البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة0%

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 964-371-766-6
الصفحات: 556

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

مؤلف: محمّد جعفر الأسترآبادي
تصنيف:

ISBN: 964-371-766-6
الصفحات: 556
المشاهدات: 34643
تحميل: 4367


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 556 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34643 / تحميل: 4367
الحجم الحجم الحجم
البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء 2

مؤلف:
ISBN: 964-371-766-6
العربية

ثمّ بعد تمهيد ذلك قال ما محصّله : أنّ كلّ ما لا يكون موضوعا للتغيّر لا يجوز أن تتبدّل صفاته المتقرّرة المحضة ، ولا صفاته المتقرّرة المتعلّقة بالإضافة ، التي تتغيّر بتغيّر الإضافة ويجوز أن تتبدّل إضافاته اللازمة لصفاته المتقرّرة التي لا تتغيّر بتغيّر تلك الإضافات ، ولا محالة يكون ذلك في إضافات بعيدة لازمة لزوما ثانيا ، ولا يمكن أن يكون في إضافات قريبة لازمة لزوما أوّليا ؛ فإنّ التغيّر فيهما يقتضي التغيّر في نفس تلك الصفات ، وكذا يجوز أن يتبدّل إضافاته المحضة وهو ظاهر(١) .

ثمّ قال : الواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيّات علما زمانيّا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل ، فيعرض لصفة ذاته أن يتغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيّات على الوجه المقدّس العالي على الزمان والدهر(٢) .

وقال في التعليقات : « العالم إنّما يصير مضافا إلى الشيء المعلوم بهيئة تحصل في ذاته ، وليس الحال في العالميّة كالحال في التيامن والتياسر الذي إذا تغيّر الأمر الذي كان متيامنا ومتياسرا ، ولم يتغيّر هيئة فيمن كانت له هذه الإضافة إلاّ نفس هذه الإضافة أعني التيامن ؛ فإنّ الإضافة قد تكون في المضاف والمضاف إليه كالعاشق والمعشوق ، والعلم والمعلوم ، وقد لا تكون بهيئة كالحال في التيامن ؛ فإنّ العلم يبطل ببطلان هيئة كانت الإضافة بينه وبين المعلوم بسببهما(٣) والتيامن لا يبطل منه هيئة ، ثمّ يبطل ببطلانه التيامن ، والإضافة بالحقيقة عارضة لتلك الهيئة التي في العالم والعاشق لا أنّ تلك الهيئة هي نفس الإضافة(٤) .

ثمّ قال : فالعلم ليس هو وجود المعلوم في ذاته ؛ إذ ليس وجود الشيء في ذاته سببا لحصول العلم ، وإلاّ لم يكن علم بالمعدوم ، بل العلم وجود هيئة في ذات العالم ،

__________________

(١) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) في « شوارق الإلهام » : « نسبتها ».

(٤) « التعليقات » : ١٣.

٢٤١

فالشيء إذا كان معلوما ثمّ يصير لا معلوما فلحالة تتغيّر في العالم لا لنفس الإضافة مطلقة ، فواجب الوجود لو كان علمه زمانيّا ـ أعني زمانا مشارا إليه حتّى يعلم أنّ الشيء الفلانيّ في هذا الوقت غير موجود وغدا يكون موجودا ـ كان علمه متغيّرا ؛ فإنّه كما أنّ هذا الشيء غير موجود الآن ويصير موجودا غدا كذلك العالم به إمّا أن يعلمه كذلك فيكون متغيّرا ، وإمّا أن يكون علمه غدا كعلمه في هذا اليوم فلا يكون علما ؛ فإنّه يكون محالا ، أو لا يكون علمه غدا كعلمه في هذا اليوم بل قد يتغيّر.

وأمّا أنّه كيف يكون علمه فهو أن يكون بسبب ، أعني أن يكون يعرف الموجودات كلّها على وجه كلّيّ ، وإذا كانت الأشياء كلّها واجبة عنده إلى أقصى الوجود ، فإنّه يعرفها كلّها ؛ إذ كلّها من لوازمه ولوازم لوازمه ، وإذا علم أنّه كلّما كان كذا ، كان كذا أعني جزئيا آخر ، ويكون هذه الجزئيّات مطابقة لهذا الحكم ، يكون قد عرف الجزئيّات على الوجه الكلّيّ الذي لا يتغيّر ، الذي يمكن أن يتناول أيّ جزئيّ كان ، لا هذا المشار إليه(١) .

ثمّ قال : ومثال هذا أنّ منجّما يعلم أنّ الكوكب الفلانيّ كان أوّلا في الدرجة الفلانيّة فصار إلى الدرجة الفلانيّة ، ثمّ بعد كذا ساعة قارن الكوكب الفلانيّ ، ثمّ دخل بعد كذا ساعة في ذلك الكسوف ، ثمّ بقي بعد كذا ساعة في ذلك الكسوف ، ثمّ فارق الشمس وانجلى ، وقد يكون قد عرف كلّ ذلك بأسبابه ، ولا يكون قد عرف أنّ هذا الكوكب في هذه الساعة في الدرجة الفلانيّة حتّى يكون الساعات التي بعدها مستندة إلى هذه المشار إليها ، ويتغيّر علمه بحسب تغيّر الأحوال وتجدّدها ، فإذا عرف على الوجه الذي ذكرناه ـ أعني بالسبب ـ كان حكمه في اليوم وغدا وأمس حكما واحدا والعلم لا يتغيّر ؛ فإنّه صحيح « دائما في هذا الوقت وفيما قبله وفيما بعده أنّ الكوكب الفلانيّ كذا ساعة يقارن الكوكب الفلانيّ.

__________________

(١) « التعليقات » : ١٣ ـ ١٤.

٢٤٢

فأمّا إن قال : إنّ الكوكب الفلانيّ في هذا الوقت الفلانيّ ـ المشار إليه المستفاد علمه من خارج ـ مقارن للكوكب الفلانيّ وغدا مقارن لكوكب آخر ، فإنّه إذا جاء الغد بطل الحكم الوقتيّ والعلم الوقتيّ.

