مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581
المشاهدات: 221701
تحميل: 3610


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 221701 / تحميل: 3610
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-223-4
العربية

سبحانه يعد التمسّك بحرمة الحرب فيها جزءاً من الدين القيّم ويقول:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / ٣٦ ).

وبذلك يظهر ضعف سائر الأجوبة التي ذكرت في المقام فلا نطيل بذكرها.

٥ ـ ما هي الوثيقة التي بلّغها أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد تلاوة الآيات

لقد اختلفت الروايات في بيان صورة النصّ الذي تضمّن الإنذار السماوي في هذه الحادثة وإليك صوره المختلفة:

أ ـ أن لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوف بالكعبة عريان ولا تدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدّته، وفي بعض النصوص مكان مكّة لا يقرب المسجد الحرام مشرك.

ب ـ لا تدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه الخ.

ج ـ لا يقرب البيت بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا تدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة، وأن يتم كل ذي عهد عهده(١) ولكن بيان حصر استحقاق الجنّة في المسلم لم يكن شيئاً جديداً لم يعهد في صدر الرسالة، فعدّ ذلك في سياق الوثيقة لا يخلو من غرابة وغموض.

٦ ـ لماذا دفع الله سبحانه الأمان عن المشركين ؟

هذا هو السؤال الأكثر أهمّية في تفسير آيات هذه السورة وذلك أنّ الدعوة

__________________

(١) لاحظ تفسير الطبري: ج ٤٩ ص ٤٦ ـ ٤٧.

٤٨١

المحمّديّة كانت مبنية على أساس البراهين العقليّة والعلميّة كما كانت مبنيّة على رفع الإكراه في الدين.

قال سبحانه:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / ٢٥٦ ).

مع أنّا نجد في هذه الآيات ما يعلن صريحاً مجابهة المشركين بلاهوادة ويخيّرهم بين طريقين لا ثالث لهما إمّا العزوف عن الشرك والدخول تحت لواء التوحيد وإمّا ترقّب الحرب بعد انقضاء أربعة أشهر من تاريخ بدء إعلان البراءة في قوله سبحانه:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) .

وهذا هو الذي أثار تساؤل الكثير من المحقّقين والباحثين في العصور المتأخّرة ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين:

١ ـ إنّ البراءة كانت مختصّة بالمشركين الذين كان لهم مع رسول الله عهد، ولكنّهم غدروا وخانوا ونقضوه. فلأجل ذلك لم يكن بد من رفض العهد المنقوض من جانبهم، وكانوا في كل زمن على أهبة الهجوم على المسلمين فلا يصحّ لقائد الإسلام السكوت وتركهم حتى يتآمروا على الإسلام والمسلمين وإليك تفصيل ذلك:

إنّ هذه الآيات ترفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين لأجل أنّهم لا وثوق بعهدهم بشهادة أنّهم لم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم وقد أباح سبحانه في تلك الفتره إبطال العهد بالمقابل نقضاً بنقض قال سبحانه:

( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال / ٥٨ ).

فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلّا إبلاغ النقض إليهم لئلاّ يؤخذوا عن غفلة من أمرهم فيكون ذلك من الخيانة.

والدليل على أنّ ذلك الرفع لم يكن جزافاً هو أنّ الآيات استثنت المتثبين على العهد وقالت:( إلّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / ٤ ).

٤٨٢

وقال أيضاً:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إلّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / ٧ ).

والآيات تصرّح بأنّ استسلامهم أمام قدرة المسلمين إنّما كان لما يعانونه من ضعف وذلّة، فلو سنحت لهم الأقدار وامتلكوا العدد والعدّة لعاودوا الهجوم على المسلمين وأبادوهم عن بكرة أبيهم وفي ذلك يقول سبحانه:( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ) ( التوبة / ٨ ).

وقال سبحانه في موضع آخر:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / ١٣ ).

فكل هذه الآيات التي تلوناها عليك وما لم نتلوه صريح في أنّ رفع الأمان كان مختصّاً بلفيف من المشركين الذين كان بينهم وبين الرسول عهد وميثاق ولكنّهم قد نقضوا تلك العهود والمواثيق فحقّت عليهم كلمة العذاب وباؤوا بغضب من الله تعالى على غضب.

