مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106048 / تحميل: 7203
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

١

٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

أمّا بعد ،

فهذا هو الجزء الرابع من أجزاء موسوعتنا القرآنية « مفاهيم القرآن » نقدّمه إلى القرّاء الكرام، راجين منهم العفو عمّا وقع من التأخير في نشره، وقد كان جاهزاً للطبع يوم طبع الجزء الثالث منها غير أنّه طلباً لوقوعه موقع القبول والرضا من القرّاء، قد غيّرنا بعض مطالبه عند تقديمه للطبع في هذه الأيام، ولنعم ما قال الكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد الله محمد بن حامد الأصفهاني ( المتوفّى عام ٥٩٧ ه‍ ) بدمشق: إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلّا قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جميع البشر.

المؤلف

٥
٦

كلمة قيمة

تفضّل بها العلامة الحجّة المحقق والكاتب الإسلامي الكبير

السيد مرتضى العسكري(١)

ننشرها مشفوعة بالشكر والتقدير

بسم الله الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة العالم الباحث الحجّة الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني متّعنا الله بطول بقائه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد ،

فقد تسلمت بيد الشكر هديتكم النفيسة وهي الجزء الأوّل والثاني والثالث من موسوعتكم المباركة « مفاهيم القرآن » وتمتعت زمناً طويلاً بمطالعتها كما تمتعت بمطالعة سائر مؤلّفاتكم، خاصة مؤلّفاتكم في سيرة النبي والوصي، وأريد أن أتحدّث عن اتجاهكم المحمود هذا، وأُبدي تقديري لكم، فقد وجدت في هذه الموسوعة القرآنية بحوثاً مقارنة أصيلة نافعة ـ شكّر الله مساعيك، وجزاك الله خيراً

__________________

(١) الأستاذ العسكري علم من أعلام الأُمّة، يدافع عن ساحة الإسلام والتشيّع بآثاره القيمة المبتكرة، منها: « مائة وخمسون صحابي مختلق »، « عبد الله بن سبأ في التاريخ »، « معالم المدرستين »، وغيرها.

٧

على دأبك في بذل الجهد المتواصل، في هذا السبيل في عصر عزّ فيه وجود الباحثين ـ وأخص بالذكر الجزء الثالث من تلك الموسوعة حيث وجدت فيه اختياراً موفقاً للمواضيع الهامة من حقول المعرفة القرآنية، وأُسلوب البحث حول كل موضوع على حدة مثل: عالمية الإسلام، وخاتمية النبي الأكرم، وأُميته، مع ذكر الشبهات المثارة حول تلك المواضيع ودفعها، سواء من قبلكم أو بنقل كلمات المفسّرين الإسلاميين حولها بأمانة تثير الإعجاب في عصرنا الحاضر.

نعم أنّي لا أتفق معكم في بعض ما اخترتموه في رسالة نوح وانّما أختار في ذلك رأي العلّامة الطباطبائيقدس‌سره .

وفي الختام أقول: إنّ هذه الموسوعة قد طرحت على بساط البحث مواضيع هامة ينبغي أن تتناولها أقلام المفكّرين الإسلاميين بالبحث والنقد وأن تُنتخب منها خلاصات تترجم إلى سائر اللغات الحية وتنشر على جماهير المسلمين لحاجتهم إلى هذه الأبواب من المعرفة.

أطال الله عمرك، أيّها الأخ البحّاثة، وأخذ بيدك في ما أنت بصدده من نشر فنون المعرفة القرآنية، وتقبَّل منك عملك والسّلام عليك من مرتضى العسكري.

مرتضى العسكري

١٩ / ٣ / ١٤٠٣ ه‍

٨

رسالة قيمة

بعثها إلينا الكاتب الكبير الأُستاذ الحجّة الشيخ سلمان الخاقاني

صاحب التآليف القيمة الممتعة، حيّاه الله وبيّاه

بسم الله الرحمن الرحيم

معرفتي بالأستاذ العلّامة الحجّة الشيخ جعفر السبحاني لم تكن حدثاً جديداً، فقد عرفته منذ أكثر من عشرين عاماً من خلال كتبه العلمية التي جاوزت العشرات في جميع نواحي الدين والعلم.

وفي عام ١٣٩٥ ه‍ حمل إليّ البريد كتاباً من بعض أصدقائي الأعزّاء القاطنين بطهران يحمل اسم« مفاهيم القرآن » وهو من تأليف صديقنا الأستاذ السبحاني، وقد تصفّحته فأعجبت به، وزاد إعجابي بمؤلّفه، وعرفت أنّه ذو مواهب عالية، وزاد كل ذلك معرفتي به، وحمدت الله على أن جعل في مجتمعنا من يخدم اللغة العربية والقرآن والحديث بقوّة واقتدار كما خدمها سلفنا الماضي.

وقد مرّت على هذه الأحاسيس سنوات وأنا في دار هجرتي قم يدخل عليَّ صديقنا السبحاني زائراً ومواسياً ومتلطفاً ويهدي إلي الجزء الآخر من تلك الموسوعة القرآنية، وهو« معالم التوحيد في القرآن الكريم » وهي محاضرات كتبت بقلم أحد تلامذته النجباء الأوفياء.

٩

وقد تناولت الكتاب بالبحث فوجدت فيه مواضيع مفيدة يحتاج إليها كل فرد مسلم، يريد أن يعرف حقائق الدين المبين.

واستوقفني من تلك المواضيع موضوعه الأخير الحاكمية، ولمن تكون.

أقول: استوقفني هذا الموضوع لأنّه من المواضيع الهامة التي نُشرت حوله رسائل وكتابات.

وليس قولي ـ استوقفني هذا الموضوع ـ أنّ غيره لا يستحق الوقوف، لا، ففي مواضيع الكتاب مباحث نافعة ومفيدة لكل من يريد الوقوف.