فإذن الفرق بين العلمين ظاهر ، فواجب الوجود علمه على الوجه الكلّيّ علم لا يعزب عنه مثقال ذرّة ، وهذا الكسوف الشخصيّ وإن كان معقولا على الوجه الكلّيّ ؛ إذ قد علم بأسبابه ، والمعقول فيه بحيث يجوز حمله على كسوفات كثيرة كلّ واحد منها حاله حال هذا الكسوف ، فإنّ الأوّل تعالى يعلم أنّه مشخّص في الوجود وعلمه محيط بوحدانيّته ، فإنّه إن لم يعرف وحدانيّته لم يعرفه حقّ المعرفة ، وكذلك نظام الموجودات عنه وإن عرفه على وجه كلّيّ بحيث يكون معقوله يجوز حمله على كثيرين ، فإنّه يعلم أنّه واحد ، وكذلك يعلم أنّ العقل الفعّال واحد وإن كان عقله على وجه كلّيّ ، وعلمه بأنّ هذا الكسوف شخصيّ لا يرفع(١) المعقول الكلّيّ.

والعلم ما يكون بأسباب ، والمعرفة ما يكون بمشاهدة ، والعلم لا يتغيّر البتّة وإن كان جزئيّا ؛ فإنّ علمنا بأنّ الكسوف غدا يكون مركّبا من علم ومشاهدة ، ولو كان غدا لم يكن مشارا إليه ، بل كان معلوما بأسبابه لم يكن إلاّ علما كلّيّا ، ولم يكن يجوز أن يتغيّر ، ولم يكن زمانيّا ؛ فإنّ كلّ علم لا يعرف بالإشارة وبالاستناد إلى شيء مشار إليه كان بسبب ، والعلم بالمسبّب لا يتغيّر ما دام السبب موجودا ، لكنّ العلم الذي يتغيّر هو أن يكون مستفادا من وجود الشيء ومشاهدته ، فواجب الوجود تعالى منزّه عن ذلك ؛ إذ لا يعرف الشيء من وجوده ، فيكون علمه زمانيا ومستحيلا ومتغيّرا ، ولو كنّا نعرف حقيقة واجب الوجود وما يوجبه ذاته من صدور اللوازم كلّها عنه لازما بعد لازم إلى أقصى الوجود ، لكنّا نحن أيضا نعلم الأشياء بأسبابها ولوازمها ، وكان علمنا أيضا لا يتغيّر ، وإذا كان هو يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ، فيجب

__________________

(١) في « التعليقات » : « لا يدفع ».

٢٤٣

أن يكون علمه كلّيّا بأسباب الشيء ولوازمه ، فلا يتغيّر(١) . انتهى.

واعلم أنّه كما أنّه من هذا الطريق بتصحّح العلم بالجزئيّات المتغيّرة ، كذلك يتصحّح العلم بالجزئيّات المتشكّلة أيضا ؛ فإنّ إدراك المتشكّلات ـ إذا لم يكن من سبيل الجزئيّة المستندة إلى الإشارة والإحساس ، بل من سبيل التخصيص بصفات مستندة إلى مبدأ نوعه في شخصه ـ لا يستدعي الانطباع في آلة جسمانيّة.

واعلم أيضا أنّه لا يخرج من هذا الطريق عن إحاطة علمه تعالى شيء جزئيّ ، بل نفي علمه تعالى عن الجزئيّات على وجه الجزئيّة عبارة عن نفي الإحساس بها عنه تعالى كما هو الظاهر ، بل الصريح من كلام الشيخ ، ولا يلزم من نفي الإحساس بالشيء نفي العلم به.

فلا وجه لما أورده المصنّف في شرح الإشارات على الشيخ من أنّ : هذه السياقة قد تشبه سياقة الفقهاء في تخصيص بعض الأحكام بأحكام يعارضها في الظاهر ، وذلك لأنّ الحكم بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إن لم يكن كلّيا ، لم يمكن أن يحكم بإحاطة الواجب بالكلّ ، وإن كان كلّيّا وكان الجزئيّ المتغيّر من جملة معلولاته ، أوجب ذلك الحكم أن يكون عالما به لا محالة ، فالقول بأنّه لا يجوز أن يكون عالما به ؛ لامتناع كون الواجب موضوعا للتغيّر تخصيص لذلك الحكم الكلّيّ بحكم آخر عارضه في بعض الصور ، وهذا دأب الفقهاء ومن يجري مجراهم ، ولا يجوز أن تقع أمثال ذلك من المباحث المعقولة ؛ لامتناع تعارض الأحكام فيها.

فالصواب أن يؤخذ بيان هذا المطلب من مأخذ آخر ، وهو أن يقال : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، ولا يوجب الإحساس به ، وإدراك الجزئيّات المتغيّرة من حيث هي متغيّرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانيّة كالحواسّ وما يجري مجراها والمدرك بذلك الإدراك يكون موضوعا للتغيّر لا محالة. أمّا إدراكها على الوجه

__________________

(١) « التعليقات » : ١٤ ـ ١٥.

٢٤٤

الكلّيّ ، فلا يمكن إلاّ بالعقل ، والمدرك بهذا الإدراك يمكن أن لا يكون موضوعا للتغيّر ، فإذن الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون موضوعا للتغيّر ، بل كلّ ما هو عاقل يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني(١) . انتهى كلام شرح الإشارات.

وأنت بما نبّهنا عليه خبير بما فيه. هذا تصحيح العلم بالجزئيّات المتغيّرة على القول بارتسام الصور في ذاته تعالى بالمعنى الذي حقّقناه.

وأمّا تصحيحه على القول بالعلم الحضوريّ ، فواضح ؛ فإنّه لمّا لم يكن العلم مستدعيا لارتسام الصور في ذاته تعالى ، لم يكن تغيّر المعلوم موجبا لتغيّر ما هو صفة حقيقيّة له تعالى ، بل يتغيّر إضافة بينه وبين معلومه وهو جائز اتّفاقا.

وإلى هذا أشار المصنّف ـقدس‌سره ـ بقوله :( وتغيّر الإضافات ممكن ).