وأمّا الذين التزموا بمواثيقهم أو لم يكن بينهم وبين الرسول أي ميثاق وعهد وما كان يخشى منهم الخيانة والغدر والقتال للمسلمين فهؤلاء لا تشملهم هذه الآيات.

وأمّا ما هو واجب القائد الإسلامي أمام الطائفة الاُولى بعد انتهاء عهدهم أو ما هي وظيفته أمام الطائفة الثانية منهما ـ أعني من ليس له عهد بينه وبين القيادة الإسلامية ولا يتوقّع منه أيّة خيانة ـ فتفصيله وبيانه موكول إلى القسم السياسي من الفقه الإسلامي. وسنبيّن حكمه في البحث الآتي.

ثمّ إنّ في هذه الآيات دلالة صريحة على أنّ الإسلام كان يكنُّ للمشركين بما فيهم الناقضون للعهود، الشفقة والرحمة بأبعادهما المختلفة، نسوق إليك نموذجين منها:

٤٨٣

أ ـ إنّه إذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقّة ويتبعها أن اتضحت له، كان من الواجب إجارته حتّى يسمع كلام الله ويرفع عن بصيرته غشاوة الجهل، وفي ذلك يقول سبحانه:( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( براءة / ٦ ).

وما ذلك إلّا لأنّ صرح الدعوة الإسلامية يعتمد على ركيزة تهدف إلى انتشال الناس عن الغي والضلال والانحراف والفساد، ولازم ذلك بذل العناية المكثّفة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المنشودة وإن ضعف احتمال التأثير وقلّة نسبته.

ب ـ إنّ المشرك المتحرّف عن العهود والمواثيق لو أظهر التوبة والندامة وشهد على توبته قيامه بالفرائض الدينية كالصلاة والزكاة تقبل توبته ويعد في عداد المسلمين فيشمله من الحقوق ما للمسلمين، قال سبحانه:( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / ١١ ).

هذا ما يرجع إلى توضيح هذه الآيات وبيان الأسرار التي تضمّنتها.

٢ ـ نحن نفترض أنّ البراءة كانت عامّة لجميع المشركين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية وانّها لا تعترف بعد نزول هذه الآيات بدين الشرك أبداً، وإنّما تعترف بالشرائع الإلهية الإبراهيمية. وتصوّر أنّ ذلك لا يجتمع مع حريّة الإنسان في عقيدته وفكره، فكر خاطئ يظهر من البحث الآتي الذي عقدناه لبيان الجهاد الإبتدائي، جهاد دفاعي في الحقيقة وهو مع صلته بالموضوع بحث قرآني مستقل.

الجهاد الإبتدائي، جهاد دفاعي في الحقيقة

إنّ البحث عن آيات الجهاد وإن كان يحتاج إلى تأليف رسالة مفصّلة تبحث عن هذه الآيات، وتبيّن خصوصيّاتها ونكاتها غير أننّا إستكمالاً لما ذكرناه نقف عندها وقفة قصيرة حتّى يتّضح هدف الآيات، فنقول:

إنّ الآيات الواردة حول الجهاد وما يرتبط بها من قريب أو بعيد تنقسم إلى

٤٨٤

طوائف خمس لابدّ لكل مفسّر أن يلاحظ مجموعها قبل إتّخاذ الموقف، وتفسيرها، وإظهار الرأي فيها.

وإليك هذه الطوائف:

الاُولى: الآيات المطلقة التي تدعو إلى مطلق النضال والقتال، دون أن تقيّد ذلك بقيد، كقوله سبحانه:

( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) ( التوبة / ٢٩ ).

وقوله سبحانه:

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة / ٧٣ ).

فالآية الاُولى تدعو إلى مطلق النضال مع أهل الكتاب، والثانية تدعو إلى مطلق النضال مع الكفّار والمنافقين دون أن تقيّد مقاتلة هذه الطوائف والجماعات بقيد، وتعلّق الأمر بشيء مطلق يوجب مقاتلتهم كذلك. سواء أكانوا مقاتلين للمسلمين أم لا، وسواءً عارضوا الإسلام أم لا.

الثانية: الآيات التي تقيّد مقاتلة المشركين بقيد وهو قتال المسلمين والعدوان عليهم، كقوله سبحانه:

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / ١٩٠ ).