وإلى الأستاذ العلّامة الشكر والامتنان في اخراج هذه التحف، وأرجو لكتابه هذا، بل ولجميع كتبه، الرواج والانتشار وليتقبل هو قولي مخاطباً له :

لقد أحسنت يا جعفر

فلتهنأ بإحسان

لما فصلت من آي

لتوحيد وعرفان

وما بينت من شرح

على آيات قرآن

فأنت الكاتب الفذ

بإخلاص وإيمان

لقد سبحت تمجيداً

بإسرار وإعلان

إلى من يهب العقل

ويغني المملق العاني

ويهدي التائه الضال

لذا لقبت « سبحاني »

ألا فاقبل أخا الفضل

نشيد المخلص الجاني

ربيع المولود ١٤٠٣ ه‍

سلمان الخاقاني النجفي

١٠

خطاب

تفضّل به العلّامة الحجة الحكيم المتألّه الشيخ حسن الآملي

( دام ظله الوارف )

ننشره مشفوعاً بالشكر والتقدير

بسم الله الرحمن الرحيم

( ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )

سماحة العلم الآية العلّامة العبقري الشيخ جعفر السبحاني متعنا الله بطول بقائه.

بعد التحية والسّلام :

سلام كمثل الروض باكره الصبا

فصادف ريحاناً ونوراً مفتقاً

أنّه سبحانه كتب على نفسه وأخبر في كتابه بقوله:( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) فهو سبحانه يقيّض في كل دور وكور أعلاماً يهتدى بهم، ويستضاء بنور هداهم، فقد عرَّفهم وليّ ذي الجلال، زارع المعارف في مزارع القلوب في خطابه الفصل الملقى إلى كميل الكامل الباخع النخعي بقوله: « يحفظ الله بهم حججه وبيناته، حتى يودعها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ».

وأنتم ـ بحمد الله سبحانه ـ ممن حذا حذو هؤلاء، وتتلمذ في مدرستهم

١١

وتعرّف على مناهجهم، فلأجل ذلك أخرجتم إلى المجتمع الإسلامي تفسيركم الموضوعي لحبل الله: « القرآن الكريم » في حلقات عديدة، وقد حالفني التوفيق لأقف على أجزاء منها تتناول موضوعات قرآنية هامة كأنّما هي نسمات أُنس هبّت من حظائر القدس، وقد تجلّى فيها القرآن بمفاهيمة ومعالمه للّذي قد جاء في طلب القبس.

رزقنا الله وإيّاكم فهم الخطاب الإلهي وأسأله سبحانه غرة جدّكم، وعزة جداكم، والحمد لله الذي فضّل مداد العلماء على دماء الشهداء.

تحريراً في ٢٤ / شعبان المعظم / ١٤٠٣ ه‍

قم: حسن الآملي

ملحوظة :

هذا ما سمح المجال بنشره مما تفضّل به الأساتذة حول كتابنا « مفاهيم القرآن » وقد نشرناها مشفوعة بالشكر والتقدير، وسوف نقوم بنشر بعض الرسائل والكتب الأُخرى التي وصلتنا من قادة الفكر وأرباب القلم في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

المؤلف

١٢

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بالغيب في الكتاب العزيز

الإيمان بالغيب عنصر أساسي في جميع الشرائع السماوية، والشرط الرئيسي في التديّن بالدين الإلهي على الإطلاق، بحيث لو انتزع هذا العنصر من برامج الدين لأصبح الدين دستوراً عادياً يشبه الدساتير والآيديولوجيات المادية البشرية، ونظاماً لا يمت إلى الدين الإلهي بصلة.

ولأجل ذلك نرى أنّ الله سبحانه يعد الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتصف بها المتقون إذ يقول سبحانه في الآية الثالثة من سورة البقرة:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (١) .

والمراد من « الغيب » هو ما يقابل الشهادة، ومن أجل مصاديقه: الروح والملائكة، والجن والمعاجز، والكرامات، والوحي، والبرزخ، والقيامة، وما يرجع إلى الله تعالى من ذاته وصفاته.

ولا يشك أحد في أنّ تجريد الدين من هذه الأمور ومن الاعتقاد بها يوجب أن يصبح الدين نظاماً مادياً، ومبدأً بشرياً كسائر الأنظمة والمبادئ والبرامج البشرية الأرضية.

__________________

(١) البقرة: ٣.

١٣

وقد كان أصحاب الشرائع، وأنصارها، وفي مقدمتهم علماء الإسلام، وكتابهم محتفظين بهذا الأصل، معتصمين به أشد الاعتصام، مؤكدين عليه في كتاباتهم غاية التأكيد باعتباره ميزة الشرائع الإلهية، وقوامها، والفارق الجوهري بينها وبين الأنظمة والآيديولوجيات الأرضية البشرية.

غير أنّ الحضارة المادية الحديثة التي اعتمدت على الحس والتجربة، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية، أدهشت بعض المفكّرين المسلمين، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب باعتباره عنصراً أساسياً في الدين، وبين الحضارة المادية الحديثة التي لا تعتمد إلّا على الحس والتجربة، وربّما لم يتجرّأوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية، فلم يقدروا على الانحياز إلى أي واحد من الطرفين، فلو صاروا إلهيين مطلقاً لوجب عليهم مقابلة الماديين المنكرين لعالم الغيب، ولو انحازوا إلى جانب الماديين لانخرطوا في صفوف الملحدين، ولذلك اختاروا طريقاً وسطاً، وهو تأويل بعض ما ورد في مجال الغيب عامّة، والمعاجز والكرامات خاصة، وزعموا أنّهم يستريحون بهذا التأويل، ويرضون كلتا الطائفتين.