وقال في شرح رسالة العلم : وأمّا علم البارئ بالجزئيّات ، ففيه خلاف بين المتكلّمين والفلاسفة ؛ وذلك أنّ المتكلّمين قالوا : إنّ البارئ تعالى يعلم الحادث اليوميّ على الوجه الذي يعلم أحدنا أنّه موجود في هذا الوقت ولم يكن موجودا قبله ويمكن أن يوجد بعده أو لا يمكن ، ثمّ إذا تنبّهوا بوجوب تغيّر العلم بالمتغيّرات حسب تغيّرها ، التزم بعضهم جواز التغيّر في صفات الله تعالى ، أو في بعضها ، فقال القائلون بالإضافات فقط : إنّ تغيّر الإضافات في الله تعالى جائز عند جميع العقلاء كالخالقيّة والرازقيّة والإضافة إلى كلّ شخص.

وقال غيرهم : يجوز أن يكون ذاته محلاّ للحوادث كما جوّز طائفة من الحكماء كونه محلاّ للحوادث ، قابلا لصور المعلومات غير المتغيّرة. ومن لم يجوّز التغيّر في صفاته تعالى ، عاند في هذا الموضع ، وأنكر التغيّر أصلا وقال : العلم بما سيوجد هو العلم بوجوده حين وجوده » إلى أمثال ذلك من التمسّكات الواهية.

__________________

(١) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣١٦.

٢٤٥

وأمّا الحكماء ، فالظاهريّون من المنتسبين قالوا : إنّه تعالى عالم بالجزئيّات على الوجه الكلّيّ لا على الوجه الجزئيّ ، فقيل لهم : لا يمكن أن ينكر وجود الجزئيّات على وجه الجزئيّة المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة إلى البارئ تعالى الذي هو مبدؤه وعلّته الأولى ، وعندكم أنّ العلم التامّ بالعلّة التامّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها ، وأنّ علم البارئ تعالى بذاته أتمّ العلوم ، فأنتم بين أن تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيّات على وجه الجزئيّة المتغيّرة ، وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ؛ إذ من الممتنع أن يستثنى من الأحكام الكلّيّة العقليّة بعض جزئيّاتها الداخلة فيها ، كما يستثنى في الأحكام النقليّة بعضها ؛ لتعارض الأدلّة السمعيّة ، فهذه هي المذاهب المشهورة.

وأمّا التحقيق في هذا الموضع فيحتاج ـ كما تقدّم ـ إلى لطف قريحة.

ثمّ قال ـ بعد تمهيد مقدّمة محصّلها : أنّ الكثرة العدديّة إمّا أن تكون آحادها غير قارّة ، أو تكون قارّة.

والأوّل : لا يمكن أن يوجد إلاّ مع زمان ، أو في زمان ؛ لأنّ العلّة الأولى للتغيّر على هذا الوجه في الوجود هو الموجود غير القارّ لذاته الذي يتصرّم ويتجدّد على الاتّصال وهو الزمان.

والثاني : لا يمكن أن يوجد إلاّ في مكان ، أو مع مكان ؛ لأنّ العلّة الأولى للكثرة على هذا الوجه إنّما هو الموجود الذي يقبل الوضع لذاته ويلزمه التجزّؤ بأجزاء مختلفة الأوضاع وكلّ موجود يكون شأنه ذلك فهو مادّي ، فالطبائع إذا تحصّلت في أشخاص كثيرة ، يكون الأسباب الأولى لتعيّن أشخاصها إمّا الزمان كما للحركات ، أو المكان كما في الأجسام ، أو كليهما كما في الأشخاص المتغيّرة المتكثّرة الواقعة تحت نوع من الأنواع. وما لا يكون زمانيّا ولا مكانيّا فلا يتعلّق بهما ، ويتنفّر العقل من استناده إليهما كما إذا قيل : الإنسان من حيث طبيعته الإنسانيّة متى يوجد؟ أو أين يوجد؟ أو كون الخمسة نصف العشرة في أيّ زمان يكون؟ أو في أيّ بلدة

٢٤٦

يكون؟ بل إذا تعيّن شخص منهما ـ كهذا الإنسان أو هذه الخمسة والعشرة ـ فقد يتعلّق بهما بسبب تشخّصهما ـ بهذه(١) العبارة : فنعود إلى المقصود ونقول : إذا كان المدرك متعلّقا بزمان أو مكان ، فإنّما يكون هذه الإدراكات منه بآلة جسمانيّة لا غير كالحواسّ الظاهرة والباطنة أو غيرها ؛ فإنّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ، ويحكم بوجودها ، ويفوته ما يكون وجوده في زمان غير ذلك الزمان ، ويحكم بعدمه ، بل يقول : إنّه كان ، أو سيكون ، وليس الآن ، ويدرك المتكثّرات التي يمكن له أن يشير إليها ، ويحكم عليها بأنّها في أيّ جهة منه ، وعلى أيّ مسافة إن بعدت عنه.

وأمّا المدرك الذي لا يكون كذلك ، ويكون إدراكه تامّا ، فإنّه يكون محيطا بالكلّ ، عالما به بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة وكم يكون من المدّة بينه وبين الحادث الذي يتقدّمه أو يتأخّر منه ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك بل بدل ما يحكم المدرك الأوّل بأنّ الماضي ليس موجودا في الحال يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الأزمنة التي تكون قبله أو بعده ، ويكون عالما بأن كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان ، وأيّ نسبة يكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما جميعا على الوجه المطابق للوجود ، ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ؛ لأنّه ليس بزمانيّ ولا مكانيّ ، بل نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة.

وإنّما يختصّ بالآن ، أو بهذا المكان ، أو ذاك المكان ، أو بالحضور والغيبة ، أو بأنّ هذا الجسم قدّاميّ أو خلفيّ أو تحتيّ أو فوقيّ من يقع وجوده في زمان معيّن ومكان معيّن ، وعلمه تعالى بجميع الموجودات أتمّ العلوم وأكملها ، وهذا هو المعنيّ بالعلم بالجزئيّات على الوجه الكلّيّ ، وإليه أشير بطيّ السماوات التي هي جامعة

__________________

(١) أي : ثمّ قال بعد تمهيد مقدّمة بهذه العبارة.

٢٤٧

الأمكنة والأزمنة كلّها كطيّ السجلّ للكتب ؛ فإنّ القارئ للسجلّ يتعلّق نظره بحرف حرف على الولاء ، ويغيب عنه ما تقدّم نظره إليه أو تأخّر عنه.