فالقتال ـ حسب هذه الآية ـ يجب إذا تعرّض المسلمون لعدوان الكفّار والمشركين، ولا يجب قتالهم إذا لم يكونوا مقاتلين.

وربّما قيّد القتال بقيد آخر وهو تهيّؤ العدو لنقض العهد، وهو بمعنى التعرّض لقتال المسلمين وبمثابة العدوان، فلأجل ذلك يجب على المسلمين مقاتلتهم ومحاربتهم. يقول سبحانه ـ بعد أمره بقتال المشركين في مطلع سورة التوبة ـ:

٤٨٥

( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلّا وَلا ذِمَّةً ) ( التوبة / ٨ ).

ويقول سبحانه:

( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( التوبة / ١٠ ).

ويقول سبحانه:

( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ) ( التوبة / ١٢ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي توجب مقاتلة المشركين لنقضهم العهود المعقودة بينهم وبين المسلمين لأنّ نقض العهد بمثابة إعلان الحرب، وإرادة العدوان.

إنّ ملاحظة هذه الآيات تفيد أنّ القتال لم يشرع على الإطلاق بل لأجل سبب، وهو إرادة قتال المسلمين والعدوان عليهم، إمّا بصورة مباشرة وإمّا عن طريق نقض عهود المسالمة، والصلح الذي لا يعني إلّا إرادة القتال فيكون القتال هنا من باب الدفاع عن النفس.

ومن هنا تكون هذه الآيات مقيّدة لإطلاق الطائفة الاُولى.

ومن المعلوم أنّ المطلق يحمل على المقيّد ويؤخذ بكليهما حسب ما هو المقرّر في علم « اُصول الفقه ».

الثالثة: الآيات التي تدعو إلى إنقاذ المستضعفين ونجدة المظلومين وإخراجهم من ظلم الحكّام الجائرين، ودفع الضيم عنهم.

وهذا هو أيضاً نوع آخر من الدفاع إذ هو دفاع عن الغير

والمعتدى عليه ليس الإنسان نفسه، أو شعبه، بل هو شعب آخر مضطهد ولا يلزم أن يكون الاعتداء متوجّهاً إلى الإنسان: شخصه أو شخصيّته، أو قومه بل يكفي أن يكون الإعتداء على الإنسان بما هو إنسان، فعندئذٍ يجب في منطق العقل الدفاع عن حقوق الإنسان، لا عن حقوق الشخص وما يرتبط به فقط، بل يكون

٤٨٦

الدفاع عن حقوق الإنسان غير المرتبط بالمقاتل من أفضل أنواع الجهاد والدفاع، فإنّ ذلك إيثار وبذل للدم في سبيل حياة الآخرين، وأيّ عمل أقدس من هذا. ولأجل ذلك نرى أنّ الله سبحانه يفرض على المسلمين إغاثة المضطهدين ويقول:

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / ٧٥ ).

الرابعة: الآيات التي تدلّ على عدم الإكراه في الدين، لأنّ الدين عقيدة والعقيدة لا توجد بالإكراه كقوله سبحانه:

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ( البقرة / ٢٥٦ ).

قيل إنّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين كان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله تعالى:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبعدهما الله هما أوّل من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل الله:( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ( النساء / ٦٥ ).

وقيل: كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً(١) فترضع أولاد اليهود، فجاء الإسلام وفيهم جماعة منهم فلمّا اُجليت بنو النضير إذا فيهم اُناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، أبنائنا واخواننا فنزلت:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال:

« خيّروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وان اختاروهم فأجّلوهم »(٢) .

__________________

(١) المقلات: التي لا يعيش لها ولد.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

٤٨٧

وكقوله سبحانه:

( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / ١٢٥ ).

وقوله سبحانه:

( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ( الكهف / ٢٩ ).

وقوله سبحانه:

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / ٩٩ ).

وقوله سبحانه:

( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ إلّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ *إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) ( الشعراء / ٣ و ٤ ).

إلى غير ذلك من الآيات الكاشفة عن حرّية الإعتقاد.

الخامسة: الآيات الداعية إلى الصلح والتعايش السلمي كقوله سبحانه:

( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء / ١٢٨ ).

