مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 86973
تحميل: 4582


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86973 / تحميل: 4582
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

بنحو من الأنحاء، وعند ذلك لا فرق بين جعل الاستثناء متصلاً أو منقطعاً.

والظاهر أنّ مصحح الاستثناء في الآية هو دخول المودة تحت الأجر حقيقة إذ الخارج عن الآية بقرينة توجه الخطاب إلى الناس هو الأجر الأخروي الخارج أو طلباً للمودة لشخصه أو لقريبه.

ومع هذا الاعتراف ( أي دخول المودة تحت المستثنى منه وكون الاستثناء حقيقياً ) ليس طلب المودة للقربى أجراً حقيقياً عائداً نفعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لو كان المطلوب من الأمّة نفس المودّة وتكريم الأقربين وتبجيلهم لكان محلاً لأن يعد أجراً حقيقياً، ومصادماً للآيات النافية لطلب الأجر عن الأنبياء.

وأمّا إذا كانت مودتهم طريقاً لتربية الأمّة وإسعادها وتكاملها كما سنشرحه عند البحث عن المقام الثالث، فعند ذلك يعود طلب المودة كسائر التكاليف المطلوبة من الناس، فهو قبل أن يكون مفيداً لصاحب الرسالة، مفيد لنفس الأمّة، ولأجل ذلك قلنا عند الأجابة على وجه الإجمال: بأنّ طلب المودّة ليس أجراً حقيقياً وان أخرجت بصورة الأجر.

وحاصل ما ذكرناه أمران :

الأوّل: انّ المودّة داخلة تحت الأجر بلا إشكال والاستثناء متصل جداً.

الثاني: انّ المودة ليست أجراً حقيقياً، لأنّها ليست مطلوبة بالذات، بل هي طريق وسبيل إلى نجاة الأمّة عن الهلاك والضلال، بل هي وسيلة إلى هدف تربوي، وهو اتّباع أقربائه في أقوالهم وأعمالهم.

وإن شئت قلت: إنّ المودّة الحقيقية لأقربائه لا تنفك عن اتّباعهم، فيما يفعلون وفيما لا يفعلون، وأمّا المودّة المنفكة عن الاقتفاء بهم فإنّما هي مودّة كاذبة أو خدعة يخدع الإنسان بها نفسه، وهو يحب نفسه وميوله لا سيده ومولاه، وإن

٦١

أطلق عليها المودة فبالعناية والمجاز، بل طبيعة المودّة لشخص يوجب انصباغ صاحبها بصبغة من يحبه، والتكيّف بكيفه، والتخلف في مورد أو موارد لا يضر في هذا المجال لاختلاف مراتب الود.

وبعبارة ثالثة: تصبح المودّة لأهل بيت النبي الذين هم أحد الثقلين(١) وسفينة النجاة(٢) وورثة علم الرسول وحملة أحكام الدين، سبباً لإغناء الأمّة من الناحية الدينية عن الرجوع إلى غيرهم، ووسيلة لإزالة كل احتياجاتها، فعند ذلك يكون طلب المودة كمثل قول الطبيب المعالج لمريضه ـ بعدما يفحصه بدقة، ويكتب له نسخة ـ: « لا أطلب منك أجراً إلّا العمل بهذه الوصفة »، فهو في الظاهر أجر مطلوب ربّما يوجب نشاط الطبيب وسروره القلبي إذا رأى أنّ مريضه قد استعاد صحته ولكنّه قبل أن يرجع نفعه إلى الطبيب يعود نفعه إلى المريض.

وبملاحظة هذه الأمور يتضح أنّ الهدف النهائي من طلب المودّة لأقربائه هو دفع الناس إلى الاقتداء بهم واتباعهم لهم في شؤون الدنيا والآخرة، وهذا سبب لوعي الأمّة وتكاملها، في المرحلتين: الفكرية والعملية.

إذا عرفت هذه الأمور وقفت على أنّه لا تناقض بين هذه الآية الناصّة على طلب المودة أجراً على الرسالة وبين الآيات المتضافرة الناصّة على أنّ الأنبياء لا يطلبون أي أجر من أُممهم.

ووجه عدم المنافاة واضح جداً، لأنّ المودة ـ كما أسلفناه ـ وإن كانت مطلوبة بصورة الأجر إلّا أنّ نتيجتها عائدة إلى ذات الأمّة لأنّها سبب رقيّها مدارج

__________________

(١) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » حديث رواه الفريقان.