أمّا الذي بيده السجلّ مطويّا فيكون نسبته إلى جميع الحروف نسبة واحدة لا يفوته شيء منها.

وظاهر أنّ هذا النوع من الإدراك لا يمكن إلاّ لمن يكون غير زمانيّ وغير مكانيّ ، ويدرك لا بآلة من الآلات ولا بتوسّط شيء من الصور ، ولا يمكن أن يكون شيء من الأشياء ـ كلّيّا أو جزئيّا ، على أيّ وجه كان ـ إلاّ وهو عالم به ، فلا يسقط من ورقة إلاّ يعلمها ، ولا حبّة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلاّ وجميعها يثبت عنده في الكتاب المبين ، الذي هو دفتر الوجود من كلّ شيء ممّا مضى أو حضر أو يستقبل أو يوصف بهذه الصفات على أيّ وجه كان.

أمّا العلم بالجزئيّات على الوجه الجزئيّ المذكور ، فهو إنّما يصحّ لمن يدرك إدراكا حسّيّا بآلة جسمانيّة في وقت معيّن(١) .

وكما ترى أنّ البارئ تعالى يقال(٢) : إنّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ، ولا يقال(٣) : إنّه ذائق أو شامّ أو لامس ؛ لأنّه منزّه عن أن يكون له حواسّ جسمانيّة ولا يثلم ذلك في تنزيهه تعالى ، بل يؤكّده ، فكذا نفي العلم بالجزئيّات المشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانيّة عنه لا يثلم في تنزيهه بل يؤكّده ، ولا يوجب ذلك تغيّرا في ذاته الوحدانيّة ولا في صفاته الذاتيّة التي تدركها العقول [ و ] إنّما يوجب التغيّر في معلولاته(٤) والإضافات بينه وبينها فقط ، فهذا ما عندي من التحقيق في هذا الموضع(٥) . انتهى كلام المصنّف في شرح الرسالة.

__________________

(١) في المصدر و « شوارق الإلهام » : « في وقت معيّن ومكان معيّن ».

(٢) كذا ، والأصحّ : « يقال له » و « لا يقال له ».

(٣) كذا ، والأصحّ : « يقال له » و « لا يقال له ».

(٤) في المصدر و « شوارق الإلهام » : « في معلوماته ومعلولاته ».

(٥) « شرح مسألة العلم » : ٣٨ ـ ٤١.

٢٤٨

وأقول : على القول بالعلم الحضوريّ لا حاجة إلى ذلك التطويل ، ولا إلى الفرق بين من تعلّق بزمان ومكان ، ومن لم يتعلّق بهما ؛ فإنّ مناطه ليس إلاّ تحقّق الإضافة الحضوريّة ، ألا ترى أنّ صاحب الإشراق يرى الإبصار بالإضافة الإشراقيّة للنفس إلى المبصرات ، ويرى علمها بالبدن والقوى بالإضافة التسلّطيّة إليهما مع تعلّقهما بالزمان والمكان(١) .

وهذه الإضافة الحضوريّة متحقّقة ـ على قولهم ـ بين البارئ تعالى ، وبين جميع معلولاته في أوقات وجوداتها.

ولا حاجة أيضا إلى كون نسبته تعالى إلى جميع الأزمنة واحدة في ذلك مع أنّ ذلك ليس من مذهبه ، وإلاّ فأيّ حاجة إلى الفرق بين المعلولات(٢) القريبة والبعيدة بكون علمه تعالى بالأولى بحضور ذواتها العينيّة ، وبالثانية بحصول صورها في الأولى على ما عرفت من مذهبه؟ وحينئذ فلا حاجة أيضا إلى نفي حكمه تعالى بعدم شيء ممّا مضى أو يستقبل في الحال ، ولا فرق بينه وبين المدرك الأوّل في ذلك.

نعم ، أمثال ذلك إنّما تلائم مذهب من زعم أنّه ليس بالنسبة إليه تعالى ماض ولا حال ولا مستقبل ، بل نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كنسبة جميع الأمكنة ، وأنّه لا يتغيّر بالنسبة إليه تعالى شيء من الأشياء ، بل التغيّر إنّما هو فيما بينهما ، وبقياس بعضها إلى بعض ، كما مرّ في المباحث السابقة ، وقد قلنا هناك : إنّ هذا المذهب متوهّم من هذا الكلام من المصنّف. كيف؟ ولو كان مراد المصنّف ذلك ، لما صحّ منه ما ذكرناه ، ولما صحّ أن يحكم أنّ ذلك إنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والإضافات التي بينه وبينها ؛ فإنّه إذا لم يكن التغيّر واقعا بالنسبة إليه تعالى ،

__________________

(١) « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٤٨٤ ـ ٤٨٧. وانظر « حكمة الإشراق » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ٩٧ ـ ١٠٣.

(٢) في « شوارق الإلهام » : « بين المعلومات ».

٢٤٩

لم يوجب تغيّر إضافته تعالى إليهما أيضا.

وبالجملة ، هذا الكلام من المصنّف ليس على ما ينبغي ، بل هو مناسب لمذهب القائلين بالعلم الحصوليّ ، ومأخوذ من كلام الشيخ وغيره من الحكماء في بيان كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات ، وأنّه لا يدخل في علمه تعالى ماض ومستقبل ولا حال ؛ لأنّ علمه تعالى ليس مستفادا من الأشياء ليمكن أن يدخل فيه شيء من ذلك حسب تعلّق الأشياء بالأزمنة الثلاثة ، بل علمه تعالى بالأشياء إنّما هو من ذاته المنزّهة عن الوقوع في شيء من الأزمنة ، وسابق بالذات على الأشياء ، فلا مجال لدخول شيء من الأزمنة فيه.