وقوله سبحانه:

( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال / ٦١ ).

وقوله سبحانه:

( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء / ٩٠ ).

ومن المعلوم أنّ الصلح المذكور في الآية الاُولى هو التعايش السلمي وليس الإستسلام والتسليم للظلم والعدوان.

إنّ للملاحظ والمتتبّع لهذه الآيات التي تدور حول الجهاد والقتال من قريب

٤٨٨

أو بعيد أن يتساءل:

إذا كان الإسلام ينشد الصلح والتعايش السلمي مع الطوائف وأهل الملل الاُخرى، كما تشهد بذلك الطائفة الخامسة، وإذا كان الإسلام يحترم العقيدة الاُخرى، ويمنع من إكراه أحد على تقبّل الإسلام واعتناقه كما تشهد على ذلك الطائفة الرابعة فكيف يمكن تفسير الآيات الحاثّة على القتال والمحاربة ؟

إنّ ملاحظة مجموع الآيات من الطوائف الخمسة تهدينا إلى الجواب الصحيح.

فإنّ القتال ـ بملاحظة الطائفة الثانية والثالثة ـ إنّما شرع لأجل الدفاع، وهذا الدفاع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

١ ـ الدفاع عن النفس فرداً أو شعباً.

٢ ـ الدفاع عن الغير ( أي المستضعفين والمضطهدين ) فرداً أو شعباً أيضاً.

٣ ـ الدفاع عن القيم الإنسانيّة، وهو يتحقّق بالجهاد ضد الحاكم المستبد المانع عن نفوذ الدعوة الإسلامية.

توضيحه: إذا كان الحاكم مستبدّاً مانعاً عن نفوذ دعوة الأنبياء والأولياء وملهيّاً لشعبه عن التوجّه إلى القيم الرفيعة التي جاء بها الأنبياء، ودافعاً لهم نحو العقائد الخرافية التي تعتبر سدّاً أمام السعادة الإنسانية، فعند ذلك يجب النضال ضد هذا الحاكم ونظامه لأمرين:

١ ـ إنّ الحاكم المستبد ظالم في نظامه، ومعتد على حقوق الشعب حيث سلب عنهم الحقوق الطبيعية وهي الحرّية في الدعوة والاستماع إليها، فعند ذلك يكون القتال معه قتالاً مع الظالم المعتدي.

٢ ـ إنّ الدفاع عن النفس والمال والشعب وما يرتبط به يعدّ جميلاً عند شعوب العالم. غير أنّ الملاك في كونه جميلاً إنّما هو لأجل كونه دفاعاً عن الحق والحقيقة، والدفاع عن الحريّة دفاع عن الحق، فالحاكم المستبد السالب للحريّة

٤٨٩

عن الأنبياء والشعوب يضاد عمله الحق والحقيقة فيحسن قتاله، ومحاربته لأجل تحكيم الحق ونصرته.

ومن هنا يكون الجهاد التحريري في حقيقته جهاداً دفاعياً. لأنّ ذلك الجهاد إنّما هو لأجل إنقاذ المستضعفين الذين تعرّضوا لعدوان وظلم الظالمين أو لأجل إنقاذ القيم والحقوق والمثل الإنسانية التي وقعت عرضة لمزاحمة المستكبرين والحكام المستبدّين، فأقاموا العراقيل في وجه الدعوة الإسلامية وسلبوا الناس حريتهم في اختيار العقيدة التي يريدونها.

وبهذا تبيّن أنّ الجهاد بأقسامه المختلفة جهاد دفاعي جوهراً، وإن كان ينقسم حسب الإصطلاح الفقهي إلى الدفاعي والإبتدائي.

وهاهنا نكتة نلفت إليها نظر القارئ الكريم وهي أنّ الآيات الاُولى التي نزلت في تشريع الجهاد تدلّ بأوضح الوجوه إلى أنّ الدافع إلى تشريع الجهاد هو الدفاع عن المسلمين وحقوقهم ولم يشرّع لأجل التجاوز والاعتداء على حقوق الآخرين، وإليك الآيات:

( إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ *أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج / ٣٨ ـ ٤١ ).

وإليك هذه الدلالات:

١ ـ قوله سبحانه:( لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) يدلّ بوضوح إلى أنّ الكافر المقاتل خائن، وكل خائن معتد يجب محاربته.