(٢) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق » رواه جمع من المحدِّثين من العامة والخاصة.

٦٢

الكمال، وإسعادها وتكاملها في المراحل الفكرية والعملية، وتعرّفها على أُصول دينها وفروعه، واستغنائها عن أيِّ منهج لا ضمان لصحته، فلا يعد طلب ذلك الأجر مضاداً للهتافات المتضافرة الصادرة عن الأنبياء طيلة أداء رسالاتهم.

٦٣

المقام الثالث

كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟

إنّ القرآن الكريم اعتبر مودة القربى أجراً على الرسالة في آية، وفي آية أُخرى اعتبر الأجر المطلوب عائداً نفعه في نفس الأمر إلى الأمّة، قال سبحانه:( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (١) فكيف يعود نفعها على الأمّة ؟

الجواب: لا حاجة إلى إفاضة القول في المقام على وجه التفصيل إذ قد تبين الجواب عند البحث السابق الدائر حول الجمع بين هذه الآية والآيات النافية، ومع ذلك نشير هنا إلى الجواب على وجه الإجمال وهو: انّ الله سبحانه عندما أمر نبيه بطلب المودّة من الناس لأقربائه، أراد إيصال الناس إلى فائدة أُخرى، وذلك لأنّ مودة أقربائه تنطوي على فائدتين مهمتين لنا :

الأولى: انّ العترة بحكم أنّهم قرناء القرآن(٢) معصومون من الخطأ والاشتباه، فعند ذلك بإمكانهم أن يلبُّوا حاجات الناس العلمية في أُصول الدين وفروعه، وبما أنّهم كسفينة نوح لا يتصور لهم انحراف في أقوالهم وأعمالهم فمودتهم، والارتباط بهم يوجب تعرف الأمّة على حقائق دينها على وجه الصحّة

__________________

(١) سبأ: ٤٧.

(٢) في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي »، وقرين القرآن وعديله معصوم مثله وإلاّ لما صح جعله عديلاً وقريناً. فلاحظ.

٦٤

واليقين، بخلاف ما إذا رجعت إلى غيرهم فلا يحصل لهم إلّا الشك والظن والتخمين.

الثانية: لما كانت العترة النبوية تمثل بحكم تربيتها المتعالية قمة الأخلاق والسجايا النبيلة، كان الارتباط بهم طريقاً إلى الحصول على التكامل الروحي والمعنوي وسبباً للوقوف على الرضا الإلهي.

إذ عندما يكون ارتباط عامل برب عمله أو تلميذ بأُستاذه موجباً لتكامل العامل والتلميذ، فالارتباط بعترة النبي سيكون بصورة أولى موجباً للحصول على تكامل أرقى، كيف وهم بحكم الحديثين الماضيين مبرّأون من كل رذيلة أخلاقية، وصفات ذميمة.

وقد وردت الإشارة إلى مثل هذا التأثير الذي يتركه الحب والود في نفس المحب من محبوبه في كلام الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال: « ما أحب الله من عصاه » ثم أنشد الإمام قائلاً :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

انّ المحب لمن يحب مطيع(١)

وبذلك يظهر أنّ ما ربّما يتفوّه به من لا قدم راسخ له في هذه الأبحاث ويقول: إنّ طلب المودة من جانب النبي لأقربائه أمر غير متين، خال عن السداد والمتانة. لأنّ القائل تصور انّ المقصود هو المحبة القلبية، أو ما يصاحبه من التظاهر باللسان، ولكنك قد وقفت على أنّ المقصود من المودة هو الارتباط وبالنتيجة التعرّف على المعارف والأصول، وفي مرحلة أُخرى الاتباع والاقتداء العملي، فيصير طلب المودة نوعاً من طلب الاتّباع للرسول وكتابه سبحانه، قال

__________________

(١) سفينة البحار: ١ / ١١٩، مادة حب.

٦٥

سبحانه:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (١) .

ثم إنّ للمفسّرين في تفسير قوله:( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (٢) وجهين :

الأوّل: انّه كناية عن نفي الأجر رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنّه لم يعطه شيئاً، ولكنه يريد به البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن(٣) .

وقال الطبرسي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرض الدنيا فتتهموني، فما طلبت منكم من أجر على أداء الرسالة وبيان الشريعة، لكم وهذا كما يقول الرجل لمن لا يقبل نصحه: ما أعطيتني من أجر فخذه وما لي في هذا فقد وهبته لك، يريد ليس لي فيه شيء(٤) .