وكيف كان ، فظهر وثبت من تضاعيف ما ذكرناه في هذا المقام لمن تأمّل حقّ التأمّل أنّ الحقّ الحقيق بالتحقيق ، والقول الحريّ بالتصديق هو أنّ علمه تعالى بجميع الموجودات ـ الكلّيّة والجزئيّة والحادثة والقديمة ـ إنّما هو من ذاته تعالى في ذاته بحيث يطابقه الوجود ، وينطبق عليه النظام الموجود ، وهذا العلم هو سبب فيضان هذا النظام المعقول في الأشياء الموجودة من الأزل إلى الأبد في الطول والعرض ، فلا يعزب عن هذا العلم مثقال ذرّة في السماء ولا في الأرض سواء سمّي هذا العلم حصوليّا أو اتّحاديّا أو إجماليّا أو تفصيليّا بعد ما كان المراد من الحصول غير الحصول من الأشياء في ذاته ، ومن الاتّحاد غير الاتّحاد المعروف بين الاثنين الظاهر الاستحالة ، ومن الإجمال غير الذي فهمه المتأخّرون ، بل ما ذكرناه في تفسير كلام الشيخ المنقول من كتاب النفس ، ومن التفصيل غير التفصيل الذي تلزمه هذه الكثرة العارضة للموجودات على ما عرفت في كلام ابن رشد ، ولا يوجب تغيّر المعلوم تغيّر هذا العلم ؛ لكون العلم بالتغيّر غير مستفاد من الأشياء المتغيّرة ليلزم من تغيّرها تغيّره كما في علمنا بالجزئيّات المتغيّرة من طريق الحواسّ ، ومن سبيل الإشارة الحسّيّة على ما مرّ ، ولهذا ـ أعني لكون هذا العلم غير مستفاد من الأشياء ـ لا يصحّ كون هذا العلم حضوريا لو فرض كون حضور الأمر المباين كافيا في العلم

٢٥٠

ولوجوب كون هذا العلم سببا لنظام جميع الموجودات لا يجوز أن يكون بالصور القائمة بذواتها أو بذات المعلول الأوّل ، وإلاّ لكانت هذه الصورة من جملة تلك الموجودات ، فيكون نظامها لا عن علم ، أو عن علم آخر ، ويتسلسل ، بل هذه الصورة هي عين ذاته تعالى من وجه ، وغير ذاته تعالى من وجه على ما مرّ في التكميل العرشي(١) ، أو عين ذاته تعالى حقيقة وغير ذاته تعالى اعتبارا على ما مرّ في التدقيق الإلهاميّ(٢) .

وممّا يدلّ على أنّ علمه تعالى لا يتفاوت قبل وجود الأشياء وبعدها ، وأنّه على حال واحد أزلا وأبدا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم قبلا وبعدا ـ فلو كان علمه بحضور الأشياء أنفسها عنده بوجوداتها العينيّة ، لكان علمه تعالى بها عند وجوداتها أشدّ انكشافا ممّا كان قبلها على ما اعترفوا به وادّعوا الضرورة فيه سيّما والعلم قبل الإيجاد إجماليّ محض على زعم من ذهب منهم إليه ـ ما(٣) رواه في الكافي عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه(٤) .

وعن أيّوب بن نوح أنّه كتب إلى أبي الحسنعليه‌السلام يسأله عن الله عزّ وجلّ : أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوّن عند ما كوّن؟ فوقّع بخطّهعليه‌السلام : لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء(٥) .

__________________

(١) انظر ص ٢٣٠ وما بعدها من هذا الجزء. وكذا « شوارق الإلهام » : ٥٤١ ـ ٥٤٢.

(٢) انظر ص ٢٣٣ وما بعدها من هذا الجزء.

(٣) مبتدأ مؤخّر خبره قوله : « ممّا ».

(٤) « الكافي » ١ : ١٠٧ باب صفات الذات ، ح ٢.

(٥) نفس المصدر ، ح ٤.

٢٥١

إلى غير ذلك ممّا روي عن أصحاب العصمة والطهارة ، من ورثة خير أهل الرسالة والسفارة ، صلّى الله عليه وعليهم أجمعين.

هذا آخر ما أردنا إيراده في شرح هذا المقام ، وتحقيق ذلك المرام ، والله تعالى وليّ الإنعام.

وأمّا قوله :( ويمكن اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين ) فهو جواب عن إشكال على كونه تعالى عالما بالأمور المتجدّدة قبل وقوعها.

وتقريره : أنّها ممكنة لا محالة ؛ لحدوثها ، ويلزم على تقدير تعلّق علمه تعالى بها أن تكون واجبة أيضا ، وإلاّ لأمكن أن لا توجد ، فينقلب علمه تعالى جهلا ، وهو محال.

وتقرير الجواب : أنّها ممكنة لذواتها وواجبة لتعلّق علمه تعالى بها ، فيكون اجتماعهما باعتبارين ، وهو جائز.

فإن قيل : فيلزم وجوب صدور أفعال العباد عنه تعالى ، وهو ينافي كونها اختياريّة لهم ، كان الجواب ما مرّ في مسألة العلم من الأعراض ، وسيأتي من أنّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون موجبا له ، ولا يلزم من وجوب الأمور المتجدّدة ـ لئلاّ ينقلب علمه تعالى جهلا ـ أن يكون وجوبها من العلم ؛ لجواز أن يكون ذلك لأسباب أخر كإرادة العبد في أفعاله على ما هو الحقّ كما سيأتي ، فتدبّر »(١) .

المسألة الثالثة : في أنّه تعالى حيّ

اعلم أنّ الحياة ـ وهي عبارة عن صفة مصحّحة لاتّصاف الوجود(٢) بالعلم والقدرة ؛ فإنّ الجسم بما هو جسم لا يصحّ أن يتّصف بهما ، وكذا الجماد من حيث هو جماد ، والنبات من حيث هو نبات. وأمّا الحيوان فهو من حيث إنّه حيوان يصحّ أن

__________________

(١) « شوارق الإلهام » : ٥٤٩.

(٢) في « أ » و « و» و « ز » : « الموجود ». وما أثبتناه من « ب » وهي النسخة التي عليها خطّ المصنّف.

٢٥٢

يتّصف بهما بصفة مصحّحة للاتّصاف بهما ، وهي الحياة التي تقتضي الحسّ والحركة بشرط اعتدال المزاج اعتدالا نوعيّا ، فلا بدّ من البدن والروح الحيواني ، أعني الجسم اللطيف البخاريّ المتكوّن من لطائف الأخلاط المنبعث من التجويف الأيسر من القلب ، الساري إلى البدن في عروق نابتة من القلب.