٤٩٠

٢ ـ قوله سبحانه:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ) يدلّ على أنّ المأذون في القتال مقاتَل ( بالفتح ) لا مقاتِل ( بالكسر ) فليس المسلم هو البادئ بالقتال بل الكافر هو البادئ، فعند ذلك يعدّ قتال المسلم دفاعاً.

٣ ـ قوله سبحانه:( بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) يدلّ بوضوح على أنّ القتال لأجل رفع الظلم.

٤ ـ قوله سبحانه:( أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) يدلّ على كونهم مشرّدين من ديارهم بغير سبب وأي ظلم أعظم من إبعاد الإنسان عن موطنه ؟!

٥ ـ قوله سبحانه:( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ ) يدلّ على أنّ الكافر لو ترك بحاله لهدّم البيوت المقدّسة وأماكن العبادة التي بنيت لعبادة الله سبحانه وتربية الناس وتزكيتهم، فيجب قتاله حتى لا يرتكب تلك الجريمة الأثيمة.

٦ ـ قوله سبحانه:( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ ) يشير إلى أنّ الغاية من تمكين المسلمين في الأرض هو إحياء المثل الإنسانية وهي عبارة عن إقامة الصلاة التي هي رمز لصلة الإنسان بالله سبحانه، وإيتاء الزكاة التي هي رمز للتعاون الإنساني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما كناية عن إقامة النظام الصحيح والنضال ضد كل نظام فاسد.

* * *

وقد تجلّت في ضوء هذا البحث حقيقة ناصعة هي من إحدى الحقائق القرآنية وهي أنّ تشريع الجهاد الإبتدائي أو التحريري لم يكن لأجل الاعتداء على حقوق الإنسان، بل كان لأجل الدفاع عن حقوق المستضعفين، وغيرهم.

ولـمّا بلغ الكلام إلى هنا، نرى أن نخوض في فلسفة الجهاد الإسلامي بصورتيه: الدفاعي والإبتدائي والدوافع إلى تشريعه وما يجب على المجاهد من رعاية اُصول وقيم في الجهاد. وهذا بحث مستقل أتينا به لمناسبة خاصّة.

٤٩١

(١٢)

الجهاد في الإسلام

دفاعيّاً أو تحريريّاً

يعتبر الجهاد في منطق الدين الإسلامي وسيلة إلى بقاء الدين، وإستمرار وجوده، بل وبقاء الاُمّة الإسلاميّة وصيانة كيانها من السقوط والانهيار ولابد للوقوف على هذه الحقيقة من تقديم مقدمة ضرورية، فنقول:

الجهاد ضرورة حياتية

عندما نطالع حياة الموجودات الحيّة نجد أنّها تقوم بثلاثة نشاطات تضمن بقاءها وحياتها.

وهذه النشاطات هي:

أوّلاً: التنفّس وجذب الغذاء المناسب.

ثانياً: التوالد والتكاثر، وهي صفة كلّ خليّة من خلايا الكائنات الحيّة.

ثالثاً: دفع الموانع، ودفع المزاحم وطرد المواد الزائدة، والمضرّة.

إنّ حياة كل كائن حي ملازمة لهذه النشاطات الثلاثة، بل ومدينة لها، فلا تخلو عنها ولا تفارقها.

ولـمّا كان الإسلام ظاهرة حياتية ـ وإن لم تكن ظاهرة ماديّة بل ظاهرة إلهية ـ فإنّه لا يخلو بدوره عن هذه النشاطات والفعاليّات الثلاث ولا يستغني عنها.

٤٩٢

فالدين الإسلامي بحاجة ـ في بقائه، واستمرار حياته ووجوده ـ إلى هذه الاُمور الثلاثة، وأخصّ بالذكر الأمر الثالث.

فإنّ الإسلام، لكونه رسالة إلهية منزلة لهداية البشريّة، يسعى إلى تغيير العادات والتقاليد البالية، والأوضاع الفاسدة والنظم الباطلة ولذلك من الطبيعي أن يواجه معارضة من يخالف هذا التغيير مصالحهم، ويتعارض مع أهدافهم ومطامعهم وعندئذٍ يجب على هذا الدين أن يقوم بدفع هذه الموانع ويكتسح تلكم الحواجز، ليمضي قدماً في اداء رسالته، وتحقيق أهدافه.