و ممن سلك هذا الطريق بعض السلوك الشيخ المصلح « محمد عبده » والسيد سير « أحمد خان » الهندي، و « طنطاوي جوهري »، وتلامذة هذه المدرسة.

ولكي لا يحمل القارئ كلامنا هذا على القسوة والتحامل على أحد نأتي فيما يلي بنماذج من كتابات أصحاب هذه المدرسة، ونختارها ممّا كتبه السيد محمد رشيد رضا منشئ « المنار » تقريراً لدروس الأستاذ الامام الشيخ « محمد عبده » في التفسير، ونكتفي ـ في هذا الاقتباس ـ على ما ضبطه حول سورة البقرة فقط، ونحيل البحث المفصّل حول هذا التفسير المنشور في أحد عشر جزءاً إلى وقت آخر.

١٤

النموذج الأوّل

قوله سبحانه:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ *ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١) .

لا شك أنّ المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت، والخطاب لليهود المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار أحوال أسلافهم، ولا يفهم أيُّ عربي صميم من لفظة:( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) غير هذا إلّا أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل، أي أنّه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها(٢) .

ولم يكن هذا التفسير من الأستاذ إلّا لأجل أنّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسّي والتجربة، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى، وما أظن أنّ الأستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية الكثيرة في القرآن الكريم.

النموذج الثاني

لقد كتب الأستاذ في تفسير قوله سبحانه:( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ *فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا

__________________

(١) البقرة: ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) تفسير المنار: ١ / ٣٢٢.

١٥

خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (١) . ما يلي :

إنّ السلف من المفسّرين ـ إلّا من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله:( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين.

وحيث كان هذا المعنى يصطدم بالاتجاه المادي ولا تصدقه أنصار الحضارة المادية الذين ينكرون إمكان صيرورة الإنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة، عمد الأستاذ إلى تأويل هذه الآية، وتفسيرها على النحو والنهج الجامع بين الاتجاهين المادي والديني !!

فمع أنّه نقل عن الجمهور أنّ معنى الآية أنّ صورهم مسخت فأصبحوا قردة على الحقيقة والواقع، نجده ينحاز إلى رأي مجاهد الذي قال: ما مسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) .(٢)

ثم قال: ومثل هذا قوله تعالى:( وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) .(٣) وقال: الخسوء هو الطرد والصغار، والأمر للتكوين، أي فكانوا بحسب سنّة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس.

ثمّ أخذ في رد قول الجمهور، وقال: ولو صح ـ ما ذكره الجمهور ـ لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ الله لا يمسخ كلَّ عاص، فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنّما العبرة الكبرى في العلم بأنّ من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل: أنّ من يفسق عن أمر ربّه ويتنكب الصراط الذي شرّعه له، ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق

__________________

(١) البقرة: ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) الجمعة: ٥.

(٣) المائدة: ٦٠.

١٦

بعجماوات الحيوان، وسنّة الله تعالى واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية.

إلى أن قال: فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة(١) .

ونحن لسنا ـ هنا ـ في صدد تفسير الآية وتوضيح مفادها، غير أنّه ـ إيقافاً للقارئ الكريم على الحقيقة ـ نلفت نظره إلى أُمور تثبت ما نسبناه إلى هذه الجماعة من موقف خاص تجاه المعاجز والكرامات وما شاكلها، وهذه الأمور هي :

أوّلاً: أنّ المشهود من تفسير صاحب المنار أنّه مقلّد قوي للسلف في أكثر الموارد والمجالات، فلماذا عدل في هذا المضمار، واختار القول الشاذ، أعني: قول مجاهد ؟!

ثانياً: كيف رضيت نفسه أن يفسّر الآية بمثل قوله سبحانه:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) مع أنّ المذكور في تلك الآية إنّما هو على سبيل المثل، فإنّ لفظة « مثل » تنادي بأنّ حالهم ـ في عدم الفهم والانتفاع بالتوراة ـ كمثل الحمار الحامل للكتب والأسفار من دون فهم لما فيها، لا أنّهم حمر بالهيئة والصورة والحقيقة، وهذا بخلاف ظاهر الآية الحاضرة، فإنّها بظاهرها حاكية عن أنّهم صاروا قردة حقيقيّين لا أنّهم صاروا مثلهم مثل القردة ؟!

ثالثاً: لماذا غفل الأستاذ عما ورد في تلك القصة في سورة الأعراف من قوله سبحانه:( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *فَلَمَّا عَتَوا عَن مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥.

(٢) الأعراف: ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٧

أفيمكن تفسير الآية ـ حينئذ ـ بغير ما اختاره جمهور المفسّرين من صيرورتهم قردة حقيقيّين، وأي عذاب بئيس أشدّ من صيرورة الإنسان بصورة القردة المطرودة !!

رابعاً: أنّ ما ردّ به نظرية الجمهور من أنّه لا يكون المسخ الصوري موعظة للعصاة، لأنّهم يعلمون ـ بالمشاهدة ـ أنّ الله لا يمسخ كلّ عاص إلى آخر كلامه، مردود بوجهين :

الأوّل: أنّه لو صح ذلك لوجب تأويل جميع ما ورد في القرآن الكريم من الإبادة والإهلاك بالخسف والإمطار بالحجارة، والغرق، والريح، وغير ذلك مما وقع بالأمم السالفة عقاباً وعبرة للآخرين، وذلك مثل قوله سبحانه:( وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيماً ) (١) ، ومثل قوله سبحانه في شأن فرعون:( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَىٰ *فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَىٰ *إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَىٰ ) (٢) .

إنّه سبحانه يصرح في الآية الأُولى والثانية بأنّه إنّما فعل ما فعل بقوم نوح وبفرعون ليكونوا عبرة للآخرين، وتذكاراً.