والمراد هنا أنّ ذاته تعالى منشأ لصحّة اتّصافه بالعلم والقدرة ، كما أنّ غيره تعالى يتّصف بهما بسبب صفة زائدة على ذاته مسمّاة بالحياة ، فالحياة عبارة عن منشأ صحّة الاتّصاف بالعلم والقدرة ، وهي في الواجب تعالى عين الذات ، وفي الممكن صفة زائدة.

ودليل كونه تعالى حيّا أنّ المتّصف بالعلم والقدرة لا يمكن أن لا يكون حيّا وقد بيّنا اتّصافه تعالى بهما ، فيلزم اتّصافه بالحياة أيضا.

والدليل النقليّ على ذلك المطلب كثير ، كقوله تعالى :( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (١) ونحو ذلك ممّا سيأتي الإشارة إلى قليل منها.

وقال الفاضل اللاهيجي : « قد علم بالضرورة من الدين ، وثبت بالكتاب والسنّة ، وانعقد إجماع أهل الأديان ، بل جميع العقلاء على أنّ البارئ تعالى حيّ.

وليس المراد من الحياة ما هو من الكيفيّات النفسانيّة وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة ، مشروطة باعتدال المزاج على ما مرّ في مباحث الأعراض ، بل صفة تصحّح الاتّصاف بالعلم والقدرة ، فالاتّصاف بالعلم والقدرة يدلّ ضرورة على صحّة الاتّصاف بها ، وهذا معنى قوله :( وكلّ قادر عالم حيّ بالضرورة ).

والكلام في كون حياته تعالى صفة زائدة على ذاته تعالى ، أو عين ذاته كالكلام في سائر صفاته الثبوتيّة ، فعند الصفاتيّة(٢) صفة زائدة على ذاته ، وعند غيرهم عين

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٥٥ ؛ آل عمران (٣) : ٢.

(٢) هم الذين يثبتون لله تعالى صفات أزليّة من العلم والقدرة وغيرهما. انظر « الملل والنحل » للشهرستانيّ ١ : ٩٢.

٢٥٣

ذاته أو مرجعها(١) إلى السلب ، أي عدم استحالة كونه تعالى عالما قادرا ، أو هي نفس كونه قادرا عالما على ما قال الشيخ في الشفاء : إذا قال له : حيّ ، لم يعن إلاّ هذا الوجود العقليّ مأخوذا مع الإضافة إلى الكلّ المعقول أيضا بالقصد الثاني ؛ إذ الحيّ هو الدرّاك الفعّال(٢) . انتهى.

وقوله : « هذا الوجود العقليّ » أي ذاته المعقولة. وقوله : « مع الإضافة » أي الإضافة التي هي المبدئيّة للكلّ.

قال المصنّفقدس‌سره في « شرح رسالة العلم » : المسألة الخامسة عشرة في أنّ كونه حيّا هل يرجع إلى كونه عالما ، أو هو وصف زائد على ذلك؟

المستند في إثبات الحياة هو الذي ذكرناه وهو أنّ العقلاء قصدوا وصفه تعالى بالطرف الأشرف من طرفي النقيض ، ولمّا وصفوه تعالى بالعلم والقدرة ، ووجدوا كلّ ما لا حياة له ممتنع الاتّصاف بهما ، وصفوه بالحياة لا سيّما وهو أشرف من الموت الذي هو ضدّها عندهم.

ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوّة : هل سمّي عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين ، وكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، والبارئ تعالى واهب الحياة ، مقدّر الموت ، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله تعالى زبانيين(٣) [ ؛ فإنّ ذلك ] كمالها ؛ فإنّها تتصوّر أنّ عدمهما(٤) نقصان لمن لا يكونان له هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به فيما أحسب ، وإليه المفزع(٥) . انتهى(٦) .

__________________

(١) في المصدر : « ومرجعها ».

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٢٣٨ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

(٣) في جميع النسخ والمصدر : « زبانيتين ». وما أثبتناه موافق لما في « الرواشح السماويّة ». وزبانيين تثنية زبانى. وزبانيا العقرب : قرناها.

(٤) في « علم اليقين » : « وتتصوّر أنّ عدمها ». وفي « بحار الانوار » : « ويتوهّم أنّ عدمها ».

(٥) « علم اليقين » ١ : ٧٣ ـ ٧٤ ؛ « بحار الأنوار » ٦٦ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٦) « شرح مسألة العلم » : ٤٣. وانظر « شوارق الإلهام » : ٥٤٩.

٢٥٤

المسألة الرابعة : في إرادته تعالى

واعلم أنّ الإرادة في اللغة : المشيئة وقد اختلف في معناها الاصطلاحيّ ، فقيل : هي عبارة عن اعتقاد النفع ـ سواء يقينيا أو غيره ـ فالقادر الذي يكون نسبة قدرته إلى طرفي المقدور ـ أعني الفعل والترك ـ بالسويّة ، إذا اعتقد نفعا في أحد طرفيه ، يرجّح ذلك الطرف عنده ، وصار هذا الاعتقاد مع القدرة مخصّصا لوقوعه منه.

وقيل : هذا الاعتقاد هو المسمّى بالداعي إلى الفعل أو الترك. وأمّا الإرادة ، فهي ميل يعقب اعتقاد النفع ، كما أنّ الكراهة انقباض يعقب اعتقاد الضرر ؛ وذلك لأنّا كثيرا نعتقد نفعا في شيء ولا نريده إلاّ إذا أحدث فينا ميل بعد هذا الاعتقاد.

وردّ بأنّا لا نجعلها مجرّد اعتقاد النفع أو ظنّه ، بل نفع له أو لغيره ممّن يؤثر خيره بحيث يمكن وصول ذلك النفع إليه أو إلى غيره إذا لم يكن هناك مانع من تعب أو معارضة.

وما ذكر من الميل إنّما يحصل لمن لا يقدر على تحصيل ذلك الشيء قدرة تامّة كالشوق إلى المحبوب لمن لا يصل إليه. وأمّا القادر التامّ القدرة ، فيكفي فيه الاعتقاد المذكور.