الثاني: أن يريد بالأجر ما جاء في قوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٥) وفي قوله:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) (٦) لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القربى(٧) .

__________________

(١) آل عمران: ٣١.

(٢) سبأ: ٤٧.

(٣) الكشاف: ٢ / ٥٦٦.

(٤) مجمع البيان: ٤ / ٣٩٦.

(٥) الفرقان: ٥٧.

(٦) الشورى: ٢٣.

(٧) الكشاف: ٢ / ٥٦٦.

٦٦

المقام الرابع

المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى الله

لقد بانت الحقيقة من هذا البحث الضافي بأجلى مظاهرها، غير أنّه يجب البحث عن نكتة أُخرى وهي: أنّه سبحانه جعل اتخاذ السبيل إلى الله أجراً لرسالة نبيه في الآية التالية، قال سبحانه:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) وقبل الإجابة على السؤال، وأنّ المستثنى في هذه الآية هو المستثنى في آية سورة الشورى، نعمد إلى توضيح الآية.

إنّ الضمير في « عليه » يرجع إلى القرآن، وقد وضع الفاعل وهو « من اتخذ إلى ربه سبيلا » موضع فعله، وهو نفس اتخاذ السبيل، فالأجر المستثنى هو عمل المسلمين، وهو اتخاذ السبيل لا نفس المتخذ كما هو ظاهر الآية، أعني قوله:( مَنِ اتَّخَذَ ) والمراد إلّا فعل( مَنِ اتَّخَذَ ) والنكتة في العدول، هو المبالغة في اتخاذ السبيل، فكأنّ الشخص بوجوده الخارجي نفس اتخاذ السبيل ـ الذي هو معنى عرضي يحمله الإنسان ـ ولذلك نظائر في القرآن الكريم، قال سبحانه:( لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) (٢) . فإنّ الظاهر من الآية، انّ البر هو نفس من آمن، مع أنّه لا يمكن أن

__________________

(١) الفرقان: ٥٧.

(٢) البقرة: ١٧٧.

٦٧

يكون هو براً، ولكن لإظهار المبالغة في العمل بالبر ربما يخبر عن البر ب‍( مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) وكأنّ المؤمن لأجل إيمانه بالأمرين صار نفس البر.

ثمّ إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو تلاوة القرآن والعمل بما فيه من الفرائض والمحرمات بقرينة قوله سبحانه:( إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) .

وقد وردت هذه الآية أيضاً بنصها في سورة الإنسان في الآية ٢٩.

وعلى ذلك يكون مفاد الآية: أنّي لا أطلب منكم أجراً سوى استجابة دعوتي واتباع الحق، وهو نهاية استغنائه عن الأجور الدنيوية التافهة.

وقد علّق سبحانه اتخاذ السبيل على مشيئتهم للدلالة على حريتهم الكاملة فلا إكراه ولا إجبار في ذلك الاتخاذ من قبل أحد، ولا وظيفة للنبي سوى التبشير والإنذار( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٢) .

قال الزمخشري في الكشاف: وهذا نظير قول من قد سعى لك في تحصيل مال وقال: ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلّا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسمّاه باسمه، فأفاد فائدتين :

إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله.

والثانية: إظهار الشفقة البالغة إلى أن قال: ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً، تقرّبهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله(٣) .

__________________

(١) المزمل: ١٩.

(٢) الكهف: ٢٩.

(٣) الكشّاف: ٢ / ٤١٢.

٦٨

وما ذكره من أنّ المراد من اتخاذ السبيل هو الإيمان والطاعة يرجع إلى ما ذكرنا من أنّه يطلب إجابة دعوته والاتّباع للحق، وتلاوة القرآن والعمل بما فيه، والكل يرجع إلى أمر واحد، وهو أنّه لا يطلب سوى العمل بالشريعة والاتّباع للدين الحنيف، ومن ذلك يظهر أنّ تفسير « اتخاذ السبيل » بالإنفاق في سبيل الله وإعطاء الصدقة تفسير بالمصداق وليس اتخاذ السبيل منحصراً فيه.