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين ( المذهب الفلسفي ) و ( الدين الإلهي ).

فالفيلسوف، يكتفي ببحث الاُمور الفلسفية لمجرّد التوضيح، أو النقد وينشر أفكاره وتحليلاته بين الناس ليقفوا عليها ويعرفوها دون أن يرىٰ إلزامهم بشيء منها.

فهو لا يهمّه سوى طرح أفكاره والدفاع عنها بقاطع البرهان، وواضح الدليل.

وأمّا ( الدين الإلهي ) فليس مذهباً فلسفيّاً ليكتفي بمجرّد البيان والتوضيح ويحصر همّته في النقد والإشكال إنّما هو ثورة إصلاحية، وعملية تغييريّة تهدف إلى إقامة نظام صالح عادل فوق رُكام الأنظمة الفاسدة، والأوضاع المنحطّة.

وبديهي أنّه لا يتحقّق ذلك دون مواجهة الموانع، وقيام الصراعات والحروب، مع الجهات والقوى المعارضة لهذا التغيير.

فهل في العالم حركة تغييريّة إستطاعت تحقيق أهدافها دون خوض الصراعات الحامية، ودون نشوب الحروب وسقوط الضحايا، أو إراقة محجمة دم ؟

فهل إستطاعت ( الثورة الفرنسية ) أن تتجنّب إراقة الدماء ؟

وهل نجحت ( الثورة الروسية ) إلّا بعد سقوط الملايين من القتلى ؟

وهل حقّقت ( الثوره الهندية ) أهدافها إلّا عبر المئات من القرابين البشرية ؟

نعم إنّ ما يفترق به ( الجهاد الإسلامي ) عن الحروب الاُخرى التي تفرضها

٤٩٣

الحركات التغييريّة الاُخرى هو: تجنّب الإسلام عن الحروب، وإراقه الدماء قدر الإمكان، والقيام بذلك من باب الضرورة وفي حدود الإنسانية والرحمة.

هذا مضافاً إلى بقيّة الفوارق التي تتجسّد في أحكام ( الجهاد الإسلامي ) كما سيأتي تفصيلها.

وصفوة القول: إنّ أيّة ثورة إصلاحية وحركة تغييريّة تتطلّب ـ بحكم الضرورة ـ هذه المواجهات الساخنة، دفعاً للمزاحم ودفعاً للموانع والحواجز، وإلّا ماتت هذه الثورة في المهد، كما تموت الخليّة الحيّة إذا تركت ذلك.

ولهذا وصفه القرآن بأنّه وسيلة للحياة والبقاء والإستمرار إذ قال:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / ٢٤ ).

وبعبارة واضحة، إنّ الإسلام نظام إجتماعي ثوري، لم ير العالم نظيره قطّ، فهو بما أنّه رسالة إلهية، تضمن سعادة البشر، يرى لنفسه حق التوسعة والتعميم.

ولأجل ذلك يسعى لرفع الموانع والحواجز بأسهل الطرق وأعدلها.

فيبتدئ بالتبلييغ والتعليم والبحث والمجادلة والتوجيه والإرشاد، فإذا رأى أنّ المانع لا يرتفع إلّا بقوّة قاهرة يسعى لرفع الموانع بتلك القوّة، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / ١٩٠ ).

وليس هذا يختصّ بالدين الإسلامي بل كان هذا هو طريق الأنبياء ومنهاجهم في الدعوة إلى طريق الحق. وفي ذلك يقول سبحانه:

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد / ٢٥ ).

٤٩٤

والكتاب والميزان إشارة إلى أنّهم كانوا يتوسّلون في بدء الأمر بأسهل الطرق، وهو تنوير الأفكار وإقناعها بمنطق العقل.

وأمّا إذا رأوا أنّ ذلك المنطق لا يجدي في رفع الموانع يتوسّلون بمنطق القوّة، فالحديد في الآية كناية عن ذلك المنطق، وحياة الأنبياء وتاريخهم خير شاهد على ذلك.

وها هنا نقطة اُخرى نلفت نظر القارئ الكريم إليها، وهي: إنّ الإسلام يريد أن يعمّم العدالة الإجتماعية في جميع مناحي الحياة.