على أنّ الله سبحانه يذكر نظير ذلك في سورة هود، وذلك عندما يستعرض قصص من أرسل إليهم الأنبياء وأنّهم كذبوهم، فأصابهم الله بشتّى ألوان العذاب والإهلاك، وذلك مثل قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم فرعون، ثم يختم هذا الاستعراض المفصل بقوله تعالى:( وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ *إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ

__________________

(١) الفرقان: ٣٧.

(٢) النازعات: ٢٤ ـ ٢٦.

١٨

مَشْهُودٌ ) (١) .

إنّه تعالى يصرح بأنّ كل ما نزل بالأمم السابقة من العذاب والإهلاك إنّما ذكر ليكون عبرة، وآية للناس، وعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه بأنّه كيف يكون عبرة وآية للناس مع أنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ الله لا يؤدب الأمة المحمدية بما أدّب به الأمم السالفة ؟!

الثاني: أنّ كون هذه القضايا وسيلة للعبرة والاعتبار لا يستلزم أن تتحقّق تلك العقوبات بعينها في حق العصاة والطغاة في الأمم اللاحقة، بل يكفي ـ في ذلك ـ أن تدل على أنّ الله لهم بالمرصاد، فهو لا يترك الظالم بلا عقاب، ولا يفوته العصاة دون أخذ.

إنّ الأخذ والعقوبة يختلف حسب مشيئة الله وإرادته، ولا يلزم أن تكون العقوبة متحدة النوع مع العقوبات السابقة حتماً.

وهذه هي الحقيقة التي تؤكدها الآيات ( ١٠ ـ ١٤ ) من سورة الفجر إذ يقول سبحانه:( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ *الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ *فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (٢) .

النموذج الثالث

لقد قصّ الله سبحانه في سورة البقرة قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها إذ قال:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) إلى أن قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ *فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ

__________________

(١) هود: ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) الفجر: ١٠ ـ ١٤.

١٩

يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١) .

ومجمل القصة هو أنّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه، وأخفى قتله له، فرغب اليهود في معرفة قاتله فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعضها ليحيا، ويخبر عن قاتله.

ولقد بيّن الله لنا في هذه القصة لجاجة بني إسرائيل ورفضهم للطاعة، وانحرافهم عن منهج الله، ونتائج ذلك في نفوسهم ومجتمعاتهم حيث آل أمرهم في هذه الواقعة ـ إلى أن يضطروا إلى ذبح البقرة ـ وبعد ما ذبحوها أمرهم الله سبحانه أن يضربوه ببعضها ( أي يضربوا المقتول ببعض البقرة ) حتى يحيا ويخبر عن قاتله.

وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية، وهو صريح قوله سبحانه:( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ ) .

وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة، فهو بعد أن نقل رأي الجمهور قال: قالوا: إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة، وقال: قتلني أخي، أو ابن أخي فلان. قال: والآية ليست نصّاً في مجمله فكيف بتفصيله.

ثم فسّر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله، فالواجب أنّ تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي، ويقولون: إنّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء.

ثم قال: وهذا الإحياء على حد قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ ) (٢) .

__________________

(١) البقرة: ٦٧ ـ ٧٣.

(٢) البقرة: ١٧٩.

٢٠

ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس(١) .

وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله:( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة( كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ ) فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق، ضرب المقتول ببعض البقرة ؟! هذا أوّلاً.

وأمّا ثانياً: كيف استند الأستاذ ـ في تفسير الآية الحاضرة ـ بما ورد في التوراة، مع أنّ المشهود منه أنّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرف.

وليس هذا التفسير ـ في حقيقته ـ إلّا لأجل ما اتخذه الأستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات، وخوارق العادة، وغير ذلك مما يرجع إلى عالم الغيب.

النموذج الرابع

قال الله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) (٢) .

ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد، فأرسل عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٤٥ ـ ٣٥٠.

(٢) البقرة: ٢٤٣.

٢١

فراراً منه، فأماتهم الله جميعاً وأمات دوابهم ثم أحياهم، لمصالح وغايات أُشير إليها في الآية.

هذا هو ما ذهب إليه الجمهور، ولكن الأستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم، فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف، لهم كثرة وعزة حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا موت الخزي والجهل، والخزي موت، والعلم وإباء الضيم حياة، فهؤلاء ماتوا بالخزي وتمكن الأعداء، منهم، وبقوا أمواتاً ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة، والدفاع عن الحق فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم، واستقلّوا في أمرهم(١) .

ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ تفسير الأستاذ هذا نابع من موقفه المسبق حول خوارق العادة والكرامات والمعجزات وذلك :

أوّلاً: أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة « المثل » كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية، مثل قوله:( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ) (٢) . وقوله تعالى:( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) (٣) . وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (٤) .

فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية، تفسير بلا شاهد، وتأويل بلا دليل.

ثانياً: لو كان المراد من الموت هو موت الخزي والجهل، ومن الحياة روح النهضة والدفاع عن الحق، فحيث إنّ المفروض أنّهم قاموا بحقوق أنفسهم

__________________

(١) تفسير المنار: ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢) البقرة: ١٧.

(٣) يونس: ٢٤.

(٤) الجمعة: ٥.

٢٢

واستقلوا بأمرهم، وجب أن يمدحوا، ويذكروا بخير، مع أنّه سبحانه يقول في ذيل الآية ذاماً لهم:( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) .

والعجب أنّ الأستاذ ردَّ نظرية الجمهور بقوله سبحانه:( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلا المَوْتَةَ الأُولَىٰ ) (١) قائلاً بأنّه لا معنى لحياتين في هذه الدنيا(٢) .

والجواب: أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين، بل هي حياة واحدة، أيضاً، وإلاّ فماذا يقول في أصحاب الكهف الذين ضرب الله على أسماعهم ثلاثمائة سنة انقطعوا فيها عن هذه الحياة ثم رجعوا إليها، والسبات على طائفة بمدة ثلاثمائة سنة، لا تقصر عن الموت، بل هو والموت سواسية.