قال الطبرسي: ما أسألكم عليه: على القرآن وتبليغ الوحي من أجر تعطونيه إلّا من شاء أن يتخذ إلى ربِّه سبيلاً بإنفاقه ماله في طاعة الله واتّباع مرضاته، والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجراً، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله سبحانه، بل أرغب فيه وأحث عليه، وفي هذا تأكيد للصدق، لأنّه لو طلب على تبليغ الرسالة أجراً لقالوا إنّما يطلب أموالنا(١) .

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين

هذا هو معنى إيجاب اتخاذ السبيل الوارد في الآية، وهو لا يفترق عن إيجاب المودة في القربى لغرض الوصول إلى الشريعة والتعرّف على أحكامها والعمل بما فيها من الفرائض والتجنب عن المنهيات، لأنّ مودّتهم الحقيقية كما عرّفناك لا تفترق عن الاتّباع لأقوالهم والاقتداء بأعمالهم وهو نفس الاتّباع للشريعة والعمل بما فيها من الأحكام ونفس استجابة دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعادت الآيتان متوافقتي المضمون ومتحدتي المعنى.

فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطلب في كلتا الآيتين سوى العمل بالشريعة وإجابة دعوته، وهو يحصل من طريق المودة في القربى كما يحصل من الإيمان بالنبي ومودّته، ولا معنى للمودة الحقيقية إلّا العمل بقول المحبوب والاقتداء به فيما يأمر وينهى ،

__________________

(١) مجمع البيان: ٤ / ١٧٥.

٦٩

والمودّة الفارغة عن الاتّباع ليست سوى خدعة يخدع الإنسان بها نفسه هذا على القول بأنّ المراد من « اتخاذ السبيل » هو إجابة دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والعمل بما أتى به والتمسك بشريعته.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو نفس المودّة في القربى، فإنّها إحدى الطرق إلى التعرّف على الشريعة، والتمسّك بها، كما أنّ القرآن أيضاً أحد هذه الطرق، وقد وافاك أنّ المودة ليست إلّا أمراً طريقياً لهذه الغاية المهمة وليست مطلوبة بما هي هي ولذاتها.

وتؤيد ذلك الصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين، أعني: الكتاب والعترة، في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وانّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض »(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق »(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس »(٣) .

وعلى هذا فينطبق المستثنيان الواردان في الآيتين على معنى واحد، ويكونان هادفين إلى معنى فارد، وهو المودة في القربى، غير أنّه جاء الأجر المطلوب في سورة الشورى على وجه الصراحة، وفي سورة الفرقان على وجه الكناية.

__________________

(١) راجع مصادر حديث الثقلين، إلى ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، باسم « حديث الثقلين » القاهرة، عام ١٣٧٤ ه‍ ؛ والمراجعات: ٢٠ ـ ٢٣.

(٢) مستدرك الحاكم: ٣ / ١٥١.

(٣) المصدر السابق: ١٤٩.

٧٠

ويؤيد ذلك ما رواه الطبري في ذخائر العقبى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً »(١) .

وأخرج شيخ الإسلام الحمويني في « فرائد السمطين » عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله :

« نحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله »(٢) .

وقد روي عن تفسير الثعلبي، عن عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (٣) انّه قال: « قولوا معاشر العباد ارشدنا إلى حب محمد وأهل بيته: »(٤) .

وفي بعض الأدعية المأثورة عن بعض أئمّة أهل البيت تلويح إلى ذلك الجمع والتفسير، حيث جاء في دعاء الندبة قولهعليه‌السلام :

« ثمّ جعلت أجر محمد صلواتك عليه وآله مودتهم في كتابك فقلت:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) وقلت:( مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) وقلت:( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك »(٥) .

__________________

(١) ذخائر العقبى: ١٦.

(٢) الغدير: ٢ / ٢٨٠، ط النجف.

(٣) الفاتحة: ٦.

(٤) الغدير: ٢ / ٢٨٠، ط النجف.

(٥) راجع البحار: ١٠٢ / ١٠٤، نقلاً عن مصباح الزائر: ٢٣٠ والمزار الكبير: ١٩٠.

٧١

المقام الخامس

مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة

قد عرفت في المقام الأوّل أنّ المفهوم من المودة في القربى هو موالاة أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يفهم صحابة النبي ولا جمهور المفسّرين إلّا هذا المعنى، وقدّمنا لك أسماء الذين رووا هذا المعنى عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عند البحث عن الحديث الوارد حول الآية.

