مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581
المشاهدات: 221702
تحميل: 3610


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 221702 / تحميل: 3610
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-223-4
العربية

رسول الله وكلّمه. قال له رسول الله مثل ما قاله لرجال خزاعة، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.

٣ ـ الحليس رسول ثالث لقريش

ثمّ بعثت قريش رسولاً ثالثاً، وهو الحليس، وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: إنّ هذا من قوم يتألّهون(١) ، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه، فلما رأى الهدي، وقد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إعظاماً لما رآى، فقال لهم ذلك. فقالوا له: إجلس فإنّما أنت أعرابي لا علم لك.

فقال الحليس مغضباً: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظّماً له ؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لاُنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: مه، كف عنّا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

٤ ـ عروة بن مسعود رسول قريش

وفي المرة الرابعة بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي، فخرج حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجلس بين يديه ثمّ قال: يا محمد، أجمعت أوباش الناس، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم، إنّها قريش قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً.

وكلّمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو ممّا كلّم به الآخرين، وأخبره أنّه لم يأت يريد حرباً. فقام من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) يتعبّدون ويعظّمون أمر الإله.

٤٠١

وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضّأ إلّا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إنّي قد رأيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنّي والله ما رأيت ملكاً في قومه قطّ مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلّمونه بشيء أبداً، فَرَوْا رَأيَكُمْ.

٥ ـ رسول النبي إلى قريش

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا خراش بن اُميّة الخزاعي، فبعثه إلى قريش، وحمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأرادوا قتله، فمنعتهم الأحابيش، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ قريشاً بعثوا أربعين أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فبينماهم بهذا الصدد، اُخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعفى عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجارة والنبل.

٦ ـ عثمان رسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قريش

إنّ النبي دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش حتّى يبلّغ عنه أشرافها ما جاء له، فامتنع من قبوله خوفاً على نفسه، واقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عثمان بن عفّان، وهو رجل أعزّ بين قريش. فبعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي سفيان، وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظّماً لحرمته، فانطلق عثمان حتّى أتاهم، فبلّغهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أرسله به. فقالوا لعثمان حين فرغ من الرسالة: إن

٤٠٢

شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين أنّ عثمان قد قتل.

بيعة الرضوان

لـمـّا بلغه خبر قتل عثمان، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبرح حتّى نناجز القوم، فدعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولقد اختلفوا فمن قائل: بأنّهم بايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الموت، وآخر: على أن لا يفرّوا.

سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقالوا له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنّا عامه هذا، فوالله لا تحدّث العرب عنّا أنّه دخلها ( مكة ) علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقبلاً، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلمّا انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تكلّم، فأطال الكلام، وتراجع ثمّ جرى بينهما الصلح.

عمر ينكر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصلح

فلمّا التأم الأمر، ولم يبق إلّا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله ؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فلمّا بلغ

٤٠٣

كلامه رسول الله قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا عبد الله ورسوله لن اُخالف أمره، ولن يضيّعني ! قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدّق وأصوم واُصلّي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به حتّى رجوت أن يكون خيراً.

بنود الصلح

دعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب (رض) فقال: اُكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اُكتب « باسمك اللّهمّ ». فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُكتب « باسمك اللّهمّ »، فكتبها.

ثمّ قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.

فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم اُقاتلك، ولكن اُكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ: أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.

فقال عليٌّ: ما أمحُو اسمك من النبوّة أبداً. فمحاه رسول الله بيده.

ثمّ كتب عليٌّ بنود الصلح، وتمّ الإتفاق على اُمور:

١ ـ وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض.

٢ ـ من أتى محمداً من قريش ولجأ إليه بغير إذن ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن كان مع محمد لم يردّوه عليه.

٣ ـ تخيير الناس كافة، فمن أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

٤ ـ أن يكون الإسلام ظاهراً في مكّه، لا يكره أحد على دينه، ولا يؤذىٰ ولا يعيّر.

٤٠٤

٥ ـ إنّ محمداً وأصحابه يرجع عنهم عامه هذا، ثمّ يدخل عليهم في العام القابل مكّة، فيقيم فيها ثلاثة أيام، ولا يدخل عليهم بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القرب.