ولو قال بأنّ ظاهر الآية انّ الناس لا يذوقون إلّا موتة واحدة، وعلى هذا التفسير فهؤلاء ذاقوا الموت مرتين.

فجوابه: أنّ مشيئته سبحانه هو أن لا يذوق الانسان إلّا موتة واحدة، إلّا إذا كانت هناك مصالح توجب تعدد الموت، مثل قوله سبحانه:( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) .(٣) وقوله:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) (٤) . وليست الآية راجعة إلى يوم البعث، فإنّه يحشر فيه جميع الناس والأمم جمعاء لا فوج منهم.

النموذج الخامس :

قال الله سبحانه:( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ

__________________

(١) الدخان: ٥٦.

(٢) تفسير المنار: ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٣) غافر: ١١.

(٤) النمل: ٨٣.

٢٣

يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .

ذهب الجمهور إلى أنّ الرجل المذكور في الآية كان من الصلحاء عالماً بمقام ربّه، مراقباً لأمره، بل كان شخصاً مكلَّماً كما يحكي عنه قوله سبحانه:( ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ) فخرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته التي كان بها، والدليل على ذلك خروجه مع حمار يركبه وحمله طعاماً وشراباً يتغذى بهما، فلما صار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية التي ذكر الله أنّها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصداً نفس القرية، وإنّما مرّ بها مروراً ثم وقف معتبراً بما شاهده من القرية الخربة قائلاً كما يحكيه عنه سبحانه:( أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) مستعظماً ـ بذلك ـ الإحياء بعد طول المكث في القبور ورجوعهم إلى حياتهم الأولى، فأماته الله سبحانه ثم بعثه.

وقد كانت الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار، واستفسر عنه سبحانه بقوله:( كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فردّ الله سبحانه عليه بقوله:( بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) فرأى من نفسه أنّه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان في ذلك جواب ما استعظمه من إمكان الإحياء بعد طول المكث.

ولكن الأستاذ فسّر « الموت » في الآية بالسبات، وهو أن يفقد الموجود الحي، الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان، أياماً أو شهوراً، أو سنين، كما أنّه الظاهر من قصة أصحاب الكهف، ورقودهم ثلاثمائة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة فالقصة تشبه القصة(٢) .

__________________

(١) البقرة: ٢٥٩.

(٢) تفسير المنار: ٣ / ٤٩ ـ ٥٠.

٢٤

وأنت تعرف أنّ تفسير الموت ب‍ « السبات » ناشئ من موقف مسبق في هذا النوع من الموضوعات، مع كونه خلاف ظاهر( فَأَمَاتَهُ اللهُ ) وهو ظاهر في الموت الحقيقي المتعارف دون السبات الذي ابتدعه الأستاذ، وقياسه على أصحاب الكهف قياس مع الفارق، حيث إنّه سبحانه يصرح هناك بالسبات بقوله:( فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) (١) .

ثمّ إنّه ارتكب مثل هذا التأويل في قوله سبحانه:( وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ) ، فمن أراد الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره.

النموذج السادس :

وليس ما ذكر هو الخطأ الأخير الذي وقع فيه الأستاذ في تفسير سورة واحدة، وهي سورة البقرة، فقد ارتكب مثل هذا التأويل البارد أيضاً في تفسير قول الله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٢) .

فقد ذهب الجمهور إلى أنّ إبراهيم طلب من ربّه أنْ يطلعه على كيفية إحياء الموتى، فأمره الله تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعها أجزاء ويفرّقها على عدّة جبال هناك ثمّ يدعوها إليه فتجيئه، وأنّهعليه‌السلام قد فعل ذلك.

ولكن الأستاذ اتخذ رأياً خاصّاً نقل عن أبي مسلم أيضاً، وهو: أنّه ليس في الآية ما يدل على أنّ إبراهيمعليه‌السلام فعل ذلك، وما كل أمر يقصد به الامتثال، فإنّ

__________________

(١) الكهف: ١١.

(٢) البقرة: ٢٦٠.

٢٥

من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر لا سيما إذا أُريد زيادة البيان، كما إذا سألك سائل كيف يصنع الخبز ؟ مثلاً فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن خبزاً، تريد هذه كيفيته، ولا تعني تكليفه صنع الخبز بالفعل، وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر، والكلام ها هنا مثل لإحياء الموتى.

ثمّ إنّه جاء بتفسير عجيب للآية، إذ قال: معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك، وآنسها بك حتى تأنس، وتصير بحيث تجيب دعوتك، فإنّ الطيور من أشد الحيوانات استعداداً لذلك، ثمّ اجعل كل واحد منها على جبل ثمّ ادعها فانّها تسرع إليك، لا يمنعها تفرّق أمكنتها، وبعدها عن ذلك، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى، يدعوهم بكلمة التكوين « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة(١) .

ثمّ إنّ الأستاذ اختار هذا المعنى قائلاً: إنّ تفسير أبي مسلم هو المختار !!

نحن لا نرد على هذا النظر بما في إمكاننا، غير أنّا نكتفي في إبطال هذا التفسير بأنّه سبحانه قال في الآية:( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ) ولم يقل: واحداً منها، وعلى ما ذكره يجب أن يقول: واحداً.

فإذا كان هذا هو مسلك الأستاذ الذي كان يعيش في بيئة علمية دينية تؤمن بالسنن والصحاح والمسانيد، وموقفه من المعاجز والكرامات وخوارق العادة، فكيف يكون يا تُرى موقف الجدد من الكتّاب الذي تأثروا بالحضارة الغربية المادية والأفكار الإلحادية الواردة من الشرق والغرب فصاروا إلى تأويل هذه المعاجز والخوارق على هذا النمط، أسرع وأميل ؟!