وذهبت الأشاعرة ـ على ما حكي عنهم(١) ـ إلى أنّ الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع أو ميل يتبعه ، فلا يكون شيء منهما لازما فضلا عن أن يكون نفسها ؛ فإنّ الهارب عن السبع إذا ظهر له طريقان متساويان في الإفضاء إلى المقصود يختار أحدهما باختياره من غير توقّف على ترجيح أحدهما لنفع يعتقده فيه ، ولا على ميل يتبعه ، بل يرجّح أحدهما على الآخر بمجرّد الإرادة ؛ إذ لا يخطر بباله طلب مرجّح ،

__________________

(١) انظر « المحصّل » : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ٦٤ ـ ٧٠ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٤٠.

٢٥٥

ولهذا لم يتوقّف متفكّرا أصلا ، بل لا يخطر بباله سوى النجاة.

وكذلك العطشان إذا كان عنده قدحان متساويان من كلّ جهة.

وأجيب بأنّ المرجّح موجود وهو شاعر به وإن لم يكن شاعرا بأنّه شاعر لأجل الدهشة ؛ وذلك لأنّ الطبيعة تقتضي سلوك الطريق الذي على يساره ؛ لأنّ القوّة أكثر ، والقويّ يدفع الضعيف كما يشاهد فيمن يدور على عقبه.

وأمّا القدحان فيختار ما هو الأقرب إلى اليمين.

ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّ الهارب عن السبع ليس فيه إرادة وشعور أحيانا ، وفي صورة الشعور يرجّح أحد الطريقين ؛ لمرجّح يقتضيه.

وبالجملة ، فالإرادة على الأوّل عبارة عن العلم بالمصلحة أو المفسدة في الفعل أو الترك ، الذي يوجب الميل إلى أحدهما ، فمعنى كونه تعالى مريدا أنّه يفعل الأشياء بالقصد والشعور والإرادة والعلم بكونها ممّا فيه مصلحة.

والمشيئة عبارة عن الميل إلى أحدهما وطلبه.

والاختيار عبارة عن ترجيح الفعل أو الترك فيفعل أو يترك.

والثلاثة متلازمة الوجود بالنسبة إلى الله تعالى ؛ لأنّه تعالى غنيّ مطلق ، وقادر مطلق ، وفعل الأشياء وتركها منوطان إلى المصلحة والمفسدة الراجعتين إلى المخلوق ، فالعلم بالمصلحة المخصوصة بوقت يقتضي اختيار الفعل ؛ لعدم وجود المعارض والمنازع بالنسبة إليه تعالى واستحالة التردّد فيه تعالى بخلاف غيره تعالى ؛ فإنّه يمكن أن يعلم مصلحة شيء ولا يطلبه ، أو يطلبه ولا يختاره ؛ لعدم القدرة عليه.

وقد يحصل العلم بالمصلحة والمفسدة بعد التردّد وقد لا يحصل.

وكيف كان فإذا كان الإرادة من شعب العلم ، يكون وجه ثبوتها له تعالى ووجه كونها عين الذات ظاهرين ممّا مرّ ، مضافا إلى أنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون بعض ، وفي بعض الأوقات دون بعض ـ مع استواء نسبته إلى الكلّ ـ لا بدّ له من

٢٥٦

مخصّص غير خارج ؛ لئلاّ يلزم احتياج الواجب في فاعليّته إلى أمر منفصل ، وذلك المخصّص هو الإرادة.

ويظهر ممّا ذكر أنّه تعالى كاره ؛ لأنّ إرادة الشيء تستلزم كراهة ضدّه إن لم تكن نفسها ، مضافا إلى أنّه تعالى نهى العباد ـ بالنهي التنزيهي ـ عن المكروهات ، فهو تعالى يكون كارها لها ، فالكراهة من متفرّعات الإرادة ، وهذا في إرادة الواجب.

وأمّا إرادة الممكن ، فلها مراتب حاصلة بعد الخطور :

الأولى : الميل الحاصل من اعتقاد النفع.

والثانية : العزم الذي هو توطين النفس إلى أحد الأمرين بعد سابقة التردّد فيهما.

والثالثة : الجزم الحاصل بعد زوال التردّد بالكلّيّة.

ولا يستلزم شيء منها الفعل ؛ لإمكان أن يجزم بأنّه سيقصد الفعل وقد حصل زوال التردّد بالكلّيّة ؛ لزوال شرط من شرائط الفعل أو حدوث مانع من موانعه ، فلا يوجد الفعل ، فإذا لم يكن ذلك التوطين البالغ حدّ الجزم موجبا للفعل ، فالذي لم يبلغه كان أولى بعدم الإيجاب.

والرابعة : القصد ، وهي الإرادة المقارنة للفعل التي لم تنفكّ عنه ، فكلّ فعل اختياريّ للممكن مسبوق بالأحوال الخمسة ، بل الستّة إن قلنا بأنّ الشوق الحاصل من اعتقاد النفع المسمّى بالميل غير نفس ذلك الاعتقاد ، كما هو الظاهر.

والدليل النقليّ على ذلك قوله تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) وقوله تعالى :( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (٢) ونحو ذلك.

وقال الفاضل اللاهيجي :

« الدليل على ثبوت الإرادة له تعالى ـ بعد ما اتّفق جميع أرباب العقول وأهل

__________________

(١) يس (٣٦) : ٨٢.

(٢) هود (١١) : ١٠٧ ؛ البروج (٨٥) : ١٦.

٢٥٧

الملل على إطلاق القول بأنّه تعالى مريد ، وشاع ذلك في كلام الله عزّ وجلّ وكلام الأنبياءعليهم‌السلام ـ هو كونه تعالى قادرا ؛ فإنّ القادر لا يصحّ أن يصدر عنه ـ من حيث هو قادر ـ أحد الطرفين بخصوصه ؛ لاستواء نسبة القدرة إلى الطرفين ، بل لا بدّ من أن يتخصّص ويترجّح أحد الطرفين ليصحّ صدوره عنه ، ويكون ذلك لا محالة بصفة شأنها ذلك ؛ لامتناع التخصيص من غير مخصّص ، واحتياج الواجب تعالى في فاعليّته إلى أمر منفصل.

ولا يمكن أن يكون المخصّص هو مطلق العلم ؛ لكونه كالقدرة في تساوي النسبة إلى الطرفين.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله :( وتخصيص بعض الممكنات ) دون بعض( بالإيجاد في وقت ) دون وقت( يدلّ على إرادته ).