غير أنّ بعض المفسّرين أضاف إلى المعنى المختار محتملات أُخر، يأباها الذوق السليم، ولا يرتضيها العارف بأساليب الكلام البليغ، ولأجل ذلك ليست تلك المحتملات إلّا مجرد احتمالات فارغة، ودونك بيانها :

الأوّل: لم يكن بطن من بطون قريش إلّا وبين رسول الله وبينهم قربى، فلمّا كذّبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت الآية، والمعنى إلّا أن تودوني في القربى أي في حق القربى، ومن أجلها كما تقول: الحب في الله، والبغض في الله بمعنى في حقه ومن أجله، يعني انّكم قومي وأحق من أجابني، وأطاعني، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى، ولا تؤذوني، ولا تهيجوا عليّ(١) . وعلى ذلك يكون « في » للسببية، ومفاد الآية إلّا مودتي لسبب القرابة.

__________________

(١) الكشّاف: ٣ / ٨٢، ط مصر عام ١٣٦٨ ه‍، المفاتيح للرازي: ٧ / ٣٨٩ وعلى هذا التفسير يكون « القربى » بمعنى الرحم.

٧٢

ولا يخفى على العارف البصير أنّ سؤال الأجر ممن يكذبونه ولا يؤمنون به ويبغضونه ودعوته، ويرونه خطراً على كيانهم، لا يصدر من عاقل، فضلاً عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الاستثناء سواء أكان متصلاً أم منفصلاً، إمّا أجر حقيقي للنبي، أو شبيه له، وطلب الأجر بكلا المعنيين لا يصح إلّا ممن أسدى إليه طالبه شيئاً من الخدمة المادية أو المعنوية، فيصح عندئذ أن يطلب منه شيئاً تجاه ما قدّم له، وأمّا طلبه ممن لا يؤمن به ولا يراه أسدى له خدمة، فلا يصح في منطق العقل والعقلاء، فطلب الأجر على فرض البغض والعداء لا يصح، وعلى فرض الإيمان به فالمودّة حاصلة لا حاجة لطلبها.

الثاني: أتت الأنصار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمال جمعوه فقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن اختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت الآية، وردّه(١) .

وهذا المحتمل كسابقه من الضعف، فانّ مودة الأنصار للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمراً حاصلاً فلم يكن النبي في حاجة إلى طلبها منهم، كيف وهم الذين بذلوا دون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله النفس والنفيس، وآووه ونصروه، وفدوه بشبّانهم في طريق دعوته، فإذا كانت الحالة هذه، فلا وجه لطلب المودّة منهم.

على أنّ الوشيجة التي كانت تربطهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن قوية بل ضئيلة جداً، إذ كانت العرب لا تعتني بالقرابة من ناحية النساء وكان منطقهم :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أولاد الرجال الأباعد

ومنهم من يقول :

__________________

(١) الكشاف: ٣ / ٨٩ ؛ مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٨٩. ومعنى الآية على هذا التفسير « إلّا أن تودوني لأجل قرابتي منكم ».

٧٣

وإنّما أُمّهات الناس أوعية

مستودعات وللأنساب آباء

وإنّما أدخل الإسلام القرابة من جانب النساء وساوى بين البنات والبنين، واعتنى بكل وشيجة حصلت بينهم سواء أكانت من جانب الرجال أم من جانب النساء، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتبط بالأنصار من جانب النساء، فإنّ هاشماً تزوج ببنت « عمرو الخزرجي » فولدت له عبد المطلب وهو جد النبي الأكرم، وما كان عرب الجاهلية يقيمون وزناً للقرابة الناشئة من جانب البنت.

الثالث: انّ الخطاب لقريش، والمقصود مودّة النبي إيّاهم، والمعنى لا أطلب منكم أجراً ولا جزاء ولكن حبي لكم بسبب ما تربطني بكم من قرابة هو الذي دفعني إلى الاعتناء بكم وبهدايتكم.

وهذا المعنى اختاره روزبهان حيث قال: لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم، فلهذا أسعى واجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم(١) .

ولا يخفى أنّ لفظ الآية لا يحتمل ذاك المعنى، ودلالتها عليه تحتاج إلى تقدير أُمور كثيرة، وما حمله على تفسير الآية بما ذكر إلّا مخالفته للعلاّمة الحلي في الاستدلال بالآية على عصمة من وجبت محبتهم، ولو كان القائل مجرداً عن جميع الميول والأغراض لم يحمل الآية على هذا المعنى، فإنّ الذي دفع النبي إلى الاهتمام بأمر قريش هو امتثال أمر الله حيث قال:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) (٣) .

