير مرّة وكان ظالماً سفّاكاً للدماء.

قالوا: وعمّ الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال، حتّى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلاّ امتلأ من جوره. توفي سنة ٣٩١.

ولي دمشق سنة ٣٦٤ بعد إخراج ظالم منها، وسكن الناس إليه بعد فتنة. ولمّا عاد المغاربة إلى الجيش وعاد العامّة إلى الثورة وقصدوا القصر الذي فيه جيش، هرب ولحق بالعسكر.

وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي، وقطع الماء عن البلد، فضاقت الأحوال وبطلت الأسواق وبلغ الخبر إلى المعز فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى ريان الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل افتكين (هفتكين) والياً عليها.

وبعد وفاة المعز سنة ٣٦٥ وولاية ابنه العزيز والظفر بافتكين والقبض عليه وولاية قسام الحارثي، كان مع قسام جيش وأقام بعده في ولايته، وقد زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسام أنّه جاء لإصلاح البلد، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول في ظاهر البلد هو وأصحابه.

واستوحش قسام وتجهّز للحرب ثمّ قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا، واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين وشافهوه بذلك فأذن لهم.

وسمع قسام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسام فأمن الجميع.

وولّي على البلد أمير اسمه خطلج، فدخل البلد في المحرم سنة اثنتين وستّين، ثمّ اختفى قسام بعد يومين فانتهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمنه العزيز.

٣٣٩

ولمّا توفّي العزيز سنة ٣٨٦ هـ. وولي بعده ولده الحاكم بأمر الله، وكان برجوان الخادم قد استولى على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولة، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار، ولُقّب بأمين الدولة. وقد تغلّب ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم.

ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك، فأظهر الانتقاض.

وجهّز ابن عمّار العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح، فلقيهم بعسقلان وانهزم منجوتكين وأصحابه، وسيق أسيراً إلى مصر فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة.

وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، فبعث من طبرية أخاه عليّاً على دمشق. ولمّا جرى منه فيها أُمور لم ترضه وقدم إليها بعث عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش ابن الصمصامة، فسار إلى مصر وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة. نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة.

وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة، فانهزمت المغاربة واختفى ابن عمّار، وأظهر برجوان الحاكم وجدّد له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح.

ولمّا زحف الدوقش ملك الروم على حصن افامية محاصراً لها، جهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان وأسطولاً في البحر.

ثمّ سار جيش إلى المفرج ابن دغفل، فهرب أمامه ووصل إلى دمشق وتلقّاه أهلها مذعنين فأحسن إليهم وسكنهم ورفع أيدي العدوان عنهم.

ثمّ سار إلى افامية وصافّ الروم عندها فانهزم أوّلاً هو وأصحابه، وثبت بشارة اخشيدي بن قرارة في خمس عشرة فارساً، ووقف الدوقش ملك الروم على رابيةٍ في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الاخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمناً، فلمّا دنا منه ضربه بالخشت فقتله وانهزم الروم، واتبعهم جيش بن الصمصامة إلى انطاكية يغنم ويسبي ويحرق.

ثمّ عاد مظفّراً إلى دمشق، فنزل بظاهرها ولم يدخل، واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم، وأقيم له الطعام في كلّ يوم، وأقام على ذلك برهة ثمّ أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407