التاريخ يعيد نفسه:

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليٍّعليه‌السلام ـ بعد ما كتب الكتاب وشهد عليه المهاجرون والأنصار ـ: « يا عليُّ إنّك أبيت أن تمحو النبوّة من اسمي، فو الذي بعثني بالحق نبيّاً، لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها، وأنت مضيض مضطهد » فلمّا كان يوم صفين، ورضوا بالحكمين كُتِبَ: « هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان » فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك، ولكن أكتب هذا ما اصطلح عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « صدق الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك » ثمّ كتب الكتاب(١) .

قال ابن الأثير في وقعة صفين:

حضر عمرو بن العاص عند عليٍّ ليكتب الكتاب، فكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو: اُكتب اسمه واسم أبيه هو أميركم، وأمّا أميرنا فلا، فقال الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين، فإنّي أخاف إنْ محوتها أنْ لا ترجع إليك أبداً لا تمحها وإنْ قتل الناس بعضهم بعضاً، فأبى ذلك عليٌّ مليّاً من النهار.

ثمّ إنّ الأشعث قال: امح هذا الإسم، فمحاه. فقال عليٌّ: الله أكبر سنّة بسنّة، والله إنّي لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة، فكتبت رسول الله، فقالوا: لست

__________________

(١) تفسير القمي: ج ٢ ص ٣١٣ و ٣١٤.

٤٠٥

برسول الله، ولكن اُكتب اسمَك واسم أبيك، فأمرني رسول الله بمحوه. فقلت: لا أستطيع.

فقال: أرنيه، فأريته، فمحاه بيده، وقال: إنّك ستدعىٰ إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون.

فقال عليٌّ: يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً، وللمؤمنين عدوّاً ؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال عليٌّ: إنّي لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك، ومن أشباهك. فكتب هذا ما تقاظى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان(١) .

* * *

فبينما رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، جاء « أبو جندل » ابن سهيل بن عمرو، يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا رأوْا مارأوْا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في نفسه، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتّى كادوا يهلكون، فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال: يا محمد قد لجّت القضية بينى وببينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه، ويجرّه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أاُرد إلى المشركين، يفتنوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج ٣ ص ١٦٢.

٤٠٦

ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم(١) .

فلمّا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين، ورجالاً من المشركين وهم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمان بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو يومئد مشرك، وعليّ بن أبي طالب وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.

نحر الرسول وحلقه:

فلمّا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصلح قدم إلى هَدْيِه فنحره، ثمّ جلس فحلق رأسه، فلمّا رأى الناس أنّ رسول الله قد نحر وحلق، تواثبوا ينحرون ويحلقون، غير أنّ بعض الصحابة، تخلّف عن الحلق والتقصير، ولأجل الإيعاز إلى أنّ عملهم إنّما هو بمثابة تجاسر على مقام النبوّة، قال رسول الله: رحم الله المحلقين. مومياً بذلك على نحو الازدراء بالمتخلفين.

ثمّ إنّ رسول الله رجع إلى المدينة فقال الناس: ألم تقل أنّك تدخل مكّة آمناً ؟ قال: بلى، أفقلت من عامي هذا ؟ قالوا: لا. قال: فهو كما قال لي جبرئيلعليه‌السلام (٢) .

دروس وعبر:

١ ـ كانت سفرة النبي سفرة سياسيّة هادفة تطمح بالدرجة الاُولى إلى قلب الرأي العام المتأجج ناراً ضد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واتباعه، ودعوته في نفوس مشركي قريش، ومن ناحية اُخرى كانت تهدف لإزاحة الستار الذي وضعه رؤوس

__________________

(١) وسنوافيك الخاتمة التي آل إليها أمر أبي جندل في آخر الفصل فترقب.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

٤٠٧

المشركين على بصائر الناس، والذي صوّر النبي، وأتباعه مَردَة على شريعة إبراهيم الحنيفّية، وأعداء القبلة التي بناها للعبادة.