ومن الطبيعي أنّ كل ثورة ـ من هذا القبيل ـ لا تضمن منافع جميع الطبقات بل ربّما تكون مضرّة بمصالح البعض كالطغاة والمستثمرين والمترفين، ولأجل ذلك كان المترفون يعارضون كل حركة إصلاحية إلهية ويصدّون عن وجه الحق. كما قال القرآن:

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ / ٣٤ ).

ولأجل ذلك يجب على صاحب الرسالة التوسّل بمنطق القوّة ( حين لا تجدي قوّة المنطق ) في رفع الحواجز والموانع، والتخلّص ممّن يسد طريق الحق والعدالة.

هذا وأشباهه تمثّل فلسفة الجهاد الإسلامي وتشريعه لنوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري )، وخصائصهما، وأحكامهما: على نحو الإيجاز والإجمال.

الجهاد الدفاعي

والمراد من هذا الجهاد هو مقاتلة الأعداء المعتدين، دفاعاً عن النفس، والمال، وذبّاً عن الوطن والحرية، وذوداً عن الشرف والإستقلال.

إنّ الدفاع المذكور على قسمين:

٤٩٥

أوّلاً: الدفاع عن حوزة الإسلام.

ثانياً: الدفاع عن النفس والمال وما شابههما وأمّا البحث عن القسم الثاني فموكول إلى الكتب الفقهية المعدّة لتفصيل ذلك. ( راجع شرائع الإسلام الباب السادس في حدود المحارب من كتاب الحدود والتعزيرات، تجد فيه فروع وتفاصيل هذا المبحث ).

وأمّا القسم الأوّل فمنه ما إذا غشى بلاد المسلمين أو ثغورها عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمع المسلمين، فيجب عليهم الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس.

ولو خيف من زيادة الإستيلاء على بلاد المسلمين وتوسعة ذلك، وأخذ بلادهم، أو أسرهم، وجب الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة، كما لو خيف على حوزة الإسلام من الإستيلاء السياسي، والإقتصادي المنجرّ إلى أسرهم السياسي والإقتصادي، ووهن الإسلام والمسلمين وضعفهم يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومة السلبية المتنوّعة، فرض الحصار الإقتصادي على أمتعتهم وبضائعهم وترك استعمالها وترك المعاملة والمراودة معهم مطلقاً، إلى غير ذلك من أنواع المقاومة التي تختلف مع إختلاف نوع الإستيلاء، وإختلاف الظروف والمقتضيات.

هذا وقد وردت حول الدفاع عن النفس روايات وأحاديث منها:

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قتل دون ماله فهو شهيد ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يبغض الله تعالى رجلاً يدخل عليه في بيته فلا يقاتل ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قتل دون مظلمته فهو شهيد »(١) .

وعلى كل تقدير فالجهاد الدفاعي جهاد شرّعه الإسلام عندما تتعرّض الاُمّة

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٩١ ـ ٩٢، وقد وردت روايات مماثلة في المقام عن أهل البيت تركناها اختصاراً.

٤٩٦

الإسلامية لمهاجمة الأعداء، وعدوانهم وتصبح غرضاً لأطماعهم ومؤامراتهم.

وهذا ممّا تقتضيه طبيعة الحياة، وتحكم به الفطرة، ويحكم بحسنه وضرورته العقل السليم، كما تؤيّده كافّة المدارس والمذاهب الحقوقية والسياسية والإجتماعية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الجهة الموجبة للجهاد والقتال بقوله:

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ( البقرة / ١٩٠ ).

وقوله سبحانه:

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / ٣٩ ـ ٤٠ ).

وعلى هذا الأساس كانت أغلب الحروب والغزوات التي قام بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووقعت في حياته.

فهي كانت حروباً دفاعية قام بها المسلمون بقيادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره، دفاعاً عن حوزة الدين، وحياة المسلمين.

فإنّ غزوات بدر واُحد والأحزاب، إلى آخر الغزوات والحروب كانت لدفع الحملات التي كان يقوم بها الأعداء ضد المسلمين.