ثمّ الفرق بين الإرادة والاختيار هو أن الاختيار إيثار لأحد الطرفين وميل إليه ، والإرادة هو القصد إلى إصدار ما يؤثره ويميل إليه. وأمّا في البارئ تعالى ، فيشبه أن يكون كلاهما واحدا.

وأمّا المشيئة ففي شرح المقاصد : أنّه لا فرق بينها وبين الإرادة إلاّ عند الكراميّة ؛ حيث جعلوا المشيئة صفة واحدة أزليّة تتناول ما شاء الله بها من إحداث محدث ، والإرادة حادثة متعدّدة تعدّد(١) المرادات(٢) .

ثمّ اختلفوا في أرادته تعالى(٣) : فعند الأشاعرة وجمهور معتزلة البصرة : صفة قديمة زائدة على الذات ، قائمة بها كسائر الصفات الحقيقيّة عندهم.

وعند الجبائيّة : صفة زائدة قائمة لا بمحلّ.

وعند الكرامية : صفة حادثة قائمة بالذات.

__________________

(١) في المصدر : « بعدد ».

(٢) « شرح المقاصد » ٤ : ١٣٤.

(٣) « شرح المقاصد » ٤ : ١٣٢ ـ ١٣٦ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٨١ ـ ٨٧.

٢٥٨

وعند ضرار : نفس الذات.

وعند النجّار : صفة سلبيّة هي كون الفاعل ليس بمكره ولا ساه.

وعند الفلاسفة : العلم بالنظام الأكمل.

وعند الكعبي : إرادته لفعله تعالى العلم به ، ولفعل غيره الأمر.

وعند المحقّقين من المعتزلة كأبي الحسن وجماعة من رؤساء المعتزلة كالنّظام والجاحظ والعلاّف والبلخيّ والخوارزميّ : العلم بما في الفعل من المصلحة. ويسمّيه أبو الحسين بالداعي ، واختاره المصنّف ، فقال :( وليست زائدة على الداعي وإلاّ لزم التسلسل أو تعدّد القدماء ).

يعني لو كانت الإرادة زائدة على الداعي الذي هو عين الذات ، لكانت إمّا حادثة في الذات ـ على ما زعمه الكراميّة ـ أو لا في محلّ ـ على ما زعمه الجبائيّة ـ وعلى التقديرين يلزم التسلسل ؛ لأنّ حدوث الإرادة يستلزم ثبوت إرادة أخرى مخصّصة للأولى ، ويعود الكلام فيهما. وإمّا قديمة قائمة بذاته تعالى ـ على ما زعمه الأشاعرة ـ فيلزم تعدّد القدماء.

واعلم أنّ إرادته تعالى عند جمهور المتكلّمين عبارة عن القصد إلى إصدار الفعل كما في المشاهد(١) .

وعند الفلاسفة يمتنع القصد على الواجب تعالى ؛ لأنّ الفاعل بالقصد يكون فعله لغرض ، وكلّ قاصد للغرض مستكمل به سواء كان الغرض عائدا إليه أو إلى غيره ؛ لأنّ إيصال النفع إلى الغير إذا كان عن قصد شوقي يكون استكمالا(٢) .

__________________

(١) انظر « المحصّل » : ٣٩١ ـ ٣٩٩ ؛ « نقد المحصّل » : ٢٨١ ـ ٢٨٧ ؛ « مناهج اليقين » : ١٧١ ـ ١٧٥ ؛ « أنوار الملكوت » : ٦٧ ـ ٦٨ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٨١ ـ ٨٧ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٢٨ ـ ١٣٧ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٠٣ ـ ٢٠٥.

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، الفصل السادس من المقالة التاسعة ؛ « النجاة » : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٨٨ ـ ٩٠ ؛ « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ١٤٢ ـ ١٤٤ ؛ « شرح مسألة العلم » : ٤٤ ـ ٤٦.

٢٥٩

قال الشيخ في الإشارات : الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض ، ولعلّ من يهب السكّين لمن لا ينبغي ليس بجواد ، ولعلّ من يهب ليستعيض معامل ليس بجواد. وليس العوض كلّه عينا بل وغيره حتّى الثناء والمدح والتخلّص من المذمّة والتوسّل إلى أن يكون على الأحسن ، أو على ما ينبغي ، فمن جاد ليشرف ، أو ليحمد ، أو ليحسن به ما يفعل ، فهو مستعيض غير جواد ، فالجواد الحقّ هو الذي يفيض منه الفوائد لا لشوق منه وطلب قصديّ لشيء يعود إليه. واعلم أنّ الذي يفعل شيئا لو لم يفعله قبح به ، أو لم يحسن منه ، فهو [ بما ](١) يفيده من فعله متخلّص(٢) . انتهى.

وما قيل(٣) من أنّه لم لا يجوز أن يقصد أحد شيئا يحبّه بمجرّد أنّه خير في نفسه لا لأنّه خير له؟ فجوابه أنّ ما هو خير في نفسه لو لم يكن أولى به ، لم يكن إرادته قصدا ، بل يكون الداعي إلى فعله مجرّد العلم بخيريّته لا أمر آخر ، فيكون إرادته عقليّة محضة.

نعم ، البارئ تعالى يحبّ ذاته ويبتهج بها أجلّ ابتهاج ، فيحبّ أفعاله لأجل ذاته ؛ لأنّ من أحبّ شيئا أحبّ آثاره ، فيثبتون لأفعاله غرضا هو ذاته. وهذا معنى قولهم : إنّه هو الفاعل والغاية ، لكن بذلك لا يصحّح تعلّق القصد بأفعاله ؛ لأنّ القصد إنّما يكون عن شوق إلى ملائم أو موافق لو لم يحصل لم يكن الفاعل على كماله ، فواجب الوجود ليس فاعلا بالقصد عند الفلاسفة ، بل فاعلا بالعناية ، فإرادته تعالى عندهم عبارة عن عنايته أعني علمه بنظام الكلّ ، الذي هو السبب لهذا النظام المشاهد على ما مرّ.

قال الشيخ في إلهيّات الشفاء : فذلك النظام لأنّه يعقله هو مستفيض كائن موجود ، وكلّ معلوم الكون ، وجهة الكون عن مبدئه عند مبدئه وهو خير غير مناف وهو تابع

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ١٤٥ و ١٥٠.

(٣) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ١٤٥ و ١٥٠.

٢٦٠