٢ ـ إنّ النبي أثبت في عقد الصلح مع قريش براعته السياسيّة، وحنكته القياديّة الفذّة، حيث أظهر مرونةً لا نظير لها، حتّى أنّه قبل أن يكتب « باسمك اللّهمّ » مكان « بسم الله الرحمن الرحيم »، وأن يحذف مقام الرسالة والنبوّة عن اسمه، وذلك يُنبئ عن أنّه كان مهتمّاً على حفظ الدماء والأنفس، وإقرار مبادئ الصلح والسلام على ربوع المنطقة، وإشاعة الأمن في السبل والقفار، حتّى يتمكّن في ظل تلك الاُمور من بثّ الدعوة الإسلامية، فإنّه في ظل تحكيم مبادئ السّلام يكون أكثر قدرة وفاعلية لنشر المبادئ السامية.

٣ ـ إعطاء صورة بديعة رائعة لمبدأ الحرية في الإسلام للبرهنة على أنّه لم يقم على أساس الجبر والإلزام، بشهادة أنّه قبل بالبند الذي ينص على أنّ من فرّ من المسلمين إلى جانب مكّة، وارتدّ عن الإسلام أن لا يستردّه.

٤ ـ إنّ المستقبل أثبت أنّ المرونة التي أظهرها في القبول بأحد البنود الناصّة على لزوم ردّ من فرّ من مكّة إلى المدينة، ولو اعتنق الإسلام كانت صائبة، وإن أثارت حفائظ بعض الصحابة، ودفعهم إلى القول بأنّه من قبيل تقبّل الدنيّة في طريق الدين(١) ، ولكن المستقبل أثبت خلاف ما خطر في أذهانهم من تصوّرات، وإليك نص ما صرّح به أهل السير والتاريخ في ذلك:

« لـمّا قدم رسول الله المدينة فرّ أبو بصير من مكّة إلى المدينة. فقال رسول الله: يا أبا بصير، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك. قال: يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ قال: يا أبا بصير انطلق، فإنّ الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.

__________________

(١) تعرفت على قائله.

٤٠٨

وقد بعثت قريش أزهر بن عبد عوف، والأخنس إلى رسول الله، وبعث رجلاً من بني عامر، ومعه مولى لهم ليردّا أبا بصير إلى مكّة.

فانطلق أبو بصير معهما حتّى إذا كان بذي الحليفة(١) جلس إلى جدار، وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه ؟ قال: أنظر إن شئت. قال: فاستلّه أبو بصير ثمّ علاه به حتّى قتله، وخرج المولى سريعاً حتّى أتى رسول الله قال: ويحك ما لك ؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، فو الله ما برح حتّى طلع أبو بصير متوشّحاً بالسيف، حتّى وقف على رسول الله. فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيّ، أو يُعبث بي، ثمّ خرج أبو بصير حتّى نزل العيس على ساحل البحر بطريق قريش، التي كانوا يسلكونها إلى الشام، فبلغ المسلمين الذين كانوا أحتبسوا بمكّة عمل أبي بصير وموقفه، فخرجوا إلى أبي بصير، فاجتمعوا إليه منهم قريب من سبعين رجلاً، وكانوا قد ضيّقوا على قريش لا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا أقتطعوها، حتّى كتبت قريش إلى رسول الله تسأل بأرحامها إلّا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله، فقدموا على المدينة، فاُلغي ذلك البند.

٥ ـ كشف مخالفة بعض الصحابة أمر الرسول في الحلق والتقصير، عن أنّ اُناساً منهم كانوا يتوانون عن امتثال أمر النبي ويقدّمون آراءهم على التشريع الإلهي الذي كان ينطق به النبي الأكرم.

٦ ـ إنّ عقد الصلح بين النبي وقريش، أتاح لهم فرصة ثمينة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية، وإرسال الرسل إلى الملوك، والسلاطين في أطراف العالم، كدولة الروم والفرس وغيرهما من رؤساء القبائل والبلدان، حتّى بلغت رسائلهم التبليغيّة إلى تسع وعشرين رسالة أثبتها التاريخ.

__________________

(١) ذو الحليفة قرية، بينها وبين المدينة أميال قليلة، ومنها ميقات أهل المدينة وفيها مسجد الشجرة.