كما أنّ ( السرايا ) التي بعثها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لأجل إطفاء نيران الفتن وإحباط المؤامرات التي كان يشعلها ويحيكها أعداء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية للقضاء على الدين الجديد، واستئصال جذوره وهدم بنيانه.

* * *

٤٩٧

خصائص الجهاد الدفاعي

إنّ للجهاد الدفاعي في الإسلام حدوداً وأحكاماً تميّزه عن الحروب التي يقوم بها الآخرون في عالمنا المعاصر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخصائص ـ في آية واحدة ـ إذ قال سبحانه:

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / ١٩٠ ).

والخصائص التي ذكرتها هذه الآية هي باختصار:

أ ـ كون الجهاد في سبيل الله ( الهدف )

إنّ الجهاد والقتال يجب أن يكون لله تعالى، ولكسب رضاه سبحانه، لا لتوسيع السيطرة، ونشر النفوذ، وضم بلد إلى بلد.

وهذا هو أهم خصائص الجهاد الإسلامي.

نظراً لأهميّتها القصوى أكّد عليها القرآن الكريم في آيات متعدّدة، واعتبره الفرق الجوهري بين الحرب الإسلامية والحرب غير الإسلامية، وبين الجهاد الذي يقوم به المسلمون، والقتال الذي تمارسه دول العالم، والجماعات غير المسلمة المؤمنة، إذ يقول:

( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) ( النساء / ٧٦ ).

ولأجل ذلك يذمّ الله سبحانه كل قتال أو قيام يراد به التسلّط على حطام الدنيا ومتاعها ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) ( النساء / ٩٤ ).

٤٩٨

ويقول سبحانه:

( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٦٧ ).

ويقول سبحانه:

( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة / ٤٢ ).

ب ـ القتال ضدّ المعتدي

إنّ القتال لا يجوز إلّا ضدّ الذين يقاتلون المسلمين، ويبدأونهم بعدوان.

وهو شرط في هذا النوع من الجهاد دون الجهاد التحريري، الذي سيوافيك تفصيله.

فالقتال أساساً شرع لصد العدوان ورد المعتدي، وإيقاف المتجاوز عند حدّه، ولهذا يأمر الإسلام أتباعه أن يكفّوا عن القتال إذا فعل العدو ذلك:

قال سبحانه:

( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء / ٩٠ ).

ويقول في آية لاحقة:

( فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) ( النساء / ٩١ ).

على أنّ الجهاد الدفاعي ربّما يشرع أيضاً عندما يقوم العدو بنكث المواثيق، ونقض المعاهدات، وتعريض السلام المتّفق عليه للخطر، أو يقوم بطرد الشخصيات الإسلامية من مواطنهم، وتشريدهم ظلماً وعدواناً.

٤٩٩

فمن الأوّل يقول سبحانه:

( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة / ١٢ ).

وفي آية لاحقة يشير سبحانه إلى الأمر الثاني إذ يقول:

( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / ١٣ ).

كما ويندرج تحت هذا مكافحة الإستعمار بكلّ أشكاله وألوانه التي سيوافيك تفصيل الكلام منها عند بيان السياسة الخارجيّة للحكومة الإسلاميّة.

ج ـ حد الجهاد وإطاره

إنّ القتال يجب أن يكون في إطار الحق والعدل ولا يتجاوز حدودهما. وهو شرط مشترك بين الدفاعي والتحريري ولـمـّا كان الإسلام دين الحق والعدل فإنّه أكّد على هذا الشرط أشد وأبلغ تأكيد، وصرّح ـ مثلاً ـ بأنّ القتال والعدوان يجب أن يماثل العدوان الواقع على المسلمين ولا يتجاوز مقداره، وإلّا عاد انتقاماً وخروجاً عن سنّة العدل فقال ـ في نفس الآية ـ:

( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة / ١٩٤ ).

والجدير بالذكر أنّ إرداف الأمر بالجهاد بالحثّ على التقوى يوحي بضرورة وجود صفة التقوى، وتقارنه مع الجهاد منعاً من تجاوز الحق والعدل.

فإنّ المقاتل غالباً تدفعه سورة الغضب إلى ارتكاب الجرائم والتعدّي عن الحق إلّا من خاف الله تعالى.

وقد أشار القرآن إلى ضرورة رعاية العدل والتقوى في جميع الأحوال بصورة

٥٠٠