__________________

(١) المنار: ٣ / ٥٤ ـ ٥٦.

٢٦

إنّ هذا الأمر هو الذي دفع بنا إلى أن نجعل البحث في هذا الكتاب حول المعاجز والكرامات الواردة للنبي الأكرم في القرآن، وأنْ نشبع الكلام فيه، وأنْ نقوم في وجه المعاندين الذين جعلوا بعض الآيات القرآنية ذريعة إلى نفي أن يكون لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله معاجز غير القرآن، آملين أن ينتفع به الجيل الحاضر كما انتفع بالأجزاء السابقة، ويقوى به إيمانه ليكون ممن يشمله قوله:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) والله المستعان.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

١٥ شعبان المعظم من شهور عام ١٤٠٥ ه‍

٢٧
٢٨

١

أجر الرسالة المحمدية

في القرآن الكريم

٢٩

في هذا الفصل :

١. توضيح المراد من « المودة في القربى » حسب معاجم اللغة العربية، وفهم السلف من الأمّة.

٢. التوفيق بين مفاد الآية المثبتة للأجر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المطلوب من الأمّة، والآيات النافية له بتاتاً.

٣. كيف يعود هذا الأجر إلى الناس أنفسهم دون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو صريح قوله سبحانه:( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) ؟

٤. هل المستثنى في الآية هو المستثنى في قوله سبحانه:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) ؟

٥. حال الأقوال الشاذة التي ربّما يذكرها المفسّرون حول الآية.

٦. نقل بعض ما رواه الفريقان من المأثورات حول الآية.

٣٠

شعار الأنبياء في طريق دعوتهم هو

( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ )

إنَّ أخلص الأعمال وأطهرها من شوائب المادية ما يكون الدافع إلى الإتيان بها وجه الله سبحانه وكسب مرضاته، وامتثال أمره، وإطاعة فرضه، ولو أردنا أن نأتي بمثال، أو نعرض نموذجاً، فعمل الأنبياء ودعوتهم إلى إصلاح المجتمع خير مثال ونموذج له.

وقد اتفقت كلمة الأنبياء في هتافاتهم على أنَّهم يبلغون رسالات الله تطوعاً وطلباً لمرضاة الله، ولا يسألون الناس أجراً ولا جزاء، حتى صار ذلك شعاراً لهم.

وقد ورد هذا المضمون في قولهم الذي حكاه الله عنهم في قرآنه الكريم، إذ قال :

( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَىٰ رَبِّ العَالَمِينَ ) (١) .

وقد أمر الله سبحانه نبيه الكريم أن يقول :

( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٢) .

وقد أصبح هذا الشعار يعرف به النبي عن غيره، ويميّز به المبعوث من جانبه سبحانه عن المبعوث من جانب نفسه ونفسانياته أو من جانب غيره.

__________________

(١) انظر سورة الشعراء: الآيات: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠.

(٢) الفرقان: ٥٧.

٣١

ويشهد على ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة داعياً الناس أن يتبعوا المرسلين، لأنهم مبعوثون من جانبه سبحانه بشهادة أنّهم لا يسألون أجراً في دعوتهم، قال سبحانه :

( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ *اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (١) .

ثمّ إنَّ رفضهم الأجر في تبليغ أوامره سبحانه كان لأجل أمرين :

١. أنّ ما قام به الأنبياء من الخدمة للناس أعلى وأنبل من أن يقوّم بالدراهم والدنانير، أو بالمناصب والمقامات الدنيوية، فأي شيء يساوي إنقاذ الناس من الخضوع للحجر والمدر، والأشكال والصور والخوض في قبائح الأعمال، ورذائلها مما يحطم السعادة الإنسانية ويجلب للبشر الشقاء والانحطاط ؟

أم ترى بماذا يقوّم إنقاذ الأمم مما كانت عليه قبل بعث الأنبياء من الفتك والقتل ووأد البنين والبنات، وشن الغارات، وقطع الرحم وأكل الميتة والجيف، وغير ذلك من الفظائع الشائعة في الأمم الجاهلة، والمتفشية في الأقوام المنحطة.

وتوقفك على قيمة أعمالهم، وخدماتهم التي قدموها إلى المجتمع الإنساني ملاحظة البيئات التي لم يبلغ إليها نور النبوة ودعوة الأنبياء، فهم على وحشيتهم الأولى، وجاهليتهم الجهلاء، فما صعدوا مرقاة الكمال درجة واحدة.

فإذا كان العمل هذه قيمته، وهذه نتيجته فلا يصح تقويمه بزخارف الدنيا، وملاذ الحياة، وخاصة إذا لاحظنا أنّ عمل الأنبياء في مجال الدعوة كان مقروناً بالتضحية، وبذل النفوس والأموال، وترك الأوطان، وتحمّل الشدائد والمصائب والدفاع عن الرسالة بأفلاذ أكبادهم، فهل يمكن أن تقدّر تلكم التضحيات الجسام بالدراهم والدنانير، أو بالمناصب والمقامات ؟!

__________________

(١) يس: ٢٠ ـ ٢١.

٣٢

٢. انّ الدافع إلى قيامهم ودعوتهم كان هو امتثال أمره سبحانه وتعالى، وما كان كذلك فالله سبحانه أولى بأن يرجى منه الأجر والجزاء لا غيره، فهؤلاء الرسل كانوا يقومون بأفضل خدمة للبشرية امتثالاً لأمره سبحانه، وتنفيذاً لإرادته من غير أن يتوقعوا من سواه أجراً ولا جزاءً.

ولأجل ذلك نجد شيخ الأنبياء نوحاً يهتف في قومه بقوله :

( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ) (١) .