٤٠٩

٧ ـ لـمّا عقد الرسول الصلح، اطمأنّ من جانب المشركين في الجهة الجنوبيّة، وبذلك تمكّن من التفرّغ للجبهة الشماليّة، فأمر بمحاصرة خيبر، فاجتث اليهود القاطنين فيها عن بكرة أبيهم.

كل تلك الثمرات التي اجتناها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت نتيجة عقد الصلح مع المشركين، وقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك بقوله:

« ما كان قضية أعظم بركة منها ».

هذه بعض الدروس والعبر التي نستفيدها من سيرة النبي الأكرم، وإليك نص ما يتحفنا به كتاب الله عزّ وجل بشأن تلك الحادثة التاريخيّة المهمّة حيث صرّح بما نصّه في سورة الفتح(١) ولأجل سهولة التفسير نأتي بالآيات نجوما.

وقعة الحديبيّة في الذكر الحكيم

( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا *وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا *وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا *سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلاً *قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ

__________________

(١) أكثر المفسّرين على أنّ سورة الفتح نزلت حين منصرفه من الحديبية، ونحن نفسّر ما يمت بهذه الوقعة على وجه الصراحة، ولأجل ذلك شرعنا بالتفسير من الآية ١١ فلاحظ.

٤١٠

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / ١١ ـ ١٧ ).

نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبيّة في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، لـمّا صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، وحالوا بينه وبين قضاء عمرته، ثمّ مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثمّ يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على كراهة جماعة من الصحابة، فلمّا نحر هَدْيه حيث أحصر ورجع، أنزل الله تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل هذا الصلح فتحاً لما فيه من المصلحة، كما سيجي التصريح في قوله سبحانه:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) .

وقد تخلّف عن هذه الغزوة المنافقون، ولـمـّا عاد المسلمون إلى المدينة، أخذوا يعتذرون وإليك تحليل معذرتهم.

إعتذار المنافقين عن عدم الحضور

إنّ هذه الآيات تتعرّض لحال الأعراب الذين قعدوا عن المشاركة ولم ينفروا إذ استنفرهم الرسول، وهم أعراب نواحي المدينة، وما قعدوا عن المشاركة إلّا لأنّهم كان يخالون أنّ محمداً وأصحابه لا يرجعون أدراجهم في هذه السفرة، لأنّهم يذهبون لغزو قريش الذين قتلوا المسلمين قتلاً ذريعاً، ونكّلوا بهم في عقر دارهم « غزوة اُحد » ولـمـّا رجع رسول الله وأصحابه سالمين، أخذوا باختلاق المعاذير بقولهم:

( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إنّه سبحانه يردّ عليهم، بأنّ الضر والنفع بيد الله سبحانه، حيث ظنّوا أنّ التخلّف عن النبي يدفع عنهم الضر أو يعجّل لهم النفع، والسلامة في الأنفس والأموال، فقال سبحانه:( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) .

٤١١

ثمّ إنّه سبحانه صرّح بالسبب الواقعي لتخلّفهم فقال:( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ) ولأجل أنّهم قوم غير مؤمنين، فسوف يعذّبون في السعير لقاء ما يرتكبونه في دنياهم، فقال سبحانه( وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا *وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

إنّ النبي لـمّا عقد الصلح مع قريش، وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة في المستقبل ( غنائم خيبر ) ولـمـّا وصل خبر ذلك إلى المنافقين، طلبوا من المؤمنين المشاركة لهم في هذه السفرة كما ينص عليه قوله سبحانه:( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) .

والباعث لهم إلى الإصرار من المشاركة، هو أنّ النبي الأكرم عندما وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة أخبر بعدم مشاركة غيرهم فيها، فهؤلاء حاولوا بإصرارهم إبطال كلام الله ونبيّه كما يقول سبحانه:( يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ ) .

ثم إنّهم لـمّا سمعوا ذلك الجواب اتّهموا المؤمنين بأنهم يحسدونهم كما يحكي ذلك قوله سبحانه:( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) ولكنّ الحق أنّ اتّهام المؤمنين والنبي بهذه التهمة كلام من لا يعي ما يقول، والرسول أجلّ من أن يستشعر حسداً تجاه أحد، كما يقول سبحانه:( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه وإن حرمهم من غنائم خيبر ولكنّه لسعة رحمته، وعَدَهُم بأنّ المسلمين سيواجهون قوماً اُولي بأس شديد، فإن شارك القاعدون منهم، فإنّه سيكون لهم ما للمسلمين كما يقول:

( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( أى يقرّون بالإسلام )فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) .