أضف إلى ذلك أنّ حرص النبي على إنقاذ المجتمع الإنساني من الضلالة لم يكن منحصراً بقريش بل هم وغيرهم في هذا الاهتمام سواسية، وقال سبحانه

__________________

(١) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

(٣) الحجر: ٩٤ ـ ٩٥.

٧٤

حاكياً عن اهتمام النبي بهداية المؤمنين:( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) .

على أنّ إرادة هذا المعنى تحوجنا إلى التصرّف في الآية بجعل « إلّا » بمعنى « لكن » والقول بأنّ الخبر محذوف، وتقدير الآية هكذا، ولكن المودّة في القربى دفعتني إلى دعوتكم وهدايتكم. وهذا تكلّف واضح في تفسير الآية.

الرابع: أنّ المقصود مودّة كل واحد من المسلمين لأقربائه، وهو عبارة أُخرى عن صلة الرحم التي دعا إليها الإسلام(٢) .

ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال لا يساعده اللفظ ولا الذوق القرآني، فإنّ عد مودّة الناس لأقربائهم أجراً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستحسنه الذوق السليم، فإنّ المودّة إمّا أجر حقيقي أو أجر غير حقيقي ( أي حكمي ) أخرج بصورة الأجر، وعلى كلا التقديرين إنّما يصح الاستثناء إذا كان المستثنى عائداً إلى النبي إمّا حقيقة، أو مجازاً، ومودّة كل مسلم لأقربائه وإن كان أمراً مطلوباً بذاته في الشرع الأقدس، لكنّه لا يصح أن يعد أجراً، أو يخرج بصورة الأجر، فإنّ الاستثناء كما أوقفناك على حقيقته هو إخراج ما لولاه لدخل، والإخراج حقيقة أو حكماً فرع الدخول كذلك، وقد قلنا إنّ المستثنى المنقطع، منقطع حقيقة لا ظاهراً وحكماً، وانّ المستثنى منه شامل للمستثنى المنقطع شمولاً حكمياً ولو في وهم المخاطب فإذا قال القائل: جاء القوم إلّا مراكبهم ومواشيهم، إنّما يصح هذا القول لإجل توهم شمول الحكم ( أعني المجيء ) لمراكبهم ومواشيهم، أو خدّامهم، فإنّ القبيلة إذا ارتحلت من مكان إلى مكان آخر فإنّما ترتحل مع مواشيها وما يتعلّق بها، فالحكم بالمجيء على

__________________

(١) يوسف: ١٠٣.

(٢) مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٩٠ ذكره في توجيه طلب الأجر للرسالة حيث قال: لأنّ حصول المودة بين المسلمين واجب وقال تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) .

٧٥

القوم كأنّه حكم على توابعهم ولوازمهم بالمجيء، ولأجل ذلك لا يصح أنّ يقال: جاءني القوم إلّا الشجر.

وعلى ذلك فالمصحح لاستثناء المودّة في القربى هو دخولها في المستثنى منه بنحو من أنحاء الدخول إمّا حقيقياً أو حكمياً، وحينئذ فلو قلنا: إنّ أجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو مودّة أقربائه بما هي هي، وبما أنّها مطلوبة بذاتها، لصح الاستثناء لدخولها في الأجر دخولاً حقيقياً، ويصح أن يطلق عليه الأجر على نحو الحقيقة.

وإن قلنا: بأنّ أجر النبي هو مودة أقربائه بما أنّها ذريعة لتكامل الأمّة في مرحلتي الفكر والعمل، لصح الاستثناء أيضاً، لكونها داخلة في الأجر دخولاً حكمياً، وعلى كلا التقديرين يصح أن يطلق عليه الأجر، وبتبعه يصح الاستثناء والاستدراك.

وأمّا لو قلنا: بأنّ المراد هو مودة كل ذي رحم لرحمه كمودة المسلم الأفريقي لأخيه والآسيوية لأختها، فذلك وإن كان أمراً مطلوباً لكن لا يشمله لفظ الأجر لا حقيقة ولا عناية حتى يصح الاستثناء والاستدراك. وعلى الجملة فالأجر الوارد في الآية إنّما يراد منه ما يرجع إلى الإنسان الطالب للأجر رجوعاً واقعياً أو ظاهرياً، وهو لا يحصل إلّا أنّ تفسر المودة، بمودة أقرباء ذلك الرجل الطالب.