وبقوله :

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) .(٢)

ونجد هوداً يهتف في قومه بقوله :

( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٣) .

وهذا نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمره سبحانه بالإجهار بذلك الهتاف ـ عدم سؤاله أجراً ـ بجمل وتعابير مختلفة نأتي بالجميع :

أ.( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ *إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (٤) .

__________________

(١) يونس: ٧٢.

(٢) هود: ٢٩.

(٣) هود: ٥١.

(٤) ص: ٨٦ ـ ٨٧.

٣٣

ب.( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

ج.( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِن مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) (٢) .

ويعود سبحانه ينبّه نبيّه بأنّه قد أعد له أجراً عارياً عن المنّة ويقول :

( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) (٣) .

فأجره سبحانه عار وخال عن كل منّة بخلاف الأجر المتوقع من الناس، فإنّه مقرون بها.

هذا حال الآيات الواردة في أجر الرسالة، وهي بكلمة واحدة تنفي الأجر الموضوع على عاتق الناس.

والمراد من الأجر المرفوض هو الأجر الدنيوي الذي يتنافس فيه الناس ويتخاصمون في تحصيله من المال والثروة والمناصب والمقامات.

ويدل على ذلك وضع المال مكان الأجر في كلام نوح، حيث قال :

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ ) (٤) .

فالأجر المنفي والمرفوض بتاتاً هو ذلك الأجر الدنيوي بلا إشكال.

نعم يظهر من سورة الشورى أنّه سبحانه استثنى من الأجر المنفي أجراً واحداً وهو المودة في القربى حيث يقول:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) (٥) .

كما أنّه سبحانه استثنى في سورة الفرقان من الأجر المرفوض أمراً ربّما يتوهم

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

(٢) الطور: ٤٠، والقلم: ٤٦.

(٣) القلم: ٣.

(٤) هود: ٢٩.

(٥) الشورى: ٢٣.

٣٤

تغايره مع ما سأله في سورة الشورى قال سبحانه :

( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) .

ثمّ إنّه سبحانه قد أخبر في آية ثالثة بأنّ الأجر الوارد في هاتين الآيتين يرجع بالنتيجة إلى الناس أنفسهم لا إلى النبي نفسه، كما قال سبحانه :

( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٢) .

ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة ورفع الستار عن وجه الحقيقة في هذا المجال يقع البحث في مقامات هي :

الأوّل: ما المراد من المودّة في القربى التي جعلها الله سبحانه في ظاهر الآية أجراً للرسالة ؟

الثاني: كيف يمكن التأليف والتوفيق بين هذه الآية والآيات النافية للأجر بتاتاً ؟

الثالث: كيف يعود نفع هذا الأجر إلى الناس أنفسهم دون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

الرابع: هل المستثنى في قوله:( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) هو المستثنى في قوله:( إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) أو غيره ؟

الخامس: حال الوجوه التي ذكرها المفسّرون في تفسير( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) .

السادس: سرد الروايات والمأثورات التي رواها الفريقان في تفسير الآية.

وإليك البحث في المقام الأوّل :

__________________

(١) الفرقان: ٥٧.

(٢) سبأ: ٤٧.

٣٥

المقام الأوّل

ما هو المراد من( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ؟

قبل كل شيء نلفت نظر القارئ إلى أمرين :

الأوّل: أنّه لا مجال للشك في أنّ هذه الآية كانت واضحة المفهوم، بيّنة المراد عند نزولها، ولم تكن تشير إلّا إلى معنى واحد.

الثاني: أنّه لا شك في أنّ السلف هم أفضل من يمكن الرجوع إليهم في تفسير مفاد الآية لقرب عهدهم بعصر الرسالة.

وعلى هذين الأمرين نبدأ بتفسير الآية، ولنقدم عرض مفرداتها على معاجم اللغة، وفي محاولتنا لعرضها على اللغة لا تمس الحاجة إلى البحث إلّا عن كلمتين وهما:( المَوَدَّةَ ) و( القُرْبَىٰ ) .

أمّا كلمة « المودَّة »: فقد اتفقت كتب اللغة والقواميس على أنّها لا تعني إلّا شيئاً واحداً، وهو: المحبة، فإذا قيل فلان يودّ فلاناً معناه: أنّ فلاناً يحب فلاناً.

يقول ابن فارس في مادة ود: « الود » أي الحب، وددته أي أحببته.

ثم قد تأتي كلمة الود بمعنى الحب مع التمني، كما لو قيل وددت أنّ ذلك كان: إذا تمنيته.

ويقول الفيروزآبادي في قاموسه في باب ود: « الود » و « الوداد » تعني « الحب ».

٣٦

هذا ولم يذكر صاحب القاموس أنّ الود قد يستعمل في الحب مع التمني.

وأمّا كلمة « القربى »: فكتب اللغة ومعاجمها متفقة على أنّها تعني القرابة والوشيجة الرحمية لا غير.

يقول ابن فارس في مادة « قرب »: القربى القرابة، وفلان قريبي وذو قرابتي.

ويقول الفيروزآبادي في مادة « قربى »: والقربى، القرابة وهو قريبي وذو قرابتي.

ويقول الزمخشري في الكشاف: « القربى » مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة، والمراد أهل القربى(١) .

وفي المنجد: « القربى » و « القربة » ـ بضم الراء ـ والقرابة، القرابة في الرحم.

فاتضح من هذه النصوص أنّ المراد من القربى هو الرابطة النسبيّة بين شخصين ليس غير.

ويؤيد ذلك أنّ المتبادر من هذه الكلمة في الموارد التي استعملها القرآن ليس إلّا ذلك المعنى الواحد الذي تصافقت عليه كتب اللغة، ولم تعرف له بديلاً.