٤١٢

وهذا أيضاً من عظيم فضل الله سبحانه وجزيل كرمه، فما صدّ عليهم باباً حتّى فتح لهم باباً لأخذ الغنائم وكسب رضاه سبحانه.

وهو أنّهم لو رجعوا عن تخلّفهم، فإنه سبحانه سيغفر لهم.

وهذه الآيات تشتمل على تنبّؤات غيبيّة نشير إليها:

١ ـسَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ

٢ ـيُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ

٣ ـقُل لَّن تَتَّبِعُونَا

٤ ـفَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا

٥ ـسَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ

وستجي تنبّوآت غيبيّة اُخرى نشير إليها في محلها.

بيعة الرضوان

إنّه سبحانه يشير إلى حادثة بيعة الرضوان التي عرفت تفصيلها في أثناء ذكر قصة صلح الحديبيّة ويقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / ١٠ ).

ويقول سبحانه:( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ١٨ ).

نعم رضىٰ الله عن المؤمنين عند المبايعة، ولكن الرضىٰ إنّما ينتج ويثمر إذا لم يحيدوا عن نهج الصراط السوي، فثواب كل ما يقوم به المسلم من أعمال حسنة

٤١٣

مشروط بحسن العاقبة، فلو ارتدّ أو اقترف ما يوجب سخط الله عزّ وجل فلا ينفعه عمله.

الوعد بفتحين

إنّه سبحانه وعد المؤمنين بفتحين: فتح قريب، وفتح مبين.

أمّا الأوّل: فهو ما ذكره في الآية المتقدّمة أعني قوله:( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ١٨ ). وقال:( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ٢٧ ).

وأمّا الثاني: فقد أشار إليه في صدر الآية بقوله:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) .

والظاهر أنّ المراد من الأوّل هو فتح خيبر لأنّه كان أقرب الفتوحات بعد الحديبيّة.

وأمّا الثاني فالمراد منه هو فتح مكّة، والظاهر من سياق الآيات، وكلمات المفسّرين أنّ ما يرجع إلى الفتح القريب من الآيات نزل بعد صلح الحديبيّة.

الوعد بمغانم ثلاث:

إنّه سبحانه قد وعد المؤمنين بمغانم ثلاث وإليك الآيات الواردة في هذا الشأن:

١ ـ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( الفتح / ١٩ ).

( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) .

٢ ـ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ( الفتح / ٢٠ ).

٣ ـ( وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / ٢١ ).

٤١٤

أمّا المغانم الاُولى: فالمراد منها فتح خيبر بقرينة إتّصاله بقوله:( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

وأمّا قوله:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) فأيضاً انّه تأكيد لما تقدّم أعني قوله سبحانه:( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ) وإنّما ذكره مقدّمة لقوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) .

وأمّا الثانية: أعني ما أشار إليه بقوله سبحانه:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) ، فالمراد منه نفس صلح الحديبيّة، فعدّها سبحانه غنيمة للمسلمين لما ترتّب عليه من الفوائد.

وهذا ظاهر على القول بأنّ الآية نزلت في أثناء عودة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبيّة إلى المدينة، والمسلمون وإن لم يستولوا فيها على غنائم مادّية، لكنّ اكتسبوا غنائم معنويّة أشرنا إليها ولأجله جعل صلح الحديبيّة في عداد الغنائم.

وأمّا قوله:( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) فالمراد الجماعة التي بعثوا ليطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لقريش من أصحابه أحداً، فاُخذوا فاُوتي بهم رسول الله، فعفىٰ عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانو رموا في عسكر رسول الله الحجارة والنبل(١) .

وأمّا الثالثة: فهي ما أشار إليه بقوله:( وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / ٢١ ).