وأمّا إذا أُريد منه مودة كل بعيد لرحمه، فذلك لا يعد أجراً حتى بصورة الظاهر، ليصح الاستثناء، وإن شئت قلت: إنّ الأجر هو المكافأة والإثابة على العمل، ولا يطلق إلّا على الشيء الذي تعود نتيجته إلى العامل بنحو من الأنحاء، وعلى ذلك فالمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه، أو مرتبطاً به بنحو من الارتباط لا أجنبياً عنه، فعندئذٍ لو أُريد مودة نفسه وأقربائه، لصح أن يستثنى من الأجر المنفي لدخوله في المستثنى منه، وأمّا إذا أُريد مودة كل رجل لرحمه فلا يشمله لفظ الأجر حتى بنحو العناية والمجاز، ليصح الاستثناء، ولا يتوجه ذهن

٧٦

السامع عند سماع كلمة الأجر إلى مثل ذاك الأمر حتى يصح الاستدراك، بخلاف مودّة أهل بيته وعترته، فإنّها ممّا يسعه اللفظ بعموم معناه.

على أنّه لم يعهد من القرآن حث الأفراد على موالاة ومودة أقربائهم بما هم أقرباؤهم، وإنّما أمر بموالاة المؤمنين وموادّتهم، نعم للقرآن اهتمام شديد بصلة الرحم، ودفع عيلة ذوي القربى وحاجاتهم وهو غير موالاتهم القبلية.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه حينما يأمر بصلة الرحم جعل الغاية من هذا الأمر وجه الله وحده لا بعنوان الأجر للرسالة حيث قال :

( وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ( حب الله )ذَوِي القُرْبَىٰ وَاليَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ ) (١) .

وقال سبحانه:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (٢) .(٣)

ثم إنّ جعل الآية كناية عن صلة الرحم وإسداء الخدمة إلى ذوي القربى لا يتحمله اللفظ ولا يقوم به ظاهر الآية.

الخامس: انّ المقصود أنّني لا أطلب منكم أجراً فإنّما هدفي هو إيجاد التآلف والتحابب وحسن المعاشرة بين أفراد البشر، فكل ما أطلبه هو أن أزيل بهذا القرآن كل الضغائن والعداوات من بينكم، وأحلّ محلها المودة بين قبائلكم.

ولا يخفى أنّه لو كان المراد هو توحيد الأمّة وجمع شملهم لكان ينبغي أن يعبّر عنه بأسدّ العبارات وأتقنها، كأن يقول: لا أسألكم عليه أجراً إلّا الاعتصام بحبل الوحدة وصيانة الاخوة الإسلامية، وما يفيد هذا المعنى.

__________________

(١) البقرة: ١٧٧.

(٢) الإنسان: ٨.

(٣) الاستدلال مبني في كلتا الآيتين على رجوع الضمير في « حبه » إلى الله لا إلى المال أو الطعام.

٧٧

على أنّه يستلزم أن يكون لفظ القربى ـ على هذا المعنى ـ حشواً، بل كان اللازم أن يقول: إلّا المودّة بينكم.

السادس: انّ المقصود هو لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلّا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح(١) .

وحاصل هذا الوجه: أنّ حبكم لله ورسوله يتجسّم في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، فيكون « في » للسببية. وكأنّه يدعو الناس إلى حب الله ورسوله بتجسيد هذا الحب في قالب الطاعة والعمل الصالح.

وهذا الوجه من أبعد الوجوه عن مراد الآية، إذ هو مبني على تفسير القربى بالمقرِّب: أي ما يقرِّب العبد إلى الله سبحانه، من الطاعة والعمل الصالح، مع أنّ أهل اللغة والاستعمال قد اتفقوا على حصر معناها في الوشيجة الرحمية، والرابطة النسبية، وقد قدمنا لك نصوصاً في هذا المجال في المقام الأوّل.

السابع: لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلّا التوادّ والتحابّ فيما يقرِّب إلى الله تعالى من العمل الصالح. روي هذا المعنى عن الحسن والجبائي، وأبي مسلم.