وإذا استعملت هذه الكلمة في غير ذلك المعنى أحياناً فلابد من اعتباره معنى شاذاً بعيداً عن الأفهام العرفية، ولا يصح لنا الأخذ به مطلقاً.

نعم انّ كلمة « القربى » استعملت في القرآن بضميمة مضاف في مواضع، وبدونها في مواضع أُخرى، وقد وردت كلمة القربى في القرآن (١٥) مرة،(٢) ما عدا الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وإليك بعض الآيات التي وردت فيها كلمة « القربى » وهي تقصد القرابة الرحمية ليس غير :

__________________

(١) الكشاف: ٣ / ٨١.

(٢) لاحظ: سورة البقرة الآية: ٨٣ و ١٧٧، النساء: ٨ و ٣٦، المائدة: ١٠٦، الأنعام: ١٥٢، الأنفال: ٤١، التوبة: ١١٣، النحل: ٩٠، الإسراء: ٢٦، النور: ٢٢، الروم: ٣٨، فاطر: ١٨، الحشر: ٧. وقد تكرّرت الكلمة في الآية ٣٦ من سورة النساء مرتين.

٣٧

( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَىٰ وَاليَتَامَىٰ ) (١) .

( وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَىٰ وَاليَتَامَىٰ ) (٢) .

( وَاليَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ) .(٣)

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ ) (٤) .

ماذا فهم الأوائل من( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ؟

قد تبين ممّا أوردناه من كلمات اللغويين مفاد مفردات الآية، ويجب الآن أن نبيّن ما هو المقصود من هذا التركيب.

فنقول: إنّ جمهور العلماء والأدباء والمفسرين بمختلف طبقاتهم وفنونهم لم يفهموا من هذه الآية سوى لزوم ولاء أقرباء النبي وعترته. نعم في مقابل هذا المعنى محتملات أُخر يذكرها بعض المفسرين، ولكنها ليست إلّا أقوالاً شاذة لا يعبأ بها، وسيوافيك بعض هذه المعاني الشاذة في الفصل الخامس من هذا البحث فنقول :

أمّا المحدّثون: فقد نقل الفريقان من السنّة والشيعة عشرات الأحاديث الدالة على أنّ الآية نزلت في لزوم ولاء أهل البيت، ومودَّة أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسوف يوافيك بعض نصوصهم في محله، وأمّا من هم أهل بيته وأقرباؤه ؟ فسيوافيك البحث عنهم في المستقبل.

__________________

(١) البقرة: ٨٣.

(٢) البقرة: ١٧٧.

(٣) النساء: ٣٦.

(٤) التوبة: ١١٣.

٣٨

وأمّا غيرهم فقد فهم الأدباء من الآية نفس ما أقرّته اللغة ورجالها، وبما أنّهم من العرب الأقحاح، وبحكم إحاطتهم باللغة العربية يكون فهمهم حجة في تفسير الآية.

ولأجل هذا نورد في ما يلي نماذج من الشعر الذي يؤكد على أنّ المودة في القربى إنّما تعني المحبة لأهل البيت النبوي، ونذكر من الكثير، القليل.

١. لقد صاغ الإمام الشافعي ما فهمه من هذه الآية في البيتين التاليين وأثبت بذلك حبّه لأهل البيت وولاءه لأقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(١)

٢. وقد سبق الإمام الشافعي سفيان بن مصعب العبدي الكوفي، وهو من تلاميذ الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام فصاغ ما فهمه في إحدى قصائده ولعظمة شأنه وأهمية ما قاله من الشعر في هذا المضمار أوصى الإمام الصادق شيعته بتحفيظ شعره لأبنائهم(٢) وهو يقول :

آل النبيّ محمد

أهل الفضائل والمناقب

المرشدون من العمى

والمنقذون من اللوازب

الصادقون الناطقون

السابقون إلى الرغائب

فولاهمُ فرض من الر

حمن في القرآن واجب(٣)

__________________

(١) لاحظ شرح المواهب للزرقاني: ٧ / ٨، والصواعق لابن حجر: ٨٧، والاتحاف للشبراوي: ٢٩، وإسعاف الراغبين للصبان: ١١٩، ومشارق الأنوار للحمزاوي المالكي. راجع الغدير: ١ / ١٥٢.

(٢) روى الكشي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبدي، فإنّه على دين الله ». رجال الكشي: ٣٤٣.

(٣) لاحظ الغدير: ٢ / ٢٧٥، ط النجف.

٣٩

٣. وممّن صاغ مفاد الآية في قالب شعره هو الشيخ شمس الدين ابن العربي على ما نقل ابن حجر عنه في صواعقه ص ١٠١، ففي البيتين التاليين يكشف ابن العربي بصراحة عن أنّ المقصود من المودة في القربى ليس سوى محبة عترة الرسول حيث يقول :

رأيت ولائي آل طه فريضة

على رغم أهل البعد يورثني القربى

فما طلب المبعوث أجراً على الهدى

بتبليغه إلّا( المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ )

٤. نجد ابن الصباغ المالكي ينسب في كتابه « الفصول المهمة ص ١٣ » البيتين التاليين إلى شاعر :

هم العروة الوثقى لمعتصم بها

مناقبهم جاءت بوحي وإنزال

مناقب في شورى وسورة هل أتى

وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي

ومن الواضح أنّ الشاعر يقصد بقوله « مناقب في شورى » مفاد الآية التي نبحث عنها( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) .

وكما يذكر أيضاً لقائل آخر قوله :

هم القوم من أصفاهم الود مخلصاً

يمسك في أخراه بالسبب الأقوى

هم القوم فاقوا العالمين مناقبا

محاسنها تجلى وآياتها تروى

موالاتهم فرض وحبهم هدى

وطاعتهم ود وودهم التقوى

٥. وينسب الشبلنجي في « نور الأبصار ص ١٣ » الآبيات التالية لأبي الحسن ابن جبير :

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407