فالظاهر أنّ:( اُخْرَى ) صفة لموصوف محذوف وهو( مَغَانِمَ ) والجملة منصوبة على المحل لكونها مفعولة للفعل المتقدّم ( وعدكم الله )، والتقدير « وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ اُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا بَعْدُ وَلَكِن الله اَحَاطَ بِهَا » فما هو المراد من هذه الغنائم، فلعلّ المراد غنائم قبيلة هوازن، أو كل الغنائم التي يغنمها المسلمون طيلة جهاد هم في حياة النبي أو بعدها.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣١٤، وستجيء الإشارة إليه في الآية ٢٤ أعني قوله:( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) .

٤١٥

نبوءة غيبيّة:

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً *وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / ٢٢ ـ ٢٤ ).

إنّ سورة الفتح اشتملت على أنباء غيبيّة مضى ذكر أكثرها، والآية الاُولى تتضمن الإشارة إلى واقعة غيبيّة، فالله سبحانه يبشّر عباده المؤمنين بأنّه لو ناجزهم المشركون لولّوا فراراً مهزومين على أعقابهم لا يجدون وليّاً يأخذ بأيديهم، ويذود عنهم.

ثمّ الآية الثانية تشير إلى سنّة الله سبحانه في حق أنبيائه وأوليائه، وهي أنّ نصرتهم هي سنّة الله تبارك وتعالى في أنبيائه والمؤمنين بهم إذا صدقوا وأخلصوا نيّاتهم، فيظهرهم على أعدائهم، قال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) ( المجادلة / ٢١ ).

ولأجل أنّ سنّة الله سبحانه تقتضي اظهار الأنبياء بمظهر القوّة والغلبة، فقد كفّ أيدي المشركين عن المؤمنين في معسكر الحديبيّة قبل انعقاد الصلح، كما كفّ أيدي المؤمنين عنهم بعد أن أظفرهم بهم، ولعلّ الآية الثالثة تتضمّن الإشارة إلى أنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فاُخذوا أخذاً، فأتي بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجارة والنبل »(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣١٤، مضت هذه الرواية في تفسير الآية:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) والفرق بين الآيتين، انّه يذكر هناك كف أيدي الكفار عن المؤمنين، وفي المقام يذكر كف كلاً من الطائفتين عن الاُخرى.

٤١٦

الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين:

( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الفتح / ٢٥ ـ ٢٦ ).

الآية الاُولى تشير إلى أمرين:

١ ـ شدّة قساوة قلوب الكافرين على المؤمنين، حيث منعوا النبي وأصحابه من المؤمنين عن الدخول إلى المسجد الحرام، والطواف بالبيت، ومنع الهَدْيَ أن يبلغ محلّه، وقد عرفت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ساق بدنه وكذا المؤمنون حتى بلغ هديهم سبعين بدناً، ولـمـّا بلغوا « ذا الحليفة »، قلّدوا البدنة التي ساقوها واشعروها، وأحرموا بالعمرة حتى نزلوا بالحديبية، ومنعهم المشركون، فلمّا تمّ الصلح نحروا البدن فيها، مكان نحره في مكّة لأنّ هَدْيَ العمرة لا يذبح إلّا بمكة كما أنّ هَدْيَ الحج لا يذبح إلّا بمنى، وإلى هذا المعنى أشار قوله سبحانه بقوله:( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) .

والمراد من قوله( مَعْكُوفًا ) كونه محبوساً من أن يبلغ مَنحره بالقرب من مكّة.

٢ ـ الإشارة إلى أحد أسباب الصلح مضافاً إلى ما عرفت، وهو أنّه كان بين الكفّار رجال مؤمنون ونساء مؤمنات كانوا يخفون أمرهم، وما كان جيش المؤمنين يعرفونهم، فلو اشتبكت الأسنّة لقتلوا بأيدي المسلمين لمحلّ الجهالة بحالهم ،

٤١٧

وبذلك تصيب المسلمين معرّة ومكروه، وهو قتل المسلم بيد المسلم، وبالتالي يعيب المشركون المسلمين بأنّهم قتلوا أهل دينهم، مضافاً إلى أنّه كان يجب عليهم الكفّارة والديّة، ولأجل هذه الاُمور مجتمعة، كفّ أيدي المؤمنين عن المشركين، وانتهى الأمر بالصلح، لولا ذلك لأمركم بالجهاد، وإليه الإشارة في قوله تعالى:( وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

نعم قضت حكمته بذلك ليدخل في رحمته أُولئك المؤمنين غير المتميّزين، وينجو بهم من القتل، ويحفظ جيش المسلمين من لحوق المعرّة والندامة بهم.