وهذا الاحتمال مبهم لا يعلم مراد القائل منه إلّا بطرح جميع محتملاته، وإليك بيانها :

١. انّ المقصود أنّي لا أسألكم أجراً إلّا أن تودّوا وتحبوا ما يقرِّبكم إلى الله سبحانه، كالأعمال الصالحة.

وفيه: مضافاً إلى ما عرفت من عدم صحّة تفسير القربى بالمقرّب، إنّه يكون الغرض الأقصى عندئذ هو إطاعة الله سبحانه والإتيان بما يقرب العبد منه ،

__________________

(١) الكشاف: ٣ / ٨٢، مجمع البيان: ٥ / ٢٨.

٧٨

وحينئذ يكون لفظ المودّة زائداً ومخلاًّ بالفصاحة، وكان الأولى أن يقول: إطاعة الله سبحانه والعمل بما أمركم به، والإتيان بما يقرّبكم.

وكأنّ القائل بهذا التفسير أعطى القيمة لنفس المودّة، لا لنفس العمل، مع أنّ المهم هو العمل لا مجرّد المودّة، إذ كل تارك للواجبات ربّما يود العمل الصالح وإن لم يقم بالإتيان بها.

٢. انّ المقصود من المودّة في القربى هو إظهار الحب والتودد إليه تعالى بالطاعة، والمعنى إلّا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه والإتيان بما يقرّبكم إليه(١) .

وفيه: مضافاً إلى ما عرفت ما في تفسير القربى بالمقرِّب، إنّه لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه، وإن ورد العكس كما في قوله سبحانه:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (٢) وقوله:( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ) (٣) .

ووجهه واضح، فقد فسّر الراغب المودّة بقوله: إنّ مودّة الله لعباده مراعاته لهم. وفيها إشعار بمراعاة حال المودود وتعاهده وتفقده، ولا يناسب ذلك من العبد بالنسبة إلى الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّه يرجع إلى الوجه السادس الذي نقلناه عن الكشاف.

٣. لا أسألكم أجراً إلّا أن تتواددوا بما يقرِّبكم إلى الله، كأن يحسن بعضكم إلى بعض فيحصل التحابب والتوادد بما يقربكم إلى الله.

ولعل هذا الوجه أوفق لعبارة بعضهم حيث قال: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً إلّا التوادّ والتحابّ فيما يقربكم إلى الله من العمل الصالح.

__________________

(١) ذكره الرازي وجهاً للآية راجع مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٨٩.

(٢) هود: ٩٠.

(٣) البروج: ١٤.

٧٩

وفيه أنّ تفسير المودّة بالتوادد والتحابب غير صحيح، فإنّ المودّة تطلق على المحبّة وإن كانت من طرف واحد، والوارد في القرآن هو لفظ المودّة لا التواد ولا التوادد.

أضف إلى ذلك أنّ حمل القربى على المقرِّب إلى الله غير مأنوس في اللغة العربية، وهو خلاف ما اتفق عليه اللغويون.

٤. المراد لا أسألكم أجراً إلّا التقرب إلى الله والتودّد إلى الله بالطاعة. ذكره الطبرسي في تفسيره، وهو أبعد الوجوه عن مراد الآية، إذ هو جعل الأجر أمرين: أحدهما: التقرّب، والثاني: التودّد. مع أنّ ظاهر الآية أنّ الأجر المستثنى شيء واحد.

وخلاصة هذه الوجوه المذكورة في السادس والسابع هي ما نأتي بها ـ ثانية ـ تسهيلاً للقارئ الكريم :

١. الأجر هو حب الله ورسوله بالطاعة والعمل الصالح.

٢. الأجر حب المقربات إلى الله سبحانه.

٣. الأجر إظهار الحب إلى الله بالطاعة(١) .

٤. الأجر حب بعضكم بعضاً بالعمل الصالح، كالإحسان.

٥. الأجر أمران: التقرّب إلى الله، والتودّد إليه بالطاعة.

وغير خاف على القارئ الكريم أنّ هذه الوجوه تشبه التفسير بالرأي، ولا مبرر لها في اللغة ومنطق التفسير، وهي برمتها غير ما كان المسلمون الأوائل يفهمونه من ظاهر الآية. قال الكميت الأسدي شاعر أهل البيت :

وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأولها منا تقي ومعرب

__________________

(١) والفرق بينه وبين الوجه الأوّل انّ الأجر في الوجه الأوّل هو نفس الحب، وفي هذا إظهاره.

٨٠