ولو كان المؤمنون مميّزين عن الكفّار، لعذّب الذين كفروا من أهل مكّة، ولكن لم يعذّبهم ( بأيديكم ) رعاية لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين وإليه يشير قوله:( لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / ٢٥ ). ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة استحقاقهم العذاب، وهي رسوخ حمّية الجاهلية، واَنَفَتِها وعاداتها في قلوبهم، والمراد منها التشبّث، والتمسّك بما كان عليه آباؤهم، فقد كانت عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له، وعلى ذلك أصبحوا بعد ظهور الإسلام، فكانوا يقولون:

« قد قتل محمد وأصحابه آبائنا وإخواننا، فلو دخل علينا في منازلنا لتحدّثت العرب إنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا »، وهذا هو الذي سمّاه تعالى الحميّة الجاهلية، أي أنفتهم من الإقرار لمحمّد بالرسالة، وحتى الاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، وإليه يشير قوله سبحانه:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّه سبحانه لا يترك المؤمنين وأنفسهم( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

٤١٨

استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا:

قد حدّث رسول الله قومه عندما عزم الرحيل لأداء فرض العمرة بأنّه رأى رؤيا انّهم دخلوا المسجد الحرام وحلقوا روؤسهم، ولكنّهم لـمّا رجعوا من الحديبية بعد أن منعوا من زيارة البيت والإطافة به، قال بعض أصحابه: ألم تقل يا رسول الله انّك تدخل مكّة آمنا ؟ قال: بلى، اَفَقلت لكم من عامي هذا ؟ قالوا: لا. قال: فهو كما قال لي جبرئيل، وإليه أشار سبحانه بقوله:

( لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ٢٧ ).

والآية تشير إلى عمرة القضاء التي أتى بها رسول الله في السنة التالية للحديبية، وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة الحرام، وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام، فخرج النبي، ودخل مكّة مع أصحابه معتمرين، فأقاموا بمكّة ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى المدينة، فلمّا قدم رسول الله مكة أمر أصحابه، فقال: اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوّتهم، وكان أهل مكّة من النساء والصبيان ينظرون إليهم، وهم يطوفون بالبيت، وكان عبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله متوشّحاً سيفه، ويقول:

خلوا بني الكفّار عن سبيله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إنّي مؤمن لقيله

إنّي رأيت الحق في قبوله(١)

         

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣٧٠ ـ ٣٧٢، ومجمع البيان: ج ٩ ص ١٩١ ( طبع بيروت ).

٤١٩

والمراد من قوله:( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) هو فتح خيبر، وتقدمت الإشارة إليه في قوله:( فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه:

ثم إنّه سبحانه توطيداً لقلوب المسلمين وطمأنتهم، تنبّأ لهم بأنّ رسالة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ستنتشر في أرجاء العالم وستظهر على الدين كلّه قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( الفتح / ٢٨ ).

وقد جاء هذا التنبّوء في غير موضع من القرآن(١) وهل المراد من ظهوره، هو ظهوره بالحجّة والبرهان، وسطوع الدليل، أو المراد ظهوره بالقهر والغلبة والقوّة، أو الأعم منهما، ولعلّ الثالث أوفق، وذلك كلّما ازدادت المدنيّة، وتطورت وسائل الإرتباط العالمي بين الشعوب بعضها ببعض، تجلّت تلك الحقيقة بنحو أكثر وضوحاً، وهذا يؤيّد دعوى ظهوره بالحجّة والبرهان.

وأمّا ظهوره بالقوّة والقهر مضافاً إلى ذلك، فهو مرهون بظهور طلائع وتباشير الدولة الحقّة العالمية، التي وعدت بها رسالة السماء الخاتمة، وأسمتها بالدولة المهديّة، وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية: « والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم »(٢) .

__________________

(١) لاحظ سورة التوبة الآية ـ ٣٣، والصف الآية ـ ٩.

(٢) نور الثقلين: ج ٢ ص ٢١٢.

٤٢٠